الباحث القرآني

(p-٢٢٣)سُورَةُ الإسْراءِ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ وعَطاءٍ وجابِرٍ. وَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ: إلّا ثَمانِيَ آياتٍ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿وَإنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ أمّا قَوْلُهُ ﴿سُبْحانَ﴾ فَفِيهِ تَأْوِيلانِ: أحَدُهُما: تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعالى مِنَ السُّوءِ، وقِيلَ بَلْ نَزَّهَ نَفْسَهُ أنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ في إسْراءِ عَبْدِهِ تَأْثِيرٌ. الثّانِي: مَعْناهُ بَرَّأهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ السُّوءِ، وقَدْ قالَ الشّاعِرُ: ؎ أقُولُ لَمّا جاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ وَهُوَ ذِكْرُ تَعْظِيمٍ لِلَّهِ لا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ، وإنَّما ذَكَرَهُ الشّاعِرُ عَلى طَرِيقِ النّادِرِ، وهُوَ (p-٢٢٤)مِنَ السَّبْحِ في التَّعْظِيمِ وهو الجَرْيُ فِيهِ إلى أبْعَدِ الغاياتِ. وَذَكَرَ أبانُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أنَّها كَلِمَةٌ بِالنَّبَطِيَّةِ (شُبْهانَكَ) . وقَدْ ذَكَرَ الكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ: إنَّ سُبْحانَ في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى عَجَبٌ، وتَقْدِيرُ الآيَةِ: عَجَبٌ مِنَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، وقَدْ وافَقَ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ سِيبَوَيْهِ وقُطْرُبٌ، وجَعَلَ البَيْتَ شاهِدًا عَلَيْهِ، وأنَّ مَعْناهُ عَجَبٌ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِرِ. وَوَجْهُ هَذا التَّأْوِيلِ أنَّهُ إذا كانَ مُشاهَدَةُ العَجَبِ سَبَبًا لِلتَّسْبِيحِ صارَ التَّسْبِيحُ تَعَجُّبًا فَقِيلَ عَجَبٌ، ومِثْلُهُ قَوْلُ بَشّارٍ: ؎ تُلْقِي بِتَسْبِيحَةٍ مِن حَيْثُما انْصَرَفَتْ ∗∗∗ وتَسْتَفِزُّ حَشا الرّائِي بِإرْعادِ وَقَدْ جاءَ التَّسْبِيحُ في الكَلامِ عَلى أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنْ يُسْتَعْمَلَ في مَوْضِعِ الصَّلاةِ، مِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ﴾ [الصّافّاتِ: ١٤٣] أيْ مِنَ المُصَلِّينَ. الثّانِي: أنْ يُسْتَعْمَلَ في الِاسْتِثْناءِ، كَما قالَ بَعْضُهم في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ أقُلْ لَكم لَوْلا تُسَبِّحُونَ﴾ [القَلَمِ: ٢٨] أيْ لَوْلا تَسْتَثْنُونَ. الثّالِثُ: النُّورُ، لِلْخَبَرِ المَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: « (لَأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ)» أيْ نُورُ وجْهِهِ. الرّابِعُ: التَّنْزِيهُ، رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّسْبِيحِ فَقالَ: (تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعالى عَنِ السُّوءِ)» . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أسْرى بِعَبْدِهِ﴾ أيْ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، والسُّرى: سَيْرُ اللَّيْلِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ ولَيْلَةٍ ذاتِ نَدًى سَرَيْتُ ∗∗∗ ولَمْ يَلِتْنِي مِن سُراها لَيْتُ وَقَوْلُهُ ﴿مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: (p-٢٢٥)أحَدُهُما: يَعْنِي مِنَ الحَرَمِ، والحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ. وَكانَ ﷺ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ نائِمًا في بَيْتِ أُمِّ هانِئٍ بِنْتِ أبِي طالِبٍ، رَوى ذَلِكَ أبُو صالِحٍ عَنْ أُمِّ هانِئٍ. الثّانِي: أنَّهُ أسْرى بِهِ مِنَ المَسْجِدِ، وفِيهِ كانَ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ رَوى ذَلِكَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ إسْرائِهِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أُسْرِيَ بِجِسْمِهِ ورُوحِهِ، رَوى ذَلِكَ ابْنُ المُسَيِّبِ وأبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأبُو هُرَيْرَةَ وحُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ. واخْتَلَفَ قائِلُو ذَلِكَ هَلْ دَخَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ وصَلّى فِيهِ أمْ لا ؟ فَرَوى أبُو هُرَيْرَةَ أنَّهُ صَلّى فِيهِ بِالأنْبِياءِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إلى السَّماءِ، ثُمَّ رُجِعَ بِهِ إلى المَسْجِدِ الحَرامِ فَصَلّى فِيهِ صَلاةَ الصُّبْحِ مِن صَبِيحَةِ لَيْلَتِهِ. وَرَوى حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمانِ أنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ المَقْدِسِ ولَمْ يُصَلِّ فِيهِ ولا نَزَلَ عَنِ البُراقِ حَتّى عُرِجَ بِهِ، ثُمَّ عادَ إلى مُلْكِهِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ ولَمْ يُسْرَ بِجِسْمِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: ما فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولَكِنَّ اللَّهَ أسْرى بِرُوحِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُعاوِيَةَ قالَ: كانَتْ رُؤْيا مِنَ اللَّهِ تَعالى صادِقَةً، وكانَ الحَسَنُ (p-٢٢٦)يَتَأوَّلُ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وَما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلا فِتْنَةً لِلنّاسِ﴾ [الإسْراءِ: ٦٠] أنَّها في المِعْراجِ؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ كَذَّبُوا ذَلِكَ وجَعَلُوا يَسْألُونَهُ عَنْ بَيْتِ المَقْدِسِ وما رَأى في طَرِيقِهِ فَوَصَفَهُ لَهم، ثُمَّ ذَكَرَ لَهم أنَّهُ رَأى في طَرِيقِهِ قَعْبًا مُغَطًّى مَمْلُوءًا ماءً، فَشَرِبَ الماءَ ثُمَّ غَطّاهُ كَما كانَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهم صِفَةَ إبِلٍ كانَتْ لَهم في طَرِيقِ الشّامِ تَحْمِلُ مَتاعًا، وأنَّها تَقْدُمُ يَوْمَ كَذا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، يَقْدُمُها جَمَلٌ أوْرَقُ; فَخَرَجُوا في ذَلِكَ اليَوْمِ يَسْتَقْبِلُونَها، فَقالَ قائِلٌ مِنهُمْ: هَذِهِ واللَّهِ الشَّمْسُ قَدْ أشْرَقَتْ ولَمْ تَأْتِ، وقالَ آخَرُ: هَذِهِ واللَّهِ العِيرُ يَقْدُمُها جَمَلٌ أوْرَقُ كَما قالَ مُحَمَّدٌ. وَفي هَذا دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ أنَّهُ أُسْرِيَ بِجِسْمِهِ ورُوحِهِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ يَعْنِي بَيْتَ المَقْدِسِ، وهو مَسْجِدُ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ وسُمِّيَ الأقْصى لِبُعْدِ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ المَسْجِدِ الحَرامِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: يَعْنِي بِالثِّمارِ ومَجارِي الأنْهارِ. الثّانِي: بِمَن جُعِلَ حَوْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ؛ ولِهَذا جَعَلَهُ مُقَدَّسًا. وَرَوى مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « (يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: يا شامُ أنْتِ (p-٢٢٧)صَفْوَتِي مِن بِلادِي وأنا سائِقٌ إلَيْكِ صَفْوَتِي مِن عِبادِي)» . ﴿لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ الآياتِ الَّتِي أراهُ في هَذا المَسْرى أنْ أسْرى بِهِ مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى في لَيْلَةٍ، وهي مَسِيرَةُ شَهْرٍ. الثّانِي: أنَّهُ أراهُ في هَذا المَسْرى آياتٍ. وَفِيها قَوْلانِ: أحَدُهُما: ما أراهُ مِنَ العَجائِبِ الَّتِي فِيها اعْتِبارٌ. الثّانِي: مَن أُرِيَ مِنَ الأنْبِياءِ حَتّى وصَفَهم واحِدًا واحِدًا. ﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ وصَفَ نَفْسَهُ في هَذِهِ الحالِ بِالسَّمِيعِ والبَصِيرِ، وإنْ كانَتا مِن صِفاتِهِ اللّازِمَةِ لِذاتِهِ في الأحْوالِ كُلِّها لِأنَّهُ حَفِظَ رَسُولَهُ عِنْدَ إسْرائِهِ في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَلا يَضُرُّ ألّا يُبْصِرَ فِيها، وسَمِعَ دُعاءَهُ فَأجابَهُ إلى ما سَألَ، فَلِهَذَيْنَ وصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِالسَّمِيعِ البَصِيرِ. الثّانِي: أنَّ قَوْمَهُ كَذَّبُوهُ عَنْ آخِرِهِمْ بِإسْرائِهِ، فَقالَ: السَّمِيعُ يَعْنِي لِما يَقُولُونَهُ مِن تَصْدِيقٍ أوْ تَكْذِيبٍ، البَصِيرُ لِما يَفْعَلُهُ مِنَ الإسْراءِ والمِعْراجِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب