الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي {سُبْحَانَ} [الإسراء: 1]: وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ.
وَمَنَعَهُ عِنْدَهُمَا مِنْ الصَّرْفِ كَوْنُهُ مَعْرِفَةً فِي آخِرِهِ زَائِدَانِ.
وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ يَصْرِفُهُ وَيُصَرِّفُهُ.
الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ومَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنْ السُّوءِ، وَتَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْهُ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَلِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَصَادِرِ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي عَلَى فُعْلَانَ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ اسْمٌ وُضِعَ لِلْمَصْدَرِ فَلِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ لَا يَجْرِي عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَّحَ.
وأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنَّهُ مُنَادًى فَإِنَّهُ يُنَادَى فِيهِ بِالْمَعْرِفَةِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ، وَهُوَ كَلَامٌ جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ دَعْوَى فَارِغَةٍ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ لَا يَعْصِمُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ: هَلْ هُوَ اسْمٌ أَوْ مَصْدَرٌ؟ وَمَا زَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُجْرِي فِي الْمَنْقُولِ طَلْقَهُ حَتَّى إذَا جَاءَ الْمَعْقُولُ عَقَلَهُ الْعِيُّ وَأَغْلَقَهُ.
وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَرَفَةَ جُزْءًا قَرَأْنَاهُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِيهِ عَنْ التَّقْصِيرِ سَلَامٌ، وَالْقَدْرُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِيهِ يَكْفِي، فَلْيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَيَكْتَفِي.
[مَسْأَلَة أشرف اسْم لِلنَّبِيِّ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَوْ كَانَ لِلنَّبِيِّ اسْمٌ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ بِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ:
يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ ... يَعْرِفُهَا السَّامِعُ وَالرَّائِي
لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ: لَمَّا رَفَعَهُ إلَى حَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ، وَأَرْقَاهُ فَوْقَ الْكَوَاكِبِ الْعُلْوِيَّةِ، أَلْزَمهُ اسْمَ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ، تَوَاضُعًا لِلْإِلَهِيَّةِ.
[مَسْأَلَة هَلْ أُسْرِيَ بِجَسَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بِرُوحِهِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
قَضَى اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ وَحُكْمُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ النَّاسُ، هَلْ أُسْرِيَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْ بِرُوحِهِ؟ وَلَوْلَا مَشِيئَةُ رَبِّنَا السَّابِقَةُ بِالِاخْتِلَافِ لَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ أَبَيْنَ عِنْدَ الْإِنْصَافِ؛ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ لِذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُلْحِدًا يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ، وَيَرَى أَنَّ الثَّقِيلَ لَا يَصْعَدُ عُلُوًّا، وَطَبْعُهُ اسْتِفَالٌ فَمَا بَالُهُ يَتَكَلَّمُ مَعَنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْأَصْلِ؛ وَهُوَ وُجُودُ الْإِلَهِ وَقُدْرَتُهُ، وَأَنَّهُ يُصَرِّفُ الْأَشْيَاءَ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ، لَا بِالطَّبِيعَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ مِنْ أَغْبِيَاءِ الْمِلَّةِ يُقِرُّ مَعَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِلْمِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصْرِيفِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ، فَيُقَالُ لَهُ: وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ ارْتِقَاءِ النَّبِيِّ فِي الْهَوَاءِ بِقُدْرَةِ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟ فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ. قُلْنَا لَهُ: قَدْ وَرَدَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ فَرِيقٍ، مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ؛ قَالَ أَنَسٌ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَك أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ. فَقَالَ: أُرْسِلَ إلَيْهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْت: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَم، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى. ثُمَّ عَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ، فَفَتَحَ. قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاءِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ.»
وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ.
قَالَ أَنَسٌ: «فَلَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ جِبْرِيلَ بِإِدْرِيسَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ. فَقُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إدْرِيسُ. ثُمَّ مَرَرْت بِمُوسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ. قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُوسَى. ثُمَّ مَرَرْت بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ. قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عِيسَى. ثُمَّ مَرَرْت بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْت: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: إبْرَاهِيمُ».
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْت لَمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ».
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْت بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْت بِمُوسَى، فَقَالَ: مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِك؟ قُلْت: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك؛ فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعَنِي، فَرَجَعْت، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْت إلَى مُوسَى، قُلْت: وَضَعَ شَطْرَهَا. فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك، فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَجَعْت، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْت إلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْته، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْت إلَى مُوسَى، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك، فَقُلْت: قَدْ اسْتَحْيَيْت مِنْ رَبِّي. قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْت الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ».
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ.» وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ بِطُولِهِ، إلَى أَنْ قَالَ: «ثُمَّ اسْتَيْقَظْت، وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».
قُلْنَا: عَنْهُ أَجْوِبَةٌ؛ مِنْهَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ أَنَسٍ، وَكَانَ تَغَيَّرَ بِآخِرَةٍ فَيُعَوَّلُ عَلَى رِوَايَاتِ الْجَمِيعِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْرَاءَ رُؤْيَا مَنَامٍ، وَطَّدَهُ اللَّهُ بِهَا، ثُمَّ أَرَاهُ إيَّاهَا رُؤْيَا عَيْنٍ، كَمَا فَعَلَ بِهِ حِينَ أَرَادَ مُشَافَهَتَهُ بِالْوَحْيِ؛ «أَرْسَلَ إلَيْهِ الْمَلَكَ فِي الْمَنَامِ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك، وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ» إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي الْيَقِظَةِ بِمِثْلِ مَا أَرَادَهُ فِي الْمَنَامِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ أَرَاهُ اللَّهُ فِي الْمَنَامِ مَا أَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ تَوْطِيدًا وَتَثْبِيتًا لِنَفْسِهِ، حَتَّى لَا يَأْتِيَهُ الْحَالُ فَجْأَةً، فَتُقَاسِي نَفْسُهُ الْكَرِيمَةَ مِنْهَا شِدَّةً، لِعَجْزِ الْقُوَى الْآدَمِيَّةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْهَيْئَةِ الْمَلَكِيَّةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]؛ وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ مَا اُفْتُتِنَ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا أَنْكَرَهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ يَخْتَرِقُ السَّمَوَاتِ، وَيَجْلِسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، وَيُكَلِّمُهُ الرَّبُّ.
[مَسْأَلَة فَرْضُ الصَّلَاةِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَ فَرْضُ الصَّلَاةِ؛ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْإِسْرَاءِ صَلَاةَ الْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ»، وَيَتَنَفَّلُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا، وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ أَعْدَادَهَا وَصِفَاتِهَا، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ عِنْدَمَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ عِنْدَمَا غَابَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ. ثُمَّ صَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ حِينَ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَطْلَعَتْ الشَّمْسُ؟ لَمْ تَطْلُعْ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُك، وَوَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَك، وَالْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ».
وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ عُلُومٍ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ حَدِيثٍ وَطُرُقِهِ، وَلُغَةٍ وَتَصْرِيفِهَا، وَتَوْحِيدٍ وَعَقْلِيَّاتٍ، وَعِبَادَاتٍ وَآدَابٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيمَا نَيَّفَ عَلَى ثَلَاثِينَ وَرَقَةً، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ، فَفِيهِ الشِّفَاءُ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
{"ayah":"سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلࣰا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ"}