الباحث القرآني

﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ الِافْتِتاحُ بِكَلِمَةِ التَّسْبِيحِ مِن دُونِ سَبْقِ كَلامٍ مُتَضَمِّنٍ ما يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ؛ يُؤْذِنُ بِأنَّ خَبَرًا عَجِيبًا يَسْتَقْبِلُهُ السّامِعُونَ دالًّا عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ مِنَ المُتَكَلِّمِ، ورَفِيعِ مَنزِلَةِ المُتَحَدَّثِ عَنْهُ. (p-١٠)فَإنَّ جُمْلَةَ التَّسْبِيحِ في الكَلامِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِيهِ ما يُوهِمُ تَشْبِيهًا أوْ تَنْقِيصًا لا يَلِيقانِ بِجَلالِ اللَّهِ تَعالى مِثْلُ ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠] يَتَعَيَّنُ أنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً في أكْثَرِ مِنَ التَّنْوِيهِ، وذَلِكَ هو التَّعْجِيبُ مِنَ الخَبَرِ المُتَحَدَّثِ بِهِ كَقَوْلِهِ ﴿قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١٦]، وقَوْلِ الأعْشى: ؎قَدْ قُلْتُ لَمّا جاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ ولَمّا كانَ هَذا الكَلامُ مِن جانِبِ اللَّهِ تَعالى والتَّسْبِيحُ صادِرًا مِنهُ؛ كانَ المَعْنى تَعْجِيبَ السّامِعِينَ؛ لِأنَّ التَّعْجِيبَ مُسْتَحِيلَةٌ حَقِيقَتُهُ عَلى اللَّهِ؛ لا لِأنَّ ذَلِكَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ في مَحامِلِ الكَلامِ البَلِيغِ لِإمْكانِ الرُّجُوعِ إلى التَّمْثِيلِ، مِثْلُ مَجِيءِ الرَّجاءِ في كَلامِهِ تَعالى نَحْوُ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ، بَلْ لِأنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ تَعَجُّبُ المُتَكَلِّمِ مِن فِعْلِ نَفْسِهِ، فَيَكُونُ مَعْنى التَّعْجِيبِ فِيهِ مِن قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: أتَعْجَبُ مِن قَوْلِ فُلانٍ كَيْتَ وكَيْتَ. ووَجْهُ هَذا الِاسْتِعْمالِ أنَّ الأصْلَ أنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ عِنْدَ ظُهُورِ ما يَدُلُّ عَلى إبْطالِ ما لا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعالى، ولَمّا كانَ ظُهُورُ ما يَدُلُّ عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ مُزِيلًا لِلشَّكِّ في قُدْرَةِ اللَّهِ، ولِلْإشْراكِ بِهِ كانَ مِن شَأْنِهِ أنْ يَنْطِقَ المُتَأمِّلُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعالى، أيْ تَنْزِيهِهِ عَنِ العَجْزِ. وأصْلُ صِيَغِ التَّسْبِيحِ هو كَلِمَةُ سُبْحانَ اللَّهِ الَّتِي نُحِتْ مِنها السَّبْحَلَةُ، ووَقَعَ التَّصَرُّفُ في صِيَغِها بِالإضْمارِ نَحْوُ: سُبْحانَكَ وسُبْحانَهُ، وبِالمَوْصُولِ نَحْوُ ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾ [يس: ٣٦] ومِنهُ هَذِهِ الآيَةُ. والتَّعْبِيرُ عَنِ الذّاتِ العَلِيَّةِ بِطَرِيقِ المَوْصُولِ دُونَ الِاسْمِ العَلَمِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى ما تُفِيدُهُ صِلَةُ المَوْصُولِ مِنَ الإيماءِ إلى وجْهِ هَذا التَّعْجِيبِ والتَّنْوِيهِ وسَبَبِهِ، وهو ذَلِكَ الحادِثُ العَظِيمُ والعِنايَةُ الكُبْرى، ويُفِيدُ أنَّ حَدِيثَ الإسْراءِ أمْرٌ فَشا بَيْنَ القَوْمِ، فَقَدْ آمَنُ بِهِ المُسْلِمُونَ، وأكْبَرَهُ المُشْرِكُونَ. (p-١١)وفِي ذَلِكَ إدْماجٌ لِرِفْعَةِ قَدْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وإثْباتُ أنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ، وأنَّهُ أُوتِيَ مِن دَلائِلِ صِدْقِ دَعْوَتِهِ ما لا قِبَلَ لَهم بِإنْكارِهِ، فَقَدْ كانَ إسْراؤُهُ إطْلاعًا لَهُ عَلى غائِبٍ مِنَ الأرْضِ، وهو أفْضَلُ مَكانٍ بَعْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ. و(أسْرى) لُغَةٌ في سَرى، بِمَعْنى سارَ في اللَّيْلِ، فالهَمْزَةُ هُنا لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ؛ لِأنَّ التَّعْدِيَةَ حاصِلَةٌ بِالباءِ، بَلْ (أسْرى) فِعْلٌ مُفْتَتَحٌ بِالهَمْزَةِ مُرادِفُ سَرى، وهو مِثْلُ أبانَ المُرادِفُ (بانَ)، ومِثْلُ أنْهَجَ الثَّوْبُ بِمَعْنى (نَهَجَ) أيْ بَلِيَ، فَـ ﴿أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ بِمَنزِلَةِ ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] . ولِلْمُبَرِّدِ والسُهَيْلِيِّ نُكْتَةٌ في التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالهَمْزَةِ والتَّعْدِيَةِ بِالباءِ: بِأنَّ الثّانِيَةَ أبْلَغُ؛ لِأنَّها في أصْلِ الوَضْعِ تَقْتَضِي مُشارَكَةَ الفاعِلِ المَفْعُولَ في الفِعْلِ، فَأصْلُ ذَهَبَ بِهِ أنَّهُ اسْتَصْحَبَهُ، كَما قالَ تَعالى ﴿وسارَ بِأهْلِهِ﴾ [القصص: ٢٩]، وقالَتِ العَرَبُ: أشْبَعَهم شَتْمًا، وراحُوا بِالإبِلِ، وفي هَذا لَطِيفَةٌ تُناسِبُ المَقامَ هُنا إذْ قالَ ﴿أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ دُونَ سَرى بِعَبْدِهِ، وهي التَّلْوِيحُ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ مَعَ رَسُولِهِ في إسْرائِهِ بِعِنايَتِهِ وتَوْفِيقِهِ، كَما قالَ تَعالى ﴿فَإنَّكَ بِأعْيُنِنا﴾ [الطور: ٤٨]، وقالَ ﴿إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ [التوبة: ٤٠] . فالمَعْنى: الَّذِي جَعَلَ عَبْدَهُ مُسْرَيًا، أيْ سارِيًا، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ٨١] . وإذْ قَدْ كانَ السُّرى خاصًّا بِسَيْرِ اللَّيْلِ كانَ قَوْلُهُ لَيْلًا إشارَةً إلى أنَّ السَّيْرَ بِهِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى كانَ في جُزْءِ لَيْلَةٍ، وإلّا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ إلّا تَأْكِيدًا، عَلى أنَّ الإفادَةَ كَما يَقُولُونَ خَيْرٌ مِنَ الإعادَةِ. وفِي ذَلِكَ إيماءٌ إلى أنَّهُ إسْراءٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ لِقَطْعِ المَسافَةِ الَّتِي بَيْنَ مَبْدَأِ السَّيْرِ ونِهايَتِهِ في بَعْضِ لَيْلَةٍ، وأيْضًا لِيَتَوَسَّلَ بِذِكْرِ اللَّيْلِ إلى تَنْكِيرِهِ المُفِيدِ لِلتَّعْظِيمِ. فَتَنْكِيرُ لَيْلًا لِلتَّعْظِيمِ، بِقَرِينَةِ الِاعْتِناءِ بِذِكْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ مِن فِعْلِ أسْرى، وبِقَرِينَةِ عَدَمِ تَعْرِيفِهِ، أيْ هو لَيْلٌ عَظِيمٌ بِاعْتِبارِ جَعْلِهِ زَمَنًا (p-١٢)لِذَلِكَ السُّرى العَظِيمِ، فَقامَ التَّنْكِيرُ هُنا مَقامَ ما يَدُلُّ عَلى التَّعْظِيمِ، ألا تَرى كَيْفَ احْتِيجَ إلى الدَّلالَةِ عَلى التَّعْظِيمِ بِصِيغَةٍ خاصَّةٍ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ﴾ [القدر: ١] إذْ وقَعَتْ لَيْلَةُ القَدْرِ غَيْرَ مُنَكَّرَةٍ. و(عَبْدُ) المُضافُ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ هَنا هو مُحَمَّدٌ ﷺ كَما هو مُصْطَلَحُ القُرْآنِ، فَإنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ لَفْظُ العَبْدِ مُضافًا إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ الرّاجِعِ إلى تَعالى إلّا مُرادًا بِهِ النَّبِيُّ ﷺ؛ ولِأنَّ خَبَرَ الإسْراءِ بِهِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ قَدْ شاعَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وشاعَ إنْكارُهُ بَيْنَ المُشْرِكِينَ، فَصارَ المُرادُ بِعَبْدِهِ مَعْلُومًا. والإضافَةُ إضافَةُ تَشْرِيفٍ لا إضافَةُ تَعْرِيفٍ؛ لِأنَّ وصْفَ العُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مُتَحَقِّقٌ لِسائِرِ المَخْلُوقاتِ فَلا تُفِيدُ إضافَتُهُ تَعْرِيفًا. والمَسْجِدُ الحَرامُ هو الكَعْبَةُ والفِناءُ المُحِيطُ بِالكَعْبَةِ بِمَكَّةَ المُتَّخَذُ لِلْعِبادَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالكَعْبَةِ مِن طَوافٍ بِها، واعْتِكافٍ عِنْدَهُ، وصَلاةٍ. وأصْلُ المَسْجِدِ: أنَّهُ اسْمُ مَكانِ السُّجُودِ، وأصْلُ الحَرامِ: الأمْرُ المَمْنُوعُ؛ ولِأنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الحَرْمِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وهو المَنعُ، وهو يُرادِفُ الحَرَمَ، فَوَصْفُ الشَّيْءِ بِالحَرامِ يَكُونُ بِمَعْنى أنَّهُ مَمْنُوعٌ اسْتِعْمالُهُ اسْتِعْمالًا يُناسِبُهُ، نَحْوُ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] أيْ أكْلُ المِيتَةِ، وقَوْلُ عَنْتَرَةَ: حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَها لَمْ تَحْرُمِ أيْ مَمْنُوعٌ قُرْبانُها؛ لِأنَّها زَوْجَةُ أبِيهِ، وذَلِكَ مَذْمُومٌ بَيْنَهم، ويَكُونُ بِمَعْنى المَمْنُوعِ مِن أنْ يُعْمَلَ فِيهِ عَمَلٌ ما، ويُبَيَّنُ بِذِكْرِ المُتَعَلَّقِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ، وقَدْ لا يُذْكَرُ مُتَعَلَّقُهُ إذا دَلَّ عَلَيْهِ العُرْفُ، ومِنهُ قَوْلُهم (الشَّهْرُ (p-١٣)الحَرامُ) أيِ الحَرامُ فِيهِ القِتالُ في عُرْفِهِمْ، وقَدْ يُحْذَفُ المُتَعَلَّقُ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ، فَهو مِنَ الحَذْفِ لِلتَّعْمِيمِ فَيَرْجِعُ إلى العُمُومِ العُرْفِيِّ، فَفي نَحْوِ: (البَيْتُ الحَرامُ) يُرادُ المَمْنُوعُ مِن عُدْوانِ المُعْتَدِينَ، وغَزْوِ المُلُوكِ والفاتِحِينَ، وعَمَلِ الظُّلْمِ والسُّوءِ فِيهِ. والحَرامُ: فَعالٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، كَقَوْلِهِمْ: امْرَأةٌ حَصانٌ، أيْ مَمْنُوعَةٌ بِعَفافِها عَنِ النّاسِ. فالمَسْجِدُ الحَرامُ هو المَكانُ المُعَدُّ لِلسُّجُودِ، أيْ لِلصَّلاةِ، وهو الكَعْبَةُ والفِناءُ المَجْعُولُ حَرَمًا لَها، وهو يَخْتَلِفُ سَعَةً وضِيقًا بِاخْتِلافِ العُصُورِ مِن كَثْرَةِ النّاسِ فِيهِ لِلطَّوافِ والِاعْتِكافِ والصَّلاةِ. وقَدْ بَنى قُرَيْشٌ في زَمَنِ الجاهِلِيَّةِ بُيُوتَهم حَوْلَ المَسْجِدِ الحَرامِ، وجَعَلَ قُصَيٌّ بِقُرْبِهِ دارَ النَّدْوَةِ لِقُرَيْشٍ، وكانُوا يَجْلِسُونَ فِيها حَوْلَ الكَعْبَةِ، فانْحَصَرَ لَمّا أحاطَتْ بِهِ بُيُوتُ عَشائِرِ قُرَيْشٍ، وكانَتْ كُلُّ عَشِيرَةٍ تَتَّخِذُ بُيُوتَها مُتَجاوِرَةً، ومَجْمُوعُ البُيُوتِ يُسَمّى شِعْبًا بِكَسْرِ الشِّينِ، وكانَتْ كُلَّ عَشِيرَةٍ تَسْلُكُ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ مِن مَنفَذِ دُورِها، ولَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ الحَرامِ جِدارٌ يُحْفَظُ بِهِ، وكانَتِ المَسالِكُ الَّتِي بَيْنَ دُورِ العَشائِرِ تُسَمّى أبْوابًا؛ لِأنَّها يُسْلَكُ مِنها إلى المَسْجِدِ الحَرامِ، مِثْلُ بابِ بَنِي شَيْبَةَ، وبابِ بَنِي هاشِمٍ، وبابِ بَنِي مَخْزُومٍ، وهو بابُ الصَّفا، وبابُ بَنِي سَهْمٍ، وبابُ بَنَيِ تَيْمٍ، ورُبَّما عُرِفَ بَعْضُ الأبْوابِ بِجِهَةٍ تَقْرُبُ مِنهُ مِثْلُ بابِ الصَّفا ويُسَمّى بابَ بَنِي مَخْزُومٍ، وبابَ الحَزْوَرَةِ سُمِّيَ بِمَكانٍ كانَتْ بِهِ سُوقٌ لِأهْلِ مَكَّةَ تُسَمّى الحَزْوَرَةُ، ولا أدْرِي هَلْ كانَتْ أبْوابًا تُغْلَقُ أمْ كانَتْ مَنافِذَ في الفَضاءِ، فَإنَّ البابَ يُطْلَقُ عَلى ما بَيْنَ حاجِزَيْنِ. وأوَّلُ مَن جَعَلَ لِلْمَسْجِدِ الحَرامِ جِدارًا يُحْفَظُ بِهِ هو عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الهِجْرَةِ. (p-١٤)ولُقِّبَ بِالمَسْجِدِ؛ لِأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جَعَلَهُ لِإقامَةِ الصَّلاةِ في الكَعْبَةِ كَما حَكى اللَّهُ عَنْهُ ﴿رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [إبراهيم: ٣٧]، ولَمّا انْقَرَضَتِ الحَنِيفِيَّةُ، وتَرَكَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ الصَّلاةِ تَناسَوْا وصْفَهُ بِالمَسْجِدِ الحَرامِ فَصارُوا يَقُولُونَ: البَيْتَ الحَرامَ. وأمّا قَوْلُ عُمَرَ: إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً في المَسْجِدِ الحَرامِ، فَإنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِاسْمِهِ في الإسْلامِ. فَغَلَبَ عَلَيْهِ هَذا التَّعْرِيفُ التَّوْصِيفِيُّ؛ فَصارَ لَهُ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ، ولا أعْرِفُ أنَّهُ كانَ يُعْرَفُ في الجاهِلِيَّةِ بِهَذا الِاسْمِ، ولا عَلى مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ في عَصْرِ تَحْرِيمِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرائِيلَ، وقَدْ تَقَدَّمَ وجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٤٤] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أنْ صَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [المائدة: ٢] في أوَّلِ العُقُودِ. وعَلَمِيَّتُهُ بِمَجْمُوعِ الوَصْفِ والمَوْصُوفِ، وكِلاهُما مُعَرَّفٌ بِاللّامِ، فالجُزْءُ الأوَّلُ مِثْلُ النَّجْمِ، والجُزْءُ الثّانِي مِثْلُ الصَّعِيقِ، فَحَصَلَ التَّعْرِيفُ بِمَجْمُوعِهِما، ولَمْ يَعُدَّ النُّحاةُ هَذا النَّوْعَ في أقْسامِ العَلَمِ بِالغَلَبَةِ، ولَعَلَّهُمُ اعْتَبَرُوهُ راجِعًا إلى المُعَرَّفِ بِاللّامِ، ولا بُدَّ مِن عَدِّهِ؛ لِأنَّ عَلَمِيَّتَهُ صارَتْ بِالأمْرَيْنِ. والمَسْجِدُ الأقْصى هو المَسْجِدُ المَعْرُوفُ بِبَيْتِ المَقْدِسِ الكائِنِ بِإيلِياءَ، وهو المَسْجِدُ الَّذِي بَناهُ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. والأقْصى، أيِ الأبْعَدُ، والمُرادُ بُعْدُهُ عَنْ مَكَّةَ، بِقَرِينَةِ جَعْلِهِ نِهايَةَ الإسْراءِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ، وهو وصْفٌ كاشِفٌ اقْتَضاهُ هُنا زِيادَةُ التَّنْبِيهِ عَلى مُعْجِزَةِ هَذا الإسْراءِ وكَوْنُهُ خارِقًا لِلْعادَةِ؛ لِكَوْنِهِ قَطَعَ مَسافَةً طَوِيلَةً في بَعْضِ لَيْلَةٍ. وبِهَذا الوَصْفِ الوارِدِ لَهُ في القُرْآنِ صارَ مَجْمُوعُ الوَصْفِ والمَوْصُوفِ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ كَما كانَ المَسْجِدُ الحَرامُ عَلَمًا بِالغَلَبَةِ عَلى مَسْجِدِ مَكَّةَ، . وأحْسَبُ أنَّ هَذا العَلَمَ لَهو مِن مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ، فَلَمْ يَكُنِ العَرَبُ يَصِفُونَهُ بِهَذا الوَصْفِ، ولَكِنَّهم لَمّا سَمِعُوا هَذِهِ الآيَةَ فَهِمُوا المُرادَ مِنهُ أنَّهُ مَسْجِدُ إيلِياءَ. ولَمْ يَكُنْ مَسْجِدٌ لِدِينٍ إلَهِيٍّ غَيْرَهُما يَوْمَئِذٍ. (p-١٥)وفِي هَذا الوَصْفِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ بِاعْتِبارِ أصْلِ وضْعِها مُعْجِزَةٌ خَفِيَّةٌ مِن مُعْجِزاتِ القُرْآنِ إيماءً إلى أنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَ المَسْجِدَيْنِ مَسْجِدٌ عَظِيمٌ هو مَسْجِدُ طِيبَةَ الَّذِي هو قَصِيٌّ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، فَيَكُونُ مَسْجِدُ بَيْتِ المَقْدِسِ أقْصى مِنهُ حِينَئِذٍ. فَتَكُونُ الآيَةُ مُشِيرَةً إلى جَمِيعِ المَساجِدِ الثَّلاثَةِ المُفَضَّلَةِ في الإسْلامِ عَلى جَمِيعِ المَساجِدِ الإسْلامِيَّةِ، والَّتِي بَيَّنَها قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلّا إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدُ الحَرامِ، ومَسْجِدُ الأقْصى، ومَسْجِدِي. وفائِدَةُ ذِكْرِ مَبْدَأِ الإسْراءِ ونِهايَتِهِ بِقَوْلِهِ ﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ أمْرانِ: أحَدُهُما التَّنْصِيصُ عَلى قِطَعِ المَسافَةِ العَظِيمَةِ في جُزْءِ لَيْلَةٍ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنَ الظَّرْفِ وهو لَيْلًا ومِنَ المَجْرُورَيْنِ ﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ قَدْ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ أسْرى، فَهو تَعَلُّقٌ يَقْتَضِي المُقارَنَةَ، لِيُعْلَمَ أنَّهُ مِن قَبِيلِ المُعْجِزاتِ. وثانِيهِما الإيماءُ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى يَجْعَلُ هَذا الإسْراءَ رَمْزًا إلى أنَّ الإسْلامَ جَمَعَ ما جاءَتْ بِهِ شَرائِعُ التَّوْحِيدِ والحَنِيفِيَّةِ مِن عَهْدِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الصّادِرُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى ما تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنَ الشَّرائِعِ الَّتِي كانَ مَقَرُّها بَيْتَ المَقْدِسِ ثُمَّ إلى خاتِمَتِها الَّتِي ظَهَرَتْ مِن مَكَّةَ أيْضًا، فَقَدْ صَدَرَتِ الحَنِيفِيَّةُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ، وتَفَرَّعَتْ في المَسْجِدِ الأقْصى، ثُمَّ عادَتْ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ، كَما عادَ الإسْراءُ إلى مَكَّةَ؛ لِأنَّ كُلَّ سُرًى يَعْقُبُهُ تَأْوِيبٌ، وبِذَلِكَ حَصَلَ رَدُّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ. ومِن هُنا يَظْهَرُ مُناسَبَةُ نُزُولِ التَّشْرِيعِ الِاجْتِماعِيِّ في هَذِهِ السُّورَةِ في الآياتِ المُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]، فَفِيها ﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الإسراء: ٣٣]، ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الإسراء: ٣٤] (p-١٦)﴿وأوْفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بِالقُسْطاسِ المُسْتَقِيمِ﴾ [الإسراء: ٣٥] إيماءٌ إلى أنَّ هَذا الدِّينَ سَيَكُونُ دِينًا يَحْكُمُ في النّاسِ، وتُنَفَّذُ أحْكامُهُ. والمَسْجِدُ الأقْصى هو ثانِي مَسْجِدٍ بَناهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَما ورَدَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَفي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلٌ ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ ؟ قالَ: المَسْجِدُ الأقْصى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُما ؟ قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً» . فَهَذا الخَبَرُ قَدْ بَيَّنَ أنَّ المَسْجِدَ الأقْصى مِن بِناءِ إبْراهِيمَ؛ لِأنَّهُ حُدِّدَ بِمُدَّةٍ هي مِن مُدَّةِ حَياةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَدْ قُرِنَ ذِكْرُهُ بِذِكْرِ المَسْجِدِ الحَرامِ. وهَذا مِمّا أهْمَلَ أهْلُ الكِتابِ ذِكْرَهُ، وهو مِمّا خَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمَعْرِفَتِهِ، والتَّوْراةُ تَشْهَدُ لَهُ، فَقَدْ جاءَ في سِفْرِ التَّكْوِينِ في الإصْحاحِ الثّانِي عَشَرَ: أنَّ إبْراهِيمَ لَمّا دَخَلَ أرْضَ كَنْعانَ - وهي بِلادُ فِلَسْطِينَ - نَصَبَ خَيْمَتِهِ في الجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ إيلَ (بَيْتُ إيلَ مَدِينَةٌ عَلى بُعْدِ أحَدَ عَشَرَ مِيلًا مِن أُورْشَلِيمَ إلى الشَّمالِ، وهو بَلَدٌ كانَ اسْمُهُ عِنْدَ الفِلَسْطِينِيِّينَ ( لَوْزًا) فَسَمّاهُ يَعْقُوبُ: بَيْتُ إيلَ، كَما في الإصْحاحِ الثّامِنِ والعِشْرِينَ مِن سِفْرِ التَّكْوِينِ ) وغَرْبِيَّ بِلادِ عايِ (مَدِينَةٌ عِبْرانِيَّةٌ تُعْرَفُ الآنَ الطَّيِّبَةُ) وبَنى هُنالِكَ مَذْبَحا لِلرَّبِّ. وهم يُطْلِقُونَ (المَذْبَحَ) عَلى المَسْجِدِ؛ لِأنَّهم يَذْبَحُونَ القَرابِينَ في مَساجِدِهِمْ، قالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ: ؎دُمْيَةٌ عِنْدَ راهِـبٍ قِـسِّـيسٍ ∗∗∗ صَوَّرُوها في مَذْبَحِ المِحْرابِ أيْ مَكانِ المَذْبَحِ مِنَ المَسْجِدِ؛ لِأنَّ المِحْرابَ هو مَحَلُّ التَّعَبُّدِ، فالَ تَعالى ﴿وهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرابِ﴾ [آل عمران: ٣٩] . ولا شَكَّ أنَّ مَسْجِدَ إبْراهِيمَ هو المَوْضِعُ الَّذِي تَوَخّى داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَضَعَ عَلَيْهِ الخَيْمَةَ، وأنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ مِحْرابَهُ، أوْ أوْحى إلَيْهِ اللَّهُ بِذَلِكَ، وهو الَّذِي أوْصى ابْنَهُ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ المَسْجِدَ، أيِ الهَيْكَلَ، وقَدْ ذَكَرَ مُؤَرِّخُو العِبْرانِيِّنَ ومِنهم (يُوسِيفُسُوسُ) أنَّ الجَبَلَ الَّذِي سَكَنَهُ إبْراهِيمُ (p-١٧)بِأرْضِ كَنْعانَ اسْمُهُ (نابُو) وأنَّهُ الجَبَلُ الَّذِي ابْتَنى عَلَيْهِ سُلَيْمانُ الهَيْكَلَ، وهو المَسْجِدُ الَّذِي بِهِ الصَّخْرَةُ. وقِصَّةُ بِناءِ سُلَيْمانَ إيّاهُ مُفَصَّلَةٌ في سِفْرِ المُلُوكِ الأوَّلِ مِن أسْفارِ التَّوْراةِ. وقَدِ انْتابَهُ التَّخْرِيبُ ثَلاثَ مَرّاتٍ: أُولاها حِينَ خَرَّبَهُ بُخْتُنَصَّرَ مَلِكُ بابِلَ سَنَةَ ٥٧٨ قَبْلَ المَسِيحِ، ثُمَّ جَدَّدَهُ اليَهُودُ تَحْتَ حُكْمِ الفُرْسِ. الثّانِيَةُ: خَرَّبَهُ الرُّومانُ في مُدَّةِ طِيطُوسَ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ اليَهُودِ وأُعِيدَ بِناؤُهُ، فَأكْمَلَ تَخْرِيبَهُ أدْرِيانُوسُ سَنَةَ ١٣٥ لِلْمَسِيحِ، وعَفّى آثارَهُ فَلَمْ تَبْقَ مِنهُ إلّا أطْلالٌ. الثّالِثَةُ: لَمّا تَنَصَّرَتِ المَلِكَةُ (هِيلانَةُ) أُمُّ الإمْبِراطُورِ قُسْطَنْطِينَ مَلِكِ الرُّومِ (بِيزَنْطَةَ) وصارَتْ مُتَصَلِّبَةً في النَّصْرانِيَّةِ، وأُشْرِبَ قَلْبُها بُغْضَ اليَهُودِ؛ بِما تَعْتَقِدُهُ مِن قَتْلِهِمُ المَسِيحَ كانَ مِمّا اعْتَدَتْ عَلَيْهِ حِينَ زارَتْ أُورْشَلِيمَ أنْ أمَرَتْ بِتَعْفِيَةِ أطْلالِ هَيْكَلِ سُلَيْمانَ، وأنْ يُنْقَلَ ما بَقِيَ مِنَ الأساطِينِ، ونَحْوِها فَتُبْنى بِها كَنِيسَةٌ عَلى قَبْرِ المَسِيحِ - المَزْعُومِ عِنْدَهم - في مَوْضِعٍ تَوَسَّمُوا أنْ يَكُونَ هو مَوْضِعَ القَبْرِ، والمُؤَرِّخُونَ مِنَ النَّصارى يَشُكُّونَ في كَوْنِ ذَلِكَ المَكانِ هو المَكانُ الَّذِي يُدْعى أنَّ المَسِيحَ دُفِنَ فِيهِ، وأنْ تُسَمِّيَها كَنِيسَةَ القِيامَةِ، وأمَرَتْ بِأنْ يُجْعَلَ مَوْضِعُ المَسْجِدِ الأقْصى مَرْمى أزْبالِ البَلَدِ وقِماماتِهِ؛ فَصارَ مَوْضِعُ الصَّخْرَةِ مَزْبَلَةً تَراكَمَتْ عَلَيْها الأزْبالُ فَغَطَّتْها، وانْحَدَرَتْ عَلى دَرَجِها. ولَمّا فَتَحَ المُسْلِمُونَ بَقِيَّةَ أرْضِ الشّامِ في زَمَنِ عُمَرَ، وجاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ؛ لِيَشْهَدَ فَتْحَ مَدِينَةِ إيلِيّا، وهي المَعْرُوفَةُ مِن قَبْلِ (أُورْشَلِيمَ) (p-١٨)وصارَتْ تُسَمّى (إيلِياءَ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وكَسْرِ اللّامِ، وكَذَلِكَ كانَ اسْمُها المَعْرُوفُ عِنْدَ العَرَبِ عِنْدَما فَتَحَ المُسْلِمُونَ فِلَسْطِينَ، وإيلِياءُ اسْمُ نَبِيٍّ مِن بَنِي إسْرائِيلَ كانَ في أوائِلِ القَرْنِ التّاسِعِ قَبْلَ المَسِيحِ، قالَ الفَرَزْدَقُ: ؎وبَيْتانِ بَيْتُ اللَّهِ نَحْنُ وُلاتُهُ ∗∗∗ وبَيْتٌ بِأعْلى إيلِياءَ مُشَرَّفُ وانْعَقَدَ الصُّلْحُ بَيْنَ عُمَرَ وأهْلِ تِلْكَ المَدِينَةِ وهم نَصارى، قالَ عُمَرُ لِبِطْرِيقٍ لَهُمُ اسْمُهُ (صَفْرُونِيُوسَ): دُلَّنِي عَلى مَسْجِدِ داوُدَ، فانْطَلَقَ بِهِ حَتّى انْتَهى إلى مَكانِ البابِ، وقَدِ انْحَدَرَ الزِّبْلُ عَلى دَرَجِ البابِ فَتَجَشَّمَ عُمَرُ حَتّى دَخَلَ ونَظَرَ فَقالَ: اللَّهُ أكْبَرُ، هَذا والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَسْجِدُ داوُدَ الَّذِي أخْبَرَنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلَيْهِ، ثُمَّ أخَذَ عُمَرُ والمُسْلِمُونَ يَكْنُسُونَ الزِّبْلَ عَنِ الصَّخْرَةِ حَتّى ظَهَرَتْ كُلُّها، ومَضى عُمَرُ إلى جِهَةِ مِحْرابِ داوُدَ فَصَلّى فِيهِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِن بَلَدِ القُدْسِ إلى فِلَسْطِينَ. ولَمْ يَبْنِ هُنالِكَ مَسْجِدًا إلى أنْ كانَ في زَمَنِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَرْوانَ أمَرَ بِابْتِداءِ بِناءِ القُبَّةِ عَلى الصَّخْرَةِ، وعِمارَةِ المَسْجِدِ الأقْصى، ووَكَّلَ عَلى بِنائِها (رَجاءَ بْنَ حَيْوَةَ) الكَنَدِيَّ أحَدَ عُلَماءِ الإسْلامِ، فابْتَدَأ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وسِتِّينَ، وكانَ الفَراغُ مِن ذَلِكَ في سَنَةِ ثَلاثٍ وسَبْعِينَ. كانَ عُمَرُ أوَّلَ مَن صَلّى فِيهِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ المَساجِدِ. ولِهَذا فَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ المَكانِ بِالمَسْجِدِ الأقْصى في القُرْآنِ تَسْمِيَةٌ قُرْآنِيَّةٌ اعْتُبِرَ فِيها ما كانَ عَلَيْهِ مِن قَبْلُ؛ لِأنَّ حُكْمَ المَسْجِدِيَّةِ لا يَنْقَطِعُ عَنْ أرْضِ المَسْجِدِ، فالتَّسْمِيَةُ بِاعْتِبارِ ما كانَ، وهي إشارَةٌ خَفِيَّةٌ إلى أنَّهُ سَيَكُونُ مَسْجِدًا بِأكْمَلِ حَقِيقَةِ المَساجِدِ. واسْتَقْبَلَهُ المُسْلِمُونَ في الصَّلاةِ مِن وقْتِ وُجُوبِها المُقارِنِ لَيْلَةَ الإسْراءِ إلى ما بَعْدَ الهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ نُسِخَ اسْتِقْبالُهُ وصارَتِ الكَعْبَةُ هي القِبْلَةَ الإسْلامِيَّةَ. (p-١٩)وقَدْ رَأيْتُ أنَّ سائِحًا نَصْرانِيًّا اسْمَهُ (ارْكُولْفَ) زارَ القُدْسَ سَنَةَ ٦٧٠ م، أيْ بَعْدِ خِلافَةِ عُمَرَ بِأرْبَعٍ وثَلاثِينَ سَنَةً، وزَعَمَ أنَّهُ رَأى مَسْجِدًا بَناهُ عُمَرُ عَلى شَكْلٍ مُرَبَّعٍ مِن ألْواحٍ وجُذُوعِ أشْجارٍ ضَخْمَةٍ، وأنَّهُ يَسَعُ نَحْوَ ثَلاثَةِ آلافٍ. والظّاهِرُ أنَّ نِسْبَةً المَسْجِدِ الأقْصى إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وهْمٌ مِن أوْهامِ النَّصارى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ كَشْفُ عُمَرَ مَوْضِعَ المَسْجِدِ فَظَنُّوهُ بِناءً، وإذا صَدَقَ (ارْكُولْفُ) فِيما ذَكَرَ مِن أنَّهُ رَأى مَكانًا مُرَبَّعًا مِن ألْواحٍ وعَمَدِ أشْجارٍ؛ كانَ ذَلِكَ شَيْئًا أحْدَثَهُ مُسْلِمُو البِلادِ لِصِيانَةِ ذَلِكَ المَكانِ عَنِ الِامْتِهانِ. وقَوْلُهُ ﴿الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ صِفَةٌ لِلْمَسْجِدِ الأقْصى، وجِيءَ في الصِّفَةِ بِالمَوْصُولِيَّةِ؛ لِقَصْدِ تَشْهِيرِ المَوْصُوفِ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ حَتّى كَأنَّ المَوْصُوفَ مُشْتَهَرٌ بِالصِّلَةِ عِنْدَ السّامِعِينَ، والمَقْصُودُ: إفادَةُ أنَّهُ مُبارَكٌ حَوْلَهُ. وصِيغَةُ المُفاعَلَةِ هُنا لِلْمُبالَغَةِ في تَكْثِيرِ الفِعْلِ، مِثْلُ: عافاكَ اللَّهُ. والبَرَكَةُ: نَماءُ الخَيْرِ، والفَضْلُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ بِوَفْرَةِ الثَّوابِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ بِإجابَةِ دُعاءِ الدّاعِينَ فِيهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ البَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وقَدْ وُصِفَ المَسْجِدُ الحَرامُ بِمِثْلِ هَذا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦]، ووَجْهُ الِاقْتِصارِ عَلى وصْفِ المَسْجِدِ الأقْصى في هَذِهِ الآيَةِ بِذِكْرِ هَذا التَّبْرِيكِ أنَّ شُهْرَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ بِالبَرَكَةِ وبِكَوْنِهِ مَقامَ إبْراهِيمَ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ، وأمّا المَسْجِدُ الأقْصى فَقَدْ تَناسى النّاسُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فالعَرَبُ لا عِلْمَ لَهم بِهِ والنَّصارى عَفَّوْا أثَرَهُ مِن كَراهِيَتِهِمْ لِلْيَهُودِ، واليَهُودُ قَدِ ابْتَعَدُوا عَنْهُ، وأيِسُوا مِن عَوْدِهِ إلَيْهِمْ، فاحْتِيجَ إلى الإعْلامِ بِبَرَكَتِهِ. (p-٢٠)وحَوْلَ يَدُلُّ عَلى مَكانٍ قَرِيبٍ مِن مَكانِ اسْمِ ما أُضِيفَ (حَوْلَ) إلَيْهِ. وكَوْنُ البَرَكَةِ حَوْلَهُ كِنايَةٌ عَنْ حُصُولِ البَرَكَةِ فِيهِ بِالأوْلى؛ لِأنَّها إذا حَصَلَتْ حَوْلَهُ فَقَدْ تَجاوَزَتْ ما فِيهِ، فَفِيهِ لَطِيفَةُ التَّلازُمِ، ولَطِيفَةُ فَحَوى الخِطابِ، ولَطِيفَةُ المُبالَغَةِ بِالتَّكْثِيرِ، وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُ زِيادٍ الأعْجَمِ: ؎إنَّ السَّماحَةَ والمُرُوءَةَ والنَّدى ∗∗∗ في قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلى ابْنِ الحَشْرَجِ ولِكَلِمَةِ (حَوْلَهُ) في هَذِهِ الآيَةِ مِن حُسْنِ المُوَقِّعِ ما لَيْسَ لِكَلِمَةِ (في) في بَيْتِ زِيادٍ، ذَلِكَ أنَّ ظَرْفِيَّةَ (في) أعَمُّ، فَقَوْلُهُ (في قُبَّةٍ) كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِها في ساكِنِ القُبَّةِ، لَكِنْ لا تُفِيدُ انْتِشارَها وتَجاوُزَها مِنهُ إلى ما حَوْلَهُ. وأسْبابُ بَرَكَةِ المَسْجِدِ الأقْصى كَثِيرَةٌ كَما أشارَتْ إلَيْهِ كَلِمَةُ حَوْلَهُ، مِنها أنَّ واضِعَهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ومِنها ما لَحِقَهُ مِنَ البَرَكَةُ بِمَن صَلّى بِهِ مِنَ الأنْبِياءِ مِن داوُدَ وسُلَيْمانَ ومَن بَعْدَهُما مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ بِحُلُولِ الرَّسُولِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وإعْلانِهِ الدَّعْوَةَ إلى اللَّهِ فِيهِ، وفِيما حَوْلَهُ، ومِنها بَرَكَةُ مَن دُفِنَ حَوْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ، فَقَدْ ثَبَتَ أنَّ قَبْرَيْ داوُدَ وسُلَيْمانَ حَوْلَ المَسْجِدِ الأقْصى، وأعْظَمُ تِلْكَ البَرَكاتِ حُلُولُ النَّبِيءِ ﷺ فِيهِ، ذَلِكَ الحُلُولُ الخارِقُ لِلْعادَةِ، وصَلاتُهُ فِيهِ بِالأنْبِياءِ كُلِّهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا﴾ تَعْلِيلُ الإسْراءِ بِإرادَةِ إراءَةِ الآياتِ الرَّبّانِيَّةِ، تَعْلِيلٌ بِبَعْضِ الحِكَمِ الَّتِي لِأجْلِها مَنَحَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنحَةَ الإسْراءِ، فَإنَّ لِلْإسْراءِ حِكَمًا جَمَّةً تَتَّضِحُ مِن حَدِيثِ الإسْراءِ المَرْوِيِّ في الصَّحِيحِ، وأهَمُّها وأجْمَعُها إراءَتُهُ مِن آياتِ اللَّهِ تَعالى، ودَلائِلِ قُدْرَتِهِ ورَحْمَتِهِ، أيْ لِنُرِيَهُ مِنَ الآياتِ فَيُخْبِرُهم بِما سَألُوهُ عَنْ وصْفِ المَسْجِدِ الأقْصى. ولامُ التَّعْلِيلِ لا تُفِيدُ حَصْرَ الغَرَضِ مِن مُتَعَلَّقِها في مَدْخُولِها، وإنَّما اقْتَصَرَ في التَّعْلِيلِ عَلى إراءَةِ الآياتِ؛ لِأنَّ تِلْكَ العِلَّةَ أعْلَقُ بِتَكْرِيمِ المُسْرى بِهِ، والعِنايَةِ بِشَأْنِهِ؛ لِأنَّ إراءَةَ الآياتِ تَزِيدُ يَقِينَ الرّائِي بِوُجُودِها (p-٢١)الحاصِلِ مِن قَبْلِ الرُّؤْيَةِ، قالَ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] . فَإنَّ فِطْرَةَ اللَّهِ جَعَلَتْ إدْراكَ المَحْسُوساتِ أثْبَتَ مِن إدْراكِ المَدْلُولاتِ البُرْهانِيَّةِ، قالَ تَعالى ﴿وإذْ قالَ إبْراهِيمُ رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحَيِّي المَوْتى قالَ أوَلَمْ تُؤْمِن قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ بَعْدَ هَذا التَّعْلِيلِ: أوْلَمَ يَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ؛ لِأنَّ اطْمِئْنانَ القَلْبِ مُتَّسِعُ المَدى لا حَدَّ لَهُ فَقَدْ أنْطَقَ اللَّهُ إبْراهِيمَ عَنْ حِكْمَةِ نُبُوءَةٍ، وقَدْ بادَرَ مُحَمَّدًا ﷺ بِإراءَةِ الآياتِ قَبْلَ أنْ يَسْألَهُ إيّاها تَوْفِيرًا في الفَضْلِ. قالَ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ الظّاهِرِيُّ، وأجادَ: ؎ولَكِنْ لِلْعِيانِ لَطِيفُ مَعْنى ∗∗∗ لَهُ سَألَ المُعايَنَةَ الكَلِـيمُ واعْلَمْ أنَّ تَقْوِيَةَ يَقِينِ الأنْبِياءِ مِنَ الحِكَمِ الإلَهِيَّةِ؛ لِأنَّهم بِمِقْدارِ قُوَّةِ اليَقِينِ يَزِيدُونَ ارْتِقاءً عَلى دَرَجَةِ مُسْتَوى البَشَرِ، والتِحاقًا بِعُلُومِ عالَمِ الحَقائِقِ، ومُساواةً في هَذا المِضْمارِ لِمَراتِبِ المَلائِكَةِ. وفِي تَغْيِيرِ الأُسْلُوبِ مِنَ الغَيْبَةِ الَّتِي في اسْمِ المَوْصُولِ وضَمِيرَيْهِ إلى التَّكَلُّمِ في قَوْلِهِ بارَكْنا. . . ولِنُرِيَهُ مِن آياتِنا سُلُوكٌ لِطَرِيقَةِ الِالتِفاتِ المُتَّبَعَةِ كَثِيرًا في كَلامِ البُلَغاءِ، وقَدْ مَضى الكَلامُ عَلى ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] في سُورَةِ الفاتِحَةِ، والِالتِفاتُ هُنا امْتازَ بِالطّائِفِ: مِنها أنَّهُ لَمّا اسْتُحْضِرَتِ الذّاتُ العَلِيَّةُ بِجُمْلَةِ التَّسْبِيحِ، وجُمْلَةِ المَوْصُولِيَّةِ صارَ مَقامُ الغَيْبَةِ مَقامَ مُشاهَدَةٍ فَناسَبَ أنْ يُغَيِّرَ الإضْمارَ إلى ضَمائِرِ المُشاهَدَةِ، وهو مَقامُ التَّكَلُّمِ. ومِنها الإيماءُ إلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَ حُلُولِهِ بِالمَسْجِدِ الأقْصى قَدِ انْتَقَلَ مِن مَقامِ الِاسْتِدْلالِ عَلى عالَمِ الغَيْبِ إلى مَقامِ مَصِيرِهِ في عالَمِ المُشاهَدَةِ. (p-٢٢)ومِنها التَّوْطِئَةُ والتَّمْهِيدُ إلى مَحْمَلٍ مَعادِ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ ﴿إنَّه هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾، فَيَتَبادَرُ عَوْدُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ إلى غَيْرِ مَن عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ نُرِيَهُ؛ لِأنَّ الشَّأْنَ تَناسُقُ الضَّمائِرِ؛ ولِأنَّ العَوْدَ إلى الِالتِفاتِ بِالقُرْبِ لَيْسَ مِنَ الأحْسَنِ. فَقَوْلُهُ ﴿إنَّه هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ الأظْهَرُ أنَّ الضَّمِيرَيْنِ عائِدانِ إلى النَّبِيءِ ﷺ، وقالَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، واسْتَقْرَبَهُ الطَّيْبِيُّ، ولَكِنَّ جَمْهَرَةَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّهُ عائِدٌ إلى اللَّهِ تَعالى، ولَعَلَّ احْتِمالَهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَقْصُودٌ. وقَدْ تَجِيءُ الآياتُ مُحْتَمِلَةً عِدَّةَ مَعانٍ، واحْتِمالُها مَقْصُودٌ تَكْثِيرًا لِمَعانِي القُرْآنِ، لِيَأْخُذَ كُلٌّ مِنهُ عَلى مِقْدارِ فَهْمِهِ كَما ذَكَرْنا في المُقَدِّمَةِ التّاسِعَةِ، وأيًّا ما كانَ فَمَوْقِعُ (إنَّ) التَّوْكِيدُ والتَّعْلِيلُ كَما يُؤْذِنُ بِهِ فَصْلُ الجُمْلَةِ عَمّا قَبْلَها. وهِيَ إمّا تَعْلِيلٌ لِإسْنادِ فِعْلِ (نُرِيَهُ) إلى فاعِلِهِ، وإمّا تَعْلِيلٌ لِتَعْلِيقِهِ بِمَفْعُولِهِ، فَيُفِيدُ أنَّ تِلْكَ الإراءَةَ مِن بابِ الحِكْمَةِ، وهي إعْطاءُ ما يَنْبَغِي لِمَن يَنْبَغِي، فَهي مِن إيتاءِ الحِكْمَةِ مَن هو أهْلُها. والتَّعْلِيلُ عَلى اعْتِبارِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إلى النَّبِيءِ ﷺ أوْقَعُ؛ إذْ لا حاجَةَ إلى تَعْلِيلِ إسْنادِ فِعْلِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ، وإنَّما المُحْتاجُ لِلتَّعْلِيلِ هو إعْطاءُ تِلْكَ الإراءَةِ العَجِيبَةِ لِمَن شَكَّ المُشْرِكُونَ في حُصُولِها لَهُ، ومَن يَحْسَبُونَ أنَّهُ لا يُطِيقُها مِثْلُهُ. عَلى أنَّ الجُمْلَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى صِيغَةِ قَصْرٍ بِتَعْرِيفِ المُسْنَدِ بِاللّامِ وبِضَمِيرِ الفَصْلِ قَصْرًا مُوَكَّدًا، وهو قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلى صِفَةٍ قَصْرًا إضافِيًّا لِلْقَلْبِ، أيْ هو المُدْرِكُ لِما سَمِعَهُ وأبْصَرَهُ، لا الكاذِبُ، ولا المُتَوَهِّمُ كَما زَعَمَ المُشْرِكُونَ، وهَذا القَصْرُ يُؤَيِّدُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلى النَّبِيءِ ﷺ؛ لِأنَّهُ المُناسِبُ لِلرَّدِّ، ولا يُنازِعُ المُشْرِكُونَ في أنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ وبَصِيرٌ. إلّا عَلى تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِأنَّهُ المُسْمِعُ والمُبْصِرُ لِرَسُولِهِ الَّذِي كَذَّبْتُمُوهُ، فَيُؤَوَّلُ إلى تَنْزِيهِ الرَّسُولِ عَنِ الكَذِبِ والتَّوَهُّمِ. (p-٢٣)ثُمَّ إنَّ الصِّفَتَيْنِ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِما لِلنَّبِيِّ ﷺ هُما عَلى أصْلِ اشْتِقاقِهِما؛ لِلْمُبالَغَةِ في قُوَّةِ سَمْعِهِ وبَصَرِهِ، وقَبُولِهِما لِتَلَقِّي تِلْكَ المُشاهَداتِ المُدْهِشَةِ، عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ [النجم: ١٧]، وقَوْلُهُ ﴿أفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى﴾ [النجم: ١٢] . وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِما صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعالى فالمُناسِبُ أنْ تُؤَوَّلا بِمَعْنى المُسْمِعِ المُبْصِرِ، أيِ القادِرِ عَلى إسْماعِ عَبْدِهِ وإبْصارِهِ، كَما في قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ: أمِن رَيْحانَةَ الدّاعِي السَّمِيعُ أيْ: المُسْمِعُ. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في الإسْراءِ؛ أكانَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن مَكَّةَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، أمْ كانَ بِرُوحِهِ في رُؤْيا هي مُشاهَدَةٌ رُوحانِيَّةٌ كامِلَةٌ، ورُؤْيا الأنْبِياءِ حَقٌّ. والجُمْهُورُ قالُوا: هو إسْراءٌ بِالجَسَدِ في اليَقَظَةِ، وقالَتْ عائِشَةُ ومُعاوِيَةُ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، وابْنُ إسْحاقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أنَّهُ إسْراءٌ بِرُوحِهِ في المَنامِ، ورُؤْيا الأنْبِياءِ وحْيٌ. واسْتَدَلَّ الجُمْهُورُ بِأنَّ الِامْتِنانَ في الآيَةِ، وتَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ دَلِيلانِ عَلى أنَّهُ ما كانَ الإخْبارُ بِهِ إلّا عَلى أنَّهُ بِالجَسَدِ، واتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ قُرَيْشًا اسْتَوْصَفُوا مِنَ النَّبِيءِ ﷺ عَلاماتٌ في بَيْتِ المَقْدِسِ، وفي طَرِيقِهِ؛ فَوَصَفَها لَهم كَما هي، ووَصَفَ لَهم عِيرًا لِقُرَيْشٍ قافِلَةً في طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ، ويَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَوَجَدُوهُ كَما وصَفَ لَهم. فَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ: بَيْنَما أنا في المَسْجِدِ الحَرامِ بَيْنَ النّائِمِ واليَقْظانِ إذْ أتانِي جِبْرِيلُ» . . . إلى آخَرِ الحَدِيثِ، وهَذا أصَحُّ، وأوْضَحُ مِمّا رُوِيَ في حَدِيثٍ آخَرَ أنَّ الإسْراءَ كانَ مَن بَيْتِهِ أوْ كانَ مَن بَيْتِ أُمِّ هانِيءٍ بِنْتِ أبِي طالِبٍ أوْ مِن شِعْبِ أبِي طالِبٍ. والتَّحْقِيقُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ إسْراءٌ آخَرُ، وهو الوارِدُ في حَدِيثِ المِعْراجِ إلى السَّماواتِ وهو غَيْرُ المُرادِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَلِلنَّبِيءِ ﷺ (p-٢٤)كَرامَتانِ: أُولاهُما الإسْراءُ، وهو المَذْكُورُ هُنا، والأُخْرى المِعْراجُ وهو المَذْكُورُ في حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مُطَوَّلًا، وأحادِيثَ غَيْرِهِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّهُ هو المُشارُ إلَيْهِ في سُورَةِ النَّجْمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب