الباحث القرآني
(p-١٢٨)سُورَةُ النِّساءِ
مِائَةٌ وسَبْعُونَ وسِتُّ آياتٍ مَدَنِيَّةٍ
﷽
﴿يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾
﷽
﴿يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى أنْواعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّكالِيفِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى أمَرَ النّاسَ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ بِالتَّعَطُّفِ عَلى الأوْلادِ والنِّساءِ والأيْتامِ، والرَّأْفَةِ بِهِمْ وإيصالِ حُقُوقِهِمْ إلَيْهِمْ وحِفْظِ أمْوالِهِمْ عَلَيْهِمْ، وبِهَذا المَعْنى خُتِمَتِ السُّورَةُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ﴾ [النساء: ١٧٦] وذَكَرَ في أثْناءِ هَذِهِ السُّورَةِ أنْواعًا أُخَرَ مِنَ التَّكالِيفِ، وهي الأمْرُ بِالطَّهارَةِ والصَّلاةِ وقِتالِ المُشْرِكِينَ. ولَمّا كانَتْ هَذِهِ التَّكالِيفُ شاقَّةً عَلى النُّفُوسِ لِثِقَلِها عَلى الطِّباعِ، لا جَرَمَ افْتَتَحَ السُّورَةَ بِالعِلَّةِ الَّتِي لِأجْلِها يَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ التَّكالِيفِ الشّاقَّةِ، وهي تَقْوى الرَّبِّ الَّذِي خَلَقَنا والإلَهِ الَّذِي أوْجَدَنا، فَلِهَذا قالَ: ﴿ياأيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: رَوى الواحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ أنَّ هَذا الخِطابَ لِأهْلِ مَكَّةَ، وأمّا الأُصُولِيُّونَ مِنَ المُفَسِّرِينَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الخِطابَ عامٌّ لِجَمِيعِ المُكَلَّفِينَ، وهَذا هو الأصَحُّ لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ لَفْظَ النّاسِ جَمْعٌ دَخَلَهُ الألِفُ واللّامُ فَيُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ.
وثانِيها: أنَّهُ تَعالى عَلَّلَ الأمْرَ بِالِاتِّقاءِ بِكَوْنِهِ تَعالى خالِقًا لَهم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، وهَذِهِ العِلَّةُ عامَّةٌ في حَقِّ جَمِيعِ المُكَلَّفِينَ بِأنَّهم مِن آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ خُلِقُوا بِأسْرِهِمْ، وإذا كانَتِ العِلَّةُ عامَّةً كانَ الحُكْمُ عامًّا.
وثالِثُها: أنَّ التَّكْلِيفَ بِالتَّقْوى غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِأهْلِ مَكَّةَ، بَلْ هو عامٌّ في حَقِّ جَمِيعِ العالَمِينَ، وإذا كانَ لَفْظُ النّاسِ عامًّا في الكُلِّ، وكانَ الأمْرُ بِالتَّقْوى عامًّا في الكُلِّ، وكانَتْ عِلَّةُ هَذا التَّكْلِيفِ، وهي كَوْنُهم خُلِقُوا مِنَ النَّفْسِ الواحِدَةِ عامَّةً في حَقِّ (p-١٢٩)الكُلِّ، كانَ القَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ في غايَةِ البُعْدِ. وحُجَّةُ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ [النساء: ١] مُخْتَصٌّ بِالعَرَبِ؛ لِأنَّ المُناشَدَةَ بِاللَّهِ وبِالرَّحِمِ عادَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ. فَيَقُولُونَ: أسْألُكَ بِاللَّهِ وبِالرَّحِمِ، وأنْشُدُكَ اللَّهَ والرَّحِمَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ قَوْلُهُ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ مُخْتَصًّا بِالعَرَبِ، فَكانَ أوَّلُ الآيَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ مُخْتَصًّا بِهِمْ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ في أوَّلِ الآيَةِ: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ وقَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ ورَدا مُتَوَجِّهَيْنِ إلى مُخاطَبٍ واحِدٍ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ خُصُوصَ آخِرِ الآيَةِ لا يَمْنَعُ مِن عُمُومِ أوَّلِها، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ عامّا في الكُلِّ، وقَوْلُهُ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ . خاصًّا بِالعَرَبِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى جَعَلَ هَذا المَطْلِعَ مَطْلِعًا لِسُورَتَيْنِ في القُرْآنِ: إحْداهُما: هَذِهِ السُّورَةُ وهي السُّورَةُ الرّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الأوَّلِ مِنَ القُرْآنِ. والثّانِيَةُ: سُورَةُ الحَجِّ، وهي أيْضًا السُّورَةُ الرّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الثّانِي مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى عَلَّلَ الأمْرَ بِالتَّقْوى في هَذِهِ السُّورَةِ بِما يَدُلُّ عَلى مَعْرِفَةِ المَبْدَأِ، وهو أنَّهُ تَعالى خَلَقَ الخَلْقَ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، وهَذا يَدُلُّ عَلى كَمالِ قُدْرَةِ الخالِقِ وكَمالِ عِلْمِهِ وكَمالِ حِكْمَتِهِ وجَلالِهِ، وعَلَّلَ الأمْرَ بِالتَّقْوى في سُورَةِ الحَجِّ بِما يَدُلُّ عَلى كَمالِ مَعْرِفَةِ المَعادِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: ١] فَجَعَلَ صَدْرَ هاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ دَلالَةً عَلى مَعْرِفَةِ المَبْدَأِ ومَعْرِفَةِ المَعادِ، ثُمَّ قَدَّمَ السُّورَةَ الدّالَّةَ عَلى المَبْدَأِ عَلى السُّورَةِ الدّالَّةِ عَلى المَعادِ، وتَحْتَ هَذا البَحْثِ أسْرارٌ كَثِيرَةٌ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أمَرَنا بِالتَّقْوى وذَكَرَ عَقِيبَهُ أنَّهُ تَعالى خَلَقَنا مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، وهَذا مُشْعِرٌ بِأنَّ الأمْرَ بِالتَّقْوى مُعَلَّلٌ بِأنَّهُ تَعالى خَلَقَنا مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، ولا بُدَّ مِن بَيانِ المُناسَبَةِ بَيْنَ هَذا الحُكْمِ وبَيْنَ ذَلِكَ الوَصْفِ، فَنَقُولُ: قَوْلُنا: إنَّهُ تَعالى خَلَقَنا مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، مُشْتَمِلٌ عَلى قَيْدَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ تَعالى خَلَقَنا، والثّانِي: كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ التَّخْلِيقِ، وهو أنَّهُ تَعالى إنَّما خَلَقَنا مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، ولِكُلِّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ القَيْدَيْنِ أثَرٌ في وُجُوبِ التَّقْوى.
أمّا القَيْدُ الأوَّلُ: وهو أنَّهُ تَعالى خَلَقَنا، فَلا شَكَّ أنَّ هَذا المَعْنى عِلَّةٌ لِأنْ يَجِبَ عَلَيْنا الِانْقِيادُ لِتَكالِيفِ اللَّهِ تَعالى والخُضُوعُ لِأوامِرِهِ ونَواهِيهِ، وبَيانُ ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا كانَ خالِقًا لَنا ومُوجِدًا لِذَواتِنا وصِفاتِنا فَنَحْنُ عَبِيدُهُ وهو مَوْلًى لَنا، والرُّبُوبِيَّةُ تُوجِبُ نَفاذَ أوامِرِهِ عَلى عَبِيدِهِ، والعُبُودِيَّةُ تُوجِبُ الِانْقِيادَ لِلرَّبِّ والمُوجِدِ والخالِقِ.
الثّانِي: أنَّ الإيجادَ غايَةُ الإنْعامِ ونِهايَةُ الإحْسانِ، فَإنَّكَ كُنْتَ مَعْدُومًا فَأوْجَدَكَ، ومَيِّتًا فَأحْياكَ، وعاجِزًا فَأقْدَرَكَ. وجاهِلًا فَعَلَّمَكَ، كَما قالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٩] فَلَمّا كانَتِ النِّعَمُ بِأسْرِها مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وجَبَ عَلى العَبْدِ أنْ يُقابِلَ تِلْكَ النِّعَمَ بِإظْهارِ الخُضُوعِ والِانْقِيادِ، وتَرْكِ التَّمَرُّدِ والعِنادِ، وهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨] .
الثّالِثُ: وهو أنَّهُ لَمّا ثَبَتَ كَوْنُهُ مُوجِدًا وخالِقًا وإلَهًا ورَبًّا لَنا. وجَبَ عَلَيْنا أنْ نَشْتَغِلَ بِعُبُودِيَّتِهِ وأنْ نَتَّقِيَ كُلَّ ما نَهى عَنْهُ وزَجَرَ عَنْهُ، ووَجَبَ أنْ لا يَكُونَ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الأفْعالِ مُوجِبًا ثَوابًا البَتَّةَ؛ لِأنَّ هَذِهِ الطّاعاتِ لَمّا وجَبَتْ في مُقابَلَةِ النِّعَمِ السّالِفَةِ امْتَنَعَ أنْ تَصِيرَ مُوجِبَةً لِلثَّوابِ؛ لِأنَّ أداءَ الحَقِّ إلى المُسْتَحِقِّ لا يُوجِبُ شَيْئًا آخَرَ، هَذا إذا سَلَّمْنا (p-١٣٠)أنَّ العَبْدَ أتى بِتِلْكَ الطّاعاتِ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ ابْتِداءً، فَكَيْفَ وهَذا مُحالٌ؛ لِأنَّ فِعْلَ الطّاعاتِ لا يَحْصُلُ إلّا إذا خَلَقَ اللَّهُ القُدْرَةَ عَلى الطّاعَةِ، وخَلَقَ الدّاعِيَةَ عَلى الطّاعَةِ، ومَتى حَصَلَتِ القُدْرَةُ والدّاعِي كانَ مَجْمُوعُهُما مُوجِبًا لِصُدُورِ الطّاعَةِ عَنِ العَبْدِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَتْ تِلْكَ الطّاعَةُ إنْعامًا مِنَ اللَّهِ عَلى عَبْدِهِ، والمَوْلى إذا خَصَّ عَبْدَهُ بِإنْعامٍ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ الإنْعامُ مُوجِبًا عَلَيْهِ إنْعامًا آخَرَ، فَهَذا هو الإشارَةُ إلى بَيانِ أنَّ كَوْنَهُ خالِقًا لَنا يُوجِبُ عَلَيْنا عُبُودِيَّتَهُ والِاحْتِرازَ عَنْ مَناهِيهِ.
وأمّا القَيْدُ الثّانِي: وهو أنَّ خُصُوصَ كَوْنِهِ خالِقًا لَنا مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ يُوجِبُ عَلَيْنا الطّاعَةَ والِاحْتِرازَ عَنِ المَعْصِيَةِ، فَبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ خَلْقَ جَمِيعِ الأشْخاصِ الإنْسانِيَّةِ مِنَ الإنْسانِ الواحِدِ أدَلُّ عَلى كَمالِ القُدْرَةِ، مِن حَيْثُ إنَّهُ لَوْ كانَ الأمْرُ بِالطَّبِيعَةِ والخاصِّيَّةِ لَكانَ المُتَوَلَّدُ مِنَ الإنْسانِ الواحِدِ، لَمْ يَكُنْ إلّا أشْياءَ مُتَشاكِلَةً في الصِّفَةِ مُتَشابِهَةً في الخِلْقَةِ والطَّبِيعَةِ، فَلَمّا رَأيْنا في أشْخاصِ النّاسِ الأبْيَضَ والأسْوَدَ والأحْمَرَ والأسْمَرَ والحَسَنَ والقَبِيحَ والطَّوِيلَ والقَصِيرَ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مُدَبِّرَها وخالِقَها فاعِلٌ مُخْتارٌ، لا طَبِيعَةٌ مُؤَثِّرَةٌ، ولا عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ، ولَمّا دَلَّتْ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ عَلى أنَّ مُدَبِّرَ العالَمِ فاعِلٌ مُخْتارٌ قادِرٌ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ عالِمٌ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الِانْقِيادُ لِتَكالِيفِهِ وأوامِرِهِ ونَواهِيهِ، فَكانَ ارْتِباطُ قَوْلِهِ: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ في غايَةِ الحُسْنِ والِانْتِظامِ.
والوَجْهُ الثّانِي: وهو أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الأمْرَ بِالتَّقْوى ذَكَرَ عَقِيبَهُ الأمْرَ بِالإحْسانِ إلى اليَتامى والنِّساءِ والضُّعَفاءِ، وكَوْنُ الخَلْقِ بِأسْرِهِمْ مَخْلُوقِينَ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ لَهُ أثَرٌ في هَذا المَعْنى، وذَلِكَ؛ لِأنَّ الأقارِبَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بَيْنَهم نَوْعُ مُواصَلَةٍ ومُخالَطَةٍ تُوجِبُ مَزِيدَ المَحَبَّةِ، ولِذَلِكَ إنَّ الإنْسانَ يَفْرَحُ بِمَدْحِ أقارِبِهِ وأسْلافِهِ، ويَحْزَنُ بِذَمِّهِمْ والطَّعْنِ فِيهِمْ، وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي ما يُؤْذِيها» “ وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فالفائِدَةُ في ذِكْرِ هَذا المَعْنى أنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيادَةِ شَفَقَةِ الخَلْقِ بَعْضِهِمْ عَلى البَعْضِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ النّاسَ إذا عَرَفُوا كَوْنَ الكُلِّ مِن شَخْصٍ واحِدٍ تَرَكُوا المُفاخَرَةَ والتَّكَبُّرَ وأظْهَرُوا التَّواضُعَ وحُسْنَ الخُلُقِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى المَعادِ، لِأنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ قادِرًا عَلى أنْ يُخْرِجَ مِن صُلْبِ شَخْصٍ واحِدٍ أشْخاصًا مُخْتَلِفِينَ، وأنْ يَخْلُقَ مِن قَطْرَةٍ مِنَ النُّطْفَةِ شَخْصًا عَجِيبَ التَّرْكِيبِ لَطِيفَ الصُّورَةِ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ إحْياءُ الأمْواتِ وبَعْثُهم ونَشُورُهم، فَتَكُونُ الآيَةُ دالَّةً عَلى المَعادِ مِن هَذا الوَجْهِ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساءُوا بِما عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنى﴾ [النجم: ٣١] .
الوَجْهُ الخامِسُ: قالَ الأصَمُّ: الفائِدَةُ فِيهِ: أنَّ العَقْلَ لا دَلِيلَ فِيهِ عَلى أنَّ الخَلْقَ يَجِبُ أنْ يَكُونُوا مَخْلُوقِينَ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، بَلْ ذَلِكَ إنَّما يُعْرَفُ بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ أُمِّيًّا ما قَرَأ كِتابًا ولا تَلْمَذَ لِأُسْتاذٍ، فَلَمّا أخْبَرَ عَنْ هَذا المَعْنى كانَ إخْبارًا عَنِ الغَيْبِ فَكانَ مُعْجِزًا، فالحاصِلُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ دَلِيلٌ عَلى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وقَوْلَهُ: ﴿مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ دَلِيلٌ عَلى مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ الخَلْقُ أجْمَعُ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وصِغَرِ تِلْكَ النَّفْسِ ؟
(p-١٣١)قُلْنا: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ المُرادَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّ زَوْجَ آدَمَ إذا خُلِقَتْ مِن بَعْضِهِ، ثُمَّ حَصَلَ خَلْقُ أوْلادِهِ مِن نُطْفَتِهِما ثُمَّ كَذَلِكَ أبَدًا، جازَتْ إضافَةُ الخَلْقِ أجْمَعَ إلى آدَمَ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالنَّفْسِ الواحِدَةِ هَهُنا هو آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، إلّا أنَّهُ أنَّثَ الوَصْفَ عَلى لَفْظِ النَّفْسِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ [الكهف: ٧٤] وقالَ الشّاعِرُ:
؎أبُوكَ خَلِيفَةٌ ولَدَتْهُ أُخْرى فَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذاكَ الكَمالُ
قالُوا فَهَذا التَّأْنِيثُ عَلى لَفْظِ الخَلِيفَةِ.
* *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: المُرادُ مِن هَذا الزَّوْجِ هو حَوّاءُ، وفي كَوْنِ حَوّاءَ مَخْلُوقَةً مِن آدَمَ قَوْلانِ: الأوَّلُ وهو الَّذِي عَلَيْهِ الأكْثَرُونَ: أنَّهُ لَمّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ ألْقى عَلَيْهِ النَّوْمَ، ثُمَّ خَلَقَ حَوّاءَ مِن ضِلَعٍ مِن أضْلاعِهِ اليُسْرى، فَلَمّا اسْتَيْقَظَ رَآها ومالَ إلَيْها وألِفَها، لِأنَّها كانَتْ مَخْلُوقَةً مِن جُزْءٍ مِن أجْزائِهِ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ”«إنَّ المَرْأةَ خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ أعْوَجَ، فَإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُها كَسَرْتَها وإنْ تَرَكْتَها وفِيها عِوَجٌ اسْتَمْتَعْتَ بِها» “ .
والقَوْلُ الثّانِي: وهو اخْتِيارُ أبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ أيْ مِن جِنْسِها وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا﴾ [النحل: ٧٢] وكَقَوْلِهِ: ﴿إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِن أنْفُسِهِمْ﴾ ( آلِ عِمْرانَ: ١٦٤ ] وقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] قالَ القاضِي: والقَوْلُ الأوَّلُ أقْوى، لِكَيْ يَصِحَّ قَوْلُهُ: ﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ إذْ لَوْ كانَتْ حَوّاءُ مَخْلُوقَةً ابْتِداءً لَكانَ النّاسُ مَخْلُوقِينَ مِن نَفْسَيْنِ، لا مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ.
ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ كَلِمَةَ ”مِن“ لِابْتِداءِ الغايَةِ، فَلَمّا كانَ ابْتِداءُ التَّخْلِيقِ والإيجادِ وقَعَ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ صَحَّ أنْ يُقالَ: خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، وأيْضًا فَلَمّا ثَبَتَ أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرابِ كانَ قادِرًا أيْضًا عَلى خَلْقِ حَوّاءَ مِنَ التُّرابِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَأيُّ فائِدَةٍ في خَلْقِها مِن ضِلَعٍ مِن أضْلاعِ آدَمَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّما سُمِّيَ آدَمُ بِهَذا الِاسْمِ لِأنَّهُ تَعالى خَلَقَهُ مِن أدِيمِ الأرْضِ كُلِّها؛ أحْمَرِها وأسْوَدِها وطَيِّبِها وخَبِيثِها؛ فَلِذَلِكَ كانَ في ولَدِهِ الأحْمَرُ والأسْوَدُ والطَّيِّبُ والخَبِيثُ، والمَرْأةُ إنَّما سُمِّيَتْ بِحَوّاءَ لِأنَّها خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ مِن أضْلاعِ آدَمَ فَكانَتْ مَخْلُوقَةً مِن شَيْءٍ حَيٍّ، فَلا جَرَمَ سُمِّيَتْ بِحَوّاءَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ جَمْعٌ مِنَ الطَّبائِعِيِّينَ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالُوا: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الخَلْقَ كُلَّهم مَخْلُوقُونَ مِنَ النَّفْسِ الواحِدَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ زَوْجَها مَخْلُوقَةٌ مِنها، ثُمَّ قالَ في صِفَةِ آدَمَ: ﴿خَلَقَهُ مِن تُرابٍ﴾ ( آلِ عِمْرانَ: ٥٩ ] فَدَلَّ عَلى أنَّ آدَمَ (p-١٣٢)مَخْلُوقٌ مِنَ التُّرابِ. ثُمَّ قالَ في حَقِّ الخَلائِقِ: ﴿مِنها خَلَقْناكُمْ﴾ [طه: ٥٥] وهَذِهِ الآياتُ كُلُّها دالَّةٌ عَلى أنَّ الحادِثَ لا يَحْدُثُ إلّا عَنْ مادَّةٍ سابِقَةٍ يَصِيرُ الشَّيْءُ مَخْلُوقًا مِنها، وأنَّ خَلْقَ الشَّيْءِ عَنِ العَدَمِ المَحْضِ والنَّفْيِ الصِّرْفِ مُحالٌ.
أجابَ المُتَكَلِّمُونَ فَقالُوا: خَلْقُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ مُحالٌ في العُقُولِ؛ لِأنَّ هَذا المَخْلُوقَ إنْ كانَ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذا مَخْلُوقًا البَتَّةَ، وإذا لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا امْتَنَعَ كَوْنُهُ مَخْلُوقًا مِن شَيْءٍ آخَرَ، وإنْ قُلْنا: إنَّ هَذا المَخْلُوقَ مُغايِرٌ لِلَّذِي كانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ هَذا المَخْلُوقُ وهَذا المُحْدَثُ إنَّما حَدَثَ وحَصَلَ عَنِ العَدَمِ المَحْضِ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مَخْلُوقًا مِن غَيْرِهِ مُحالٌ في العُقُولِ، وأمّا كَلِمَةُ (مِن) في هَذِهِ الآيَةِ فَهو مُفِيدٌ ابْتِداءَ الغايَةِ، عَلى مَعْنى أنَّ ابْتِداءَ حُدُوثِ هَذِهِ الأشْياءِ مِن تِلْكَ الأشْياءِ لا عَلى وجْهِ الحاجَةِ والِافْتِقارِ، بَلْ عَلى وجْهِ الوُقُوعِ فَقَطْ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ (وخالِقٌ مِنها زَوْجَها وباثٌّ مِنهُما) بِلَفْظِ اسْمِ الفاعِلِ، وهو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هو خالِقٌ.
* *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً﴾ .
وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الواحِدِيُّ: بَثَّ مِنهُما: يُرِيدُ فَرَّقَ ونَشَرَ، قالَ ابْنُ المُظَفَّرِ: البَثُّ تَفْرِيقُكَ الأشْياءَ، يُقالُ: بَثَّ الخَيْلَ في الغارَةِ وبَثَّ الصَّيّادُ كِلابَهُ، وخَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ فَبَثَّهم في الأرْضِ، وبَثَثْتُ البُسُطَ إذا نَشَرْتُها، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ [الغاشية: ١٦] قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: وبَعْضُ العَرَبِ يَقُولُ: أبَثَّ اللَّهُ الخَلْقَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ: وبَثَّ مِنهُما الرِّجالَ والنِّساءَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهُما مَبْثُوثِينَ عَنْ نَفْسِهِما وذَلِكَ مُحالٌ، فَلِهَذا عَدَلَ عَنْ هَذا اللَّفْظِ إلى قَوْلِهِ: ﴿وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً﴾ .
فَإنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً كَثِيرًا ؟ ولِمَ خَصَّصَ وصْفَ الكَثْرَةِ بِالرِّجالِ دُونَ النِّساءِ ؟
قُلْنا: السَّبَبُ فِيهِ واللَّهُ أعْلَمُ أنَّ شُهْرَةَ الرِّجالِ أتَمُّ، فَكانَتْ كَثْرَتُهم أظْهَرَ، فَلا جَرَمَ خُصُّوا بِوَصْفِ الكَثْرَةِ، وهَذا كالتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ اللّائِقَ بِحالِ الرِّجالِ الِاشْتِهارُ والخُرُوجُ والبُرُوزُ، واللّائِقُ بِحالِ النِّساءِ الِاخْتِفاءُ والخُمُولُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ جَمِيعَ الأشْخاصِ البَشَرِيَّةِ كانُوا كالذَّرِّ، وكانُوا مُجْتَمِعِينَ في صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، حَمَلُوا قَوْلَهُ: ﴿وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً﴾ عَلى ظاهِرِهِ، والَّذِينَ أنْكَرُوا ذَلِكَ قالُوا: المُرادُ بَثَّ مِنهُما أوْلادَهُما ومِن أوْلادِهِما جَمْعًا آخَرِينَ، فَكانَ الكُلُّ مُضافًا إلَيْهِما عَلى سَبِيلِ المَجازِ.
* * *
(p-١٣٣)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكم رَقِيبًا﴾ .
فِيهِ مَسائِلُ.
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: ﴿تَساءَلُونَ﴾ بِالتَّخْفِيفِ والباقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، فَمَن شَدَّدَ أرادَ: تَتَساءَلُونَ فَأدْغَمَ التّاءَ في السِّينِ لِاجْتِماعِهِما في أنَّهُما مِن حُرُوفِ اللِّسانِ وأُصُولِ الثَّنايا واجْتِماعِهِما في الهَمْسِ، ومَن خَفَّفَ حَذَفَ تاءَ تَتَفاعَلُونَ لِاجْتِماعِ حُرُوفٍ مُتَقارِبَةٍ، فَأعَلَّها بِالحَذْفِ كَما أعَلَّها الأوَّلُونَ بِالإدْغامِ، وذَلِكَ؛ لِأنَّ الحُرُوفَ المُتَقارِبَةَ إذا اجْتَمَعَتْ خُفِّفَتْ تارَةً بِالحَذْفِ وأُخْرى بِالإدْغامِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ (والأرْحامِ) بِجَرِّ المِيمِ قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وقَدْ رُوِيتُ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ غَيْرِ القُرّاءِ السَّبْعَةِ عَنْ مُجاهِدٍ وغَيْرِهِ، وأمّا الباقُونَ مِنَ القُرّاءِ فَكُلُّهم قَرَءُوا بِنَصْبِ المِيمِ. وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ (والأرْحامَ) بِالحَرَكاتِ الثَّلاثِ، أمّا قِراءَةُ حَمْزَةَ فَقَدْ ذَهَبَ الأكْثَرُونَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إلى أنَّها فاسِدَةٌ، قالُوا: لِأنَّ هَذا يَقْتَضِي عَطْفَ المُظْهَرِ عَلى المُضْمَرِ المَجْرُورِ وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ. واحْتَجُّوا عَلى عَدَمِ جَوازِهِ بِوُجُوهٍ:
أوَّلُها: قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: المُضْمَرُ المَجْرُورُ بِمَنزِلَةِ الحَرْفِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ عَطْفُ المُظْهَرِ عَلَيْهِ، إنَّما قُلْنا المُضْمَرُ المَجْرُورُ بِمَنزِلَةِ الحَرْفِ لِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ لا يَنْفَصِلُ البَتَّةَ كَما أنَّ التَّنْوِينَ لا يَنْفَصِلُ، وذَلِكَ أنَّ الهاءَ والكافَ في قَوْلِهِ: بِهِ، وبِكَ لا تَرى واحِدًا مُنْفَصِلًا عَنِ الجارِ البَتَّةَ فَصارَ كالتَّنْوِينِ.
الثّانِي: أنَّهم يَحْذِفُونَ الياءَ مِنَ المُنادى المُضافِ في الِاخْتِيارِ كَحَذْفِهِمُ التَّنْوِينَ مِنَ المُفْرَدِ، وذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: يا غُلامِ، فَكانَ المُضْمَرُ المَجْرُورُ مُشابِهًا لِلتَّنْوِينِ مِن هَذا الوَجْهِ، فَثَبَتَ أنَّ المُضْمَرَ المَجْرُورَ بِمَنزِلَةِ حَرْفِ التَّنْوِينَ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ عَطْفُ المُظْهَرِ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ مِن شَرْطِ العَطْفِ حُصُولَ المُشابَهَةِ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإذا لَمْ تَحْصُلِ المُشابَهَةُ هَهُنا وجَبَ أنْ لا يَجُوزَ العَطْفُ.
وثانِيها: قالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى: إنَّهم لَمْ يَسْتَحْسِنُوا عَطْفَ المُظْهَرِ عَلى المُضْمَرِ المَرْفُوعِ. فَلا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: اذْهَبْ وزَيْدٌ، وذَهَبْتُ وزَيْدٌ بَلْ يَقُولُونَ: اذْهَبْ أنْتَ وزَيْدٌ، وذَهَبْتُ أنا وزَيْدٌ. قالَ تَعالى: ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا﴾ [المائدة: - ٢٤] مَعَ أنَّ المُضْمَرَ المَرْفُوعَ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَإذا لَمْ يَجُزْ عَطْفُ المُظْهَرِ عَلى المُضْمَرِ المَرْفُوعِ مَعَ أنَّهُ أقْوى مِنَ المُضْمَرِ المَجْرُورِ بِسَبَبِ أنَّهُ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَلَأنْ لا يَجُوزَ عَطْفُ المُظْهَرِ عَلى المُضْمَرِ المَجْرُورِ مَعَ أنَّهُ البَتَّةَ لا يَنْفَصِلُ كانَ أوْلى.
وثالِثُها: قالَ أبُو عُثْمانَ المازِنِيُّ: المَعْطُوفُ والمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُتَشارِكانِ، وإنَّما يَجُوزُ عَطْفُ الأوَّلِ عَلى الثّانِي لَوْ جازَ عَطْفُ الثّانِي عَلى الأوَّلِ، وهَهُنا هَذا المَعْنى غَيْرُ حاصِلٍ، وذَلِكَ لِأنَّكَ لا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وبِكَ، فَكَذَلِكَ لا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِكَ وزَيْدٍ.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ لَيْسَتْ وُجُوهًا قَوِيَّةً في دَفْعِ الرِّواياتِ الوارِدَةِ في اللُّغاتِ، وذَلِكَ لِأنَّ حَمْزَةَ أحَدُ القُرّاءِ السَّبْعَةِ، والظّاهِرُ أنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَذِهِ القِراءَةِ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ، بَلْ رَواها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وذَلِكَ يُوجِبُ القَطْعَ بِصِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ، والقِياسُ يَتَضاءَلُ عِنْدَ السَّماعِ لا سِيَّما بِمِثْلِ هَذِهِ الأقْيِسَةِ الَّتِي هي أوْهَنُ مِن بَيْتِ العَنْكَبُوتِ، وأيْضًا فَلِهَذِهِ القِراءَةِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّها عَلى تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الجارِّ، كَأنَّهُ قِيلَ تَساءَلُونَ بِهِ وبِالأرْحامِ.
وثانِيها: أنَّهُ ورَدَ ذَلِكَ في الشِّعْرِ، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ في ذَلِكَ:
؎فاليَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونا وتَشْتُمُنا فاذْهَبْ فَما بِكَ والأيّامِ مِن عَجَبِ
(p-١٣٤)وأنْشَدَ أيْضًا:
؎نُعَلِّقُ في مِثْلِ السَّوارِي سُيُوفَنا ∗∗∗ وما بَيْنَها والكَعْبِ غَوْطُ نَفانِفِ
والعَجَبُ مِن هَؤُلاءِ النُّحاةِ أنَّهم يَسْتَحْسِنُونَ إثْباتَ هَذِهِ اللُّغَةِ بِهَذَيْنَ البَيْتَيْنِ المَجْهُولَيْنِ ولا يَسْتَحْسِنُونَ إثْباتَها بِقِراءَةِ حَمْزَةَ ومُجاهِدٍ، مَعَ أنَّهُما كانا مِن أكابِرِ عُلَماءِ السَّلَفِ في عِلْمِ القُرْآنِ. واحْتَجَّ الزَّجّاجُ عَلى فَسادِ هَذِهِ القِراءَةِ مِن جِهَةِ المَعْنى بِقَوْلِهِ ﷺ: ”«لا تَحْلِفُوا بِآبائِكم» “ فَإذا عَطَفْتَ الأرْحامَ عَلى المُكَنّى عَنِ اسْمِ اللَّهِ اقْتَضى ذَلِكَ جَوازَ الحَلِفِ بِالأرْحامِ، ويُمْكِنُ الجَوابُ عَنْهُ بِأنَّ هَذا حِكايَةٌ عَنْ فِعْلٍ كانُوا يَفْعَلُونَهُ في الجاهِلِيَّةِ لِأنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: أسْألُكَ بِاللَّهِ والرَّحِمِ، وحِكايَةُ هَذا الفِعْلِ عَنْهم في الماضِي لا تُنافِي وُرُودَ النَّهْيِ عَنْهُ في المُسْتَقْبَلِ، وأيْضًا فالحَدِيثُ نَهْيٌ عَنِ الحَلِفِ بِالآباءِ فَقَطْ، وهَهُنا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هو حَلِفٌ بِاللَّهِ أوَّلًا ثُمَّ يَقْرِنُ بِهِ بَعْدَهُ ذِكْرَ الرَّحِمِ، فَهَذا لا يُنافِي مَدْلُولَ ذَلِكَ الحَدِيثِ، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في قِراءَةِ قَوْلِهِ: ﴿والأرْحامَ﴾ بِالجَرِّ.
أمّا قِراءَتُهُ بِالنَّصْبِ فَفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ وهو اخْتِيارُ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ وعَلِيِّ بْنِ عِيسى: أنَّهُ عَطْفٌ عَلى مَوْضِعِ الجارِّ والمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ:
؎فَلَسْنا بِالجِبالِ ولا الحَدِيدا
والثّانِي: وهو قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ: أنَّ التَّقْدِيرَ: واتَّقُوا الأرْحامَ أنْ تَقْطَعُوها، وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ وقَتادَةَ والسُّدِّيِّ والضَّحّاكِ وابْنِ زَيْدٍ والفَرّاءِ والزَّجّاجِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ فَنَصْبُ الأرْحامِ بِالعَطْفِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿اللَّهَ﴾ أيِ: اتَّقُوا اللَّهَ واتَّقُوا الأرْحامَ: أيِ اتَّقُوا حَقَّ الأرْحامِ فَصِلُوها ولا تَقْطَعُوها، قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِالإغْراءِ، أيْ والأرْحامَ فاحْفَظُوها وصِلُوها كَقَوْلِكَ: الأسَدَ الأسَدَ، وهَذا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، ويَدُلُّ عَلى وُجُوبِ صِلَتِها. وأمّا القِراءَةُ بِالرَّفْعِ فَقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الرَّفْعُ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ كَأنَّهُ قِيلَ: والأرْحامُ كَذَلِكَ عَلى مَعْنى والأرْحامُ مِمّا يُتَّقى، أوْ والأرْحامُ مِمّا يُتَساءَلُ بِهِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ تَعالى قالَ أوَّلًا: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ وفي هَذا التَّكْرِيرِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: تَأْكِيدُ الأمْرِ والحَثُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: اعْجَلِ اعْجَلْ، فَيَكُونُ أبْلَغَ مِن قَوْلِكَ: اعْجَلْ.
الثّانِي: أنَّهُ أمْرٌ بِالتَّقْوى في الأوَّلِ لِمَكانِ الإنْعامِ بِالخَلْقِ وغَيْرِهِ، وفي الثّانِي أمْرٌ بِالتَّقْوى لِمَكانِ وُقُوعِ التَّساؤُلِ بِهِ فِيما يَلْتَمِسُ البَعْضُ مِنَ البَعْضِ.
الثّالِثُ: قالَ أوَّلًا: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ وقالَ ثانِيًا: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ والرَّبُّ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلى التَّرْبِيَةِ والإحْسانِ، والإلَهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلى القَهْرِ والهَيْبَةِ، فَأمَرَهم بِالتَّقْوى بِناءً عَلى التَّرْغِيبِ، ثُمَّ أعادَ الأمْرَ بِهِ بِناءً عَلى التَّرْهِيبِ كَما قالَ: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهم خَوْفًا وطَمَعًا﴾ [السجدة: ١٦] وقالَ: ﴿ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠] كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ رَبّاكَ وأحْسَنَ إلَيْكَ فاتَّقِ مُخالَفَتَهُ لِأنَّهُ شَدِيدُ العِقابِ عَظِيمُ السَّطْوَةِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ التَّساؤُلَ بِاللَّهِ وبِالأرْحامِ قِيلَ هو مِثْلُ أنْ يُقالَ: بِاللَّهِ أسْألُكَ، وبِاللَّهِ أشْفَعُ إلَيْكَ، وبِاللَّهِ أحْلِفُ عَلَيْكَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يُؤَكِّدُ المَرْءُ بِهِ مُرادَهُ بِمَسْألَةِ الغَيْرِ، ويَسْتَعْطِفُ ذَلِكَ الغَيْرَ في التِماسِ حَقِّهِ مِنهُ أوْ نَوالِهِ ومَعُونَتِهِ ونُصْرَتِهِ، وأمّا قِراءَةُ حَمْزَةَ فَهِي ظاهِرَةٌ مِن حَيْثُ المَعْنى، والتَّقْدِيرُ: واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامِ؛ لِأنَّ العادَةَ جَرَتْ في العَرَبِ بِأنَّ أحَدَهم قَدْ يَسْتَعْطِفُ غَيْرَهُ بِالرَّحِمِ فَيَقُولُ: أسْألُكَ بِاللَّهِ والرَّحِمِ، ورُبَّما أفْرَدَ ذَلِكَ فَقالَ: أسْألُكَ بِالرَّحِمِ، وكانَ يَكْتُبُ المُشْرِكُونَ إلى رَسُولِ (p-١٣٥)اللَّهِ ﷺ: نُناشِدُكَ اللَّهَ والرَّحِمَ أنْ لا تَبْعَثَ إلَيْنا فُلانًا وفُلانًا، وأمّا القِراءَةُ بِالنَّصْبِ فالمَعْنى يَرْجِعُ إلى ذَلِكَ، والتَّقْدِيرُ: واتَّقُوا اللَّهَ واتَّقُوا الأرْحامَ، قالَ القاضِي: وهَذا أحَدُ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَدْ يُرادُ بِاللَّفْظِ الواحِدِ المَعانِيَ المُخْتَلِفَةَ؛ لِأنَّ مَعْنى تَقْوى اللَّهِ مُخالِفٌ لِمَعْنى تَقْوى الأرْحامِ، فَتَقْوى اللَّهِ إنَّما يَكُونُ بِالتِزامِ طاعَتِهِ واجْتِنابِ مَعاصِيهِ، واتِّقاءُ الأرْحامِ بِأنْ تُوصَلَ ولا تُقْطَعَ فِيما يَتَّصِلُ بِالبِرِّ والإفْضالِ والإحْسانِ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّهُ تَعالى لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ مَرَّتَيْنِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَزُولُ الإشْكالُ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ بَعْضُهم: اسْمُ الرَّحِمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي هي النِّعْمَةُ، واحْتَجَّ بِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: أنا الرَّحْمَنُ وهي الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ اسْمَها مِنِ اسْمِي» “ ووَجْهُ التَّشْبِيهِ أنَّ لِمَكانِ هَذِهِ الحالَةِ تَقَعُ الرَّحْمَةُ مِن بَعْضِ النّاسِ لِبَعْضٍ. وقالَ آخَرُونَ: بَلِ اسْمُ الرَّحِمِ مُشْتَقٌّ مِنَ الرَّحِمِ الَّذِي عِنْدَهُ يَقَعُ الإنْعامُ وأنَّهُ الأصْلُ، وقالَ بَعْضُهم: بَلْ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما أصْلٌ بِنَفْسِهِ، والنِّزاعُ في مِثْلِ هَذا قَرِيبٌ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى جَوازِ المَسْألَةِ بِاللَّهِ تَعالى. رَوى مُجاهِدٌ عَنْ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«مَن سَألَكم بِاللَّهِ فَأعْطُوهُ» “ وعَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ: «أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَبْعٍ: مِنها إبْرارُ القَسَمِ» .
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والأرْحامَ﴾ عَلى تَعْظِيمِ حَقِّ الرَّحِمِ وتَأْكِيدِ النَّهْيِ عَنْ قَطْعِها، قالَ تَعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ﴾ [محمد: ٢٢] وقالَ: ﴿لا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إلًّا ولا ذِمَّةً﴾ [التوبة: ١٠] قِيلَ في الأوَّلِ: إنَّهُ القَرابَةُ، وقالَ: ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ [الإسراء: ٢٣] وقالَ: ﴿واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا وبِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ﴾ [النساء: ٣٦] وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«يَقُولُ اللَّهُ تَعالى: أنا الرَّحْمَنُ وهي الرَّحِمُ اشْتَقَقْتُ اسْمَها مِنِ اسْمِي فَمَن وصَلَها وصَلْتُهُ ومَن قَطَعَها قَطَعْتُهُ» “ وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«ما مِن شَيْءٍ أُطِيعَ اللَّهُ فِيهِ أعْجَلَ ثَوابًا مِن صِلَةِ الرَّحِمِ، وما مِن عَمَلٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ أعْجَلَ عُقُوبَةً مِنَ البَغْيِ واليَمِينِ الفاجِرَةِ» “ . وعَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”إنَّ «الصَّدَقَةَ وصِلَةَ الرَّحِمِ يَزِيدُ اللَّهُ بِهِما في العُمُرِ ويَدْفَعُ بِهِما مِيتَةَ السُّوءِ ويَدْفَعُ اللَّهُ بِهِما المَحْذُورَ والمَكْرُوهَ» “ وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلى ذِي الرَّحِمِ الكاشِحِ» “ قِيلَ: الكاشِحُ العَدُوُّ، فَثَبَتَ بِدَلالَةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ وُجُوبُ صِلَةِ الرَّحِمِ واسْتِحْقاقُ الثَّوابِ بِها، ثُمَّ إنَّ أصْحابَ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنَوْا عَلى هَذا الأصْلِ مَسْألَتَيْنِ:
إحْداهُما: أنَّ الرَّجُلَ إذا مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ، مِثْلُ الأخِ والأُخْتِ، والعَمِّ والخالِ، قالَ: لِأنَّهُ لَوْ بَقِيَ المِلْكُ لَحَلَّ الِاسْتِخْدامُ بِالإجْماعِ، لَكِنَّ الِاسْتِخْدامَ إيحاشٌ يُورِثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وذَلِكَ حَرامٌ بِناءً عَلى هَذا الأصْلِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَبْقى المِلْكُ.
وثانِيهِما: أنَّ الهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ المَحْرَمِ لا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيها لِأنَّ ذَلِكَ الرُّجُوعَ إيحاشٌ يُورِثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ، والكَلامُ في هاتَيْنِ المَسْألَتَيْنِ مَذْكُورٌ في الخِلافِيّاتِ.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ بِما يَكُونُ كالوَعْدِ والوَعِيدِ والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكم رَقِيبًا﴾ [النساء: ١] والرَّقِيبُ هو المُراقِبُ الَّذِي يَحْفَظُ عَلَيْكَ جَمِيعَ أفْعالِكَ. ومَن هَذا صِفَتُهُ فَإنَّهُ يَجِبُ أنْ يُخافَ ويُرْجى، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأخْفى، وأنَّهُ إذا كانَ كَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ المَرْءُ حَذِرًا خائِفًا فِيما يَأْتِي ويَتْرُكُ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰحِدَةࣲ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالࣰا كَثِیرࣰا وَنِسَاۤءࣰۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق