الباحث القرآني
(p-٣٨٨٢)سُورَةُ الإسْراءِ
وتُسَمّى سُورَةَ بَنِي إسْرائِيلَ وسُورَةَ سُبْحانَ، ولَمْ يُحْكَ خِلافٌ في كَوْنِها مَكِّيَّةً.
نَعَمِ اسْتَثْنى بَعْضُهم مِنها: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ [الإسراء: ٨٥] وآيَةَ ﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ [الإسراء: ٧٣] إلى قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: ٨١] وآيَةَ ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ﴾ [الإسراء: ٨٨] الآيَةَ، وقَوْلَهُ ﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا﴾ [الإسراء: ٦٠] الآيَةَ، وقَوْلَهُ ﴿إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ [الإسراء: ١٠٧] لِما ذَكَرُوهُ في أسْبابِ نُزُولِها. ويَأْتِي البَحْثُ في ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وآياتُها مِائَةٌ وإحْدى عَشْرَةَ.
(p-٣٨٨٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١] ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ .
﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾
يُمَجِّدُ تَعالى نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَ﴾ ويُنَزِّهُ ذاتَهُ العَلِيَّةَ عَمّا لا يَلِيقُ بِجَلالِهِ، ويُعَظِّمُ شَأْنَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلى ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أحَدٌ سِواهُ فَلا إلَهَ غَيْرُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ أيْ: سَيْرَهُ مِنهُ لَيْلًا. و(أسْرى) بِمَعْنى (سَرى) يُقالُ: أسْراهُ وأسْرى بِهِ وسَرى بِهِ. فَهَمْزَةُ (أسْرى) لَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ، ولِذا عُدِّيَ بِالباءِ. وفَرَّقَ بَعْضُهم بَيْنَ أسْرى وسَرى بِالمُبالَغَةِ في (أسْرى) لِإفادَةِ السُّرْعَةِ في السَّيْرِ، ولِذا أُوثِرَ عَلى (سَرى) .
والإسْراءُ سَيْرُ اللَّيْلِ كُلِّهِ، كَأسْرى، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْلا﴾ لِلتَّأْكِيدِ أوْ لِلتَّجْرِيدِ عَنْ بَعْضِ القُيُودِ. مِثْلَ: أسْعَفْتُ مَرامَهُ. مَعَ أنَّ الإسْعافَ قَضاءُ الحاجَةِ. أوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ المَقْصُودُ بِالذِّكْرِ. وقَدِ اسْتَظْهَرَهُ النّاصِرُ في " الِانْتِصافِ " قالَ: ونَظِيرُهُ في إفْرادِ أحَدِ ما دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ المُتَقَدِّمُ مَضْمُونًا لِغَيْرِهِ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ [النحل: ٥١] فالِاسْمُ الحامِلُ لِلتَّثْنِيَةِ دالٌّ عَلَيْها وعَلى الجِنْسِيَّةِ، وكَذَلِكَ المُفْرَدُ. فَأُرِيدَ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ أحَدَ المَعْنَيَيْنِ، وهو التَّثْنِيَةُ، مُرادٌ مَقْصُودٌ، وكَذَلِكَ أُرِيدَ الإيقاظُ؛ لِأنَّ الوَحْدانِيَّةَ هي المَقْصُودَةُ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ [النحل: ٥١] ولَوِ اقْتَصَرَ عَلى قَوْلِهِ: { إنَّما هو إلَهٌ } لَأوْهَمَ أنَّ المُهِمَّ إثْباتُ الإلَهِيَّةِ لَهُ. والغَرَضُ مِنَ الكَلامِ لَيْسَ إلّا إثْباتَ الوَحْدانِيَّةِ.
(p-٣٨٨٤)وقِيلَ: سِرُّ قَوْلِهِ: { لَيْلًا } إفادَةُ تَقْلِيلِ الوَقْتِ الَّذِي كانَ الإسْراءُ والرُّجُوعُ فِيهِ. أيْ: أنَّهُ كانَ في بَعْضِ اللَّيْلِ، أخْذًا مِن تَنْكِيرِهِ. فَقَدْ نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أنَّ اللَّيْلَ والنَّهارَ إذا عُرِّفا كانا مِعْيارًا لِلتَّعْمِيمِ، فَلا تَقُولُ: أرِقْتُ اللَّيْلَ، وأنْتَ تُرِيدُ ساعَةً مِنهُ، إلّا أنْ تَقْصِدَ المُبالَغَةَ. بِخِلافِ المُنْكَرِ فَإنَّهُ لا يُفِيدُ ذَلِكَ. فَلَمّا عَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِهِ هُنا، عَلِمَ أنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ اسْتِغْراقَ السُّرى، وهَذا هو المُرادُ مِنَ البَعْضِيَّةِ. وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ (أسْرى) مِنَ (السَّراةِ) وهي الأرْضُ الواسِعَةُ. وأصْلُهُ مِنَ الواوِ، أسْرى مِثْلُ أجْبَلَ وأتْهَمَ، أيْ: ذَهَبَ بِهِ في سَراةٍ مِنَ الأرْضِ، وهو غَرِيبٌ. وفي تَخْصِيصِ اللَّيْلِ إعْلامٌ بِفَضْلِهِ؛ لِأنَّهُ وقْتُ السِّرِّ والنَّجْوى والتَّجَلِّي الأسْمى، ولِذَلِكَ كانَ أكْثَرَ عِبادَتِهِ ﷺ بِاللَّيْلِ. والمُرادُ (بِعَبْدِهِ) خاتَمُ أنْبِيائِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ . وفي ذِكْرِهِ بِعُنْوانِ العُبُودِيَّةِ مَعَ الإضافَةِ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ والتَّنْوِيهِ والتَّنْبِيهِ عَلى اخْتِصاصِهِ بِهِ عَزَّ وجَلَّ وانْقِيادِهِ لِأوامِرِهِ - ما لا يَخْفى.
والعَبْدُ لُغَةً: الإنْسانُ مُطْلَقًا والمَمْلُوكُ والعُبُودِيَّةُ الذُّلُّ والخُضُوعُ والرِّقُّ والطّاعَةُ، كالعِبادَةِ والعُبُودَةِ.
قالَ ابْنُ القَيِّمِ في (طَرِيقِ الهِجْرَتَيْنِ): أكْمَلُ الخَلْقِ أكْمَلُهم عُبُودِيَّةً. وأعْظَمُهم شُهُودًا. لِفَقْرِهِ وضَرُورَتِهِ وحاجَتِهِ إلى رَبِّهِ، وعَدَمِ اسْتِغْنائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. ولِهَذا كانَ مِن دُعائِهِ ﷺ: ««أصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ ولا تَكِلْنِي إلى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ ولا إلى أحَدٍ مِن خَلْقِكَ»» .
ثُمَّ قالَ: ولِهَذا كانَ أقْرَبَ الخَلْقِ إلى اللَّهِ وسِيلَةً، وأعْظَمَهم عِنْدَهُ جاهًا، وأرْفَعَهم عِنْدَهُ مُنْزِلَةً؛ لِتَكْمِيلِهِ مَقامَ العُبُودِيَّةِ والفَقْرِ. وكانَ يَقُولُ: ««أيُّها النّاسُ ! ما أُحِبُّ أنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنزِلَتِي، إنَّما أنا عَبْدٌ»» . وكانَ يَقُولُ: ««لا تُطْرُونِي كَما أطْرَتِ النَّصارى المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، إنَّما أنا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ»» . وذَكَرَهُ سُبْحانَهُ بِسِمَةِ العُبُودِيَّةِ في أشْرَفِ مَقاماتِهِ: مَقامِ (p-٣٨٨٥)الإسْراءِ، ومَقامِ الدَّعْوَةِ، ومَقامِ التَّحَدِّي. فَقالَ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا﴾ وقالَ: ﴿وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ [الجن: ١٩] وقالَ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَـزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾ [البقرة: ٢٣] وفي حَدِيثِ الشَّفاعَةِ: أنَّ المَسِيحَ يَقُولُ لَهُمُ: اذْهَبُوا إلى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ. فَنالَ ذَلِكَ بِكَمالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وبِكَمالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ. انْتَهى.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ يَعْنِي مَسْجِدَ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ. سُمِّيَ حَرامًا، كَبَلَدِهِ، لِكَوْنِهِ لا يَحِلُّ انْتِهاكُهُ بِقِتالٍ فِيهِ، ولا بِصَيْدِ صَيْدِهِ، ولا بِقَطْعِ شَجَرِهِ ولا كَلَئِهِ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ هو مَسْجِدُ بَيْتِ المَقْدِسِ، وكانَ يُعْرَفُ بِهَيْكَلِ سُلَيْمانَ؛ لِأنَّهُ الَّذِي بَناهُ وشَيَّدَهُ و: ﴿الأقْصى﴾ بِمَعْنى الأبْعَدِ. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُعْدِهِ عَنْ مَكَّةَ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ أيْ: جَوانِبَهُ بِبَرَكاتِ الدِّينِ والدُّنْيا؛ لِأنَّ تِلْكَ الأرْضَ المُقَدَّسَةَ مَقَرُّ الأنْبِياءِ ومَهْبَطُ وحْيِهِمْ ومُنَمّى الزُّرُوعِ والثِّمارِ. فاكْتَنَفَتْهُ البَرَكَةُ الإلَهِيَّةُ مِن نَواحِيهِ كُلِّها. فَبَرَكَتُهُ إذَنْ مُضاعَفَةٌ؛ لِكَوْنِهِ في أرْضٍ مُبارَكَةٍ، ولِكَوْنِهِ مَن أعْظَمِ مَساجِدِ اللَّهِ تَعالى. والمَساجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ. ولِكَوْنِهِ مُتَعَبَّدَ الأنْبِياءِ ومُقامَهم ومَهْبِطَ وحْيِهِ عَلَيْهِمْ، فَبُورِكَ فِيهِ بَرَكَتَهم ويُمْنَهم أيْضًا.
وقِيلَ في خَصائِصِ (الأقْصى): إنَّهُ مُتَعَبَّدُ الأنْبِياءِ السّابِقِينَ، ومَسْرى خاتَمِ النَّبِيِّينَ، ومِعْراجُهُ إلى السَّماواتِ العُلى والمَشْهَدِ الأسْمى. بَيْتٌ نَوَّهَ اللَّهُ بِهِ في الآياتِ المُفَصَّلَةِ، وتُلِيَتْ فِيهِ الكُتُبُ الأرْبَعَةُ المُنَزَّلَةُ. لِأجْلِهِ أمْسَكَ اللَّهُ الشَّمْسَ عَلى يُوشَعَ أنْ تَغْرُبَ لِيَتَيَسَّرَ فَتْحُهُ عَلى مَن وُعِدُوا بِهِ ويَقْرَبُ. وهو قِبْلَةُ الصَّلاةِ في المِلَّتَيْنِ، وفي صَدْرِ الإسْلامِ بَعْدَ الهِجْرَتَيْنِ. وهو أوْلى القِبْلَتَيْنِ وثانِي المَسْجِدَيْنِ وثالِثُ الحَرَمَيْنِ. لا تُشَدُّ الرِّحالُ بَعْدَ المَسْجِدَيْنِ إلّا إلَيْهِ، (p-٣٨٨٦)ولا تُعْقَدُ الخَناصِرُ بَعْدَ المَوْطِنَيْنِ إلّا عَلَيْهِ. انْتَهى. ومِن فَضائِلِهِ ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ والحاكِمُ صَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««إنَّ سُلَيْمانَ لَمّا بَنى بَيْتَ المَقْدِسِ سَألَ رَبَّهُ ثَلاثًا، فَأعْطاهُ اثْنَتَيْنِ وأنا أرْجُو أنْ يَكُونَ أعْطاهُ الثّالِثَةَ»» .
سَألَهُ حُكْمًا يُصادِفُ حُكْمَهُ فَأعْطاهُ إيّاهُ.
وسَألَهُ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ مِن بَعْدِهِ فَأعْطاهُ إيّاهُ.
وسَألَهُ أيُّما رَجُلٍ خَرَجَ مِن بَيْتِهِ لا يُرِيدُ إلّا الصَّلاةَ في هَذا المَسْجِدِ - يَعْنِي بِبَيْتِ المَقْدِسِ - خَرَجَ مِن خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ.
قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ««ونَحْنُ نَرْجُو أنْ يَكُونَ اللَّهُ أُعْطاهُ ذَلِكَ»» .
ورُوِيَ أنَّ ابْنَ عُمَرَ كانَ إذا دَخَلَهُ لا يَشْرَبُ مِن مائِهِ؛ تَجْرِيدًا لِقَصْدِ الصَّلاةِ.
وقالَ الشِّيرازِيُّ في (عَرائِسُ البَيانِ): كانَ بِدايَةُ المِعْراجِ الذَّهابَ إلى الأقْصى؛ لِأنَّ هُناكَ الآياتِ الكُبْرى مِن أنْوارِ تَجَلِّيهِ تَعالى لِأرْواحِ الأنْبِياءِ وأشْباحِهِمْ. وهُناكَ بِقُرْبِهِ طُورَ سِينا، وطُورَ زَيْتا، ومَقامَ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى في تِلْكَ الجِبالِ، مَواضِعُ كُشُوفِ الحَقِّ، لِذَلِكَ قالَ: ﴿بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ انْتَهى.
والِالتِفاتُ في: { بارَكْنا } لِتَعْظِيمِ ما ذُكِرَ؛ لِأنَّ فِعْلَ العَظِيمِ يَكُونُ عَظِيمًا، لا سِيَّما إذا عَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ التَّعْظِيمِ. والنُّكْتَةُ العامَّةُ تَنْشِيطُ السّامِعِينَ.
(p-٣٨٨٧)وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا﴾ إشارَةٌ إلى حِكْمَةِ الإسْراءِ. أيْ: لِكَيْ نُرِيَ مُحَمَّدًا ﷺ مِن آياتِنا العَظِيمَةِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها ذَهابُهُ في بُرْهَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، مَسِيرَةَ شَهْرٍ، ومُشاهَدَةُ بَيْتِ المَقْدِسِ، وتَمَثُّلُ الأنْبِياءِ لَهُ، ووُقُوفُهُ عَلى مَقاماتِهِمُ العَلِيَّةِ.
قِيلَ: أرادَ تَعالى أنْ يُرِيَهُ ﷺ مِنَ الآياتِ الحِسِّيَّةِ بَعْدَ ما أراهُ الآياتِ العَقْلِيَّةَ؛ لِأنَّ الآياتِ الحِسِّيَّةَ أكْبَرُ في قَطْعِ الشُّبْهَةِ ودَفْعِ الوَساوِسِ مِنَ العَقْلِيَّةِ؛ إذْ لا يَشُكُّ أحَدٌ فِيما كانَ سَبِيلُ مَعْرِفَتِهِ الحِسَّ والعِيانَ. وقَدْ تَعْتَرِضُ الشُّبْهَةُ والوَساوِسُ في العَقْلِيّاتِ؛ لِأنَّهُ لا يَشُكُّ أحَدٌ في نَفْسِهِ أنَّهُ هو. فَشاءَ عَزَّ وجَلَّ أنْ يُرِيَ رَسُولَهُ آياتٍ حِسِّيَّةٌ فَتَدْفَعُ المُنْصِفِينَ إلى قَبُولِها والإيمانِ بِها والإقْرارِ لَهُ بِالرِّسالَةِ؛ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ عَمَلُ سِحْرٍ ولا افْتِراءٌ ولا أساطِيرُ الأوَّلِينَ، كَذا يُسْتَفادُ مِنَ " التَّأْوِيلاتِ " لِأبِي مَنصُورٍ.
وما أحْسَنَ ما قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ: كانَ في مَسْراهُ ﷺ وما ذُكِرَ مِنهُ بَلاءٌ وتَمْحِيصٌ، وأمْرٌ مِن أمْرِ اللَّهِ في قُدْرَتِهِ وسُلْطانِهِ. فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبابِ، وهُدًى ورَحْمَةٌ وثَباتٌ لِمَن آمَنَ بِاللَّهِ وصَدَّقَ. وكانَ مِن أمْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى يَقِينٍ. فَأسْرى بِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى كَيْفَ شاءَ لِيُرِيَهُ مِن آياتِهِ ما أرادَ. حَتّى عايَنَ ما عايَنَ مِن أمْرِهِ وسُلْطانِهِ العَظِيمِ، وقُدْرَتِهِ الَّتِي يَصْنَعُ بِها ما يُرِيدُ. انْتَهى.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ أيِ: السَّمِيعُ لِأقْوالِ عِبادِهِ وأفْعالِهِمْ، فَلا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى ثُبُوتِ الإسْراءِ، وهو سَيْرُ النَّبِيِّ ﷺ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ لَيْلًا. وأمّا العُرُوجُ إلى السَّماواتِ وإلى ما فَوْقَ العَرْشِ، فَهَذِهِ الآيَةُ لا تَدُلُّ عَلَيْهِ. (p-٣٨٨٨)ومِنهم مَن يَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِأوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ. والكَلامُ عَلَيْهِ ثَمَّةَ.
الثّانِيَةُ: ذَهَبَ الأكْثَرُونَ إلى أنَّ الإسْراءَ كانَ بَعْدَ المَبْعَثِ، وأنَّهُ قَبْلَ هِجْرَتِهِ بِسَنَةٍ. قالَهُ الزَّهْرِيُّ وابْنُ سَعْدٍ وغَيْرُهُما. وبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، وبالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فَنَقَلَ الإجْماعَ فِيهِ. وقالَ: كانَ في رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنَ النُّبُوَّةِ.
وفِي " إنْسانُ العُيُونِ ": أنْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كانَتْ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وقِيلَ: سَبْعٍ وعِشْرِينَ خَلَتْ مِن رَبِيعٍ الأوَّلِ، وقِيلَ: لَيْلَةَ تِسْعٍ وعِشْرِينَ خَلَتْ مِن رَمَضانَ، وقِيلَ: سَبْعٍ وعِشْرِينَ خَلَتْ مِن رَبِيعٍ الآخِرِ، وقِيلَ: مِن رَجَبٍ. واخْتارَ هَذا الأخِيرَ الحافِظُ عَبْدُ الغَنِيِّ المَقْدِسِيُّ، قالَ: وعَلَيْهِ عَمَلُ النّاسِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
الثّالِثُ: في (زادُ المَعادِ) لِابْنِ القَيِّمِ: كانَ الإسْراءُ مَرَّةً واحِدَةً. وقِيلَ: مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً يَقِظَةً ومُرَّةً مَنامًا. وأرْبابُ هَذِهِ القَوْلِ كَأنَّهم أرادُوا أنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ حَدِيثِ شَرِيكٍ وقَوْلِهِ «ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ» وبَيْنَ سائِرِ الرِّواياتِ. ومِنهم مَن قالَ: بَلْ كانَ هَذا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً قَبْلَ الوَحْيِ؛ لِقَوْلِهِ في حَدِيثِ شَرِيكٍ (وذَلِكَ قَبْلَ أنْ يُوحى إلَيْهِ) ومَرَّةً بَعْدَ الوَحْيِ كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ سائِرُ الأحادِيثِ. ومِنهم مَن قالَ: بَلْ ثَلاثَ مَرّاتٍ: مَرَّةً قَبْلَ الوَحْيِ، ومَرَّتَيْنِ بَعْدَهُ. وكُلُّ هَذا خَبْطٌ، وهَذِهِ طَرِيقَةُ ضُعَفاءِ الظّاهِرِيَّةِ مِن أرْبابِ النَّقْلِ، الَّذِينَ إذا رَأوْا في القِصَّةِ لَفْظَةً تُخالِفُ سِياقَ بَعْضِ الرِّواياتِ، جَعَلُوهُ مَرَّةً أُخْرى. فَكُلَّما اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمُ الرِّواياتُ عَدَّدُوا الوَقائِعَ. والصَّوابُ الَّذِي عَلَيْهِ أئِمَّةُ النَّقْلِ؛ أنَّ الإسْراءَ كانَ مَرَّةً واحِدَةً بِمَكَّةَ بَعْدَ البَعْثَةِ. ويا عَجَبًا لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّهُ كانَ مِرارًا ! كَيْفَ ساغَ لَهم أنْ يَظُنُّوا أنَّهُ في كُلِّ مَرَّةٍ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ خَمْسِينَ، ثُمَّ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ رَبِّهِ وبَيْنَ مُوسى حَتّى تَصِيرَ خَمْسًا، ثُمَّ يَقُولُ: أمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وخَفَّفْتُ عَنْ عِبادِي، ثُمَّ يُعِيدُها في المَرَّةِ الثّانِيَةِ إلى الخَمْسِينَ ثُمَّ يَحُطُّها عَشْرًا عَشْرًا ؟ ! .
الرّابِعُ: قالَ القاضِي عِياضٌ، عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، في (الشَّفا): اخْتَلَفَ السَّلَفُ والعُلَماءُ هَلْ كانَ إسْراءً بِرُوحِهِ أوْ جَسَدِهِ ؟ عَلى ثَلاثِ مَقالاتٍ: فَذَهَبَتْ طائِفَةٌ عَلى أنَّهُ إسْراءٌ بِالرُّوحِ، وأنَّهُ رُؤْيا مَنامٍ، مَعَ اتِّفاقِهِمْ أنَّ رُؤْيا الأنْبِياءِ حَقٌّ ووَحْيٌ. وإلى هَذا ذَهَبَ مُعاوِيَةُ، وحُكِيَ عَنِ (p-٣٨٨٩)الحَسَنِ (والمَشْهُورُ عَنْهُ خِلافُهُ) وإلَيْهِ أشارَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ. وحُجَّتُهم قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ﴾ [الإسراء: ٦٠] وما حَكَوْا عَنْ عائِشَةَ: ما فَقَدْتُ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقَوْلُهُ ««بَيْنا أنا نائِمٌ»»، وقَوْلُ أنَسٍ: (وهو نائِمٌ في المَسْجِدِ الحَرامِ) وذَكَرَ القِصَّةَ، ثُمَّ قالَ في آخِرِها: (فاسْتَيْقَظَ وأنا بِالمَسْجِدِ الحَرامِ) .
وذَهَبَ مُعْظَمُ السَّلَفِ والمُسْلِمِينَ إلى أنَّهُ إسْراءٌ بِالجَسَدِ وفي اليَقَظَةِ. وهَذا هو الحَقُّ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وجابِرٍ وأنَسٍ وحُذَيْفَةَ وعُمَرَ وأبِي هُرَيْرَةَ ومالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ وأبِي حَبَّةَ البَدْرِيِّ وابْنِ مَسْعُودٍ والضَّحّاكِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقَتادَةَ وابْنِ المُسَيِّبِ وابْنِ شِهابٍ وابْنِ زَيْدٍ والحَسَنِ وإبْراهِيمَ ومَسْرُوقٍ ومُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ وابْنِ جُرَيْجٍ. وهو دَلِيلُ قَوْلِ عائِشَةَ. وهو قَوْلُ الطَّبَرِيِّ وابْنِ حَنْبَلٍ وجَماعَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ. وهو قَوْلُ أكْثَرِ المُتَأخِّرِينَ مِنَ الفُقَهاءِ والمُحَدِّثِينَ والمُتَكَلِّمِينَ والمُفَسِّرِينَ.
وقالَتْ طائِفَةٌ: كانَ الإسْراءُ بِالجَسَدِ يَقَظَةً إلى بَيْتِ المَقْدِسِ. وإلى السَّماءِ بِالرُّوحِ، واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ فَجَعَلَ المَسْجِدَ الأقْصى غايَةَ الإسْراءِ الَّذِي وقَعَ التَّعَجُّبُ فِيهِ بِعَظِيمِ القُدْرَةِ والتَّمَدُّحِ بِتَشْرِيفِ النَّبِيِّ وإظْهارِ الكَرامَةِ لَهُ بِالإسْراءِ إلَيْهِ. قالَ هَؤُلاءِ: ولَوْ كانَ الإسْراءُ بِجَسَدِهِ إلى زائِدٍ عَلى المَسْجِدِ الأقْصى لِذِكْرِهِ، فَيَكُونُ أبْلَغَ في المَدْحِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ هاتانِ الفِرْقَتانِ: هَلْ صَلّى بِبَيْتِ المَقْدِسِ أمْ لا ؟ فَفي حَدِيثِ أنَسٍ وغَيْرِهِ صَلاتُهُ فِيهِ. وأنْكَرَ ذَلِكَ حُذَيْفَةُ وقالَ: واللَّهِ ! ما زالا عَنْ ظَهْرِ البُراقِ حَتّى رَجَعا.
ثُمَّ قالَ القاضِي عِياضٌ: والحَقُّ في هَذا والصَّحِيحُ، إنْ شاءَ اللَّهُ، أنَّهُ إسْراءٌ بِالجَسَدِ والرُّوحِ في القِصَّةِ كُلِّها. وعَلَيْهِ تَدُلُّ الآيَةُ وصَحِيحُ الأخْبارِ والِاعْتِبارِ. ولا يُعْدَلُ عَنِ الظّاهِرِ والحَقِيقَةِ إلى التَّأْوِيلِ، إلّا عِنْدَ الِاسْتِحالَةِ، ولَيْسَ في الإسْراءِ بِجَسَدِهِ وحالِ يَقَظَتِهِ اسْتِحالَةٌ؛ إذْ لَوْ كانَ مَنامًا لَقالَ: (بِرُوحِ عَبْدِهِ) ولَمْ يَقُلْ (بِعَبْدِهِ) وقَوْلُهُ: ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ [النجم: ١٧] ولَوْ كانَ (p-٣٨٩٠)مَنامًا لَما كانَتْ فِيهِ آيَةٌ ولا مُعْجِزَةٌ، ولَما اسْتَبْعَدَهُ الكُفّارُ ولا كَذَّبُوهُ، ولا ارْتَدَّ بِهِ ضُعَفاءُ مَن أسْلَمَ وافْتَتَنُوا بِهِ؛ إذْ مِثْلُ هَذا مِنَ المَناماتِ لا يُنْكَرُ. بَلْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنهم إلّا وقَدْ عَلِمُوا أنَّ خَبَرَهُ إنَّما كانَ عَنْ جِسْمِهِ وحالَ يَقَظَتِهِ، إلى ما ذَكَرَ في الحَدِيثِ، مِن ذِكْرِ صَلاتِهِ بِالأنْبِياءِ بِبَيْتِ المَقْدِسِ في رِوايَةِ أنَسٍ (أوْ في السَّماءِ) عَلى ما رَوى غَيْرُهُ، وذِكْرِ مَجِيءِ جِبْرِيلَ لَهُ بِالبُراقِ وخَبَرِ المِعْراجِ واسْتِفْتاحِ السَّماءِ فَيُقالُ: ومَن مَعَكَ ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ. ولِقائِهِ الأنْبِياءَ فِيها وخَبَرِهِمْ مَعَهُ وتَرْحِيبِهِمْ بِهِ وشَأْنِهِ في فَرْضِ الصَّلاةِ ومُراجَعَتِهِ مَعَ مُوسى في ذَلِكَ.
وفِي بَعْضِ هَذِهِ الأخْبارِ: ««فَأخَذَ، يَعْنِي جِبْرِيلُ، بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إلى السَّماءِ»» إلى قَوْلِهِ: ««ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأقْلامِ»»، وأنَّهُ وصَلَ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى، وأنَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ ورَأى فِيها ما ذَكَرَهُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي رُؤْيا عَيْنٍ رَآها النَّبِيُّ ﷺ، لا رُؤْيا مَنامٍ.
وعَنِ الحَسَنِ فِيهِ: ««بَيْنا أنا نائِمٌ في الحِجْرِ جاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِعَقِبِهِ فَقُمْتُ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ لِمَضْجَعِي»» . ذَكَرَ ذَلِكَ ثَلاثًا، فَقالَ في الثّالِثَةِ: ««فَأخَذَ بِعَضُدَيَّ فَجَرَّنِي إلى بابِ المَسْجِدِ، فَإذا بِدابَّةٍ»»، وذَكَرَ خَبَرَ البُراقِ.
وعَنْ أُمِّ هانِئٍ: «ما أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلّا وهو في بَيْتِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ. صَلّى العِشاءَ الآخِرَةَ ونامَ بَيْنَنا. فَلَمّا كانَ قُبَيْلَ الفَجْرِ أهَبْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَلَمّا صَلّى الصُّبْحَ وصَلَّيْنا قالَ: يا أُمَّ هانِئٍ ! لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمُ العِشاءَ الآخِرَةَ، كَما رَأيْتِ بِهَذا الوادِي، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ الغَداةَ مَعَكُمُ الآنَ كَما تَرَوْنَ» . وهَذا بَيِّنٌ في أنَّهُ بِجِسْمِهِ.
وعَنْ أبِي بَكْرٍ (مِن رِوايَةِ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ عَنْهُ) أنَّهُ «قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةَ أُسَرِي بِهِ: طَلَبْتُكَ يا رَسُولَ اللَّهِ البارِحَةَ في مَكانِكَ فَلَمْ أجِدْكَ. فَأجابَهُ: أنَّ جِبْرِيلَ حَمَلَهُ إلى المَسْجِدِ الأقْصى» .
وعَنْ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««صَلَّيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي في مُقَدَّمِ المَسْجِدِ ثُمَّ دَخَلْتُ الصَّخْرَةَ»»، وهَذِهِ التَّصْرِيحاتُ ظاهِرَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ، فَتُحْمَلُ عَلى ظاهِرِها.
(p-٣٨٩١)وعَنْ أبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ««فَرَجَ سَقْفُ بَيْتِي وأنا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي»» .
وعَنْ أنَسٍ: ««أتَيْتُ فانْطَلَقُوا بِي إلى زَمْزَمَ»» . وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: ««لَقَدْ رَأيْتُنِي في الحِجْرِ وقُرَيْشٌ تَسْألُنِي عَنْ مَسْرايَ، فَسَألَتْنِي عَنْ أشْياءَ لَمْ أُثْبِتْها، فَكُرِبْتُ كَرْبًا ما كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أنْظُرُ إلَيْهِ»» . ونَحْوَهُ عَنْ جابِرٍ.
وقَدْ رَوى عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حَدِيثِ الإسْراءِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ قالَ: ««ثُمَّ رَجَعْتُ إلى خَدِيجَةَ وما تَحَوَّلْتُ عَنْ جانِبِها»» .
ثُمَّ قالَ القاضِي عِياضٌ (في إبْطالِ حُجَجِ مَن قالَ: إنَّها نَوْمٌ): احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: ﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا﴾ [الإسراء: ٦٠] فَسَمّاها ) رُؤْيا ) . قُلْنا: قَوْلُهُ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ يَرُدُّهُ؛ لِأنَّهُ لا يُقالُ في النَّوْمِ (أسْرى) .
وقَوْلُهُ: ﴿فِتْنَةً لِلنّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠] يُؤَيِّدُ أنَّها رُؤْيا عَيْنٍ وإسْراءُ شَخْصٍ؛ إذْ لَيْسَ في الحُلْمِ فِتْنَةٌ، ولا يُكَذِّبُ بِهِ أحَدٌ؛ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَرى مِثْلَ ذَلِكَ في مَنامِهِ مِنَ الكَوْنِ في ساعَةٍ واحِدَةٍ في أقْطارٍ مُتَبايِنَةٍ. عَلى أنَّ المُفَسِّرِينَ قَدِ اخْتَلَفُوا في هَذِهِ الآيَةِ. فَذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّها نَزَلَتْ في قِصَّةِ الحُدَيْبِيَةِ وما وقَعَ في نُفُوسِ النّاسِ مِن ذَلِكَ. وقِيلَ غَيْرُ هَذا.
وأمّا قَوْلُهم: إنَّهُ قَدْ سَمّاها في الحَدِيثِ مَنامًا، وقَوْلُهُ في حَدِيثٍ آخَرَ: ««بَيْنَ النّائِمِ واليَقْظانِ»» . وقَوْلُهُ أيْضًا: وهو نائِمٌ. وقَوْلُهُ: ««ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ»»، فَلا حُجَّةَ فِيهِ؛ إذْ يُحْتَمَلُ أنْ أوَّلَ وُصُولِ المَلِكِ إلَيْهِ كانَ وهو نائِمٌ. أوْ أوَّلَ حُلْمِهِ والإسْراءِ بِهِ وهو نائِمٌ. ولَيْسَ في الحَدِيثِ أنَّهُ كانَ نائِمًا في القِصَّةِ كُلِّها إلّا ما يَدُلُّ عَلَيْهِ: ««ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ وأنا في المَسْجِدِ الحَرامِ»» فَلَعَلَّ قَوْلَهُ «اسْتَيْقَظْتُ» بِمَعْنى أصْبَحْتُ. أوِ اسْتَيْقَظَ مِن نَوْمٍ آخَرَ بَعْدَ وُصُولِهِ بَيْتَهُ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ: أنَّ مَسْراهُ لَمْ يَكُنْ طُولَ لَيْلَةٍ، وإنَّما كانَ في بَعْضِهِ. وقَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ: ««اسْتَيْقَظْتُ وأنا في المَسْجِدِ الحَرامِ»» لِما كانَ غَمَرَهُ مِن عَجائِبِ ما طالَعَ مِن مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ، وخامَرَ بَطْنَهُ مِن (p-٣٨٩٢)مُشاهَدَةِ المَلَأِ الأعْلى، وما رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى. فَلَمْ يَسْتَفِقْ ويَرْجِعْ إلى حالِ البَشَرِيَّةِ إلّا وهو بِالمَسْجِدِ الحَرامِ. ووَجْهٌ ثالِثٌ: أنْ يَكُونَ نَوْمُهُ واسْتِيقاظُهُ حَقِيقَةً عَلى مُقْتَضى لَفْظِهِ، ولَكِنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ وقَلْبُهُ حاضِرٌ، ورُؤْيا الأنْبِياءِ حَقٌّ. تَنامُ أعْيُنُهم ولا تَنامُ قُلُوبُهم.
وقَدْ مالَ بَعْضُ أصْحابِ الإشاراتِ إلى نَحْوٍ مَن هَذا. قالَ: تَغْمِيضُ عَيْنَيْهِ لِئَلّا يَشْغَلَهُ شَيْءٌ مِنَ المَحْسُوساتِ عَنِ اللَّهِ، ولا يَصِحُّ هَذا أنَّ يَكُونَ في وقْتِ صَلاتِهِ بِالأنْبِياءِ، ولَعَلَّهُ كانَتْ لَهُ في هَذا الإسْراءِ حالاتٌ.
ووَجْهٌ رابِعٌ: وهو أنْ يُعَبَّرَ بِالنَّوْمِ ها هُنا عَنْ هَيْئَةِ النّائِمِ مِنَ الاضْطِجاعِ. ويُقَوِّيهِ قَوْلُهُ في رِوايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ هَمّامٍ: «بَيْنا أنا نائِمٌ»، ورُبَّما قالَ «مُضْطَجِعٌ»، وفي رِوايَةِ هُدْبَةَ عَنْهُ ««بَيْنا أنا في الحَطِيمِ»»، ورُبَّما قالَ ««في الحِجْرِ مُضْطَجِعٌ»» . وقَوْلُهُ في الرِّوايَةِ الأُخْرى: ««بَيْنَ النّائِمِ واليَقْظانِ»» فَيَكُونُ سَمّى هَيْئَتَهُ بِالنَّوْمِ لَمّا كانَتْ هَيْئَةُ النّائِمِ غالِبًا. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ هَذِهِ الزِّياداتِ مِنَ النَّوْمِ، وذِكْرِ شَقِّ البَطْنِ، ودُنُوِّ الرَّبِّ، الواقِعَةِ في هَذا الحَدِيثِ، إنَّما هي مِن رِوايَةِ شَرِيكٍ عَنْ أنَسٍ. فَهي مُنْكَرَةٌ مِن رِوايَتِهِ. انْتَهى كَلامُ عِياضٍ. وبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ مِن شاءَ فَلْيُراجِعْها.
الخامِسُ: جُمْلَةُ الأقْوالِ في الإسْراءِ والمِعْراجِ، عَلى ما حَكاهُ ابْنُ القَيِّمِ في (زادُ المَعادِ) سِتَّةٌ: بِرُوحِهِ وجَسَدِهِ وهو الَّذِي صَحَّحُوهُ، وقِيلَ: كانَ ذَلِكَ مَنامًا، وقِيلَ: بَلْ يُقالُ أُسْرِيَ بِهِ ولا يُقالُ يَقَظَةً ولا مَنامًا، وقِيلَ: كانَ الإسْراءُ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ يَقَظَةً وإلى السَّماءِ مَنامًا، وقِيلَ: كانَ الإسْراءُ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً يَقِظَةً ومُرَّةً مَنامًا. وقِيلَ: بَلْ أُسْرِيَ بِهِ ثَلاثَ مَرّاتٍ. وكانَ ذَلِكَ بَعْدَ البَعْثِ بِالِاتِّفاقِ. وأمّا ما وقَعَ في حَدِيثِ شَرِيكٍ أنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أنْ يُوحى إلَيْهِ، فَقِيلَ: هو غَلَطٌ، وقِيلَ: الوَحْيُ هُنا مُقَيَّدٌ ولَيْسَ بِالوَحْيِ المُطْلَقِ الَّذِي هو مَبْدَأُ النُّبُوَّةِ. والمُرادُ: قَبْلَ أنْ يُوحى إلَيْهِ في شَأْنِ الإسْراءِ، فَأُسْرِيَ بِهِ فَجْأةً مِن غَيْرِ تَقَدُّمِ إعْلامٍ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ عائِشَةَ ومُعاوِيَةَ والحَسَنَ، نَقَلَ الأكْثَرُونَ عَنْهم؛ أنَّها رُؤْيا مَنامٍ. وكَذا حَكى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ، (p-٣٨٩٣)إلّا أنَّ ابْنَ القَيِّمِ نَبَّهَ عَلى دَقِيقَةٍ غَرِيبَةٍ. قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: نَقَلَ ابْنُ إسْحاقَ عَنْ عائِشَةَ ومُعاوِيَةَ أنَّهُما قالا: إنَّما كانَ الإسْراءُ بِرُوحِهِ ولَمْ يَفْقِدْ جَسَدَهُ. ونُقِلَ عَنِ الحَسَنِ البَصَرِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ. ولَكِنْ يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ الفَرْقُ بَيْنَ أنْ يُقالَ: كانَ الإسْراءُ مَنامًا، وبَيْنَ أنْ يُقالَ: كانَ بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ. وبَيْنَهُما فَرْقٌ عَظِيمٌ. وعائِشَةُ ومُعاوِيَةُ لَمْ يَقُولا كانَ مَنامًا، وإنَّما قالا: أُسْرِيَ بِرُوحِهِ ولَمْ يَفْقِدْ جَسَدَهُ. وفَرْقٌ بَيْنَ الأمْرَيْنِ. فَإنَّ ما يَراهُ النّائِمُ قَدْ يَكُونُ أمْثالًا مَضْرُوبَةً لِلْمَعْلُومِ في الصُّوَرِ المَحْسُوسَةِ. فَيَرى كَأنَّهُ قَدْ عُرِجَ بِهِ إلى السَّماءِ، أوْ ذُهِبَ بِهِ إلى مَكَّةَ وأقْطارِ الأرْضِ، ورُوحُهُ لَمْ تَصْعَدْ ولَمْ تَذْهَبْ. وإنَّما مَلَكُ الرُّؤْيا ضَرَبَ لَهُ المِثالَ. والَّذِينَ قالُوا عُرِجَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ طائِفَتانِ: طائِفَةٌ قالَتْ: عُرِجَ بِرُوحِهِ وبَدَنِهِ. وطائِفَةٌ قالَتْ: عُرِجَ بِرُوحِهِ ولَمْ يَفْقِدْ بَدَنَهُ. وهَؤُلاءِ لَمْ يُرِيدُوا أنَّ المِعْراجَ كانَ مَنامًا. وإنَّما أرادُوا أنَّ الرُّوحَ ذاتَها أُسْرِيَ بِها وعُرِجَ بِها حَقِيقَةً. وباشَرَتْ مِن جِنْسِ ما تُباشِرُ بَعْدَ المُفارَقَةِ في صُعُودِها إلى السَّماواتِ سَماءً سَماءً، حَتّى يَنْتَهِيَ بِها إلى السَّماءِ السّابِعَةِ، فَتَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. فَيَأْمُرُ فِيها بِما يَشاءُ، ثُمَّ تَنْزِلُ إلى الأرْضِ. فالَّذِي كانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الإسْراءِ أكْمَلَ مِمّا يَحْصُلُ لِلرُّوحِ عِنْدَ المُفارَقَةِ. ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا أمْرٌ فَوْقَ ما يَراهُ النّائِمُ. لَكِنْ لَمّا كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في مَقامِ خَرْقِ العَوائِدِ حَتّى شُقَّ بَطَّنَهُ وهو حَيٌّ لا يَتَألَّمُ؛ كَذَلِكَ عُرِجَ بِذاتِ رُوحِهِ المُقَدَّسَةِ حَقِيقَةً مِن غَيْرِ إماتَةٍ. ومَن سِواهُ ﷺ، لا تَنالُ ذاتُ رُوحِهِ الصُّعُودَ إلى السَّماءِ إلّا بَعْدَ المَوْتِ والمُفارَقَةِ. فالأنْبِياءُ إنَّما اسْتَقَرَّتْ أرْواحُهم هُناكَ بَعْدَ مُفارَقَةِ الأبْدانِ. ورَوْحُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَعِدَتْ إلى هُناكَ في حالِ الحَياةِ ثُمَّ عادَتْ. وبَعْدَ وفاتِهِ اسْتَقَرَّتْ في الرَّفِيقِ الأعْلى مَعَ أرْواحِ الأنْبِياءِ. ومَعَ هَذا فَلَها إشْرافٌ عَلى البَدَنِ، وإشْراقٌ وتَعَلُّقٌ بِهِ. بِحَيْثُ يَرُدُّ السَّلامَ عَلى مَن سَلَّمَ عَلَيْهِ. وبِهَذا التَّعَلُّقِ رَأى مُوسى قائِمًا يُصَلِّي في قَبْرِهِ، ورَآهُ في السَّماءِ السّادِسَةِ. ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُعْرَجْ بِمُوسى مِن قَبْرِهِ ثُمَّ رُدَّ إلَيْهِ، وإنَّما ذَلِكَ مَقامُ رُوحِهِ واسْتِقْرارُها، وقَبْرُهُ مَقامُ بَدَنِهِ واسْتِقْرارُهُ إلى يَوْمِ مَعادِ الأرْواحِ إلى أجْسادِها. فَرَآهُ يُصَلِّي في قَبْرِهِ، ورَآهُ في السَّماءِ السّادِسَةِ. كَما أنَّهُ ﷺ في أرْفَعِ مَكانٍ في الرَّفِيقِ الأعْلى مُسْتَقِرًّا هُناكَ، (p-٣٨٩٤)وبَدَنُهُ في ضَرِيحِهِ غَيْرُ مَفْقُودٍ. وإذا سَلَّمَ عَلَيْهِ المُسَلِّمُ، رَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَمْ يُفارِقِ المَلَأ الأعْلى. ومَن كَثَفَ إدْراكَهُ وغَلُظَتْ طِباعُهُ عَنْ إدْراكِ هَذا؛ فَلْيَنْظُرْ إلى الشَّمْسِ في عُلُوِّ مَحَلِّها وتَعَلُّقِها وتَأْثِيرِها في الأرْضِ، وحَياةِ النَّباتِ والحَيَوانِ بِها. هَذا، وشَأْنُ الرُّوحِ فَوْقَ هَذا. فَلَها شَأْنٌ ولِلْأبْدانِ شَأْنٌ. وهَذِهِ النّارُ تَكُونُ في مَحَلِّها، وحَرارَتُها تُؤَثِّرُ في الجِسْمِ البَعِيدِ عَنْها. مَعَ أنَّ الِارْتِباطَ والتَّعَلُّقَ الَّذِي بَيْنَ الرُّوحِ والبَدَنِ أقْوى وأكْمَلُ مِن ذَلِكَ وأتَمُّ. فَشَأْنُ الرُّوحِ أعْلى مِن ذَلِكَ وألْطَفُ.
؎فَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمْدِ إيّاكِ أنْ تَرَيْ سَنا الشَّمْسِ فاسْتَغْشِي ظَلامَ اللَّيالِيا
انْتَهى كَلامُ ابْنِ القَيِّمِ.
وقالَ العَلّامَةُ سَعْدِيٌّ في (حَواشِي البَيْضاوِيِّ): والمِعْراجُ بِرُوحِهِ في اليَقَظَةِ - وهو الَّذِي أشارَ إلَيْهِ ابْنُ القَيِّمِ - خارِقٌ أيْضًا لِلْعادَةِ. انْتَهى.
وتَعَقَّبَ العَلّامَةُ القِنَوِيُّ لَهُ: بِأنَّهُ نَوْعُ مُراقَبَةٍ وانْسِلاخٍ، والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الصُّوفِيَّةُ ساقِطٌ؛ لِأنَّهُ فَوْقَهُ بِكَثِيرٍ. بَلْ غَيْرُهُ كَما تَبَيَّنَ قَبْلُ. وبِالجُمْلَةِ، فالَّذِي فَهِمَهُ الأكْثَرُونَ مِن قَوْلِ عائِشَةَ ومُعاوِيَةَ وحُذَيْفَةَ والحَسَنِ؛ أنَّ ذَلِكَ رُؤْيا مَنامٍ. وما ذَكَرَهُ ابْنُ القَيِّمِ مِن أنَّهُ إسْراءٌ بِالرُّوحِ؛ فَيَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ المَأْثُورُ عَنْهم.
ونَظِيرُهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّ ذَلِكَ كانَ أمْرًا إعْجازِيًّا. والحَقِيقَةُ أنَّهُ كَشْفٌ رُوحانِيٌّ. وقَدْ قَرَّرُوا في عَدَمِ اسْتِحالَةِ كَوْنِهِ يَقَظَةً بِالرُّوحِ والجِسْمِ؛ أنَّ خالِقَ العالَمِ قادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ. وحُصُولُ الحَرَكَةِ البالِغَةِ في السُّرْعَةِ إلى هَذا الحَدِّ في جَسَدِهِ ﷺ مُمْكِنٌ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعالى قادِرًا عَلَيْهِ. وغايَةُ ما في البابِ أنَّهُ خِلافُ العادَةِ. والمُعْجِزاتُ كُلُّها كَذَلِكَ. وفي (العَقائِدِ النَّسَفِيَّةِ وحَواشِيها): الخَرْقُ والِالتِئامُ عَلى السَّماواتِ جائِزٌ؛ لِأنَّ الأجْسامَ كُلَّها مُتَماثِلَةٌ في تَرَكُّبِها مِنَ الجَواهِرِ الفَرْدَةِ، فَيَصِحُّ عَلى كُلِّ ما يَصِحُّ عَلى الآخَرِ. فالأجْسامُ العُنْصُرِيَّةُ قابِلَةٌ لِلْخَرْقِ والِالتِئامِ. وكَذا الأجْسامُ الفَلَكِيَّةُ. واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى المُمْكِناتِ كُلِّها. فَيَكُونُ قادِرًا عَلى الخَرْقِ في السَّماواتِ؛ لِأنَّهُ مُمْكِنٌ فِيها. وفي الرّازِيِّ بَراهِينُ أُخَرَ. فانْظُرْها.
(p-٣٨٩٥)جاءَ في كِتابِ (إظْهارُ الحَقِّ): أنَّ بَعْضَ أهْلِ الكِتابِ مارى في المِعْراجِ، فَبُكِّتَ بِأنَّ صُعُودَ الجِسْمِ العُنْصُرِيِّ إلى الأفْلاكِ صَرَّحَتْ بِهِ التَّوْراةُ المَوْجُودَةُ لَدَيْهِمْ في (أخْنُوخَ) . وأنَّهُ نُقِلَ حَيًّا إلى السَّماءِ لِئَلّا يَرى المَوْتَ. كَما في الفَصْلِ الخامِسِ مِن سِفْرِ التَّكْوِينِ. وصَرَّحَتْ في صُعُودِ (إيلِيا) في الفَصْلِ الثّانِي مِن سِفْرِ المُلُوكِ. وفي إنْجِيلِ مُرْقُسَ في الفَصْلِ السّادِسَ عَشَرَ التَّصْرِيحُ بِرَفْعِ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى السَّماءِ. انْتَهى.
أقُولُ: أخْنُوخُ: هو إدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلامُ، المُنَوَّهُ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ورَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: ٥٧] وإيلِيا: نَبِيٌّ أُرْسِلَ إلى آحابَ أحَدِ مُلُوكِ اليَهُودِ الكَفَرَةِ، الَّذِينَ شَهَّرُوا عِبادَةَ بَعْلٍ وغَيْرِهِ مِنَ الأصْنامِ بِالسّامِرَةِ. وتُسَمّى الآنَ: سِبِسْطِيَّةَ: مِن قِسْمِ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ، زَعَمُوا أنَّهُ ظَهَرَتْ عَلى يَدِ إيلِيا خَوارِقُ باهِرَةٌ. وأنَّهُ قَتَلَ سَدَنَةَ بَعْلٍ وهَدَمَ مَذْبَحَهُ، إلى أنِ ارْتَفَعَ في مَرْكَبَةٍ نارِيَّةٍ وخَيْلٍ نارِيَّةٍ نَحْوَ السَّماءِ، جانِبِ نَهْرِ الأُرْدُنِّ في بِطاحِ أرِيحا، شاهَدَهُ خَلِيفَتُهُ اليَشاعُ النَّبِيُّ بَعْدَهُ. كَذا في تارِيخِ الكِتابِ المُقَدَّسِ. و(إيلِيا): هو إلْياسُ، و(اليَشاعُ): هو اليَسَعُ المَذْكُورانِ في القُرْآنِ المَجِيدِ.
وقَدْ نَوَّهَ بِالأوَّلِ في سُورَةِ الصّافّاتِ بِقَوْلِهِ تَعالى: { ﴿وإنَّ إلْياسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٢٣] ﴿إذْ قالَ لِقَوْمِهِ ألا تَتَّقُونَ﴾ [الصافات: ١٢٤] ﴿أتَدْعُونَ بَعْلا وتَذَرُونَ أحْسَنَ الخالِقِينَ﴾ [الصافات: ١٢٥] ﴿اللَّهَ رَبَّكم ورَبَّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ [الصافات: ١٢٦] } .
السّادِسُ: قِيلَ: إنَّ المَسْجِدَ الأقْصى في زَمَنِ الإسْراءِ كانَ خَرابًا بِشَهادَةِ التّارِيخِ. وذَلِكَ لِأنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَناهُ عَلى مَكانِ الصَّخْرَةِ. ثُمَّ خَرِبَ وأُلْقِيَتْ عَلى الصَّخْرَةِ زُبالَةُ البَلَدِ عِنادًا لِلْيَهُودِ. وبَقِيَ كَذَلِكَ حَتّى فَتَحَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ القُدْسَ. انْظُرْ (تارِيخُ أبِي الفِداءِ) وغَيْرَهُ. فَكَيْفَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ المَسْجِدِ ؟ وأُجِيبُ: بِأنَّ المَسْجِدَ في حالِ هَدْمِهِ يُسَمّى مَسْجِدًا، بِاعْتِبارِ ما كانَ عَلَيْهِ وما وُضِعَ لَهُ، كَما أُطْلِقَ المَسْجِدُ عَلى حَرَمِ مَكَّةَ، وهو لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مَسْجِدًا. وإنَّما كانَ بَيْتًا لِلْأصْنامِ.
(p-٣٨٩٦)لَكِنَّ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ، لَمّا بَنَيا الكَعْبَةَ لِلْعِبادَةِ الصَّحِيحَةِ، كَما بَنى سُلَيْمانُ هَيْكَلَهُ هَذا لَها، سُمِّيَ مَسْجِدًا بِهَذا الِاعْتِبارِ. أوْ يُقالُ: إنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِما اسْمُ المَسْجِدِ لِلْإشارَةِ إلى ما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُهُما. وهو كَوْنُهُما مَسْجِدَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ.
السّابِعُ: في التَّفاضُلِ بَيْنَ لَيْلَةِ القَدْرِ ولَيْلَةِ الإسْراءِ. سُئِلَ الإمامُ تَقِيُّ الدِّينِ أحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَجُلٍ قالَ: لَيْلَةُ الإسْراءِ أفْضَلُ مِن لَيْلَةِ القَدْرِ، وقالَ آخَرُ: بَلْ لَيْلَةُ القَدْرِ أفْضَلُ، فَأيُّهُما المُصِيبُ ؟ .
فَأجابَ: أمّا القائِلُ بِأنَّ لَيْلَةَ الإسْراءِ أفْضَلُ مِن لَيْلَةِ القَدْرِ. إنْ أرادَ بِهِ أنْ تَكُونَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ فِيها بِالنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ ونَظائِرُها مِن كُلِّ عامٍ أفْضَلَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِن لَيْلَةِ القَدْرِ، بِحَيْثُ يَكُونُ قِيامُها والدُّعاءُ فِيها أفْضَلَ مِنهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ. فَهَذا باطِلٌ لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وهو مَعْلُومُ الفَسادِ بِالِاضْطِرارِ مِن دِينِ الإسْلامِ. هَذا إذا كانَتْ لَيْلَةُ الإسْراءَ يُعْرَفُ عَيْنُها. فَكَيْفَ ولَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ لا عَلى شَهْرِها ولا عُشْرِها ولا عَلى عَيْنِها ؟ بَلِ النُّقُولُ في ذَلِكَ مُنْقَطِعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَيْسَ فِيها ما يُقْطَعُ بِهِ، ولا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ تَخْصِيصُ اللَّيْلَةِ، الَّتِي يُظَنُّ أنَّها لَيْلَةُ الإسْراءِ، بِقِيامٍ ولا غَيْرِهِ. بِخِلافِ لَيْلَةِ القَدْرِ فَإنَّهُ قَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««مَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»» وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ: (p-٣٨٩٧)««تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ»» . وقَدْ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّها خَيْرٌ مِن ألْفِ شَهْرٍ فَإنَّهُ نَزَلَ فِيها القُرْآنُ.
وإنْ أرادَ أنَّ اللَّيْلَةَ المُعَيَّنَةَ الَّتِي أُسْرِيَ فِيها بِالنَّبِيِّ ﷺ، وحَصَلَ لَهُ فِيها ما لَمْ يَحْصُلْ لَهُ في غَيْرِها، مِن غَيْرِ أنْ يُشْرَعَ تَخْصِيصُها بِقِيامٍ ولا عِبادَةٍ، فَهَذا صَحِيحٌ. ولَيْسَ إذا أعْطى اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ فَضِيلَةً في مَكانٍ أوْ زَمانٍ، يَجِبُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الزَّمانُ والمَكانُ أفْضَلَ مِن جَمِيعِ الأمْكِنَةِ والأزْمِنَةِ. هَذا إذا قُدِّرَ أنَّهُ قامَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ إنْعامَ اللَّهِ تَعالى عَلى نَبِيِّهِ لَيْلَةَ الإسْراءِ كانَ أعْظَمَ مِن إنْعامِهِ عَلَيْهِ بِإنْزالِ القُرْآنِ لَيْلَةَ القَدْرِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أنْعَمَ عَلَيْهِ. والكَلامُ في مِثْلِ هَذا يَحْتاجُ إلى عِلْمٍ بِحَقائِقِ الأمْرِ ومَقادِيرِ النِّعَمِ الَّتِي لا تُعْرَفُ إلّا بِوَحْيٍ. ولا يَجُوزُ لِأحَدٍ أنْ يَتَكَلَّمَ فِيها بِلا عِلْمٍ.
ولا يُعْرَفُ عَنْ أحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ أنَّهُ نَقَلَ لِلَيْلَةِ الإسْراءِ فَضِيلَةً عَلى غَيْرِها. لا سِيَّما عَلى لَيْلَةِ القَدْرِ. ولا كانَ الصَّحابَةُ والتّابِعُونَ لَهم بِإحْسانٍ يَقْصِدُونَ تَخْصِيصَ لَيْلَةِ الإسْراءِ بِأمْرٍ مِنَ الأُمُورِ ولا يَذْكُرُونَها. ولِهَذا لا يَعْرِفُ أيَّ لَيْلَةٍ كانَتْ. وإنْ كانَ الإسْراءُ مِن أعْظَمِ فَضائِلِهِ ﷺ، ومَعَ هَذا لَمْ يُشْرَعْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الزَّمانِ ولا ذَلِكَ المَكانِ بِعِبادَةٍ شَرْعِيَّةٍ. بَلْ غارُ حِراءٍ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ بِنُزُولِ الوَحْيِ، وكانَ يَتَحَرّاهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، لَمْ يَقْصِدْهُ هو ولا أحَدٌ مِن أصْحابِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مُدَّةَ مُقامِهِ بِمَكَّةَ. ولا خُصَّ اليَوْمُ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الوَحْيُ بِعِبادَةٍ ولا غَيْرِها. ولا خُصَّ المَكانُ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ الوَحْيُ ولا الزَّمانُ بِشَيْءٍ. ومَن خَصَّ الأمْكِنَةَ والأزْمِنَةَ مِن عِنْدِهِ بِعِباداتٍ لِأجْلِ هَذا وأمْثالِهِ، كانَ مِن جِنْسِ أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ جَعَلُوا زَمانَ أحْوالِ المَسِيحِ مَراسِمَ وعِباداتٍ. كَيَوْمِ المِيلادِ، ويَوْمِ التَّعْمِيدِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أحْوالِهِ. وقَدْ رَأى عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ جَماعَةً يَتَبادَرُونَ مَكانًا يُصَلُّونَ فِيهِ. فَقالَ: ما هَذا ؟ قالُوا: مَكانٌ صَلّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: أتُرِيدُونَ أنْ تَتَّخِذُوا آثارَ أنْبِيائِكم مَساجِدَ ؟ إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكم بِهَذا، فَمَن أدْرَكَتْهُ فِيهِ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ، وإلّا فَلْيَمْضِ. وقَدْ قالَ بَعْضُ النّاسِ: إنَّ لَيْلَةَ الإسْراءِ في حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ أفْضَلُ مِن لَيْلَةِ القَدْرِ. ولَيْلَةُ القَدْرِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأُمَّةِ أفْضَلُ مِن لَيْلَةِ الإسْراءِ. فَهَذِهِ (p-٣٨٩٨)اللَّيْلَةُ في حَقِّ الأُمَّةِ أفْضَلُ لَهم. ولَيْلَةُ الإسْراءِ في حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أفْضَلُ لَهُ. انْتَهى. نَقَلَهُ الشَّمْسُ ابْنُ القَيِّمِ (في زادُ المَعادِ) .
الثّامِنُ: قالَ الشَّمْسُ ابْنُ القَيِّمِ في (زادُ المَعادِ): اخْتَلَفَ الصَّحابَةُ: هَلْ رَأى النَّبِيُّ ﷺ رَبَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أمْ لا ؟ فَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ رَأى رَبَّهُ. وصَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: رَآهُ بِفُؤادِهِ. وصَحَّ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ مَسْعُودٍ إنْكارُ ذَلِكَ وقالا: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَـزْلَةً أُخْرى﴾ [النجم: ١٣] ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ [النجم: ١٤] إنَّما هو جِبْرِيلُ. وصَحَّ «عَنْ أبِي ذَرٍّ أنَّهُ سَألَهُ: هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ ؟ قالَ: «نُورٌ، أنّى أراهُ ؟ !»» . أيْ: حالَ بَيْنِي وبَيْنَ رُؤْيَةِ النُّورِ. كَما قالَ في لَفْظٍ آخَرَ: ««رَأيْتُ نُورًا»» . وقَدْ حَكى عُثْمانُ بْنُ سَعِيدٍ الدّارِمِيُّ اتِّفاقَ الصَّحابَةِ عَلى أنَّهُ لَمْ يَرَهُ. قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: ولَيْسَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ رَآهُ مُناقِضًا لِهَذا. ولا قَوْلُهُ رَآهُ بِفُؤادِهِ. وقَدْ صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ««رَأيْتُ رَبِّي تَبارَكَ وتَعالى»» . ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ هَذا في الإسْراءِ، ولَكِنْ كانَ في المَدِينَةِ لَمّا احْتَبَسَ عَنْهم في صَلاةِ الصُّبْحِ. ثُمَّ أخْبَرَهم عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى تِلْكَ اللَّيْلَةَ في مَنامِهِ. وعَلى هَذا بَنى الإمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ وقالَ: نَعَمْ، رَآهُ حَقًّا. فَإنَّ رُؤْيا الأنْبِياءِ حَقٌّ ولا بُدَّ. ولَكِنْ لَمْ يَقُلْ أحْمَدُ: إنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ. ومَن حَكى عَنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ وهِمَ عَلَيْهِ. ولَكِنْ قالَ مَرَّةً: رَآهُ، ومَرَّةً قالَ: رَآهُ بِفُؤادِهِ. فَحُكِيَتْ عَنْهُ رِوايَتانِ وحُكِيَتْ عَنْهُ الثّالِثَةُ. مِن تَصَرُّفِ بَعْضِ أصْحابِهِ أنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ. وهَذِهِ نُصُوصُ أحْمَدَ مَوْجُودَةٌ لَيْسَ فِيها ذَلِكَ. وأمّا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: رَآهُ بِفُؤادِهِ مَرَّتَيْنِ. فَإنْ كانَ اسْتِنادُهُ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى﴾ [النجم: ١١] ثُمَّ قالَ: ﴿ولَقَدْ رَآهُ نَـزْلَةً أُخْرى﴾ [النجم: ١٣] والظّاهِرُ أنَّهُ مُسْتَنَدُهُ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ أنَّ هَذا المَرْئِيَّ جِبْرِيلُ. رَآهُ مَرَّتَيْنِ في صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْها. وقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ هَذا. هو مُسْتَنَدُ الإمامِ أحْمَدَ في قَوْلِهِ: رَآهُ بِفُؤادِهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
(p-٣٨٩٩)التّاسِعُ: قالَ الحافِظُ أبُو الخَطّابِ عُمَرُ بْنُ دِحْيَةَ في كِتابِهِ " التَّنْوِيرُ في مَوْلِدِ السِّراجِ المُنِيرِ " بَعْدَ ذِكْرِهِ حَدِيثَ الإسْراءِ مِن طَرِيقِ أنَسٍ: وقَدْ تَواتَرَتِ الرِّواياتُ في حَدِيثِ الإسْراءِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وعَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي ذَرٍّ ومالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ وأبِي هُرَيْرَةَ وأبِي سَعِيدٍ وابْنِ عَبّاسٍ وشَدّادِ بْنِ أوْسٍ وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قُرْطٍ وأبِي حَبَّةَ وأبِي لَيْلى الأنْصارِيَّيْنِ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وجابِرٍ وحُذَيْفَةَ وبُرَيْدَةَ وأبِي أيُّوبَ وأبِي أُمامَةَ وسَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ وأبِي الحَمْراءِ وصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ وأُمِّ هانِئٍ وعائِشَةَ وأسْماءَ ابْنَتِي أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ، مِنهم مَن ساقَهُ بِطُولِهِ ومِنهم مَنِ اخْتَصَرَهُ، عَلى ما وقَعَ في المَسانِيدِ. وإنْ لَمْ تَكُنْ رِوايَةُ بَعْضِهِمْ عَلى شَرْطِ الصِّحَّةِ؛، فَحَدِيثُ الإسْراءِ أجْمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ. وأعْرَضَ عَنْهُ الزَّنادِقَةُ والمُلْحِدُونَ. انْتَهى.
وقَدْ نَقَلَ الرّازِيُّ عَنْ بَعْضِ المُعْتَزِلَةِ رَدَّهُ لِجُمَلٍ فِيهِ - ساقَها - صَعُبَ عَلَيْهِمْ دَرْكُها. ولا إشْكالَ فِيها في الحَقِيقَةِ بِحَمْدِهِ تَعالى. ولَكِنْ هم وأمْثالُهم مِمَّنْ ضَعُفَتْ عِنايَتُهم بِفَنِّ الحَدِيثِ وغَلَبَ عَلَيْهِمْ فَنُّ المَعْقُولِ. ولَقَدْ فاتَهم بِسَبَبِ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ. ولَيْسَ في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ ما يُناقِضُ المَفْعُولَ أوِ الواقِعَ، بِوَجْهٍ ما، يَعْلَمُ ذَلِكَ الرّاسِخُونَ. وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
وقَدْ بَقِيَ مِمَّنْ رَواهُ مِنَ الصَّحابَةِ. غَيْرُ مَن تَقَدَّمَ؛ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوالَةَ الأزْدِيُّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أسْعَدَ بْنِ زُرارَةَ وأبُو الدَّرْداءِ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. وأمّا مَن رَواهُ مِنَ التّابِعِينَ مُرْسَلًا فَكَثِيرٌ، مِنهُمُ: الحَسَنُ بْنُ الحُسَيْنِ عَلَيْهِما السَّلامُ وكَعْبٌ ومُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ وعُرْوَةُ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ والوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي لَيْلى وآخَرُونَ. كَما يُعْلَمُ مِن مُراجَعَةِ (الدُّرِّ المَنثُورِ) لِلْحافِظِ السُّيُوطِيِّ.
وأمّا طُرُقُهُ في الصَّحِيحَيْنِ. فَقالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في (الفَتْحُ): إنَّها تَدُورُ عَلى أنَسِ بْنِ مالِكٍ مَعَ اخْتِلافِ أصْحابِهِ عَنْهُ. فَرَواهُ قَتادَةُ عَنْهُ عَنْ مالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ. ولَيْسَ في أحادِيثِ المِعْراجِ أصَحُّ مِنهُ. ورَواهُ الزُّهْرِيُّ عَنْهُ عَنْ أبِي ذَرٍّ. ورَواهُ شَرِيكُ بْنُ أبِي نَمِرٍ وثابِتٌ البُنانِيُّ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِلا واسِطَةٍ. وفي سِياقِ كُلٍّ مِنهم عَنْهُ ما لَيْسَ عِنْدَ الآخَرِ. وقَوْلُهُ تَعالى:
(p-٣٩٠٠)
{"ayah":"سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلࣰا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق