بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ بَنِي إسْرائِيلَ 17
وتُسَمّى الإسْراءَ وسُبْحانَ أيْضًا، وهي كَما أخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم مَكِّيَّةٌ، وكَوْنُها كَذَلِكَ بِتَمامِها قَوْلُ الجُمْهُورِ، وقالَ صاحِبُ
«الغَنِيّانِ» بِإجْماعٍ، وقِيلَ: الآيَتَيْنِ:
﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ ﴿وإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾ وقِيلَ: إلّا أرْبَعًا هاتانِ وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وإذْ قُلْنا لَكَ إنَّ رَبَّكَ أحاطَ بِالنّاسِ﴾ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ:
﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ وزادَ مُقاتِلٌ: قَوْلُهُ سُبْحانَهُ:
﴿إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ الآيَةَ.
وعَنِ الحَسَنِ إلّا خَمْسَ آياتٍ:
﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ﴾ الآيَةَ.
﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا﴾ الآيَةَ.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ الآيَةَ.
﴿أقِمِ الصَّلاةَ﴾ الآيَةَ.
﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ﴾ الآيَةَ، وقالَ قَتادَةُ: إلّا ثَمانِيَ آياتٍ؛ وهي قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ إلى آخِرِهِنَّ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وهي مِائَةٌ وعَشْرُ آياتٍ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وإحْدى عَشْرَةَ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ.
«وكانَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَما أخْرَجَ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ والنَّسائِيُّ وغَيْرُهُمْ، عَنْ عائِشَةَ يَقْرَؤُها والزُّمَرَ كُلَّ لَيْلَةٍ،» وأخْرَجَ البُخارِيُّ، وابْنُ الضُّرَيْسِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ في هَذِهِ السُّورَةِ والكَهْفِ ومَرْيَمَ وطه والأنْبِياءِ: هُنَّ مِنَ العِتاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادِي، وهَذا وجْهٌ في تَرْتِيبِها، ووَجْهُ اتِّصالِ هَذِهِ بِالنَّحْلِ - كَما قالَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ - أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا قالَ في آخِرِها:
﴿إنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ ذَكَرَ في هَذِهِ شَرِيعَةَ أهْلِ السَّبْتِ الَّتِي شَرَعَها سُبْحانَهُ لَهم في التَّوْراةِ؛ فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: إنَّ التَّوْراةَ كُلَّها في خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً مِن سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ، وذَكَرَ تَعالى فِيها عِصْيانَهم وإفْسادَهم وتَخْرِيبَ مَسْجِدِهِمْ واسْتِفْزازَهُمُ النَّبِيَّ ﷺ وإرادَتَهم إخْراجَهُ مِنَ المَدِينَةِ وسُؤالَهم إيّاهُ عَنِ الرُّوحِ، ثُمَّ خَتَمَها جَلَّ شَأْنُهُ بِآياتِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ التِّسْعِ وخِطابِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وأخْبَرَ تَعالى أنَّ فِرْعَوْنَ أرادَ أنْ يَسْتَفِزَّهم مِنَ الأرْضِ فَأُهْلِكَ ووَرِثَ بَنُو إسْرائِيلَ مِن بَعْدِهِ، وفي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِهِمْ أنَّهم سَيَنالُهم ما نالَ فِرْعَوْنَ حَيْثُ أرادُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ ما أرادَ هو بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وأصْحابِهِ، ولَمّا كانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مُصَدَّرَةً بِقِصَّةِ تَخْرِيبِ المَسْجِدِ الأقْصى افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ إسْراءِ المُصْطَفى ﷺ تَشْرِيفًا لَهُ بِحُلُولِ رِكابِهِ الشَّرِيفِ جَبْرًا لِما وقَعَ مِن تَخْرِيبِهِ.
وقالَ أبُو حَيّانَ في ذَلِكَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالصَّبْرِ ونَهاهُ عَنِ الحُزْنِ عَلى الكَفَرَةِ وضِيقِ الصَّدْرِ مِن مَكْرِهِمْ، وكانَ مِن مَكْرِهِمْ نِسْبَتُهُ ﷺ إلى الكَذِبِ والسِّحْرِ والشِّعْرِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا رَمَوْهُ وحاشاهُ بِهِ عَقِبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ شَرَفِهِ وفَضْلِهِ وعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ عِنْدَهُ عَزَّ شَأْنُهُ، وقِيلَ: وجْهُ ذَلِكَ اشْتِمالُها عَلى ذِكْرِ نِعَمٍ مِنها خاصَّةٌ ومِنها عامَّةٌ، وقَدْ ذَكَرَ في سُورَةِ النَّحْلِ مِنَ النِّعَمِ ما سُمِّيَتْ لِأجْلِهِ سُورَةَ النِّعَمِ واشْتِمالِها عَلى ذِكْرِ شَأْنِ القُرْآنِ العَظِيمِ كَما اشْتَمَلَتْ تِلْكَ، وذَكَرَ سُبْحانَهُ هُناكَ في النَّحْلِ:
﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ وذَكَرَ هاهُنا في القُرْآنِ:
﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وذَكَرَ سُبْحانَهُ في تِلْكَ أمْرَهُ بِإيتاءِ ذِي القُرْبى وأمَرَ هُنا بِذَلِكَ مَعَ زِيادَةٍ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ وذَلِكَ بَعْدَ أنْ أمَرَ جَلَّ وعَلا بِالإحْسانِ بِالوالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ هُما مَنشَأُ القَرابَةِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصى فَلْيُتَأمَّلْ. واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ.
﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ سُبْحانَ هُنا عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ مَصْدَرُ سَبَّحَ تَسْبِيحًا، بِمَعْنى نَزَّهَ تَنْزِيهًا، لا بِمَعْنى قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ. نَعَمْ جاءَ التَّسْبِيحُ بِمَعْنى القَوْلِ المَذْكُورِ كَثِيرًا حَتّى ظَنَّ بَعْضُهم أنَّهُ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ، وإلى هَذا ذَهَبَ صاحِبُ القامُوسِ في شَرْحِ دِيباجَةِ الكَشّافِ، وجَعَلَ سُبْحانَ مَصْدَرَ سَبَحَ مُخَفَّفًا ولَيْسَ بِذاكَ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ عَلَمًا لِلتَّنْزِيهِ فَيُقْطَعُ عَنِ الإضافَةِ لِأنَّ الأعْلامَ لا تُضافُ قِياسًا، ويُمْنَعُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والزِّيادَةِ، واسْتُدِلَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِ الأعْشى:
قَدْ قُلْتُ لَمّا جاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ
وقالَ الرَّضِيُّ: لا دَلِيلَ عَلى عَلَمِيَّتِهِ لِأنَّهُ أكْثَرُ ما يُسْتَعْمَلُ مُضافًا فَلا يَكُونُ عَلَمًا، وإذا قُطِعَ فَقَدْ جاءَ مُنَوَّنًا في الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحانًا نَعُوذُ بِهِ ∗∗∗ وقَبْلَنا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ
وقَدْ جاءَ بِاللّامِ كَقَوْلِهِ:
«سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ ذُو السُّبْحانِ» ولا مانِعَ مِن أنْ يُقالَ في البَيْتِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ: حُذِفَ المُضافُ إلَيْهِ وهو مُرادٌ لِلْعِلْمِ بِهِ وأُبْقِيَ المُضافُ عَلى حالِهِ مُراعاةً لِأغْلَبِ أحْوالِهِ أيِ التَّجَرُّدِ عَنِ التَّنْوِينِ كَقَوْلِهِ:
«خالَطَ مِن سَلْمى خَياشِيمُ وفا». انْتَهى، وظاهِرُ كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّهُ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ دائِمًا وهو عَلَمُ جِنْسٍ؛ لِأنَّ عَلَمَ الجِنْسِ كَما يُوضَعُ لِلذَّواتِ يُوضَعُ لِلْمَعانِي فَلا تَفْصِيلَ عِنْدَهُ، وانْتَصَرَ لَهُ صاحِبُ الكَشْفِ فَقالَ: إنَّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ العَلّامَةُ هو الوَجْهُ لِأنَّهُ إذا ثَبَتَتِ العَلَمِيَّةُ بِدَلِيلِها فالإضافَةُ لا تُنافِيها ولَيْسَتْ مِن بابِ - زَيْدُ المَعارِكِ - لِتَكُونَ شاذَّةً بَلْ مِن بابِ - حاتِمُ طَيِّئٍ وعَنْتَرَةُ عَبْسٍ - وذَكَرَ أنَّهُ يَدُلُّ عَلى التَّنْزِيهِ البَلِيغِ وذَلِكَ مِن حَيْثُ الِاشْتِقاقُ مِنَ السَّبَحِ وهو الذَّهابُ والإبْعادُ في الأرْضِ، ثُمَّ ما يُعْطِيهِ نَقْلُهُ إلى التَّفْعِيلِ ثُمَّ العُدُولُ عَنِ المَصْدَرِ إلى الِاسْمِ المَوْضُوعِ لَهُ خاصَّةً لا سِيَّما وهو عَلَمٌ يُشِيرُ إلى الحَقِيقَةِ الحاضِرَةِ في الذِّهْنِ وما فِيهِ مِن قِيامِهِ مَقامَ المَصْدَرِ مَعَ الفِعْلِ؛ فَإنَّ انْتِصابَهُ بِفِعْلٍ مَتْرُوكِ الإظْهارِ، ولِهَذا لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمالُهُ إلّا فِيهِ تَعالى أسْماؤُهُ وعَظُمَ كِبْرِياؤُهُ، وكَأنَّهُ قِيلَ: ما أبْعَدَ الَّذِي لَهُ هَذِهِ القُدْرَةُ عَنْ جَمِيعِ النَّقائِصِ فَلا يَكُونُ اصْطِفاؤُهُ لِعَبْدِهِ الخِصِّيصِ بِهِ إلّا حِكْمَةً وصَوابًا. انْتَهى.
وأُورِدَ عَلى ما ذَكَرَهُ أوَّلًا أنَّ مَن مَنَعَ إضافَةَ العَلَمِ قِياسًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ إضافَةٍ وإضافَةٍ، فَإنِ ادَّعى أنَّ بَعْضَ الأعْلامِ اشْتُهِرَتْ بِمَعْنًى كَحاتِمٍ بِالكَرَمِ فَيَجُوزُ في نَحْوِهِ الإضافَةُ لِقَصْدِ التَّخْصِيصِ ودَفْعِ العُمُومِ الطّارِئِ فَما نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِن هَذا القَبِيلِ كَما لا يَخْفى، وما ذُكِرَ مِن دَلالَتِهِ عَلى التَّنْزِيهِ مِن جَمِيعِ النَّقائِصِ هو الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ المَأْثُورُ، فَفي العِقْدِ الفَرِيدِ
«عَنْ طَلْحَةَ قالَ: سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ تَفْسِيرِ سُبْحانَ اللَّهِ فَقالَ: «تَنْزِيهٌ لِلَّهِ تَعالى عَنْ كُلِّ سُوءٍ»».
وقالَ الطِّيبِيُّ في قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّهُ دَلَّ عَلى التَّنْزِيهِ البَلِيغِ عَنْ جَمِيعِ القَبائِحِ الَّتِي يُضِيفُها إلَيْهِ أعْداءُ اللَّهِ تَعالى، إنَّ ذَلِكَ مِمّا يَأْباهُ مَقامُ الإسْراءِ إباءَ العَيُوفِ الوُرُودَ، وهو مُزَيَّفٌ بَلْ مَعْناهُ التَّعَجُّبُ كَما قالَ في النُّورِ: الأصْلُ في ذَلِكَ أنْ يُسَبِّحَ اللَّهَ تَعالى عِنْدَ رُؤْيَةِ العَجِيبِ مِن صَنائِعِهِ ثُمَّ كَثُرَ حَتّى اسْتُعْمِلَ في كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنهُ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، فَفي الكَشْفِ أنَّ التَّنْزِيهَ لا يُنافِي التَّعَجُّبَ كَما تُوُهِّمَ واعْتُرِضَ، وجَعْلُهُ مَدارًا، والتَّعَجُّبُ تَبَعًا هاهُنا هو الوَجْهُ بِخِلافِ آيَةِ النُّورِ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ الظّاهِرَ مِن كَلامِ الكَشّافِ في مَواضِعَ أنَّهُ لا يَرْتَضِي الجَمْعَ بَيْنَ التَّنْزِيهِ والتَّعَجُّبِ لِلْمُنافاةِ بَيْنَهُما، بَلْ لِأنَّ كُلًّا مِنهُما مَعْنًى مُسْتَقِلٌّ فالجَمْعُ بَيْنَهُما جَمْعٌ بَيْنَ مَعْنى المُشْتَرَكِ، وعَلى الجَمْعِ فالوَجْهُ ما ذُكِرَ أنَّهُ الوَجْهُ فافْهَمْ، وقِيلَ: إنَّ سُبْحانَ لَيْسَ عَلَمًا أصْلًا بِلا تَفْصِيلٍ فَفِيهِ ثَلاثَةُ مَذاهِبَ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّهُ في الآيَةِ عَلى مَعْنى الأمْرِ أيْ: نَزِّهُوا اللَّهَ تَعالى وبَرِّئُوهُ مِن جَمِيعِ النَّقائِصِ، ويَدْخُلُ فِيها العَجْزُ عَمّا بَعُدَ أوْ مِنَ العَجْزِ عَنْ ذَلِكَ، والمُتَبادَرُ اعْتِبارُ المُضارِعِ، والإسْراءُ السَّيْرُ بِاللَّيْلِ خاصَّةً كالسُّرى، فَأسْرى وسَرى بِمَعْنًى. ولَيْسَتْ هَمْزَةُ أسْرى لِلتَّعْدِيَةِ كَما قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أيْ: أسْرى مَلائِكَتُهُ بِعَبْدِهِ، قالَ في البَحْرِ: وإنَّما احْتاجَ إلى هَذِهِ الدَّعْوى لِاعْتِقادِ أنَّهُ إذا كانَ أسْرى بِمَعْنى سَرى لَزِمَ مِن كَوْنِ الباءِ لِلتَّعْدِيَةِ مُشارَكَةُ الفاعِلِ لِلْمَفْعُولِ وهَذا شَيْءٌ، ذَهَبَ إلَيْهِ المُبَرِّدُ فَإذا قُلْتَ: قُمْتُ بِزَيْدٍ يَلْزَمُ مِنهُ قِيامُكَ وقِيامُ زَيْدٍ عِنْدَهُ، وإذا جَعَلْتَ الباءَ كالهَمْزَةِ لا يَلْزَمُ ذَلِكَ كَما لا يَخْفى، وقالَ أيْضًا: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أسْرى بِمَعْنى سَرى عَلى حَذْفِ مُضافٍ وإقامَةِ المُضافِ إلَيْهِ مَقامَهُ، والأصْلُ أسْرى مَلائِكَتُهُ وهو مَبْنِيٌّ عَلى ذَلِكَ الِاعْتِقادِ أيْضًا، وقالَ اللَّيْثُ: يُقالُ: أسْرى لِأوَّلِ اللَّيْلِ وسَرى لِآخِرِهِ، وأمّا سارَ فالجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ عامٌّ لا اخْتِصاصَ لَهُ بِلَيْلٍ أوْ نَهارٍ. وقِيلَ: إنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّهارِ ولَيْسَ مَقْلُوبًا مِن سَرى، وإيثارُ لَفْظَةِ العَبْدِ لِلْإيذانِ بِتَمَحُّضِهِ ﷺ في عِبادَتِهِ سُبْحانَهُ وبُلُوغِهِ في ذَلِكَ غايَةَ الغاياتِ القاصِيَةِ ونِهايَةَ النِّهاياتِ النّائِيَةِ حَسْبَما يَلُوحُ بِهِ مَبْدَأُ الإسْراءِ ومُنْتَهاهُ، والعُبُودِيَّةُ عَلى ما نَصَّ عَلَيْهِ العارِفُونَ أشْرَفُ الأوْصافِ وأعْلى المَراتِبِ وبِها يَفْتَخِرُ المُحِبُّونَ كَما قِيلَ:
لا تَدْعُنِي إلّا بَيا عَبْدَها ∗∗∗ فَإنَّهُ أشْرَفُ أسْمائِي
وقالَ آخَرُ:
بِاللَّهِ إنْ سَألُوكَ عَنِّي قُلْ لَهم ∗∗∗ عَبْدِي ومِلْكُ يَدِي وما أعْتَقْتُهُ
وعَنْ أبِي القاسِمِ سُلَيْمانَ الأنْصارِيِّ أنَّهُ قالَ: لَمّا وصَلَ النَّبِيُّ ﷺ إلى الدَّرَجاتِ العالِيَةِ والمَراتِبِ الرَّفِيعَةِ أوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ: يا مُحَمَّدُ، بِمَ نُشَرِّفُكَ؟ قالَ: بِنِسْبَتِي إلَيْكَ بِالعُبُودِيَّةِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى
﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ وجاءَ:
«قُولُوا عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ»، وقِيلَ: إنَّ في التَّعْبِيرِ بِهِ هُنا دُونَ حَبِيبِهِ مَثَلًا سَدًّا لِبابِ الغُلُوِّ فِيهِ ﷺ كَما وقَعَ لِلنَّصارى في نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذَكَرُوا أنَّهُ لَمْ يُعَبِّرِ اللَّهُ تَعالى عَنْ أحَدٍ بِالعَبْدِ مُضافًا إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ المُشارِ بِهِ إلى الهُوِيَّةِ إلّا النَّبِيَّ ﷺ، وفي ذَلِكَ مِنَ الإشارَةِ ما فِيهِ، ومَن تَأمَّلَ أدْنى تَأمُّلٍ ما بَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا﴾ ظَهَرَ لَهُ الفَرْقُ التّامُّ بَيْنَ مَقامِ الحَبِيبِ ومَقامِ الكَلِيمِ ﷺ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى قَرِيبًا في هَذِهِ السُّورَةِ ما يُفْهَمُ مِنهُ الفَرْقُ أيْضًا فَلا تَغْفُلْ، وإضافَةُ: ( سُبْحانَ ) إلى المَوْصُولِ المَذْكُورِ لِلْإشْعارِ بِعِلِّيَّةِ ما في حَيِّزِ الصِّلَةِ لِلْمُضافِ، فَإنَّ ذَلِكَ مِن أدِلَّةِ كَمالِ قُدْرَتِهِ وبالِغِ حَكَمْتِهِ وغايَةِ تَنَزُّهِهِ تَعالى عَنْ صِفاتِ النَّقْصِ، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿لَيْلا﴾ ظَرْفٌ لِأسْرى، وفائِدَتُهُ الدَّلالَةُ بِتَنْكِيرِهِ عَلى تَقْلِيلِ مُدَّةِ الإسْراءِ، وأنَّها بَعْضٌ مِن أجْزاءِ اللَّيْلِ، ولِذَلِكَ قَرَأعَبْدُ اللَّهِ، وحُذَيْفَةُ: (مِنَ اللَّيْلِ) أيْ: بَعْضِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ﴾ .
واعْتُرِضَ بِأنَّ البَعْضِيَّةَ المُسْتَفادَةَ مِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ هي البَعْضِيَّةُ في الأجْزاءِ، والبَعْضِيَّةَ المُسْتَفادَةَ مِنَ التَّنْكِيرِ البَعْضِيَّةُ فِي الأفْرادِ والجُزْئِيّاتِ فَكَيْفَ يُسْتَفادُ مِنَ التَّنْكِيرِ أنَّ الإسْراءَ كانَ في بَعْضٍ مِن أجْزاءِ اللَّيْلِ؟ فالصَّوابُ أنَّ تَنْكِيرَهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أنَّ الإسْراءَ كانَ في لَيالٍ أوْ لِإفادَةِ تَعْظِيمِهِ كَما هو المُناسِبُ لِلسِّياقِ والسِّباقِ؛ أيْ: لَيْلًا أيَّ لَيْلٍ، دَنا فِيهِ المُحِبُّ إلى المَحْبُوبِ وفازَ في مَقامِ الشُّهُودِ بِالمَطْلُوبِ.
وأجابَ عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ الكامِلِينَ بِما لا يَخْفى نَقْصُهُ. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ ما ذُكِرَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ القاهِرِ في دَلائِلَ الإعْجازِ، ولا يَرِدُ عَلَيْهِ الِاعْتِراضُ ابْتِداءً.
وتَحْقِيقُهُ عَلى ما صَرَّحَ بِهِ الفاضِلُ اليَمَنِيُّ نَقْلًا عَنْ سِيبَوَيْهِ وابْنِ مالِكٍ أنَّ اللَّيْلَ والنَّهارَ إذا عُرِفا كانا مِعْيارًا لِلتَّعْمِيمِ وظَرْفًا مَحْدُودًا، فَلا تَقُولُ: صَحِبْتُهُ اللَّيْلَةَ، وأنْتَ تُرِيدُ ساعَةً مِنها إلّا أنْ تَقْصِدَ المُبالَغَةَ كَما تَقُولُ: أتانِي أهْلُ الدُّنْيا لِناسٍ مِنهم بِخِلافِ المُنَكَّرِ فَإنَّهُ لا يُفِيدُ ذَلِكَ، فَلَمّا عُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِهِ هَنا عُلِمَ أنَّهُ لَمْ يُقْصَدِ اسْتِغْراقُ السُّرى لَهُ، وهَذا هو المُرادُ مِنَ البَعْضِيَّةِ المَذْكُورَةِ ولا حاجَةَ إلى جَعْلِ اللَّيْلِ مَجازًا عَنْ بَعْضِهِ، كَما أنَّكَ إذا قُلْتَ: جَلَسْتُ في السُّوقِ وجُلُوسُكَ في بَعْضِ أماكِنِهِ لا يَكُونُ فِيهِ السُّوقُ مَجازًا كَما لا يَخْفى، وقَدْ أشارَ إلى هَذا المُدَقِّقِ في الكَشْفِ، وقِيلَ:
المُرادُ بِتَنْكِيرِهِ أنَّهُ وقَعَ في وسَطِهِ ومُعْظَمِهِ كَما يُقالُ: جاءَنِي فُلانٌ بِلَيْلٍ؛ أيْ: في مُعْظَمِ ظُلْمَتِهِ فَيُفِيدُ البَعْضِيَّةَ أيْضًا، ويُنافِيهِ ما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في الحَدِيثِ، وزَعَمَ أنَّ ذِكْرَ ( لَيْلًا ) لِلتَّأْكِيدِ أوْ تَجْرِيدِ الإسْراءِ وإرادَةِ مُطْلَقِ السَّيْرِ مِنهُ ناشِئٌ مِن قِلَّةِ البِضاعَةِ كَما لا يَخْفى. وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى بَيانُ حِكْمَةِ كَوْنِ الإسْراءِ لَيْلًا
﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ .
الظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِهِ المَسْجِدُ المَشْهُورُ بَيْنَ الخاصِّ والعامِّ بِعَيْنِهِ، وكانَ ﷺ إذْ ذاكَ في الحِجْرِ مِنهُ، فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخانِ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ مِن حَدِيثِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ عَنْ مالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ قالَ:
««قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَيْنا أنا في الحِجْرِ - وفي رِوايَةٍ - في الحَطِيمِ بَيْنَ النّائِمِ واليَقْظانِ إذْ أتانِي آتٍ فَشَقَّ ما بَيْنَ هَذِهِ إلى هَذِهِ، فاسْتَخْرَجَ قَلْبِي فَغَسَلَهُ ثُمَّ أُعِيدَ ثُمَّ أُتِيتُ بِدابَّةٍ دُونَ البَغْلِ وفَوْقَ الحِمارِ، أبْيَضَ يُقالُ لَهُ البُراقُ فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ»» الحَدِيثَ، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ أنَّهُ جاءَهُ جِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ عَلَيْهِما السَّلامُ وهو مُضْطَجِعٌ في الحِجْرِ بَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وابْنِ عَمِّهِ جَعْفَرٍ فاحْتَمَلَتْهُ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وجاءُوا بِهِ إلى زَمْزَمَ فَألْقَوْهُ عَلى ظَهْرِهِ وشَقَّ جِبْرِيلُ صَدْرَهُ مِن ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إلى أسْفَلِ بَطْنِهِ بِغَيْرِ آلَةٍ ولا سَيَلانِ دَمٍ ولا وُجُودِ ألَمٍ ثُمَّ قالَ لِمِيكائِيلَ: ائْتِنِي بِطَسْتٍ مِن ماءِ زَمْزَمَ فَأتاهُ بِهِ فاسْتَخْرَجَ قَلْبَهُ الشَّرِيفَ وغَسَلَهُ ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثُمَّ أعادَهُ إلى مَكانِهِ ومَلَأهُ إيمانًا وحِكْمَةً وخَتَمَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلى بابِ المَسْجِدِ فَإذا بِالبُراقِ مُسْرَجًا مُلْجَمًا فَرَكِبَهُ. الخَبَرَ.
ويُعْلَمُ مِنهُ الجَمْعُ بَيْنَ ما ذُكِرَ مِن أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ إذْ ذاكَ في الحِجْرِ وما قِيلَ إنَّهُ كانَ بَيْنَ زَمْزَمَ والمَقامِ، وقِيلَ:
المُرادُ بِهِ الحَرَمُ، وأُطْلِقَ عَلَيْهِ لِإحاطَتِهِ بِهِ؛ فَهو مَجازٌ بِعَلاقَةِ المُجاوَرَةِ الحِسِّيَّةِ والإحاطَةِ أوْ لِأنَّ الحَرَمَ كُلَّهُ مَحَلٌّ لِلسُّجُودِ ومُحَرَّمٌ لَيْسَ يَحِلُّ فَهو حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، والنُّكْتَةُ في هَذا التَّعْبِيرِ مُطابَقَةُ المَبْدَأِ المُنْتَهِيَ.
وكانَ ﷺ إذْ ذاكَ في دارِ فاخِتَةَ أُمِّ هانِئٍ بِنْتِ أبِي طالِبٍ.
فَقَدْ أخْرَجَ النَّسائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي يَعْلى في مُسْنَدِهِ والطَّبَرانِيُّ في الكَبِيرِ مِن حَدِيثِها
«أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ نائِمًا في بَيْتِها بَعْدَ صَلاةِ العِشاءِ فَأُسْرِيَ بِهِ ورَجَعَ مِن لَيْلَتِهِ وقَصَّ القِصَّةَ عَلَيْها، وقالَ: «مُثِّلَ لِيَ النَّبِيُّونَ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ». ثُمَّ خَرَجَ إلى المَسْجِدِ وأخْبَرَ بِهِ قُرَيْشًا فَمِن مُصَفِّقٍ وواضِعٍ يَدَهُ عَلى رَأْسِهِ تَعَجُّبًا وإنْكارًا، وارْتَدَّ أُناسٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسَعى رِجالٌ إلى أبِي بَكْرٍ فَقالَ: إنْ كانَ قالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ. قالُوا: تُصَدِّقُهُ عَلى ذَلِكَ؟ قالَ: إنِّي أُصَدِّقُهُ عَلى أبْعَدَ مِن ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّماءِ غُدْوَةً أوْ رَوْحَةً فَسُمِّيَ الصِّدِّيقَ، وكانَ في القَوْمِ مَن يَعْرِفُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فاسْتَنْعَتُوهُ إيّاهُ فَجُلِّيَ لَهُ فَطَفِقَ يَنْظُرُ إلَيْهِ ويَنْعَتُهُ لَهم فَقالُوا: أما النَّعْتُ فَقَدْ أصابَ فِيهِ. فَقالُوا: أخْبِرْنا عَنْ عِيرِنا فَهي أهَمُّ إلَيْنا؛ هَلْ لَقِيتَ مِنها شَيْئًا؟ قالَ: نَعَمْ مَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلانٍ، وهي بِالرَّوْحاءِ وقَدْ أضَلُّوا بَعِيرًا لَهم وهم في طَلَبِهِ وفي رِحالِهِمْ قَدَحٌ مِن ماءٍ فَعَطِشْتُ فَأخَذْتُهُ وشَرِبْتُهُ ووَضَعْتُهُ كَما كانَ؛ فاسْألُوا: هَلْ وجَدُوا الماءَ في القَدَحِ حِينَ رَجَعُوا؟ قالُوا: هَذِهِ آيَةٌ. قالَ: ومَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلانٍ وفُلانٍ راكِبانِ قَعُودًا فَنَفَرَ بِعِيرِهِما مِنِّي فانْكَسَرَ.
فاسْألُوهُما عَنْ ذَلِكَ قالُوا: هَذِهِ آيَةٌ أُخْرى، ثُمَّ سَألُوهُ عَنِ العُدَّةِ والأحْمالِ والهَيْئاتِ فَمُثِّلَتْ لَهُ العِيرُ فَأخْبَرَهم عَنْ كُلِّ ذَلِكَ وقالَ: تَقْدُمُ يَوْمَ كَذا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وفِيها فُلانٌ وفُلانٌ يَقْدُمُها جَمَلٌ أوْرَقُ عَلَيْهِ غِرارَتانِ مُخَيَّطَتانِ. قالُوا: وهَذِهِ آيَةٌ أُخْرى. فَخَرَجُوا يَشْتَدُّونَ ذَلِكَ اليَوْمَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ مَتى تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَيُكَذِّبُوهُ إذْ قالَ قائِلٌ: هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ وقالَ آخَرُ: هَذِهِ العِيرُ قَدْ أقْبَلَتْ يَقْدُمُها بَعِيرٌ أوْرَقُ فِيها فُلانٌ وفُلانٌ كَما قالَ. فَلَمْ يُؤْمِنُوا وقالُوا: هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أنّى يُؤْفَكُونَ». وفي بَعْضِ الآثارِ
«أنَّ أُمَّ هانِئٍ قالَتْ: فَقَدْتُهُ ﷺ وكانَ نائِمًا عِنْدِي فامْتَنَعَ مِنِّي النَّوْمُ مَخافَةَ أنْ يَكُونَ عَرَضَ لَهُ بَعْضُ قُرَيْشٍ،» ويُقالُ:
«إنَّهُ تَفَرَّقَتْ بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ يَلْتَمِسُونَهُ ووَصَلَ العَبّاسُ إلى ذِي طُوًى وهو يُنادِي: يا مُحَمَّدُ، يا مُحَمَّدُ، فَأجابَهُ ﷺ فَقالَ: يا ابْنَ أخِي، أعْيَيْتَ قَوْمَكَ أيْنَ كُنْتَ؟ قالَ: ذَهَبْتُ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ. قالَ: مِن لَيْلَتِكَ قالَ: نَعَمْ. قالَ: هَلْ أصابَكَ الأخِيرُ؟ قالَ: ما أصابَنِي الأخِيرُ.» وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وكَما اخْتُلِفَ في مَبْدَأِ الإسْراءِ اخْتُلِفَ في سَنَتِهِ، فَذَكَرَ النَّوَوِيُّ في الرَّوْضَةِ أنَّهُ كانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِعَشْرِ سِنِينَ وثَلاثَةِ أشْهُرٍ، وفي الفَتاوى أنَّهُ كانَ سَنَةَ خَمْسٍ أوْ سِتٍّ مِنَ النُّبُوَّةِ، ونَقَلَ عَنْهُ الفاضِلُ المُلّا أمِينُ العُمَرِيِّ في شَرْحِ ذاتِ الشِّفاءِ الجَزْمَ بِأنَّهُ كانَ في السَّنَةِ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ المَبْعَثِ. وعَنِ ابْنِ حَزْمٍ دَعْوى الإجْماعِ عَلى ذَلِكَ، وضُعِّفَ ما في الفَتاوى بِأنَّ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها لَمْ تَصِلِ الخَمْسَ وقَدْ ماتَتْ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِثَلاثِ سِنِينَ. وقِيلَ: كانَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وخَمْسَةِ أشْهُرٍ، وقِيلَ: ثَلاثَةِ أشْهُرٍ، ووَقَعَ في حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ أبِي نَمِرَةَ عَنْ أنَسٍ أنَّهُ كانَ قَبْلَ أنْ يُوحى إلَيْهِ ﷺ وقَدْ خَطَّأهُ غَيْرُ واحِدٍ في ذَلِكَ، ونَقَلَ الحافِظُ عَبْدُ الحَقِّ في كِتابِهِ: (الجَمْعُ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ) حَدِيثَ شَرِيكٍ الواقِعَ فِيهِ ذَلِكَ بِطُولِهِ، ثُمَّ قالَ: هَذا الحَدِيثُ بِهَذا اللَّفْظِ مِن رِوايَةِ شَرِيكٍ عَنْ أنَسٍ قَدْ زادَ فِيهِ زِيادَةً مَجْهُولَةً وأتى بِألْفاظٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ.
وقَدْ رَوى حَدِيثَ الإسْراءِ عَنْ أنَسٍ جَماعَةٌ مِنَ الحُفّاظِ المُتْقِنِينَ والأئِمَّةِ المَشْهُورِينَ كابْنِ شِهابٍ. وثابِتٍ البُنانِيِّ وقَتادَةَ فَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ مِنهم بِما أتى بِهِ شَرِيكٌ، وشَرِيكٌ لَيْسَ بِالحافِظِ عِنْدَ أهْلِ الحَدِيثِ.
وأجابَ عَنْ ذَلِكَ مُحْيِي السُّنَّةِ وغَيْرُهُ بِما سَتَسْمَعُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وكَذا اخْتُلِفَ في شَهْرِهِ ولَيْلَتِهِ؛ فَقالَ النَّوَوِيُّ في الفَتاوى: كانَ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ، وقالَ في شَرْحِ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِلْقاضِي عِياضٍ: إنَّهُ في شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ، وجَزَمَ في الرَّوْضَةِ بِأنَّهُ في رَجَبٍ، وقِيلَ: في شَهْرِ رَمَضانَ، وقِيلَ: في شَوّالٍ، وكانَ عَلى ما قِيلَ اللَّيْلَةَ السّابِعَةَ والعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ وكانَتْ لَيْلَةَ السَّبْتِ كَما نَقَلَهُ ابْنُ المُلَقِّنِ عَنْ رِوايَةِ الواقِدِيِّ، وقِيلَ: كانَتْ لَيْلَةَ الجُمْعَةِ لِمَكانِ فَضْلِها وفَضْلِ الإسْراءِ، ورُدَّ بِأنَّ جِبْرائِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ (صَلّى) بِالنَّبِيِّ ﷺ أوَّلَ يَوْمٍ بَعْدَ الإسْراءِ الظُّهْرَ، ولَوْ كانَ يَوْمَ الجُمْعَةِ لَمْ يَكُنْ فَرْضُها الظُّهْرَ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ السُّفَيْرِيُّ، وفِيهِ أنَّ العُمَرِيَّ ذَكَرَ في شَرْحِ ذاتِ الشِّفاءِ أنَّ الجُمُعَةَ والجِنازَةَ وجَبَتا بَعْدَ الصَّلَواتِ الخَمْسِ، وفي شَرْحِ المِنهاجِ لِلْعَلّامَةِ ابْنِ حَجَرٍ: إنَّ صَلاةَ الجُمُعَةِ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ ولَمْ تُقَمْ بِها لِفَقْدِ العَدَدِ، أوْ لِأنَّ شِعارَها الإظْهارُ، وكانَ ﷺ بِها مُسْتَخْفِيًا، وأوَّلُ مَن أقامَها بِالمَدِينَةِ قَبْلَ الهِجْرَةِ أسْعَدُ بْنُ زُرارَةَ بِقَرْيَةٍ عَلى مِيلٍ مِنَ المَدِينَةِ.
ونَقَلَ الدُّمَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ الأثِيرِ أنَّهُ قالَ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أنَّها كانَتْ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ واخْتارَهُ ابْنُ المُنِيرِ، وفي البَحْرِ: قِيلَ: إنَّ الإسْراءَ كانَ في سَبْعَ عَشْرَةَ مِن شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ والرَّسُولُ ﷺ ابْنُ إحْدى وخَمْسِينَ سَنَةً وتِسْعَةَ أشْهُرٍ وثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ يَوْمًا، وحَكى أنَّها لَيْلَةُ السّابِعِ والعِشْرِينَ مِن شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ عَنِ الجَرْمِيِّ، وهي عَلى ما نَقَلَ السُّفَيْرِيُّ عَنِ الجُمْهُورِ أفْضَلُ اللَّيالِي حَتّى لَيْلَةِ القَدْرِ مُطْلَقًا، وقِيلَ: هي أفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلى النَّبِيِّ ﷺ إلى أُمَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
فَهِيَ أفْضَلُ مُطْلَقًا نَعَمْ لَمْ يُشْرَعِ التَّعَبُّدُ فِيها والتَّعَبُّدُ في لَيْلَةِ القَدْرِ مَشْرُوعٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. واخْتُلِفَ أيْضًا أنَّهُ في اليَقَظَةِ أوْ في المَنامِ فَعَنِ الحَسَنِ أنَّهُ في المَنامِ.
ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عائِشَةَ ومُعاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، ولَعَلَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْها كَما في البَحْرِ، وكانَتْ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها إذْ ذاكَ صَغِيرَةً، ولَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكانَ مُعاوِيَةُ كافِرًا يَوْمَئِذٍ، واحْتُجَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلا فِتْنَةً لِلنّاسِ﴾ لِأنَّ الرُّؤْيا تَخْتَصُّ بِالنَّوْمِ لُغَةً، ووَقَعَ في حَدِيثِ شَرِيكٍ المُتَقَدِّمِ ما يُؤَيِّدُهُ، وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّهُ في اليَقَظَةِ بِبَدَنِهِ ورُوحِهِ ﷺ، والرُّؤْيا تَكُونُ بِمَعْنى الرُّؤْيَةِ في اليَقَظَةِ كَما في قَوْلِ الرّاعِي يَصِفُ صائِدًا:
وكَبَّرَ لِلرُّؤْيا وهَشَّ فُؤادُهُ ∗∗∗ وبَشَّرَ قَلْبًا كانَ جَمًّا بِلابِلُهْ
وقالَ الواحِدِيُّ: إنَّها رُؤْيَةُ اليَقَظَةِ لَيْلًا فَقَطْ، وخَبَرُ شَرِيكٍ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ عَلى ما نُقِلَ عَنْ عَبْدِ الحَقِّ، وقالَ النَّوَوِيُّ:
وأمّا ما وقَعَ في رِوايَةٍ عَنْ شَرِيكٍ وهو نائِمٌ وفي أُخْرى عَنْهُ: بَيْنا أنا عِنْدَ البَيْتِ بَيْنَ النّائِمِ واليَقْظانِ فَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَن يَجْعَلُها رُؤْيا نَوْمٍ ولا حَجَّةَ فِيهِ إذْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أوَّلَ وُصُولِ المَلَكِ إلَيْهِ ولَيْسَ في الحَدِيثِ ما يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ ﷺ نائِمًا في القِصَّةِ كُلِّها. واحْتَجَّ الجُمْهُورُ لِذَلِكَ بِأنَّهُ لَوْ كانَ مَنامًا ما تَعَجَّبَ مِنهُ قُرَيْشٌ ولا اسْتَحالُوهُ؛ لَأنَّ النّائِمَ قَدْ يَرى نَفْسَهُ في السَّماءِ ويَذْهَبُ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ ولا يَسْتَبْعِدُهُ أحَدٌ، وأيْضًا العَبْدُ ظاهِرٌ في الرُّوحِ والبَدَنِ، وذَهَبَتْ طائِفَةٌ مِنهُمُ القاضِي أبُو بَكْرٍ والبَغَوِيُّ إلى تَصْدِيقِ القائِلِينَ بِأنَّهُ في المَنامِ والقائِلِينَ بِأنَّهُ في اليَقَظَةِ وتَصْحِيحِ الحَدِيثَيْنِ في ذَلِكَ (بِأنَّ) الإسْراءَ كانَ مَرَّتَيْنِ؛ إحْداهُما في نَوْمِهِ ﷺ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَأُسْرِيَ بِرُوحِهِ تَوْطِئَةً وتَيْسِيرًا لِما يَضْعُفُ عَنْهُ قُوى البَشَرِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلا فِتْنَةً لِلنّاسِ﴾ ثُمَّ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وبَدَنِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، قالَ في الكَشْفِ: وهَذا هو الحَقُّ وبِهِ يَحْصُلُ الجَمْعُ بَيْنَ الأخْبارِ.
وحَكى المازِرِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلًا رابِعًا جَمَعَ بِهِ بَيْنَ القَوْلَيْنِ فَقالَ: كانَ الإسْراءُ بِجَسَدِهِ ﷺ في اليَقَظَةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ فَكانَتْ رُؤْيَةَ عَيْنٍ ثُمَّ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنهُ إلى ما فَوْقَهُ فَكانَتْ رُؤْيا قَلْبٍ؛ ولِذا شَنَّعَ الكُفّارُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَوْلَهُ: أتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ في لَيْلَتِي هَذِهِ ولَمْ يُشَنِّعُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ فِيما سِوى ذَلِكَ ولَمْ يَتَعَجَّبُوا مِنهُ؛ لِأنَّ الرُّؤْيا لَيْسَتْ مَحَلَّ التَّعَجُّبِ، ولَيْسَ مَعْنى الإسْراءِ بِالرُّوحِ الذَّهابَ يَقَظَةً كالِانْسِلاخِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الصُّوفِيَّةُ والحُكَماءُ فَإنَّهُ وإنْ كانَ خارِقًا لِلْعادَةِ ومَحَلًّا لِلتَّعَجُّبِ أيْضًا إلّا أنَّهُ أمْرٌ لا تَعْرِفُهُ العَرَبُ ولَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، والأكْثَرُ عَلى أنَّ المِعْراجَ كالإسْراءِ بِالرُّوحِ والبَدَنِ ولا اسْتِحالَةَ في ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ بِالهَنْدَسَةِ أنَّ مِساحَةَ قُطْرِ جِرْمِ الأرْضِ ألْفانِ وخَمْسُمِائَةٍ وخَمْسَةٌ وأرْبَعُونَ فَرْسَخًا ونِصْفُ فَرْسَخٍ وأنَّ مِساحَةَ قُطْرِ كُرَةِ الشَّمْسِ خَمْسَةُ أمْثالِ ونِصْفُ مَثَلٍ لِقُطْرِ جِرْمِ الأرْضِ، وذَلِكَ أرْبَعَةَ عَشَرَ ألْفَ فَرْسَخٍ وأنَّ طَرَفَ قُطْرِها المُتَأخِّرَ يَصِلُ مَوْضِعَ طَرَفِهِ المُتَقَدِّمِ في ثُلْثَيْ دَقِيقَةٍ فَتَقْطَعُ الشَّمْسُ بِحَرَكَةِ الفَلَكِ الأعْظَمِ أرْبَعَةَ عَشَرَ ألْفَ فَرْسَخٍ في ثُلْثَيْ دَقِيقَةٍ مِن ساعَةٍ مُسْتَوِيَةٍ.
وذَكَرَ الإمامُ في الأرْبَعِينَ أنَّ الأجْسامَ مُتَساوِيَةٌ في الذَّواتِ والحَقائِقِ، فَوَجَبَ أنْ يَصِحَّ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنها ما يَصِحُّ عَلى غَيْرِهِ مِنَ الأعْراضِ؛ لِأنَّ قابِلِيَّةَ ذَلِكَ العَرَضِ إنْ كانَ مِن لَوازِمِ تِلْكَ الماهِيَّةِ فَأيْنَما حَصَلَتْ حَصَلَ لَزِمَ حُصُولُ تِلْكَ القابِلِيَّةِ فَوَجَبَ أنْ يَصِحَّ عَلى كُلٍّ مِنها ما يَصِحُّ عَلى الآخَرِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مِن لَوازِمِها كانَ مِن عَوارِضِها فَيَعُودُ الكَلامُ، فَإنْ سُلِّمَ وإلّا دارَ أوْ تَسَلْسَلَ وذَلِكَ مُحالٌ فَلا بُدَّ مِنَ القَوْلِ بِالصِّحَّةِ المَذْكُورَةِ واللَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ فَيَقْدِرُ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَ هَذِهِ الحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ في بَدَنِ النَّبِيِّ ﷺ أوْ فِيما يَحْمِلُهُ، وقالَ العَلّامَةُ البَيْضاوِيُّ:
الِاسْتِحالَةُ مَدْفُوعَةٌ بِما ثَبَتَ في الهَنْدَسَةِ أنَّ ما بَيْنَ طَرَفَيْ قُرْصِ الشَّمْسِ ضِعْفُ ما بَيْنَ طَرَفَيْ كُرَةِ الأرْضِ مِائَةً ونَيِّفًا وسِتِّينَ مَرَّةً، ثُمَّ إنَّ طَرَفَها الأسْفَلَ يَصِلُ مَوْضِعَ طَرَفِها الأعْلى في أقَلِّ مِن ثانِيَةٍ إلى آخِرِ ما قالَ، وما ذَكَرْناهُ هو الصَّوابُ في التَّعْبِيرِ؛ فَإنَّ المُقْدِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُما مَمْنُوعَتانِ، أمّا الأُولى بِأنَّ النِّسْبَةَ الَّتِي ذَكَرَها إنَّما هي نِسْبَةُ جِرْمِ الشَّمْسِ إلى جِرْمِ الأرْضِ كَما بَرْهَنُوا عَلَيْهِ في بابِ مَقادِيرِ الأجْرامِ والأبْعادِ مِن كُتُبِ الهَيْئَةِ لَكِنَّهم قالُوا: جِرْمُ الشَّمْسِ مِثْلُ جِرْمِ الأرْضِ مِائَةً وسِتَّةً وسِتِّينَ مَرَّةً ورُبْعَ مَرَّةٍ وثُمُنَ مَرَّةٍ.
والعَلامَةُ جَعْلُ ذَلِكَ نِسْبَةَ القُطْرِ إلى القُطْرِ لِأنَّهُ المُتَبادَرُ مِمّا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وإرادَةُ الجِرْمِ مِنهُ خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا، وكانَ يَكْفِيهِ لَوْ أرادَ ذَلِكَ أنْ يَقُولَ: قُرْصُ الشَّمْسِ ضِعْفُ كُرَةِ الأرْضِ فَأيُّ مَعْنًى لِما زادَهُ، وأمّا الثّانِيَةُ فَإنْ أرادَ بِالثّانِيَةِ الثّانِيَةَ مِن دَقِيقَةِ الدَّرَجَةِ الفَلَكِيَّةِ الَّتِي هي سِتُّونَ دَقِيقَةً فَمَنَعَها بِما حَرَّرَهُ العَلّامَةُ القُطْبُ الشِّيرازِيُّ في نِهايَةِ الإدْراكِ حَيْثُ قالَ: مِقْدارُ الدَّرَجَةِ الواحِدَةِ مِن مُقَعَّرِ الفَلَكِ الأطْلَسِ بِالأمْيالِ 9343593 مِيلًا فالفَلَكُ الأعْلى يَقْطَعُ فِيما مِقْدارُهُ مِنَ الزَّمانِ جُزْءٌ واحِدٌ مِن خَمْسَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِن ساعَةٍ مُسْتَوِيَةٍ وهو ثُلْثُ خُمْسِها، هَذا المِقْدارُ مِنَ الأمْيالِ فَإذا تَحَرَّكَ مِقْدارَ دَقِيقَةٍ وهي جُزْءٌ مِن تِسْعِمِائَةِ جُزْءٍ مِن ساعَةٍ مُسْتَوِيَةٍ كانَ قَدْرُ قَطْعِهِ مِنَ المَسافَةِ 155718 مِيلًا وسُدْسَ مِيلٍ وخُمْسَ رُبْعٍ أوْ رُبْعَ خُمْسِ مِيلٍ، ولِأنَّ حِينَ ما يَبْدُو قَرْنُ الشَّمْسِ إلى أنْ تَطْلُعَ بِالتَّمامِ يَكُونُ بِقَدْرِ ما يَعُدُّ واحِدٌ مِن واحِدٍ إلى ثَلاثِمِائَةٍ فَبِمِقْدارِ ما يَعُدُّ ثَلاثِينَ يَتَحَرَّكُ الفَلَكُ 155718 مِيلًا وهو ألْفٌ وسَبْعُمِائَةٍ واثْنانِ وثَلاثُونَ فَرْسَخًا مِن مُقَعَّرِهِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِما يَتَحَرَّكُ مُحَدَّبُهُ حِينَئِذٍ، فَسُبْحانَ اللَّهِ تَعالى ما أعْظَمَ شَأْنَهُ اه.
وحاصِلُ ذَلِكَ أنَّ الفَلَكَ الأعْظَمَ يَتَحَرَّكُ مِنَ ابْتِداءِ طُلُوعِ جِرْمِ الشَّمْسِ إلى أنْ يَطْلُعَ بِتَمامِهِ سُدْسَ دَرَجَةٍ وهو عَشْرُ دَقائِقَ مِن سِتِّينَ دَقِيقَةً مِن دَرَجَةٍ فَلَكِيَّةٍ ومِقْدارُ مِساحَةِ هَذِهِ الدَّقائِقِ 519600 أيْ خَمْسُمِائَةِ ألْفٍ وتِسْعَةَ عَشَرَ ألْفًا وسِتُّمِائَةِ فَرْسَخٍ، وإذا جَعَلْنا هَذِهِ الدَّقائِقَ ثَوانِيَ كانَتْ سِتَّمِائَةِ ثانِيَةٍ. فَأيْنَ الأقَلُّ مِن ثانِيَةٍ.
وإنْ أرادَ بِالثّانِيَةِ الثّانِيَةَ مِن دَقِيقَةِ السّاعَةِ الَّتِي هي رُبْعُ الدَّرَجَةِ الفَلَكِيَّةِ فَسُدْسُ الدَّرَجَةِ هاهُنا يَكُونُ ثُلُثَيْ دَقِيقَةٍ، وإذا جَعَلْنا ثُلُثَيِ الدَّقِيقَةِ ثَوانِيَ كانا أرْبَعِينَ ثانِيَةً، وهَذِهِ الثَّوانِي السِّتُّمِائَةِ بِعَيْنِها إلّا أنَّ المُنَجِّمِينَ لَمّا جَعَلُوا السّاعَةَ سِتِّينَ دَقِيقَةً تَسْهِيلًا لِلْحِسابِ، والسّاعَةُ عِبارَةٌ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ دَرَجَةً فَلَكِيَّةً اقْتَضى أنْ تَكُونَ الدَّرَجَةُ الفَلَكِيَّةُ وكُلُّ ثانِيَةٍ مِن ثَوانِي دَقِيقَةِ السّاعَةِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثانِيَةً مِن ثَوانِي دَقِيقَةِ الدَّرَجَةِ الفَلَكِيَّةِ، فالخِلافُ بَيْنَ ثَوانِي دَقائِقِ الدَّرَجَةِ الفَلَكِيَّةِ وثَوانِي دَقِيقَةِ السّاعَةِ اعْتِبارٌ لَفْظِيٌّ، وأجابَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الكُرْدِيُّ الشَّهِيرُ بِالفاضِلِ بِأنَّ الثّانِيَةَ جُزْءٌ مِن سِتِّينَ جُزْءًا مِن دَقِيقَةٍ، والدَّقِيقَةُ قَدْ تُطْلَقُ عَلى جُزْءٍ مِن سِتِّينَ جُزْءًا مِن دَرَجَةٍ، وقَدْ تُطْلَقُ عَلى جُزْءٍ مِن سِتِّينَ جُزْءًا مِن ساعَةٍ، وقَدْ تُطْلَقُ عَلى جُزْءٍ مِن سِتِّينَ جُزْءًا مِن يَوْمٍ بِلَيْلَتِهِ، ومُرادُ العَلّامَةِ البَيْضاوِيِّ مِنَ الثّانِيَةِ الثّانِيَةَ الثّالِثَةَ لا الثّانِيَةَ الأُولى، وهو ظاهِرٌ، ولا الثّانِيَةَ الثّانِيَةَ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ سَعْدِي جَلَبِي وتَبِعَهُ ابْنُ صَدْرِ الدِّينِ، وفِيهِ أنَّهُ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ الفَلَكِيِّينَ قَدْ يُقَسِّمُونَ اليَوْمَ بِلَيْلَتِهِ إلى سِتِّينَ دَقِيقَةً كَما يُقَسِّمُونَها إلى السّاعاتِ والدَّرَجاتِ والدَّقائِقِ قِسْمَةً يَتَمَيَّزُ بِها أجْزاءُ الزَّمانِ، ولَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أحَدٌ مِنهُمْ، وإنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهم تَسْهِيلًا لِمَعْرِفَةِ الكَسْرِ الزّائِدِ عَلى الأيّامِ التّامَّةِ مِنَ السَّنَةِ لِتُعْرَفَ مِنهُ السَّنَةُ الكَبِيسَةُ في ثَلاثِ سِنِينَ أوْ أرْبَعِ سِنِينَ وهو بِمَعْزِلٍ عَمّا نَحْنُ فِيهِ مِن قَطْعِ المَسافَةِ البَعِيدَةِ بِالزَّمانِ القَلِيلِ، ولَوْ سَلَّمْنا ما زَعَمَهُ كانَ ناقِصًا مِن مُدَّةِ حَرَكَةِ الفَلَكِ الأعْظَمِ مِنَ ابْتِداءِ طُلُوعِ قُرْصِ الشَّمْسِ إلى انْتِهائِهِ وهو ثُلُثا دَقِيقَةٍ هُما أرْبَعُونَ ثانِيَةً، وذَلِكَ جُزْءٌ مِن تِسْعِينَ جُزْءًا مِن ساعَةٍ مُسْتَوِيَةٍ كَما حَرَّرَهُ العَلّامَةُ الشِّيرازِيُّ، وما ذَكَرَهُ مِن أنَّ الثّانِيَةَ مِن دَقِيقَةِ اليَوْمِ بِلَيْلَتِهِ عِبارَةٌ عَنْ أرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ ثانِيَةً مِن ثَوانِي دَقِيقَةِ السّاعَةِ، وهي أقَلُّ مِن ثُلْثَيْ دَقِيقَةٍ بِسِتَّةَ عَشَرَ ثانِيَةً خَطَأٌ عَلى خَطَأٍ، تِلْكَ إذَنْ قِسْمَةٌ ضِيزى، نَعَمْ قَدْ أصابَ في الرَّدِّ عَلى الفاضِلَيْنِ وقَدْ أخْطَأ الفاضِلُ الأوَّلُ في غَيْرِ ذَلِكَ في هَذا المَقامِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن وقَفَ عَلى كَلامِهِ وكانَ لَهُ أدْنى اطِّلاعٍ عَلى كُتُبِ القَوْمِ، ولِتَداوُلِ هَذا المَبْحَثِ بَيْنَ الطَّلَبَةِ وعَدَمِ وِجْدانِهِمْ مَن يَبُلُّ غَلِيلَهم تَعَرَّضْنا لَهُ بِما نَرْجُو أنَّ يَبُلَّ بِهِ الغَلِيلَ، هَذا والعُلَماءُ دَرَجاتٌ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ لِفَهْمِ الدَّقائِقِ فَتَأمَّلْ مَرَّةً وثانِيَةً وثالِثَةً، فَلَعَلَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أنْ يَفْتَحَ عَلَيْكَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وما ذُكِرَ مِن تَساوِي الأجْسامِ مَبْنِيٌّ عَلى ما قِيلَ عَلى تَرَكُّبِها مِنَ الجَواهِرِ الفَرْدَةِ وفِيهِ خِلافُ النِّظامِ والفَلاسِفَةِ، والبَحْثُ في ذَلِكَ طَوِيلٌ، ولا يُسْتَدَلُّ عَلى الِاسْتِحالَةِ بِلُزُومِ الخَرْقِ والِالتِئامِ، وقَدْ بَرْهَنُوا عَلى اسْتِحالَةِ ذَلِكَ لِأنّا نَقُولُ: إنَّ بُرْهانَهم عَلى ذَلِكَ أوْهَنُ مِن بَيْتِ العَنْكَبُوتِ كَما بُيِّنَ في مَحَلِّهِ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِأنَّهُ ﷺ كانَ في الإسْراءِ بِهِ مَحْمُولًا عَلى شَيْءٍ لَكِنْ صَحَّتِ الأخْبارُ بِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أُسْرِيَ بِهِ عَلى البُراقِ
﴿إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ وهو بَيْتُ المَقْدِسِ، ووَصَفَهُ بِالأقْصى أيِ الأبْعَدِ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن بِالحِجازِ، وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: إنَّهُ سُمِّيَ بِهِ لِأنَّهُ أبْعَدُ المَساجِدِ الَّتِي تُزارُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ، وبَيْنَهُما نَحْوٌ مِن أرْبَعِينَ لَيْلَةً، وقِيلَ: لِأنَّهُ لَيْسَ وراءَهُ مَوْضِعُ عِبادَةٍ فَهو أبْعَدُ مَواضِعِها، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالأقْصى البَعِيدُ دُونَ مُفاضَلَةٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما سِواهُ وهو بَعِيدٌ في نَفْسِهِ لِلزّائِرِينَ، وقِيلَ: المُرادُ بُعْدُهُ عَنِ الأقْذارِ والخَبائِثِ.
واخْتُلِفَ في رُكُوبِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَهُ فَقِيلَ: رَكِبَ خَلْفَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. والصَّحِيحُ أنَّهُ لَمْ يَرْكَبْ بَلْ أخَذَ بِرِكابِهِ ومِيكائِيلُ يَقُودُ البُراقَ. واخْتُلِفَ أيْضًا في اسْتِمْرارِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في عُرُوجِهِ إلى السَّماءِ فَقِيلَ: عَرَجَ عَلَيْهِ، والصَّحِيحُ أنَّهُ نُصِبَ لَهُ مِعْراجٌ فَعَرَجَ عَلَيْهِ، وجاءَ في وصْفِهِ وعِظَمِهِ ما جاءَ، ووَهَّمَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ كَما قالَ الحَلَبِيُّ القائِلِينَ ومِنهم صاحِبُ الهَمْزِيَّةِ إنَّ عُرُوجَهُ ﷺ عَلى البُراقِ، ومِنَ الأكاذِيبِ المَشْهُورَةِ أنَّهُ ﷺ لَمّا أرادَ العُرُوجَ صَعِدَ عَلى صَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ ورَكِبَ البُراقَ فَمالَتِ الصَّخْرَةُ وارْتَفَعَتْ لِتَلْحَقَهُ فَأمْسَكَتْها المَلائِكَةُ فَفي طَرَفٍ مِنها أثَرُ قَدَمِهِ الشَّرِيفِ، وفي الطَّرَفِ الآخَرِ أثَرُ أصابِعِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَهي واقِفَةٌ في الهَواءِ قَدِ انْقَطَعَتْ مِن كُلِّ جِهَةٍ لا يُمْسِكُها إلّا الَّذِي يُمْسِكُ السَّماءَ أنْ تَقَعَ عَلى الأرْضِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وذَكَرَ العَلائِيُّ في تَفْسِيرِهِ أنَّهُ كانَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَيْلَةَ الإسْراءِ خَمْسَةُ مَراكِبَ، الأوَّلُ البُراقُ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، الثّانِي المِعْراجُ مِنهُ إلى السَّماءِ الدُّنْيا، الثّالِثُ أجْنِحَةُ المَلائِكَةِ مِنها إلى السَّماءِ السّابِعَةِ، الرّابِعُ جَناحُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنها إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى، الخامِسُ الرَّفْرَفُ مِنها إلى قابِ قَوْسَيْنِ، ولَعَلَّ الحِكْمَةَ في الرُّكُوبِ إظْهارُ الكَرامَةِ وإلّا فاللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يُوصِلَهُ إلى أيِّ مَوْضِعٍ أرادَ في أقَلَّ مِن طَرْفَةِ عَيْنٍ، وقِيلَ: لَمْ يَكُنْ إلّا البُراقُ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى، والمِعْراجُ مِنهُ إلى حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وقَدْ كانَ لَهُ عَشْرُ مَراقٍ، سَبْعَةٌ إلى السَّمَواتِ والثّامِنُ إلى السِّدْرَةِ، والتّاسِعُ إلى المُسْتَوى الَّذِي سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الأقْلامِ، والعاشِرُ إلى العَرْشِ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
ومِنَ العَجائِبِ ما سَمِعْتُهُ عَنِ الطّائِفَةِ الكَشْفِيَّةِ والعُهْدَةُ عَلى الرّاوِي أنَّ لِلرُّوحِ جَسَدَيْنِ، جَسَدٌ مِن عالَمِ الغَيْبِ لَطِيفٌ لا دَخْلَ لِلْعَناصِرِ فِيهِ، وجَسَدٌ مِن عالَمِ الشَّهادَةِ كَثِيفٌ مُرَكَّبٌ مِنَ العَناصِرِ، والنَّبِيُّ ﷺ حِينَ عُرِجَ بِهِ ألْقى كُلَّ عُنْصُرٍ مِن عَناصِرِ الجَسَدِ العُنْصُرِيِّ في كُرَتِهِ فَما وصَلَ إلى تِلْكَ القُمُرِ حَتّى ألْقى جَمِيعَ العَناصِرِ ولَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلّا الجَسَدُ اللَّطِيفُ، فَرَقى بِهِ حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ لَمّا رَجَعَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَجَعَ إلَيْهِ ما ألْقاهُ واجْتَمَعَ فِيهِ ما تَفَرَّقَ مِنهُ، ولَعَمْرِي إنَّهُ حَدِيثُ خُرافَةٍ لا مُسْتَنَدَ لَهُ شَرْعًا ولا عَقْلًا.
وذَكَرَ مَوْلانا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الدَّشْتِيُّ ثُمَّ الجامِيُّ أنَّ المِعْراجَ إلى العَرْشِ بِالرُّوحِ والجَسَدِ وإلى ما وراءَ ذَلِكَ بِالرُّوحِ فَقَطْ، وأنْشَدَ بِالفارِسِيَّةِ:
جو رفرف شد مشرف از وجودش ∗∗∗ كرفت از دست رفرف عرش زودش
بدست عرش تن جون خرقه ب ذاشت ∗∗∗ علم بر لا مكان بي خرقه افراشت
كلى برد ندا زين دهليزه يست ∗∗∗ بدان دركاه والا دست بر دست
جهت را مهره از ششدر رهانيد ∗∗∗ مكانرا مركب از
تنكي جهانيد
مكاني يافت خالي از مكان نيز ∗∗∗ كه تن محرم نبود آنجا وجان نيز
ولَمْ أقِفْ عَلى مُسْتَنَدٍ لَهُ مِنَ الآثارِ وكَأنَّهُ لاحَظَ أنَّ العُرُوجَ فَوْقَ العَرْشِ بِالجَسَدِ يَسْتَدْعِي مَكانًا، وقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الحُكَماءِ أنَّ ما وراءَ العَرْشِ لا خَلا ولا مَلا وبِهِ تَنْتَهِي الأمْكِنَةُ وتَنْقَطِعُ الجِهاتُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: أمْرُ المِعْراجِ أجَلُّ مَن أنْ يُكَيَّفَ، وماذا عَسى يُقالُ سِوى أنَّ المُحِبَّ القادِرَ الَّذِي لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ دَعا حَبِيبَهُ الَّذِي خَلَقَهُ مِن نُورِهِ إلى زِيارَتِهِ وأرْسَلَ إلَيْهِ مَن أرْسَلَ مِن خَواصِّ مَلائِكَتِهِ فَكانَ جِبْرِيلُ هو الآخِذُ بِرِكابِهِ ومِيكائِيلُ الآخِذُ بِزِمامِ دابَّتِهِ إلى أنْ وصَلَ إلى ما وصَلَ ثُمَّ تَوَلّى أمْرَهُ سُبْحانَهُ بِما شاءَ حَتّى حَصَلَ، فَأيُّ مَسافَةٍ تَطُولُ عَلى ذَلِكَ الحَبِيبِ الرَّبّانِيِّ، وأيُّ جِسْمٍ يَمْتَنِعُ عَنِ الخَرْقِ لِذَلِكَ الجَسَدِ النُّورانِيِّ:
جُزْ بِحَزْوى فَثَمَّ عالَمُ لُطْفٍ ∗∗∗ مِن بَقايا أجْسادِهِ الأرْواحُ
ومَن تَأمَّلَ في العَيْنِ وإحْساسِها بِالقَرِيبِ والبَعِيدِ ولَوْ كانَ فاقِدَها وذُكِرَ لَهُ حالُها لَأنْكَرَ ذَلِكَ إنْكارًا ما عَلَيْهِ مَزِيدٌ، وكَذا في غَيْرِ ذَلِكَ مِن آثارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى الظّاهِرَةِ في الأنْفُسِ والآفاقِ والواقِعِ عَلى جَلالَةِ قَدْرِها الِاتِّفاقُ لَمْ يَسَعْهُ إلّا تَسْلِيمُ ما نَطَقَتْ بِهِ الآياتُ وصَحَّتْ بِهِ الرِّواياتُ، ويُشْبِهُ كَلامُ هَذا البَعْضِ ما قالَهُ بَعْضُ شُعَراءِ الفُرْسِ إلّا أنَّ فِيهِ مَيْلًا إلى مَذْهَبِ أهْلِ الوَحْدَةِ وهو قَوْلُهُ:
قصه بيرن معراج از من بيدل م رس ∗∗∗ قطره دريا كشت وبيغمر نميدانم ه شد
والظّاهِرُ أنَّ المَسافَةَ الَّتِي قَطَعَها عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في مَسِيرِهِ كانَتْ باقِيَةً عَلى امْتِدادِها. ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ في تَفْسِيرِهِ في وصْفِ البُراقِ أنَّهُ إذا أتى وادِيًا طالَتْ يَداهُ وقَصُرَتْ رِجْلاهُ، وإذا أتى عَقَبَةً طالَتْ رِجْلاهُ وقَصُرَتْ يَداهُ، وكانَتِ المَسافَةُ في غايَةِ الطُّولِ، فَفي حَقائِقِ الحَقائِقِ كانَتِ المَسافَةُ مِن مَكَّةَ إلى المَقامِ الَّذِي أوْحى اللَّهُ تَعالى فِيهِ إلى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما أوْحى قَدْرَ ثَلاثِمِائَةِ ألْفِ سَنَةٍ، وقِيلَ: خَمْسِينَ ألْفًا، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وأنَّهُ لَيْسَ هُناكَ طَيُّ مَسافَةٍ عَلى نَحْوِ ما يُثْبِتُهُ الصُّوفِيَّةُ وبَعْضُ الفُقَهاءِ لِلْأوْلِياءِ كَرامَةً، وجَهَّلَ بَعْضُ الحَنَفِيَّةِ مُثْبِتِيهِ لَهُمْ، وكَفَّرَهم آخَرُونَ، ولَيْسَ لَهُ وجْهٌ ظاهِرٌ، ورُبَّما يَلْزَمُ مُثْبِتِيهِ القَوْلُ بِتَداخُلِ الجَواهِرِ والفَلاسِفَةُ والمُتَكَلِّمُونَ سِوى النَّظّامِ يُحِيلُونَهُ ويُبَرْهِنُونَ عَلى اسْتِحالَتِهِ، وادَّعى بَعْضُهُمُ الضَّرُورَةَ في ذَلِكَ وقالُوا: المَنعُ مُكابَرَةٌ، وقَدْ أثْبَتَ الصُّوفِيَّةُ لِلْأوْلِياءِ نَشْرَ الزَّمانِ، ولَهم في ذَلِكَ حِكاياتٌ عَجِيبَةٌ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِصِحَّتِها، ولَمْ أرَ مَن تَعَرَّضَ لِذَلِكَ مَنِ المُتَشَرِّعِينَ وهو أمْرٌ وراءَ عُقُولِنا المَشُوبَةِ بِالأوْهامِ، ومِثْلُهُ في ذَلِكَ قَوْلُ مَن قالَ: الأزَلُ والأبَدُ نُقْطَةٌ واحِدَةٌ الفَرْقُ بَيْنَهُما بِالِاعْتِبارِ، ولَيْسَ لِفَهْمِ ذَلِكَ عِنْدِي إلّا المُتَجَرِّدُونَ مِن جَلابِيبِ أبْدانِهِمْ وقَلِيلٌ ما هُمْ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في بابِ الإشارَةِ حِكايَةُ إنْكارِ طَيِّ المَسافَةِ أيْضًا، وذِكْرُ ما فِيهِ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ.
وإنَّما أُسْرِيَ بِهِ ﷺ لَيْلًا لِمَزِيدِ الِاحْتِفالِ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فَإنَّ اللَّيْلَ وقْتُ الخَلْوَةِ والِاخْتِصاصِ ومُجالَسَةِ المُلُوكِ، ولا يَكادُ يَدْعُو المَلِكُ لِحَضْرَتِهِ لَيْلًا إلّا مَن هو خاصٌّ عِنْدَهُ، وقَدْ أكْرَمَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ قَوْمًا مِن أنْبِيائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِأنْواعِ الكَراماتِ وهو كالأصْلِ لِلنَّهارِ، وأيْضًا الِاهْتِداءُ فِيهِ لِلْمَقْصِدِ أبْلَغُ مِنَ الِاهْتِداءِ في النَّهارِ، وأيْضًا قالُوا: إنَّ المُسافِرَ يَقْطَعُ في اللَّيْلِ ما لا يَقْطَعُ في النَّهارِ ومِن هُنا جاءَ:
««عَلَيْكم بِالدُّلْجَةِ؛ فَإنَّ الأرْضَ تُطْوى بِاللَّيْلِ ما لا تُطْوى بِالنَّهارِ»» وأيْضًا أُسْرِيَ بِهِ لَيْلًا لِيَكُونَ ما يَعْرُجُ إلَيْهِ مِن عالَمِ النُّورِ المَحْضِ أبْعَدَ عَنِ الشَّبَهِ بِما يَعْرُجُ مِنهُ مِن عالَمِ الظُّلْمَةِ؛ وذَلِكَ أبْلَغُ في الإعْجابِ.
وقالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ في ذَلِكَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ سِراجٌ، والسِّراجُ لا يُوقَدُ إلّا لَيْلًا، وبَدْرٌ وكَذا مَسِيرُ البَدْرِ في الظُّلَمِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحِكَمِ الَّتِي لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ إنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا في دُخُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ المَسْجِدَ الأقْصى إلّا أنَّ الأخْبارَ الصَّحِيحَةَ نَصٌّ في ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ:
﴿الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ صِفَةُ مَدْحٍ وفِيها إزالَةُ اشْتِراكٍ عارِضٍ، وبَرَكَتُهُ بِما خُصَّ بِهِ مِن كَوْنِهِ مُتَعَبَّدَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وقِبْلَةً لَهم وكَثْرَةَ الأنْهارِ والأشْجارِ حَوْلَهُ، وفي الحَدِيثِ أنَّهُ تَعالى بارَكَ فِيما بَيْنَ العَرِيشِ إلى الفُراتِ وخَصَّ فِلَسْطِينَ بِالتَّقْدِيسِ. وقِيلَ: بَرَكَتُهُ أنْ جَعَلَ سُبْحانَهُ مِياهَ الأرْضِ كُلِّها تَنْفَجِرُ مِن تَحْتِ صَخْرَتِهِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وهو أحَدُ المَساجِدِ الثَّلاثِ الَّتِي تُشَدُّ إلَيْها الرَّحّالُ، والأرْبَعُ الَّتِي يُمْنَعُ مِن دُخُولِها الدَّجّالُ؛ فَقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ في المُسْنَدِ
«أنَّ الدَّجّالَ يَطُوفُ الأرْضَ إلّا أرْبَعَةَ مَساجِدَ: مَسْجِدِ المَدِينَةِ، ومَسْجِدِ مَكَّةَ، والأقْصى والطُّورِ، والصَّلاةُ فِيهِ مُضاعَفَةٌ،» فَقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ أيْضًا وأبُو داوُدَ وابْنُ ماجَهْ
«عَنْ مَيْمُونَةَ مَوْلاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّها قالَتْ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، أفْتِنا في بَيْتِ المَقْدِسِ قالَ: «أرْضُ المَحْشَرِ والمَنشَرِ، ائْتُوهُ وصَلُّوا فِيهِ؛ فَإنَّ صَلاةً فِيهِ بِألْفِ صَلاةٍ»».
وفِي رِوايَةٍ لِأحْمَدَ
«عَنْ بَعْضِ نِسائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّها قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ إحْدانا أنْ تَأْتِيَهُ قالَ: «إذا لَمْ تَسْتَطِعْ إحْداكُنَّ أنْ تَأْتِيَهُ فَلْتَبْعَثْ إلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ؛ فَإنَّ مَن بَعَثَ إلَيْهِ بِزَيْتٍ يُسْرَجُ فِيهِ كانَ كَمَن صَلّى فِيهِ،» ورَوى بَعْضَهُ أبُو داوُدَ، وهو ثانِي مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ لِخَبَرِ أبِي ذَرٍّ
«قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلًا؟ قالَ: «المَسْجِدُ الحَرامُ». قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ:
«المَسْجِدُ الأقْصى». قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُما؟ قالَ:
«أرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ؛ فَإنَّ الفَضْلَ فِيهِ»».
وقَدْ أسَّسَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ بِناءِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ الكَعْبَةَ بِما ذُكِرَ في الحَدِيثِ، وجَدَّدَهُ سُلَيْمانُ أوْ أتَمَّ تَجْدِيدَ أبِيهِ عَلَيْهِما السَّلامُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، والكَلامُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مُفَصَّلٌ في مَحَلِّهِ
﴿لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا﴾ أيْ: لِنَرْفَعَهُ إلى السَّماءِ حَتّى يَرى ما يَرى مِنَ العَجائِبِ العَظِيمَةِ. فَقَدْ صَحَّ
«أنَّهُ ﷺ عُرِجَ بِهِ مِن صَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ» كَما تَقَدَّمَ، واجْتَمَعَ في كُلِّ سَماءٍ مَعَ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ وغَيْرِهِ، واطَّلَعَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى أحْوالِ الجَنَّةِ والنّارِ ورَأى مِنَ المَلائِكَةِ ما لا يَعْلَمُ عِدَّتَهم إلّا اللَّهُ تَعالى.
ونُقِلَ
«عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَأى لَيْلَةَ المِعْراجِ في مَمْلَكَةِ اللَّهِ تَعالى خَلْقًا كَهَيْئَةِ الرِّجالِ عَلى خَيْلٍ بُلْقٍ شاكِّينَ السِّلاحَ طُولُ الواحِدِ مِنهم ألْفُ عامٍ، والفَرَسُ كَذَلِكَ، يَتْبَعُ بَعْضُهم بَعْضًا، لا يُرى أوَّلُهم ولا آخِرُهُمْ، فَقالَ: يا جِبْرِيلُ، مَن هَؤُلاءِ؟ فَقالَ: ألَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ﴾ فَأنا أهْبِطُ وأصْعَدُ أراهم هَكَذا يَمُرُّونَ لا أدْرِي مِن أيْنَ يَجِيئُونَ ولا إلى أيْنَ يَذْهَبُونَ.» وقَدْ صَلّى ﷺ بِالأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في بَيْتِ المَقْدِسِ، قالَ في العَقائِقِ: وكانَتْ صَلاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، قَرَأ في الأُولى: قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ، وفي الثّانِيَةِ الإخْلاصَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: كانَتْ دُعاءً، وذُكِرَ أنَّ الأنْبِياءَ كانُوا سَبْعَةَ صُفُوفٍ، ثَلاثَةٌ مِنهم مُرْسَلُونَ، وأنَّ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ صَلَّتْ مَعَهُمْ، وهَذا مِن خَصائِصِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَما قالَ القاضِي زَكَرِيّا في شَرْحِ الرَّوْضِ، والحِكْمَةُ في ذَلِكَ أنْ يَظْهَرَ أنَّهُ إمامُ الكُلِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهَلْ صَلّى بِأرْواحِهِمْ خاصَّةً أوْ بِها مَعَ الأجْسادِ؟ فِيهِ خِلافٌ، وكَذا اخْتُلِفَ في أنَّهُ ﷺ صَلّى بِهِمْ قَبْلَ العُرُوجِ أوْ بَعْدَهُ، فَصَحَّحَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ أنَّهُ بَعْدَهُ، وصَحَّحَ القاضِي عِياضٌ وغَيْرُهُ أنَّهُ قَبْلَهُ، وجاءَ في رِوايَةٍ
«أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ صَلّى في كُلِّ سَماءٍ رَكْعَتَيْنِ يَؤُمُّ أمْلاكَها،» وكانَ الإسْراءُ والعُرُوجُ في بَعْضِ لَيْلَةٍ واحِدَةٍ، وكانَ رُجُوعُهُ ﷺ عَلى ما كانَ ذَهابُهُ عَلَيْهِ، ولَمْ يُعَيَّنْ مِقْدارُ ذَلِكَ البَعْضِ، وكَيْفَما كانَ فَوُقُوعُ ما وقَعَ فِيهِ مِن أعْجَبِ الآياتِ وأغْرَبِ الكائِناتِ.
وفِي بَعْضِ الآثارِ
«أنَّهُ ﷺ لَمّا رَجَعَ وجَدَ فِراشَهُ لَمْ يَبْرُدْ مِن أثَرِ النَّوْمِ،» وقِيلَ: إنَّ غُصْنَ شَجَرَةٍ أصابَهُ بِعِمامَتِهِ في ذَهابِهِ فَلَمّا رَجَعَ وجَدَهُ بَعْدُ يَتَحَرَّكُ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ لَيْلَةَ الإسْراءِ غَيْرُ لَيْلَةِ المِعْراجِ، وظاهِرُ الآيَةِ عَلى ما سَمِعْتَ يَقْتَضِي أنَّهُما في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ، وإنَّما أُسْرِيَ بِهِ ﷺ أوَّلًا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وعُرِجَ بِهِ ثانِيًا مِنهُ لِيَكُونَ وُصُولُهُ إلى الأماكِنِ الشَّرِيفَةِ عَلى التَّدْرِيجِ، فَإنَّ شَرَفَ بَيْتِ المَقْدِسِ دُونَ شَرَفِ الحَضْرَةِ الَّتِي عَرَجَ إلَيْها عَلى ما قِيلَ، وقِيلَ: تَوْطِينًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِما في المِعْراجِ مِنَ الغَرابَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ في الإسْراءِ، وإنْ كانَ غَرِيبًا أيْضًا، وقِيلَ: لِتَتَشَرَّفَ بِهِ أرْضُ المَحْشَرِ ذَهابًا وإيابًا، وقِيلَ: لِأنَّ بابَ السَّماءِ الَّذِي يُقالُ: مِصْعَدُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَلى مُقابَلَةِ صَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ كَعْبِ الأحْبارِ أنَّهُ قالَ: إنَّ لِلَّهِ تَعالى بابًا مَفْتُوحًا مِن سَماءِ الدُّنْيا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، يَنْزِلُ مِنهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَن أتى بَيْتَ المَقْدِسِ وصَلّى فِيهِ، فَأُسْرِيَ بِهِ ﷺ إلى هُناكَ أوَّلًا، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ لِيَكُونَ صُعُودُهُ عَلى الِاسْتِواءِ، وقِيلَ: إنَّ أُسْطُواناتِ المَسْجِدِ قالَتْ: رَبَّنا، حَصَلَ لَنا مِن كُلِّ نَبِيٍّ حَظٌّ، وقَدِ اشْتَقْنا إلى مُحَمَّدٍ ﷺ فارْزُقْنا لِقاءَهُ فَبُدِئَ بِالإسْراءِ بِهِ إلى المَسْجِدِ تَعْجِيلًا لِلْإجابَةِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وعُبِّرَ بِمَنِ الدّالَّةِ عَلى التَّبْعِيضِ، لِأنَّ إراءَةَ جَمِيعِ آياتِ اللَّهِ تَعالى لِعَدَمِ تَناهِيها مِمّا لا تَكادُ تَقَعُ، ولَوْ قِيلَ: آياتِنا لَتَبادَرَ الكُلُّ، ورُبَّما يُسْتَعانُ بِالمَقامِ عَلى إرادَتِهِ واسْتُشْكِلَ بِأنَّهُ كَيْفَ يَرى نَبِيُّنا ﷺ بَعْضَ الآياتِ ويَرى إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ كَما نَطَقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وفَرْقٌ بَيْنَ الحَبِيبِ والخَلِيلِ، وأُجِيبَ بِأنَّ بَعْضَ الآياتِ المُضافَةِ إلَيْهِ تَعالى أشْرَفُ وأعْظَمُ مِن مَلَكُوتِ السَّمَواتِ والأرْضِ كَما قالَ تَعالى:
﴿لَقَدْ رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى﴾، وقالَ الخَفاجِيُّ: السُّؤالُ غَيْرُ وارِدٍ؛ لِأنَّ ما رَآهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما فِيها مِنَ الدَّلائِلِ والحُجَجِ ولَيْسَ ذَلِكَ مُقاوِمًا لِلْمِعْراجِ فَتَأمَّلْ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْنى الآيَةِ: لِنَرى مُحَمَّدًا ﷺ لِلنّاسِ آيَةً مِن آياتِنا؛ أيْ لِيَكُونَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ آيَةً في أنَّهُ يَصْنَعُ اللَّهُ تَعالى بِبَشَرٍ هَذا الصُّنْعَ، ويَنْدَفِعُ بِهَذا السُّؤالُ المَذْكُورُ، إلّا أنَّهُ احْتِمالٌ في غايَةِ البُعْدِ، ثُمَّ لا يَخْفى أنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ ﷺ رَأى رَبَّهُ لَيْلَةَ الإسْراءِ؛ إذْ لا يَصْدُقُ عَلَيْهِ تَعالى أنَّهُ مِن آياتِهِ، بَلْ لا يَصْدُقُ سُبْحانَهُ أنَّهُ آيَةٌ، نَعَمْ مُثْبِتُو الرُّؤْيَةِ يَحْتَجُّونَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وكَذا لَيْسَتِ الآيَةُ نَصًّا في المِعْراجِ بَلْ هي نَصٌّ في الإسْراءِ دُونَهُ؛ إذْ يَجُوزُ حَمْلُ بَعْضِ الآياتِ عَلى ما حَصَلَ لَهُ ﷺ في الإسْراءِ فَقَطْ، بَلْ قالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ في الآياتِ مُطْلَقًا ما هو نَصٌّ في ذَلِكَ، مِن هُنا قالُوا: الإسْراءُ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ قَطْعِيٌّ ثَبَتَ بِالكِتابِ، فَمَن أنْكَرَهُ فَهو كافِرٌ، والمِعْراجُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَمَن أنْكَرَهُ فَلَيْسَ بِكافِرٍ بَلْ مُبْتَدَعٌ، وكَأنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ كَما صَرَّحَ بِالإسْراءِ رَحْمَةً بِالقاصِرِينَ عَلى ما قِيلَ، وفي التَّفْسِيرِ الخازِنِيِّ أنَّ فائِدَةَ ذِكْرِ المَسْجِدِ الأقْصى فَقَطْ دُونَ السَّماءِ أنَّهُ لَوْ ذُكِرَ صُعُودُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لاشْتَدَّ إنْكارُهم لِذَلِكَ، فَلَمّا أخْبَرَ أنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وبِأنَّ لَهم صَدَقَةً فِيما أخْبَرَ بِهِ مِنَ العَلاماتِ الَّتِي فِيهِ وصَدَّقُوهُ عَلَيْها أخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمِعْراجِهِ إلى السَّماءِ فَكانَ الإسْراءُ كالتَّوْطِئَةِ لِلْمِعْراجِ اه. وهَذا ظاهِرٌ في الخَبَرِ الوارِدِ في هَذا البابِ لا في الآيَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ فِيها بِالمِعْراجِ كَما أخْبَرَ فِيها بِالإسْراءِ دَلالَةً، وقِيلَ: إنَّ الإشارَةَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّصْرِيحِ كافِيَةٌ فَتَدَبَّرْ، وصَرْفُ الكَلامِ مِنَ الغَيْبَةِ الَّتِي في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ إلى صِيغَةِ المُتَكَلِّمِ المُعَظَّمِ فِي:
﴿بارَكْنا﴾ «ونُرِيَهُ آياتِنا» لِتَعْظِيمِ البَرَكاتِ والآياتِ لِأنَّها كَما تَدُلُّ عَلى تَعْظِيمِ مَدْلُولِ الضَّمِيرِ تَدُلُّ عَلى عِظَمِ ما أُضِيفَ إلَيْهِ وصَدَرَ عَنْهُ كَما قِيلَ: إنَّما يَفْعَلُ العَظِيمُ العَظِيمَ، وقَدْ ذَكَرُوا لِهَذا التَّلْوِينِ نُكْتَةً خاصَّةً وهي أنَّ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا﴾ يَدُلُّ عَلى مَسِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن عالَمِ الشَّهادَةِ إلى عالَمِ الغَيْبِ، فَهو بِالغَيْبَةِ أنْسَبُ، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ دَلَّ عَلى إنْزالِ البَرَكاتِ فَيُناسِبُ تَعْظِيمَ المُنْزِلِ، والتَّعْبِيرُ بِضَمِيرِ العَظَمَةِ مُتَكَفِّلٌ بِذَلِكَ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ:
﴿لِنُرِيَهُ﴾ عَلى مَعْنى بُعْدِ الِاتِّصالِ وعِزِّ الحُضُورِ، فَيُناسِبُ التَّكَلُّمُ مَعَهُ، وأمّا الغَيْبَةُ فَلِكَوْنِهِ ﷺ إذْ ذاكَ لَيْسَ مِن عالَمِ الشَّهادَةِ، ولِذا قِيلَ: إنَّ فِيهِ إعادَةً إلى مَقامِ السِّرِّ والغَيْبُوبَةِ مِن هَذا العالَمِ، والغَيْبَةُ بِذَلِكَ ألْيَقُ، وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿مِن آياتِنا﴾ عَوْدٌ إلى التَّعْظِيمِ كَما سَبَقَتِ الإشارَةُ إلَيْهِ، وأمّا الغَيْبَةُ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ:
﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الضَّمِيرِ لَهُ تَعالى كَما هو الأظْهَرُ وعَلَيْهِ الأكْثَرُ فَلِيُطابِقَ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿بِعَبْدِهِ﴾ ويُرَشِّحُ ذَلِكَ الِاخْتِصاصَ بِما يُوقِعُ هَذا الِالتِفاتَ أحْسَنَ مَواقِعِهِ ويَنْطَبِقُ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ أتَمَّ انْطِباقٍ، إذِ المَعْنى قَرَّبَهُ وخَصَّهُ بِهَذِهِ الكَرامَةِ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ مُطَّلِعٌ عَلى أحْوالِهِ عالِمٌ بِاسْتِحْقاقِهِ لِهَذا المَقامِ، قالَ الطِّيبِيُّ: إنَّهُ هو السَّمِيعُ لِأقْوالِ ذَلِكَ العَبْدِ، البَصِيرُ بِأفْعالِهِ بِكَوْنِها مُهَذَّبَةً خالِصَةً عَنْ شَوائِبِ الهَوى مَقْرُونَةً بِالصِّدْقِ والصَّفا، مُسْتَأْهِلَةً لِلْقُرْبِ والزُّلْفى، وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ الضَّمِيرِ لِلنَّبِيِّ ﷺ كَما نَقَلَهُ أبُو البَقاءِ عَنْ بَعْضِهِمْ وقالَ: أيِ السَّمِيعُ لِكَلامِنا البَصِيرُ لِذاتِنا، وقالَ الجَلَبِيُّ: إنَّهُ لا يَبْعُدُ، والمَعْنى عَلَيْهِ: إنَّ عَبْدَيِ الَّذِي شَرَّفْتُهُ بِهَذا التَّشْرِيفِ هو المُسْتَأْهِلُ لَهُ فَإنَّهُ السَّمِيعُ لِأوامِرِي ونَواهِيَّ، العامِلُ بِهِما، البَصِيرُ الَّذِي يَنْظُرُ بِنَظْرَةِ العِبْرَةِ في مَخْلُوقاتِي فَيَعْتَبِرُ، أوِ البَصِيرُ بِالآياتِ الَّتِي أرَيْناهُ إيّاها؛ كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ فَقِيلَ: لِمُطابَقَةِ الضَّمائِرِ العائِدَةِ عَلَيْهِ.
وكَذا لَمّا عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
«عَبْدِهِ»، وقِيلَ: لِلْإشارَةِ إلى اخْتِصاصِهِ ﷺ بِالمِنَحِ والزُّلْفى وغَيْبُوبَةِ شُهُودِهِ في عَيْنٍ، بِي يَسْمَعُ، وبِي يُبْصِرُ، ولا يَمْتَنِعُ إطْلاقُ السَّمِيعِ والبَصِيرِ عَلى غَيْرِهِ تَعالى كَما تُوُهِّمَ لا مُطْلَقًا ولا هُنا، قالَ الطِّيبِيُّ: ولَعَلَّ السِّرَّ في مَجِيءِ الضَّمِيرِ مُحْتَمِلًا لِلْأمْرَيْنِ الإشارَةُ إلى أنَّهُ ﷺ إنَّما رَأى رَبَّ العِزَّةِ وسَمِعَ كَلامَهُ بِهِ سُبْحانَهُ كَما في الحَدِيثِ المُشارِ إلَيْهِ آنِفًا فافْهَمْ تَسْمَعْ وتُبْصِرْ، وتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الفَصْلِ إمّا لِأنَّ سَماعَهُ تَعالى بِلا أُذُنٍ، وبَصَرَهُ بِلا عَيْنٍ، عَلى نَحْوٍ لا يُشارِكُهُ فِيهِ تَعالى أحَدٌ، وإمّا لِلْإشْعارِ بِاخْتِصاصِهِ ﷺ بِتِلْكَ الكَرامَةِ.
وزَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى:
﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ وعِيدٌ لِلْكُفّارِ عَلى تَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ ﷺ في أمْرِ الإسْراءِ أيْ: إنَّهُ هو السَّمِيعُ لِما تَقُولُونَ أيُّها المُكَذِّبُونَ، البَصِيرُ بِما تَفْعَلُونَ فَيُعاقِبُكم عَلى ذَلِكَ.
وقَرَأ الحَسَنُ:
«لِيُرِيَهُ» بِياءِ الغَيْبَةِ فَفي الآيَةِ حِينَئِذٍ أرْبَعُ التِفاتاتٍ: