الباحث القرآني
سُورَةُ ”النِّساءِ“
مَقْصُودُها الِاجْتِماعُ عَلى التَّوْحِيدِ؛ الَّذِي هَدَتْ إلَيْهِ ”آلُ عِمْرانَ“؛ والكِتابِ الَّذِي حَدَتْ عَلَيْهِ ”البَقَرَةُ“؛ لِأجْلِ الدِّينِ؛ الَّذِي جَمَعَتْهُ ”الفاتِحَةُ“؛ تَحْذِيرًا مِمّا أرادَهُ شَأْسُ بْنُ قَيْسٍ؛ وأنْظارُهُ؛ مِنَ الفُرْقَةِ؛ وهَذِهِ السُّورَةُ مِن أواخِرِ ما نَزَلَ؛ رَوى البُخارِيُّ في ”فَضائِلُ القُرْآنِ“؛ عَنْ يُوسُفَ بْنِ ماهَكَ؛ أنَّ عِراقِيًّا سَألَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ ”عائِشَةَ“ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنْ تُرِيَهُ مُصْحَفَها؛ فَقالَتْ: ”لِمَ؟“؛ قالَ لَعَلِّي أُؤَلِّفُ القُرْآنَ عَلَيْهِ؛ فَإنَّهُ يُقْرَأُ (p-١٧٠)غَيْرَ مُؤَلَّفٍ؛ قالَتْ: ”وما يَضُرُّكَ أيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ؟ إنَّما نَزَلَ أوَّلُ ما نَزَلَ مِنهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ؛ فِيها ذِكْرُ الجَنَّةِ والنّارِ؛ حَتّى إذا ثابَ النّاسُ إلى الإسْلامِ؛ نَزَلَ الحَلالُ؛ والحَرامُ؛ ولَوْ نَزَلَ أوَّلُ شَيْءٍ: (لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ)؛ لَقالُوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا؛ ولَوْ نَزَلَ: (لا تَزْنُوا)؛ لَقالُوا: لا نَدَعُ الزِّنا أبَدًا؛ لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلى مُحَمَّدٍ؛ وإنِّي لِجارِيَةٌ ألْعَبُ: ﴿بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهم والسّاعَةُ أدْهى وأمَرُّ﴾ [القمر: ٤٦]؛ وما نَزَلَتْ سُورَةُ“البَقَرَةِ”؛ و“النِّساءِ”؛ إلّا وأنا عِنْدَهُ“؛ قالَ: فَأخْرَجَتْ لَهُ المُصْحَفَ؛ فَأمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ؛ انْتَهى.
وقَدْ عَنَتْ بِهَذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنَّ القُرْآنَ حازَ أعْلى البَلاغَةِ في إنْزالِهِ مُطابِقًا لِما تَقْتَضِيهِ الأحْوالُ؛ بِحَسَبِ الأزْمانِ؛ ثُمَّ رُتِّبَ عَلى أعْلى وُجُوهِ البَلاغَةِ؛ بِحَسَبِ ما تَقْتَضِيهِ المَفاهِيمُ مِنَ المَقالِ؛ كَما تُشاهِدُهُ مِن هَذا الكِتابِ البَدِيعِ؛ البَعِيدِ المَنالِ؛ ولَمّا كانَ مَقْصُودُها الِاجْتِماعَ عَلى ما دَعَتْ إلَيْهِ السُّورَتانِ قَبْلَها (p-١٧١)مِنَ التَّوْحِيدِ؛ وكانَ السَّبَبُ الأعْظَمُ في الِاجْتِماعِ والتَّواصُلِ - عادَةً - الأرْحامَ العاطِفَةَ؛ الَّتِي مَدارُها النِّساءُ؛ سُمِّيَتْ ”النِّساءَ“؛ لِذَلِكَ؛ ولِأنَّ بِالِاتِّقاءِ فِيهِنَّ تَتَحَقَّقُ العِفَّةُ والعَدْلُ الَّذِي لُبابُهُ التَّوْحِيدُ؛ بِسْمِ اللَّهِ؛ الجامِعِ لِشَتاتِ الأُمُورِ؛ بِإحْسانِ التَّزاوُجِ في لَطائِفِ المَقْدُورِ؛ الرَّحْمَنِ؛ الَّذِي جَعَلَ الأرْحامَ رَحْمَةً عامَّةً؛ الرَّحِيمِ؛ الَّذِي خَصَّ مَن أرادَ بِالتَّواصُلِ عَلى ما دَعا إلَيْهِ دِينُهُ؛ الَّذِي جَعَلَهُ نِعْمَةً تامَّةً.
لَمّا تَقَرَّرَ أمْرُ الكِتابِ الجامِعِ؛ الَّذِي هو الطَّرِيقُ؛ وثَبَتَ الأساسُ الحامِلُ؛ الَّذِي هو التَّوْحِيدُ؛ احْتِيجَ إلى الِاجْتِماعِ عَلى ذَلِكَ؛ فَجاءَتْ هَذِهِ السُّورَةُ داعِيَةً إلى الِاجْتِماعِ؛ والتَّواصُلِ؛ والتَّعاطُفِ؛ والتَّراحُمِ؛ فابْتُدِئَتْ بِالنِّداءِ العامِّ لِكُلِّ النّاسِ؛ وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا كانَتْ أُمَّهاتُ الفَضائِلِ - كَما تَبَيَّنَ في عِلْمِ الأخْلاقِ - أرْبَعًا: العِلْمَ؛ والشَّجاعَةَ؛ والعَدْلَ؛ والعِفَّةَ؛ كَما يَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ في سُورَةِ ”لُقْمانَ“ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وكانَتْ ”آلُ عِمْرانَ“؛ داعِيَةً - مَعَ ما ذُكِرَ مِن مَقاصِدِها - إلى اثْنَتَيْنِ مِنها؛ وهُما: العِلْمُ؛ والشَّجاعَةُ - كَما أُشِيرَ إلى ذَلِكَ في غَيْرِ آيَةٍ: ﴿نَـزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ [آل عمران: ٣] ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ﴾ [آل عمران: ١٨] ﴿ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩] ﴿فَما وهَنُوا لِما أصابَهم في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٤٦] ﴿فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩] (p-١٧٢)﴿ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتًا﴾ [آل عمران: ١٦٩] ﴿الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ مِن بَعْدِ ما أصابَهُمُ القَرْحُ﴾ [آل عمران: ١٧٢] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصابِرُوا﴾ [آل عمران: ٢٠٠]؛ وكانَتْ قِصَّةُ ”أُحُدٍ“؛ قَدْ أسْفَرَتْ عَنْ أيْتامٍ؛ اسْتُشْهِدَ مُوَرِّثُوهم في حُبِّ اللَّهِ؛ وكانَ مِن أمْرِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ مَنعُ أمْثالِهِمْ مِنَ الإرْثِ؛ جَوْرًا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ؛ وضَلالًا عَنْ أقْوَمِ الدَّلِيلِ؛ جاءَتْ هَذِهِ السُّورَةُ داعِيَةً إلى الفَضِيلَتَيْنِ الباقِيَتَيْنِ؛ وهُما العِفَّةُ؛ والعَدْلُ؛ مَعَ تَأْكِيدِ الخَصْلَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ؛ حَسْبَما تَدْعُو إلَيْهِ المُناسَبَةُ؛ وذَلِكَ مُثْمِرٌ لِلتَّواصُلِ بِالإحْسانِ؛ والتَّعاطُفِ بِإصْلاحِ الشَّأْنِ؛ لِلِاجْتِماعِ عَلى طاعَةِ الدَّيّانِ؛ فَمَقْصُودُها الأعْظَمُ الِاجْتِماعُ عَلى الدِّينِ بِالِاقْتِداءِ بِالكِتابِ المُبِينِ؛ وما أحْسَنَ ابْتِداءَها بِعُمُومٍ: ﴿يا أيُّها النّاسُ﴾؛ بَعْدَ اخْتِتامِ تِلْكَ بِخُصُوصٍ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصابِرُوا﴾ [آل عمران: ٢٠٠]؛ الآيَةِ!
ولَمّا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلى أنْواعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّكالِيفِ؛ مِنها التَّعَطُّفُ عَلى الضِّعافِ؛ بِأُمُورٍ كانُوا قَدْ مُرِّنُوا عَلى خِلافِها؛ فَكانَتْ في غايَةِ المَشَقَّةِ عَلى النُّفُوسِ؛ وآذَنَ بِشِدَّةِ الِاهْتِمامِ بِها؛ بِافْتِتاحِ السُّورَةِ واخْتِتامِها؛ بِالحَثِّ عَلَيْها؛ قالَ: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾؛ أيْ: سَيِّدَكُمْ؛ ومَوْلاكُمُ المُحْسِنَ إلَيْكم بِالتَّرْبِيَةِ؛ بَعْدَ الإيجادِ؛ بِأنْ تَجْعَلُوا بَيْنَكم وبَيْنَ سُخْطِهِ وِقايَةً؛ لِئَلّا يُعاقِبَكم بِتَرْكِ إحْسانِهِ إلَيْكُمْ؛ فَيُنْزِلَ بِكم كُلَّ بُؤْسٍ؛ ابْتَدَأ هَذِهِ بِبَيانِ (p-١٧٣)كَيْفِيَّةِ ابْتِداءِ الخَلْقِ؛ حَثًّا عَلى أساسِ التَّقْوى؛ مِنَ العِفَّةِ؛ والعَدْلِ؛ فَقالَ: ﴿الَّذِي﴾؛ جَعَلَ بَيْنَكم غايَةَ الوَصْلَةِ لِتُراعُوها؛ ولا تُضَيِّعُوها؛ وذَلِكَ أنَّهُ ﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾؛ هي أبُوكم آدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ مُذَكِّرًا بِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ؛ تَرْهِيبًا لِلْعاصِي؛ وتَرْغِيبًا لِلطّائِعِ؛ تَوْطِئَةً لِلْأمْرِ بِالإرْثِ؛ وقَدْ جَعَلَ - سُبْحانَهُ - الأمْرَ بِالتَّقْوى مَطْلَعًا لِسُورَتَيْنِ؛ هَذِهِ؛ وهي رابِعَةُ النِّصْفِ الأوَّلِ؛ و”الحَجِّ“؛ وهي رابِعَةُ النِّصْفِ الثّانِي؛ وعَلَّلَ الأمْرَ بِالتَّقْوى في هَذِهِ بِما دَلَّ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ؛ وشُمُولِ عِلْمِهِ؛ وتَمامِ حِكْمَتِهِ مِن أمْرِ المَبْدَإ؛ وعَلَّلَ ذَلِكَ في ”الحَجِّ“؛ بِما صَوَّرَ المَعادَ تَصْوِيرًا لا مَزِيدَ عَلَيْهِ؛ فَدَلَّ فِيها عَلى المَبْدَإ؛ والمَعادِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ مَحَطُّ الحِكْمَةِ؛ ما خُلِقَ الوُجُودُ إلّا لِأجْلِهِ؛ لِتَظْهَرَ الأسْماءُ الحُسْنى؛ والصِّفاتُ العُلى؛ أتَمَّ ظُهُورٍ يُمْكِنُ البَشَرَ الِاطِّلاعُ عَلَيْهِ؛ ورَتَّبَ ذَلِكَ عَلى التَّرْتِيبِ الأحْكَمِ؛ فَقَدَّمَ سُورَةَ المَبْدَإ عَلى سُورَةِ المَعادِ؛ لِتَكُونَ الآياتُ المَتْلُوَّةُ طِبْقَ الآياتِ المَرْئِيَّةِ.
وأبْدَعُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ؛ وأدَقُّ؛ أنَّهُ لَمّا كانَ أعْظَمُ مَقاصِدِ السُّورَةِ الماضِيَةِ المُجادَلَةَ في أمْرِ عِيسى؛ وأنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ آدَمَ - عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ وكانَتْ حَقِيقَةُ حالِهِ أنَّهُ ذَكَرٌ تَوَلَّدَ مِن أُنْثى فَقَطْ؛ بِلا واسِطَةِ ذَكَرٍ؛ (p-١٧٤)بَيَّنَ في هَذِهِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ - عَطْفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ - جَوابًا لِمَن كَأنَّهُ قالَ: كَيْفَ كانَ ذَلِكَ؟ -: ”إنْشاءُ تِلْكَ النَّفْسِ“؛ أوْ تَكُونُ الجُمْلَةُ حالِيَّةً - ﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾؛ أيْ: مَثَلُهُ في ذَلِكَ أيْضًا كَمَثَلِ حَوّاءَ؛ أُمِّهِ؛ فَإنَّها أُنْثى تَوَلَّدَتْ مِن ذَكَرٍ؛ بِلا واسِطَةِ أُنْثى؛ فَصارَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ كُلٍّ مِن أبِيهِ؛ وأُمِّهِ؛ آدَمَ؛ وحَوّاءَ؛ مَعًا - عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ وصارَ الإعْلامُ بِخَلْقِ آدَمَ؛ وزَوْجِهِ؛ وعِيسى - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ المُنْدَرِجُ تَحْتَ آيَةٍ: ﴿بَعْضُكم مِن بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢٥]؛ مَعَ آيَةِ البَثِّ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ - حاصِرًا لِلْقِسْمَةِ الرُّباعِيَّةِ العَقْلِيَّةِ؛ الَّتِي لا مَزِيدَ عَلَيْها؛ وهِيَ: بَشَرٌ؛ لا مِن ذَكَرٍ؛ ولا أُنْثى؛ بَشَرٌ مِنهُما؛ بَشَرٌ مِن ذَكَرٍ فَقَطْ؛ بَشَرٌ مِن أُنْثى فَقَطْ؛ ولِذَلِكَ عَبَّرَ في هَذِهِ السُّورَةِ بِالخَلْقِ؛ وعَبَّرَ في غَيْرِها بِالجَعْلِ؛ لِخُلُوِّ السِّياقِ عَنْ هَذا الغَرَضِ؛ ويُؤَيِّدُ هَذا أنَّهُ قالَ (تَعالى) - في أمْرِ يَحْيى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ﴿كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ [آل عمران: ٤٠]؛ وفي أمْرِ عِيسى - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ﴿يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ [آل عمران: ٤٧]؛ وأيْضًا فالسِّياقُ هُنا لِلتَّرْهِيبِ؛ المُوجِبِ لِلتَّقْوى؛ فَكانَ بِالخَلْقِ الَّذِي هو أعْظَمُ في إظْهارِ الِاقْتِداءِ - لِأنَّهُ اخْتِراعُ الأسْبابِ؛ وتَرْتِيبُ المُسَبِّباتِ عَلَيْها - أحَقَّ مِنَ الجَعْلِ؛ الَّذِي هو تَرْتِيبُ المُسَبِّباتِ عَلى أسْبابِها؛ وإنْ لَمْ يَكُنِ اخْتِراعٌ - فَسُبْحانَ العَزِيزِ؛ العَلِيمِ؛ العَظِيمِ؛ الحَكِيمِ!
ولَمّا ذَكَرَ (تَعالى) الإنْشاءَ؛ عَبَّرَ بِلَفْظِ الرَّبِّ؛ الَّذِي هو مِنَ التَّرْبِيَةِ؛ ولَمّا (p-١٧٥)كانَ الكُلُّ - المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ (تَعالى) - عَطْفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: ”وبَثَّ لَكم مِنهُ إلَيْها“ -: ﴿وبَثَّ مِنهُما﴾؛ أيْ: فَرَّقَ ونَشَرَ مِنَ التَّوالُدِ؛ ولَمّا كانَ المَبْثُوثُ قَبْلَ ذَلِكَ عَدَمًا؛ وهو الَّذِي أوْجَدَهُ مِنَ العَدَمِ؛ نَكَّرَ؛ لِإفْهامِ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿رِجالا كَثِيرًا ونِساءً﴾؛ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ؛ كانَ إحْسانُ كُلٍّ مِنَ النّاسِ إلى كُلٍّ مِنهُمْ؛ مِن صِلَةِ الرَّحِمِ؛ ووَصَفَ الرِّجالَ دُونَهُنَّ؛ مَعَ أنَّهُنَّ أكْثَرُ مِنهُمْ؛ إشارَةً إلى أنَّ لَهم عَلَيْهِنَّ دَرَجَةً؛ فَهم أقْوى؛ وأظْهَرُ؛ وأطْيَبُ؛ وأظْهَرُ في رَأْيِ العَيْنِ؛ لِما لَهم مِنَ الِانْتِشارِ؛ ولِلنِّساءِ مِنَ الِاخْتِفاءِ؛ والِاسْتِتارِ.
ولَمّا كانَ قَدْ أمَرَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - أوَّلَ الآيَةِ بِتَقْواهُ؛ مُشِيرًا إلى أنَّهُ جَدِيرٌ بِذَلِكَ مِنهُمْ؛ لِكَوْنِهِ رَبَّهُمْ؛ عَطَفَ عَلى ذَلِكَ الأمْرَ أمْرًا آخَرَ؛ مُشِيرًا إلى أنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ لِذاتِهِ؛ لِكَوْنِهِ الحاوِيَ لِجَمِيعِ الكَمالِ؛ المُنَزَّهِ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ؛ فَقالَ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أيْ: عُمُومًا؛ لِما لَهُ مِن إحاطَةِ الأوْصافِ؛ كَما اتَّقَيْتُمُوهُ خُصُوصًا؛ لِما لَهُ إلَيْكم مِنَ الإحْسانِ؛ والتَّرْبِيَةِ؛ واحْذَرُوهُ؛ وراقِبُوهُ في أنْ تُقَطِّعُوا أرْحامَكُمُ الَّتِي جَعَلَها سَبَبًا لِتَرْبِيَتِكم.
ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مِن هَذِهِ السُّورَةِ المُواصَلَةَ؛ وصَفَ نَفْسَهُ المُقَدَّسَةَ بِما يُشِيرُ إلى ذَلِكَ؛ فَقالَ: ﴿الَّذِي تَساءَلُونَ﴾؛ أيْ: يَسْألُ بَعْضُكم بَعْضًا؛ ﴿بِهِ﴾؛ فَإنَّهُ لا يُسْألُ بِاسْمِهِ الشَّرِيفِ المُقَدَّسِ إلّا الرَّحْمَةُ؛ والبِرُّ؛ والعَطْفُ؛ (p-١٧٦)ثُمَّ زادَ المَقْصُودَ إيضاحًا؛ فَقالَ: ﴿والأرْحامَ﴾؛ أيْ: واتَّقُوا قَطِيعَةَ الأرْحامِ؛ الَّتِي تَساءَلُونَ بِها؛ فَإنَّكم تَقُولُونَ: ”ناشَدْتُكَ بِاللَّهِ؛ والرَّحِمِ“؛ وعَلَّلَ هَذا الأمْرَ بِتَخْوِيفِهِمْ عَواقِبَ بَطْشِهِ؛ لِأنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلى سِرِّهِمْ؛ وعَلَنِهِمْ؛ مَعَ ما لَهُ مِنَ القُدْرَةِ الشّامِلَةِ؛ فَقالَ - مُؤَكِّدًا لِأنَّ أفْعالَ النّاسِ في تَرْكِ التَّقْوى؛ وقَطِيعَةِ الأرْحامِ؛ أفْعالُ مَن يَشُكُّ في أنَّهُ بِعَيْنِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: المُحِيطَ عِلْمًا وقُدْرَةً؛ ﴿كانَ عَلَيْكُمْ﴾؛ وفي أداةِ الِاسْتِعْلاءِ ضَرْبٌ مِنَ التَّهْدِيدِ؛ ﴿رَقِيبًا﴾؛ وخَفَضَ حَمْزَةُ ”الأرْحامَ“؛ المُقْسَمِ بِها؛ تَعْظِيمًا لَها؛ وتَأْكِيدًا لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهم قَدْ نَسُوا اللَّهَ في الوَفاءِ بِحُقُوقِها - كَما أقْسَمَ بِالنَّجْمِ؛ والتِّينِ؛ وغَيْرِهِما؛ والقِراءَتانِ مُؤْذِنَتانِ بِأنَّ صِلَةَ الأرْحامِ مِنَ اللَّهِ بِمَكانٍ عَظِيمٍ؛ حَيْثُ قَرَنَها بِاسْمِهِ؛ سَواءٌ كانَ عَطْفًا - كَما شَرَحَتْهُ آيَةُ: ﴿وقَضى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إلا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]؛ وغَيْرِها -؛ أوْ كانَ قَسَمًا؛ واتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ واجِبَةٌ؛ وأحَقَّهم بِالصِّلَةِ الوَلَدُ؛ وأوَّلَ صِلَتِهِ أنْ يَخْتارَ لَهُ المَوْضِعَ الحَلالَ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰحِدَةࣲ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالࣰا كَثِیرࣰا وَنِسَاۤءࣰۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق