سُورَةُ النِّساءِ
مِائَةٌ وخَمْسٌ وسَبْعُونَ آيَةً وهي مَدَنِيَّةٌ
﷽
﴿ياأيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكم رَقِيبًا﴾ ﴿وآتُوا اليَتامى أمْوالَهم ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهم إلى أمْوالِكم إنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٢] ﴿وإنْ خِفْتُمْ ألّا تُقْسِطُوا في اليَتامى فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ فَإنْ خِفْتُمْ ألّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكم ذَلِكَ أدْنى ألّا تَعُولُوا﴾ [النساء: ٣] ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤] ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيامًا وارْزُقُوهم فِيها واكْسُوهم وقُولُوا لَهم قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: ٥] ﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهم ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا ومَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ فَإذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوالَهم فَأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: ٦] ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنهُ أوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: ٧] ﴿وإذا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُو القُرْبى واليَتامى والمَساكِينُ فارْزُقُوهم مِنهُ وقُولُوا لَهم قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: ٨] ﴿ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ولْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: ٩] ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠]الرَّقِيبُ: فَعِيلٌ لِلْمُبالَغَةِ مِن رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْبًا ورُقُوبًا ورِقْبانًا، أحَدَّ النَّظَرَ إلى أمْرٍ لِيَتَحَقَّقَهُ عَلى ما هو عَلَيْهِ. ويَقْتَرِنُ بِهِ الحِفْظُ، ومِنهُ قِيلَ لِلَّذِي يَرْقُبُ خُرُوجَ السَّهْمِ: رَقِيبٌ.
وقالَ أبُو داوُدَ:
كَمَقاعِدِ الرُّقَباءِ لِلضُّرَباءِ أيْدِيهِمْ نَواهِدْ
والرَّقِيبُ: السَّهْمُ الثّالِثُ مِنَ السَّبْعَةِ الَّتِي لَها أنْصِباءُ. والرَّقِيبُ: ضَرْبٌ مِنَ الحَيّاتِ، والمَرْقَبُ: المَكانُ العالِي المُشْرِفُ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الرَّقِيبُ. والِارْتِقابُ: الِانْتِظارُ.
الحُوبُ: الإثْمُ. يُقالُ: حابَ يَحُوبُ حَوْبًا وحُوبًا وحابًا وحُؤُوبًا وحِيابَةً. قالَ المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ:
فَلا يُدْخِلَنِّي الدَّهْرُ قَبْرَكَ حُوبُ ∗∗∗ فَإنَّكَ تَلْقاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ
وقالَ آخَرُ:
وإنْ تُهاجِرِينَ تَكْفُفاهُ ∗∗∗ غِرايَتَهُ لَقَدْ خَطَيا وحابا
وقِيلَ: الحَوْبُ بِفَتْحِ الحاءِ المَصْدَرُ وبِضَمِّها الِاسْمُ، وتَحَوَّبَ الرَّجُلُ ألْقى الحُوبَ عَنْ نَفْسِهِ كَتَحَنَّثَ وتَأثَّمَ وتَحَرَّجَ. وفُلانٌ يَتَحَوَّبُ مِن كَذا: يَتَوَقَّعُ. وأصْلُ الحُوبِ: الزَّجْرُ لِلْإبِلِ، فَسُمِّيَ الإثْمُ حُوبًا لِأنَّهُ يُزْجَرُ عَنْهُ، وبِهِ الحَوْبَةُ: الحاجَةُ، ومِنهُ في الدُّعاءِ: إلَيْكَ أرْفَعُ حَوْبَتِي. ويُقالُ: ألْحَقَ اللَّهُ بِهِ الحَوْبَةَ أيِ المَسْكَنَةَ والحاجَةَ.
﴿مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [النساء: ٣] مَعْدُولَةٌ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وثَلاثَةٍ ثَلاثَةٍ، وأرْبَعَةٍ أرْبَعَةٍ. ولا يُرادُ بِالمَعْدُولِ عَنْهُ التَّوْكِيدُ، إنَّما يُرادُ بِذَلِكَ تَكْرارُ العَدَدِ إلى غايَةِ المَعْدُودِ. كَقَوْلِهِ: ونَفَرُوا بَعِيرًا بَعِيرًا وفَصَّلْتُ الحِسابَ لَكَ بابًا بابًا، ويُتَحَتَّمُ مَنعُ صَرْفِها لِهَذا العَدْلِ، والوَصْفِ عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ وأبِي عَمْرٍو، وأجازَ الفَرّاءُ أنْ تُصْرَفَ، ومَنعُ الصَّرْفِ عِنْدَهُ أوْلى. وعِلَّةُ المَنعِ عِنْدَهُ العَدْلُ والتَّعْرِيفُ بِنِيَّةِ الألِفِ واللّامِ، وامْتَنَعَ عِنْدَهُ إضافَتُها لِأنَّها في نِيَّةِ الألِفِ واللّامِ. وامْتَنَعَ ظُهُورُ الألِفِ واللّامِ لِأنَّها في نِيَّةِ الإضافَةِ، وقَدْ ذَكَرْنا الرَّدَّ عَلَيْهِ في كِتابِ التَّكْمِيلِ مِن تَأْلِيفِنا.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّما مُنِعَتِ الصَّرْفَ لِما فِيها مِنَ العَدْلَيْنِ: عَدْلِها عَنْ صِيغَتِها، وعَدْلِها عَنْ تَكْرِيرِها. وهي نَكِراتٌ تَعَرَّفْنَ بِلامِ التَّعْرِيفِ يُقالُ: فُلانٌ يَنْكِحُ المَثْنى والثُّلاثَ والرُّباعَ. انْتَهى كَلامُهُ. وما ذَهَبَ إلَيْهِ مِنِ امْتِناعِ الصَّرْفِ لِما فِيها مِنَ العَدْلَيْنِ: عَدْلِها عَنْ صِيغَتِها، وعَدْلِها عَنْ تَكَرُّرِها، لا أعْلَمُ أحَدًا ذَهَبَ إلى ذَلِكَ، بَلِ المَذاهِبُ في عِلَّةِ مَنعِ الصَّرْفِ المَنقُولَةُ أرْبَعَةٌ: أحَدُها: ما نَقَلْناهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ. والثّانِي: ما نَقَلْناهُ عَنِ الفَرّاءِ. والثّالِثُ: ما نُقِلَ عَنِ الزَّجّاجِ وهو لِأنَّها مَعْدُولَةٌ عَنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وثَلاثَةٍ ثَلاثَةٍ، وأرْبَعَةٍ أرْبَعَةٍ، وأنَّهُ عَدْلٌ عَنِ التَّأْنِيثِ. والرّابِعُ: ما نَقَلَهُ أبُو الحَسَنِ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ أنَّ العِلَّةَ المانِعَةَ مِنَ الصَّرْفِ هي تَكْرارُ العَدْلِ فِيهِ؛ لِأنَّهُ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ اثْنَيْنِ وعَدَلَ عَنْ مَعْناهُ. وذَلِكَ أنَّهُ لا يُسْتَعْمَلُ في مَوْضِعٍ تُسْتَعْمَلُ فِيهِ الأعْدادُ غَيْرُ المَعْدُولَةِ، تَقُولُ: جاءَنِي اثْنانِ وثَلاثَةٌ، ولا يَجُوزُ: جاءَنِي مَثْنى وثُلاثٌ حَتّى يَتَقَدَّمَ قَبْلَهُ جَمْعٌ؛ لِأنَّ هَذا البابَ جُعِلَ بَيانًا لِتَرْتِيبِ الفِعْلِ. فَإذا قالَ: جاءَنِي القَوْمُ مَثْنى، أفادَ أنَّ تَرْتِيبَ مَجِيئِهِمْ وقَعَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. فَأمّا الأعْدادُ غَيْرُ المَعْدُولَةِ فَإنَّما الغَرَضُ مِنها الإخْبارُ عَنْ مِقْدارِ المَعْدُودِ دُونَ غَيْرِهِ. فَقَدْ بانَ بِما ذَكَرْنا اخْتِلافُهُما في المَعْنى، فَلِذَلِكَ جازَ أنْ تَقُومَ العِلَّةُ مَقامَ العِلَّتَيْنِ لِإيجابِهِما حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. انْتَهى ما قُرِّرَ بِهِ هَذا المَذْهَبُ.
وقَدْ رَدَّ النّاسُ عَلى الزَّجّاجِ قَوْلَهُ: أنَّهُ عَدْلٌ عَنِ التَّأْنِيثِ بِما يُوقَفُ عَلَيْهِ في كُتُبِ النَّحْوِ، والزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَسْلُكْ شَيْئًا مِن هَذِهِ العِلَلِ المَنقُولَةِ، فَإنْ كانَ تَقَدَّمَهُ سَلَفٌ مِمَّنْ قالَ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَدْ تَبِعَهُ، وإلّا فَيَكُونُ مِمّا انْفَرَدَ بِمَقالَتِهِ. وأمّا قَوْلُهُ: يُعَرَّفْنَ بِلامِ التَّعْرِيفِ، يُقالُ: فُلانٌ يَنْكِحُ المَثْنى والثُّلاثَ والرُّباعَ، فَهو مُعْتَرَضٌ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: زَعْمُهُ أنَّها تُعَرَّفُ بِلامِ التَّعْرِيفِ، وهَذا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أحَدٌ، بَلْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ في لِسانِ العَرَبِ إلّا نَكِراتٍ. والثّانِي: أنَّهُ مَثَّلَ بِها، وقَدْ ولِيَتِ العَوامِلَ في قَوْلِهِ: فُلانٌ يَنْكِحُ المَثْنى، ولا يَلِي العَوامِلَ، إنَّما يَتَقَدَّمُها ما يَلِي العَوامِلَ، ولا تَقَعُ إلّا خَبَرًا كَما جاءَ: (صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنى) . أوْ حالًا نَحْوَ:
﴿ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ مَثْنى﴾ [النساء: ٣] أوْ صِفَةً نَحْوَ:
﴿أُولِي أجْنِحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [فاطر: ١] وقَوْلِهِ:
ذِئابٌ تَبْغِي النّاسَ مَثْنى ومَوْحَدا
وقَدْ تَجِيءُ مُضافَةً قَلِيلًا نَحْوَ قَوْلِ الآخَرِ:
بِمَثْنى الزِّقاقِ المُتْرَعاتِ وبِالجُزُرْ
وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهم أنَّها تَلِي العَوامِلَ عَلى قِلَّةٍ، وقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِ الشّاعِرِ:
ضَرَبْتُ خُماسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ ∗∗∗ أدارَ سُداسَ أنْ لا يَسْتَقِيما
ومِن أحْكامِ هَذا المَعْدُولِ أنَّهُ لا يُؤَنَّثُ، فَلا تَقُولُ: مَثْناةٌ، ولا ثُلاثَةٌ، ولا رُباعَةٌ، بَلْ يَجْرِي بِغَيْرِ تاءٍ عَلى المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ. عالَ يَعُولُ عَوْلًا وعِيالَةً: مالَ. ومِيزانُ فُلانٍ عائِلٌ. وعالَ الحاكِمُ في حُكْمِهِ: جارَ، وقالَ أبُو طالِبٍ في النَّبِيِّ ﷺ:
لَهُ شاهِدٌ مِن نَفْسِهِ غَيْرُ عائِلِ
وحَكى ابْنُ الأعْرابِيِّ: أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: عالَ الرَّجُلُ يَعُولُ: كَثُرَ عِيالُهُ، ويُقالُ: عالَ يَعِيلُ: افْتَقَرَ وصارَ عالَةً، وعالَ الرَّجُلُ عِيالَهُ يَعُولُهم: مانَهم، ومِنهُ: (ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَن تَعُولُ) والعَوْلُ في الفَرِيضَةِ مُجاوَزَتُهُ لِحَدِّ السِّهامِ المُسَمّاةِ. وجِماعُ القَوْلِ في عالَ: أنَّها تَكُونُ لازِمَةً ومُتَعَدِّيَةً. فاللّازِمَةُ بِمَعْنى: مالَ، وجارَ، وكَثُرَ عِيالُهُ، وتَفاقَمَ، وهَذا مُضارِعُهُ يَعُولُ. وعالَ الرَّجُلُ: افْتَقَرَ، وعالَ في الأرْضِ: ذَهَبَ فِيها، وهَذا مُضارِعُهُ يَعِيلُ. والمُتَعَدِّيَةُ بِمَعْنى أثْقَلَ، ومانَ مِنَ المُؤْنَةِ. وغَلَبَ مِنهُ أُعِيلَ صَبْرِي وأُعْجِزَ. وإذا كانَ بِمَعْنى أعْجَزَ فَهو مِن ذَواتِ الياءِ، تَقُولُ: عالَنِي الشَّيْءُ يُعِيلُنِي عَيْلًا ومَعِيلًا أعْجَزَنِي، وباقِي المُتَعَدِّي مِن ذَواتِ الواوِ.
الصَّدُقَةُ عَلى وزْنِ سَمُرَةٍ: المَهْرُ، وقَدْ تَسْكُنُ الدّالُ، وضَمُّها وفَتْحُ الصّادِ لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ. ويُقالُ: صَدْقَةٌ بِوَزْنِ غَرْفَةٍ. وتُضَمُّ دالُهُ فَيُقالُ: صَدُقَةٌ، وأصْدَقَها: أمْهَرَها.
النِّحْلَةُ: العَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ. والنِّحْلَةُ الشِّرْعَةُ، ونِحْلَةُ الإسْلامِ خَيْرُ النِّحَلِ. وفُلانٌ يَنْحَلُ بِكَذا أيْ يَدِينُ بِهِ.
هَنِيئًا مَرِيئًا: صِفَتانِ مِن هَنُؤَ الطَّعامُ ومَرُؤَ: إذا كانَ سائِغًا لا تَنْغِيصَ فِيهِ. ويُقالُ: هَنا يَهْنا بِغَيْرِ هَمْزٍ، وهَنَّأنِي الطَّعامُ ومَرَّأنِي، فَإذا لَمْ تَذْكُرْ هَنَّأنِي؛ قُلْتَ: أمْرَأنِي رُباعِيًّا، واسْتُعْمِلَ مَعَ هَنَّأنِي ثُلاثِيًّا لِلْإتْباعِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: هَنِيئًا مَرِيئًا صِفَتانِ نَصَبُوهُما نَصْبَ المَصادِرِ المَدْعُوِّ بِها بِالفِعْلِ غَيْرِ المُسْتَعْمَلِ إظْهارُهُ المُخْتَزَلِ لِلدَّلالَةِ الَّتِي في الكَلامِ عَلَيْهِ كَأنَّهم قالُوا: ثَبَتَ ذَلِكَ هَنِيئًا مَرِيئًا انْتَهى. وقالَ كُثَيِّرٌ:
هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ داءٍ مُخامِرٍ ∗∗∗ لِعَزَّةَ مِن أعْراضِنا ما اسْتَحَلَّتِ
قِيلَ: واشْتِقاقُ الهَنِيءِ مِن هِناءِ البَعِيرِ، وهو الدَّواءُ الَّذِي يُطْلى بِهِ مِنَ الجَرَبِ، ويُوضَعُ في عَقْرِهِ. ومِنهُ قَوْلُهُ:
مُتَبَذِّلٌ تَبْدُو مَحاسِنُهُ ∗∗∗ يَضَعُ الهِناءَ مَواضِعَ النُّقَبِ
والمَرِيءُ: ما يُساغُ في الحَلْقِ، ومِنهُ قِيلٌ لِمَجْرى الطَّعامِ في الحُلْقُومِ إلى فَمِ المَعِدَةِ: المَرِيءُ. آنَسَ كَذا: أحَسَّ بِهِ وشَعَرَ. قالَ:
آنَسْتُ شاةً وأفْزَعَها ∗∗∗ القَنّاصُ عَصْرًا وقَدْ دَنا الإمْساءُ
وقالَ الفَرّاءُ: وجَدَ. وقالَ الزَّجّاجُ: عَلِمَ. وقالَ عَطاءٌ: أبْصَرَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: عَرَفَ. وهي أقْوالٌ مُتَقارِبَةٌ. السَّدِيدُ مِنَ القَوْلِ هو المُوافِقُ لِلْحَقِّ مِنهُ.
أُعَلِّمُهُ الرِّمايَةَ كُلَّ يَوْمٍ ∗∗∗ فَلَمّا اشْتَدَّ ساعِدُهُ رَمانِي
المَعْنى: لَمّا وافَقَ الأغْراضَ الَّتِي يَرْمِي إلَيْها. صَلى بِالنّارِ: تَسَخَّنَ بِها، وصَلَيْتُهُ: أدْنَيْتُهُ مِنها. التَّسْعِيرُ: الجَمْرُ المُشْتَعِلُ؛ مِن سَعَّرْتُ النّارَ: أوْقَدْتُها، ومِنهُ مِسْعَرُ حَرْبٍ.
﴿يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً﴾ الجُمْهُورُ عَلى أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ إلّا قَوْلَهُ تَعالى:
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ [النساء: ٥٨] . وقالَ النَّحّاسُ: مَكِّيَّةٌ. وقالَ النَّقّاشُ: نَزَلَتْ عِنْدَ الهِجْرَةِ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ. انْتَهى. ولا خِلافَ أنَّ فِيها ما نَزَلَ بِالمَدِينَةِ. وفي البُخارِيِّ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ﴾ [النساء: ١٧٦] .
* * *ومُناسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أحْوالَ المُشْرِكِينَ والمُنافِقِينَ وأهْلِ الكِتابِ والمُؤْمِنِينَ أُولِي الألْبابِ، ونَبَّهَ تَعالى بِقَوْلِهِ:
﴿أنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٥] عَلى المُجازاةِ. وأخْبَرَ أنَّ بَعْضَهم مِن بَعْضٍ في أصْلِ التَّوالُدِ، نَبَّهَ تَعالى في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلى إيجادِ الأصْلِ، وتَفَرُّعِ العالَمِ الإنْسانِيِّ مِنهُ لِيَحُثَّ عَلى التَّوافُقِ والتَّوادِّ والتَّعاطُفِ وعَدَمِ الِاخْتِلافِ، ولِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلى أنَّ أصْلَ الجِنْسِ الإنْسانِيِّ كانَ عابِدًا لِلَّهِ مُفْرِدَهُ بِالتَّوْحِيدِ والتَّقْوى، طائِعًا لَهُ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ فُرُوعُهُ الَّتِي نَشَأتْ مِنهُ. فَنادى تَعالى دُعاءً عامًّا لِلنّاسِ، وأمَرَهم بِالتَّقْوى الَّتِي هي مِلاكُ الأمْرِ، وجَعَلَ سَبَبًا لِلتَّقْوى تَذْكارَهُ تَعالى إيّاهم بِأنَّهُ أوْجَدَهم وأنْشَأهم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ. ومَن كانَ قادِرًا عَلى مِثْلِ هَذا الإيجادِ الغَرِيبِ الصُّنْعِ وإعْدامِ هَذِهِ الأشْكالِ والنَّفْعِ والضُّرِّ فَهو جَدِيرٌ بِأنْ يُتَّقى. ونَبَّهَ بِقَوْلِهِ:
﴿مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾، عَلى ما هو مَرْكُوزٌ في الطِّباعِ مِن مَيْلِ بَعْضِ الأجْناسِ إلى بَعْضٍ، وإلْفِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، لِيَتَألَّفَ بِذَلِكَ عِبادَهُ عَلى تَقْواهُ. والظّاهِرُ في النّاسِ: العُمُومُ؛ لِأنَّ الألِفَ واللّامَ فِيهِ تُفِيدُهُ، ولِلْأمْرِ بِالتَّقْوى ولِلْعِلَّةِ، إذْ لَيْسا مَخْصُوصَيْنِ بَلْ هُما عامّانِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالنّاسِ أهْلُ مَكَّةَ، كَأنَّ صاحِبَ هَذا القَوْلِ يَنْظُرُ إلى قَوْلِهِ:
﴿تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ لِأنَّ العَرَبَ هُمُ الَّذِينَ يَتَساءَلُونَ بِذَلِكَ. يَقُولُ: أنْشُدُكَ بِاللَّهِ وبِالرَّحِمِ. وقِيلَ: المُرادُ المُؤْمِنُونَ نَظَرًا إلى قَوْلِهِ:
﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] وقَوْلِهِ: (المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ) والأغْلَبُ أنَّهُ إذا كانَ الخِطابُ والنِّداءُ بِـ
﴿ياأيُّها النّاسُ﴾، وكانَ لِلْكَفَرَةِ فَقَطْ، أوْ لَهم مَعَ غَيْرِهِمْ أعْقَبَ بِدَلائِلِ الوَحْدانِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ؛ لِأنَّهم غَيْرُ عارِفِينَ بِاللَّهِ، فَنُبِّهُوا عَلى الفِكْرِ في ذَلِكَ لِأنْ يَعْرِفُوا، نَحْوَ:
﴿يا أيُّها النّاسُ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ [فاطر: ٥] ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] وإذا كانَ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ أُعْقِبَ بِذِكْرِ النِّعَمِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ.
قِيلَ: وجَعَلَ هَذا المَطْلَعَ مَطْلَعًا لِسُورَتَيْنِ: إحْداهُما: هَذِهِ، وهي الرّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الأوَّلِ. والثّانِيَةُ: سُورَةُ الحَجِّ، وهي الرّابِعَةُ مِنَ النِّصْفِ الثّانِي. وعَلَّلَ هُنا الأمْرَ بِالتَّقْوى بِما يَدُلُّ عَلى مَعْرِفَةِ المَبْدَأِ، وهُناكَ بِما يَدُلُّ عَلى مَعْرِفَةِ المَعادِ. وبَدَأ بِالمَبْدَأِ بِأنَّهُ الأوَّلُ، وهو ظاهِرُ الأمْرِ بِالتَّقْوى أنَّها تَقْوى عامَّةٌ فِيما يُتَّقى مِن مُوجِبِ العِقابِ، ولِذَلِكَ فُسِّرَ بِاجْتِنابِ ما جاءَ فِيهِ الوَعِيدُ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أرادَ بِالتَّقْوى تَقْوى خاصَّةً، وهو أنْ يَتَّقُوهُ فِيما يَتَّصِلُ بِحِفْظِ الحُقُوقِ بَيْنَهم، فَلا يَقْطَعُوا ما يَجِبُ عَلَيْهِمْ وصْلُهُ. فَقِيلَ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي وصَلَ بَيْنَكم بِأنْ جَعَلَكم صِنْوانًا مُفَرَّعَةً مِن أرُومَةٍ واحِدَةٍ فِيما يَجِبُ لِبَعْضِكم عَلى بَعْضٍ ولِبَعْضٍ، فَحافِظُوا عَلَيْهِ ولا تَغْفُلُوا عَنْهُ. وهَذا المَعْنى مُطابِقٌ لِمَعانِي السُّورَةِ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُرادُ بِالتَّقْوى الطّاعَةُ. وقالَ مُقاتِلٌ: الخَشْيَةُ. وقِيلَ: اجْتِنابُ الكَبائِرِ والصَّغائِرِ. والمُرادُ بِقَوْلِهِ:
﴿مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ - آدَمُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (واحِدَةٍ) بِالتّاءِ عَلى تَأْنِيثِ لَفْظِ النَّفْسِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: (واحِدٍ) عَلى مُراعاةِ المَعْنى، إذِ المُرادُ بِهِ آدَمُ، أوْ عَلى أنَّ النَّفْسَ تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، فَجاءَتْ قِراءَتُهُ عَلى تَذْكِيرِ النَّفْسِ. ومَعْنى الخَلْقِ هُنا: الِاخْتِراعُ بِطَرِيقِ التَّفْرِيعِ، والرُّجُوعُ إلى أصْلٍ واحِدٍ كَما قالَ الشّاعِرُ:
إلى عِرْقِ الثَّرى وشَجَتْ عُرُوقِي وهَذا المَوْتُ يَسْلُبُنِي شَبابِي
قالَ: في رِيِّ الظَّمْآنِ، ودَلَّتِ الإضافَةُ عَلى جَوازِ إضافَةِ الشَّيْءِ إلى الأصْلِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ، وأنْ يُعَدَّ ذَلِكَ الرّاجِعُ إلى التَّوالُدِ والتَّعاقُبِ والتَّتابُعِ. وعَلى أنّا لَسْنا فِيهِ كَما زَعَمَ بَعْضُ الدَّهْرِيَّةِ، وإلّا لَقالَ: أخْرَجَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، فَأضافَ خَلْقَنا إلى آدَمَ، وإنْ لَمْ نَكُنْ مِن نَفْسِهِ بَلْ كُنّا مِن نُطْفَةٍ واحِدَةٍ حَصَلَتْ بِمَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِن أوْلادِهِ، ولَكِنَّهُ الأصْلُ، انْتَهى. وقالالأصَمُّ: لا يَدُلُّ العَقْلُ عَلى أنَّ الخَلْقَ مَخْلُوقِينَ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ، بَلِ السَّمْعُ. ولَمّا كانَ أُمِّيًّا ما قَرَأ كِتابًا، كانَ مَعْنى (خَلَقَكم) دَلِيلًا عَلى التَّوْحِيدِ، ومِن نَفْسٍ واحِدَةٍ دَلِيلًا عَلى النُّبُوَّةِ. انْتَهى.
وفِي قَوْلِهِ:
﴿مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ إشارَةٌ إلى تَرْكِ المُفاخَرَةِ والكِبْرِ، لِتَعْرِيفِهِ إيّاهم بِأنَّهم مِن أصْلٍ واحِدٍ، ودَلالَةٌ عَلى المَعادِ؛ لِأنَّ القادِرَ عَلى إخْراجِ أشْخاصٍ مُخْتَلِفِينَ مِن شَخْصٍ واحِدٍ فَقُدْرَتُهُ عَلى إحْيائِهِمْ بِطَرِيقِ الأوْلى. و
﴿زَوْجَها﴾: هي حَوّاءُ. وظاهِرٌ مِنها ابْتِداءُ خَلْقِ حَوّاءَ مِن نَفْسِهِ، وأنَّهُ هو أصْلُها الَّذِي اخْتُرِعَتْ وأُنْشِئَتْ مِنهُ، وبِهِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، والسُّدِّيُّ، قالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ آدَمَ وحْشًا في الجَنَّةِ وحْدَهُ، ثُمَّ نامَ فانْتَزَعَ اللَّهُ تَعالى أحَدَ أضْلاعِهِ القُصْرى مِن شِمالِهِ. وقِيلَ: مِن يَمِينِهِ، فَخَلَقَ مِنها حَوّاءَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُعَضِّدُ هَذا القَوْلَ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ في قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: (إنَّ المَرْأةَ خُلِقَتْ مِن ضِلْعٍ أعْوَجَ، فَإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُها كَسَرْتَها وكَسْرُها طَلاقُها) . انْتَهى. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلى جِهَةِ التَّمْثِيلِ لِاضْطِرابِ أخْلاقِهِنَّ، وكَوْنِهِنَّ لا يَثْبُتْنَ عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ، أيْ: صَعْباتُ المِراسِ، فَهي كالضِّلْعِ العَوْجاءِ كَما جاءَ
﴿خُلِقَ الإنْسانُ مِن عَجَلٍ﴾ [الأنبياء: ٣٧] . ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: إنَّ المَرْأةَ، فَأتى بِالجِنْسِ ولَمْ يَقُلْ: إنَّ حَوّاءَ. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: وخَلَقَ مِن جِنْسِها زَوْجَها، قالَهُ ابْنُ بَحْرٍ وأبُو مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ:
﴿مِن أنْفُسِكم أزْواجًا﴾ [النحل: ٧٢] و
﴿رَسُولًا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩] . قالَ القاضِي: الأوَّلُ أقْوى، إذْ لَوْ كانَتْ حَوّاءُ مَخْلُوقَةً ابْتِداءً لَكانَ النّاسُ مَخْلُوقِينَ مِن نَفْسَيْنِ لا مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ. ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ كَلِمَةَ (مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ، فَلَمّا كانَ ابْتِداءُ الخَلْقِ وقَعَ بِآدَمَ، صَحَّ أنْ يُقالَ
﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ . ولَمّا كانَ قادِرًا عَلى خَلْقِ آدَمَ مِنَ التُّرابِ كانَ قادِرًا عَلى خَلْقِ حَوّاءَ أيْضًا كَذَلِكَ. وقِيلَ: لا حَذْفَ، والضَّمِيرُ في (مِنها)، لَيْسَ عائِدًا عَلى نَفْسٍ، بَلْ هو عائِدٌ عَلى الطِّينَةِ الَّتِي فُصِلَتْ عَنْ طِينَةِ آدَمَ. وخُلِقَتْ مِنها حَوّاءُ، أيْ أنَّها خُلِقَتْ مِمّا خُلِقَ مِنهُ آدَمُ. وظاهِرُ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ ومَن تَقَدَّمَ: أنَّها خُلِقَتْ وآدَمُ في الجَنَّةِ، وبِهِ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وقِيلَ: قَبْلَ دُخُولِهِ الجَنَّةَ، وبِهِ قالَ كَعْبُ الأحْبارِ، ووَهْبٌ، وابْنُ إسْحاقَ. وجاءَتِ الواوُ في عَطْفِ هَذِهِ الصِّلَةِ عَلى أحَدِ مَحامِلِها، مِن أنَّ خَلْقَ حَوّاءَ كانَ قَبْلَ خَلْقِ النّاسِ. إذِ الواوُ لا تَدُلُّ عَلى تَرْتِيبٍ زَمانِيٍّ كَما تَقَرَّرَ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ، وإنَّما تَقَدَّمَ ذِكْرُ الصِّلَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِخَلْقِ النّاسِ، وإنْ كانَ مَدْلُولُها واقِعًا بَعْدَ خَلْقِ حَوّاءَ؛ لِأجْلِ أنَّهُمُ المُنادَوْنَ المَأْمُورُونَ بِتَقْوى رَبِّهِمْ. فَكانَ ذِكْرُ ما تَعَلَّقَ بِهِمْ أوَّلًا آكَدَ، ونَظِيرُهُ:
﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١] ومَعْلُومٌ أنَّ خَلْقَهم تَأخَّرَ عَنْ خَلْقِ مَن قَبْلَهم. ولَكِنَّهم لَمّا كانُوا هُمُ المَأْمُورِينَ بِالعِبادَةِ والمُنادَيْنَ لِأجْلِها، اعْتَنى بِذِكْرِ التَّنْبِيهِ عَلى إنْشائِهِمْ أوَّلًا، ثُمَّ ذَكَرَ إنْشاءَ مَن كانَ قَبْلَهم. وقَدْ تَكَلَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ في إقْرارِ ما عُطِفَ بِالواوِ مُتَأخِّرًا عَنْ ما عُطِفَ عَلَيْهِ، فَقَدَّرَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ مَحْذُوفًا مُتَقَدِّمًا عَلى المَعْطُوفِ في الزَّمانِ، فَقالَ: يُعْطَفُ عَلى مَحْذُوفٍ كَأنَّهُ قِيلَ: مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ أنْشَأها أوِ ابْتَدَأها وخَلَقَ مِنها زَوْجَها، وإنَّما حُذِفَ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ. والمَعْنى: شُعَبُكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ هَذِهِ صِفَتُها، وهي أنَّهُ أنْشَأها مِن تُرابٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها حَوّاءَ مِن ضِلْعٍ مِن أضْلاعِها. ولا حاجَةَ إلى تَكَلُّفِ هَذا الوَجْهِ مَعَ مَساغِ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ عَلى ما اقْتَضَتْهُ العَرَبِيَّةُ. وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الوَجْهَ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقالَ: يُعْطَفُ عَلى (خَلَقَكم) . ويَكُونُ الخِطابُ في:
﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . والمَعْنى: خَلَقَكم مِن نَفْسِ آدَمَ؛ لِأنَّهم مِن جُمْلَةِ الجِنْسِ المُفَرَّعِ مِنهُ، وخَلَقَ مِنها أُمَّكم حَوّاءَ. انْتَهى. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:
﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ مَعْطُوفًا عَلى اسْمِ الفاعِلِ الَّذِي هو
﴿واحِدَةٍ﴾ التَّقْدِيرُ مِن نَفْسٍ وحَدَتْ، أيِ انْفَرَدَتْ. وخَلَقَ مِنها زَوْجَها، فَيَكُونُ نَظِيرَ
﴿صافّاتٍ ويَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩] وتَقُولُ العَرَبُ: وحَدَ يَحِدُ وحْدًا ووَحْدَةً، بِمَعْنى انْفَرَدَ.
ومِن غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أنَّهُ عَنى بِالنَّفْسِ الرُّوحَ المَذْكُورَةَ فِيما قِيلَ أنَّهُ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الأرْواحَ قَبْلَ الأجْسامِ بِكَذا وكَذا سَنَةً) وعَنى بِزَوْجِها البَدَنَ، وعَنى بِالخَلْقِ التَّرْكِيبَ. وإلى نَحْوِهِ أشارَ بِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ومِن كُلِ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: ٤٩] وقَوْلِهِ:
﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ ومِن أنْفُسِهِمْ﴾ [يس: ٣٦] ولا يَصِحُّ ذَلِكَ في النَّباتِ إلّا عَلى مَعْنى التَّرْكِيبِ. وبَدَأ بِذِكْرِ الزَّوْجَيْنِ والأزْواجِ في الأشْياءِ عَلى أنَّها لا تَنْفَكُّ مِن تَرْكِيبٍ، والواحِدُ في الحَقِيقَةِ لَيْسَ إلّا اللَّهُ تَعالى. انْتَهى. وهَذا مُخالِفٌ لِكَلامِ المُتَقَدِّمِينَ، قالَ بَعْضُهم: ونَبَّهَ بِقَوْلِهِ:
﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ عَلى نَقْصِها وكَمالِها، لِكَوْنِها بَعْضَهُ.
﴿وبَثَّ مِنهُما﴾ أيْ مِن تِلْكَ النَّفْسِ وزَوْجِها، أيْ: نَشَرَ وفَرَّقَ في الوُجُودِ. ويُقالُ: أبَثُّ اللَّهُ الخَلْقَ، رُباعِيًّا، وبَثَّ، ثُلاثِيًّا، وهو الوارِدُ في القُرْآنِ
﴿رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً﴾ قِيلَ: نَكَّرَ لِما في التَّنْكِيرِ مِنَ الشُّيُوعِ ولَمْ يَكْتَفِ بِالشُّيُوعِ حَتّى صَرَّحَ بِالكَثْرَةِ وقَدَّمَ الرِّجالِ لِفَضْلِهِمْ عَلى النِّساءِ، وخَصَّ
﴿رِجالًا﴾ بِذِكْرِ الوَصْفِ بِالكَثْرَةِ، فَقِيلَ: حَذَفَ وصْفَ الثّانِي لِدَلالَةِ وصْفِ الأوَّلِ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: ونِساءً كَثِيرَةً. وقِيلَ: لا يُقَدَّرُ الوَصْفُ وإنْ كانَ المَعْنى فِيهِ صَحِيحًا، لِأنَّهُ نَبَّهَ بِخُصُوصِيَّةِ الرِّجالِ بِوَصْفِ الكَثْرَةِ، عَلى أنَّ اللّائِقَ بِحالِهِمُ الِاشْتِهارُ والخُرُوجُ والبُرُوزُ، واللّائِقَ بِحالِ النِّساءِ الخُمُولُ والِاخْتِفاءُ. وفي تَنْوِيعِ ما خَلَقَ مِن آدَمَ وحَوّاءَ إلى رِجالٍ ونِساءٍ دَلِيلٌ عَلى انْتِفاءِ الخُنْثى، إذْ حَصَرَ ما خَلَقَ في هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، فَإنْ وُجِدَ ما ظاهِرُهُ الإشْكالُ فَلا بُدَّ مِن صَيْرُورَتِهِ إلى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. وقُرِئَ: (وخالِقٌ مِنها زَوْجَها وباثٌّ) عَلى اسْمِ الفاعِلِ، وهو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وهو خالِقٌ.
* * *﴿واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ كَرَّرَ الأمْرَ بِالتَّقْوى تَأْكِيدًا لِلْأوَّلِ. وقِيلَ: لِاخْتِلافِ التَّعْلِيلِ وذَكَرَ أوَّلًا (الرَّبَّ) الَّذِي يَدُلُّ عَلى الإحْسانِ والتَّرْبِيَةِ، وثانِيًا (اللَّهَ) الَّذِي يَدُلُّ عَلى القَهْرِ والهَيْبَةِ. بَنى أوَّلًا عَلى التَّرْغِيبِ، وثانِيًا عَلى التَّرْهِيبِ. كَقَوْلِهِ:
﴿يَدْعُونَ رَبَّهم خَوْفًا وطَمَعًا﴾ [السجدة: ١٦] و
﴿يَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠] كَأنَّهُ قالَ: إنَّهُ رَبُّكَ أحْسَنَ إلَيْكَ فاتَّقِ مُخالَفَتَهُ، فَإنْ لَمْ تَتَّقِهِ لِذَلِكَ فاتَّقِهِ لِأنَّهُ شَدِيدُ العِقابِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ مِنَ السَّبْعَةِ: (تَسّاءَلُونَ) . وقَرَأ الكُوفِيُّونَ: بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وأصْلُهُ تَتَساءَلُونَ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذَلِكَ لِأنَّهم حَذَفُوا التّاءَ الثّانِيَةَ تَخْفِيفًا، وهَذِهِ تاءُ تَتَفاعَلُونَ تُدْغَمُ في لُغَةٍ وتُحْذَفُ في أُخْرى لِاجْتِماعِ حُرُوفٍ مُتَقارِبَةٍ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وإذا اجْتَمَعَتِ المُتَقارِبَةُ خُفِّفَتْ بِالحَذْفِ والإدْغامِ والإبْدالِ، كَما قالُوا: طَسْتٌ فَأبْدَلُوا مِنَ السِّينِ الواحِدَةِ تاءً، إذِ الأصْلُ طَسٌّ. قالَ العَجّاجُ:
لَوْ عَرَضَتْ لِأسْقُفِيٍّ قَسِّ أشْعَثَ في هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ
حَنَّ إلَيْها كَحَنِينِ الطَّسِّ
انْتَهى. أمّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: حَذَفُوا التّاءَ الثّانِيَةَ، فَهَذا مَذْهَبُ أهْلِ البَصْرَةِ. وذَهَبَ هِشامُ بْنُ مُعاوِيَةَ الضَّرِيرُ الكُوفِيُّ: إلى أنَّ المَحْذُوفَةَ هي الأُولى، وهي تاءُ المُضارَعَةِ، وهي مَسْألَةُ خِلافٍ ذُكِرَتْ دَلائِلُها فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وأمّا قَوْلُهُ: وهَذِهِ تاءُ تَتَفاعَلُونَ تُدْغَمُ في لُغَةٍ وتُحْذَفُ في أُخْرى، كانَ يَنْبَغِي أنْ يُنَبِّهَ عَلى الإثْباتِ، إذْ يَجُوزُ الإثْباتُ وهو الأصْلُ، والإدْغامُ وهو قَرِيبٌ مِنَ الأصْلِ، إذْ لَمْ يَذْهَبِ الحَرْفُ إلّا بِأنْ أُبْدِلَ مِنهُ مُماثِلُ ما بَعْدَهُ وأُدْغِمَ. والحَذْفُ لِاجْتِماعِ المِثْلَيْنِ، وظاهِرُ كَلامِهِ اخْتِصاصُ الإدْغامِ والحَذْفِ بِـ (تَتَفاعَلُونَ) ولَيْسَ كَذَلِكَ. أمّا الإدْغامُ فَلا يَخْتَصُّ بِهِ، بَلْ ذَلِكَ في الأمْرِ والمُضارِعِ والماضِي واسْمِ الفاعِلِ واسْمِ المَفْعُولِ والمَصْدَرِ. وأمّا الحَذْفُ فَيَخْتَصُّ بِما دَخَلَتْ عَلَيْهِ التّاءُ مِنَ المُضارِعِ، فَقَوْلُهُ: لِاجْتِماعِ حُرُوفٍ مُتَقارِبَةٍ - ظاهِرُهُ تَعْلِيلُ الحَذْفِ فَقَطْ لِقُرْبِهِ، أوْ تَعْلِيلُ الحَذْفِ والإدْغامِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ. أمّا إنْ كانَ تَعْلِيلًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الحَذْفُ عِلَّةُ اجْتِماعٍ مُتَماثِلَةٌ لا مُتَقارِبَةٌ. وأمّا إنْ كانَ تَعْلِيلًا لَهُما فَيَصِحُّ الإدْغامُ لا الحَذْفُ كَما ذَكَرْنا.
وأمّا قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ: إذا اجْتَمَعَتِ المُتَقارِبَةُ فَكَذا، فَلا يَعْنِي أنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ لازِمٌ، إنَّما مَعْناهُ: أنَّهُ قَدْ يَكُونُ التَّخْفِيفُ بِكَذا، فَكَمْ وُجِدَ مِنِ اجْتِماعِ مُتَقارِبَةٍ لَمْ يُخَفَّفْ لا بِحَذْفٍ ولا إدْغامٍ ولا بَدَلٍ. وأمّا تَمْثِيلُهُ بِطَسْتٍ في طَسٍّ فَلَيْسَ البَدَلُ هُنا لِاجْتِماعٍ، بَلْ هَذا مِنِ اجْتِماعِ المِثْلَيْنِ كَقَوْلِهِمْ في لِصٍّ لَصْتٌ.
ومَعْنى يَتَساءَلُونَ بِهِ: أيْ يَتَعاطَوْنَ بِهِ السُّؤالَ، فَيَسْألُ بَعْضُكم بَعْضًا. أوْ يَقُولُ: أسْألُكَ بِاللَّهِ أنْ تَفْعَلَ، وظاهِرُ تَفاعَلَ الِاشْتِراكُ، أيْ: تَسْألُهُ بِاللَّهِ، ويَسْألُكَ بِاللَّهِ. وقالَتْ طائِفَةٌ: مَعْناهُ تَسْألُونَ بِهِ حُقُوقَكم وتَجْعَلُونَهُ مُعَظَّمًا لَها. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: (تَسْألُونَ بِهِ) مُضارِعَ (سَألَ) الثُّلاثِيِّ. وقُرِئَ: (تَسَلُونَ) بِحَذْفِ الهَمْزَةِ ونَقْلِ حَرَكَتِها إلى السِّينِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَعْنى
﴿تَساءَلُونَ بِهِ﴾ أيْ: تَتَعاطَفُونَ. وقالَ الضَّحّاكُ والرَّبِيعُ: تَتَعاقَدُونَ وتَتَعاهَدُونَ.
وقالَ الزَّجّاجُ: تَتَطَلَّبُونَ بِهِ حُقُوقَكم.
﴿والأرْحامَ﴾، قَرَأ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ بِنَصْبِ المِيمِ.
وقَرَأ حَمْزَةُ: بِجَرِّها، وهي قِراءَةُ النَّخَعِيِّ وقَتادَةَ والأعْمَشِ.
وقَرَأ الأعْمَشِ بْنُ يَزِيدَ: بِضَمِّها، فَأمّا النَّصْبُ فَظاهِرُهُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى لَفْظِ الجَلالَةِ، ويَكُونَ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: واتَّقُوا اللَّهَ، وقَطْعَ الأرْحامِ. وعَلى هَذا المَعْنى فَسَّرَها ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ وغَيْرُهم.
والجامِعُ بَيْنَ تَقْوى اللَّهِ وتَقْوى الأرْحامِ هَذا القَدْرُ المُشْتَرَكُ، وإنِ اخْتَلَفَ مَعْنى التَّقَوَيَيْنِ؛ لِأنَّ تَقْوى اللَّهِ بِالتِزامِ طاعَتِهِ واجْتِنابِ مَعاصِيهِ، واتِّقاءَ الأرْحامِ بِأنْ تُوصَلَ ولا تُقْطَعَ فِيما يَفْضُلُ بِالبِرِّ والإحْسانِ، وبِالحَمْلِ عَلى القَدْرِ المُشْتَرَكِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ القاضِي: كَيْفَ يُرادُ بِاللَّفْظِ الواحِدِ المَعانِي المُخْتَلِفَةُ ؟ ونَقُولُ أيْضًا: إنَّهُ في الحَقِيقَةِ مِن بابِ عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ، لِأنَّ المَعْنى: واتَّقَوُا اللَّهَ، أيِ اتَّقُوا مُخالَفَةَ اللَّهِ. وفي عَطْفِ الأرْحامِ عَلى اسْمِ اللَّهِ دَلالَةٌ عَلى عِظَمِ ذَنْبِ قَطْعِ الرَّحِمِ، وانْظُرْ إلى قَوْلِهِ:
﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا وذِي القُرْبى﴾ [البقرة: ٨٣] كَيْفَ قَرَنَ ذَلِكَ بِعِبادَةِ اللَّهِ في أخْذِ المِيثاقِ.
وفِي الحَدِيثِ: (مَن أبِرُّ ؟ قالَ: أمَّكَ) وفِيهِ: (أنْتَ ومالُكَ لِأبِيكَ)، وقالَ تَعالى في ذَمِّ مَن أضَلَّهُ مِنَ الفاسِقِينَ
﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ﴾ [البقرة: ٢٧] . وقِيلَ: النَّصْبُ عَطْفًا عَلى مَوْضِعِ (بِهِ) كَما تَقُولُ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وعَمْرًا. لَمّا لَمْ يُشارِكْهُ في الإتْباعِ عَلى اللَّفْظِ أُتْبِعَ عَلى مَوْضِعِهِ. ويُؤَيِّدُ هَذا القَوْلَ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: (تَساءَلُونَ بِهِ وبِالأرْحامِ) . أمّا الرَّفْعُ فَوُجِّهَ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: والأرْحامُ أهْلٌ أنْ تُوصَلَ. وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: والأرْحامُ مِمّا يُتَّقى، أوْ مِمّا يُتَساءَلُ بِهِ، وتَقْدِيرُهُ أحْسَنُ مِن تَقْدِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ، إذْ قَدَّرَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ السّابِقُ، وابْنُ عَطِيَّةَ قَدَّرَ مِنَ المَعْنى. وأمّا الجَرُّ فَظاهِرُهُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى المُضْمَرِ المَجْرُورِ مِن غَيْرِ إعادَةِ الجارِّ، وعَلى هَذا فَسَّرَها الحَسَنُ والنَّخَعِيُّ ومُجاهِدٌ. ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: (وبِالأرْحامِ) . وكانُوا يَتَناشَدُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ والرَّحِمِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَيْسَ بِسَدِيدٍ، يَعْنِي الجَرَّ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ. قالَ: لِأنَّ الضَّمِيرَ المُتَّصِلَ مُتَّصِلٌ كاسْمِهِ، والجارَّ والمَجْرُورَ كَشَيْءٍ واحِدٍ، فَكانا في قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهِ وزَيْدٍ، وهَذا غُلامُهُ وزَيْدٍ - شَدِيدِي الِاتِّصالِ، فَلَمّا اشْتَدَّ الِاتِّصالُ لِتَكَرُّرِهِ اشْتَبَهَ العَطْفُ عَلى بَعْضِ الكَلِمَةِ فَلَمْ يُجَرَّ، ووَجَبَ تَكْرِيرُ العامِلِ كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهِ وبِزَيْدٍ، وهَذا غُلامُهُ وغُلامُ زَيْدٍ. ألا تَرى إلى صِحَّةِ رَأيْتُكَ وزَيْدًا، ومَرَرْتُ بِزَيْدٍ وعَمْرٍو، لَمّا لَمْ يَقْوَ الِاتِّصالُ لِأنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ ؟ وقَدْ تَمَحَّلَ لِصِحَّةِ هَذِهِ القِراءَةِ بِأنَّها عَلى تَقْدِيرِ تَكْرِيرِ الجارِّ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُ الشّاعِرِ:
فَما بِكَ والأيّامِ مِن عَجَبِ
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ القِراءَةُ عِنْدَ رُؤَساءِ نَحْوِيِّي البَصْرَةِ لا تَجُوزُ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ عِنْدَهم أنْ يُعْطَفَ ظاهِرٌ عَلى مُضْمَرٍ مَخْفُوضٍ. قالَ الزَّجّاجُ عَنِ المازِنِيِّ: لِأنَّ المَعْطُوفَ والمَعْطُوفَ عَلَيْهِ شَرِيكانِ، يَحِلُّ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مَحَلَّ صاحِبِهِ. فَكَما لا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وكَ، فَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ مَرَرْتُ بِكَ وزَيْدٍ. وأمّا سِيبَوَيْهِ فَهي عِنْدَهُ قَبِيحَةٌ لا تَجُوزُ إلّا في الشِّعْرِ كَما قالَ:
فاليَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُونا وتَشْتُمُنا ∗∗∗ فاذْهَبْ فَما بِكَ والأيّامِ مِن عَجَبِ
وكَما قالَ:
تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوارِي سُيُوفُنا ∗∗∗ وما بَيْنَها والكَفُّ غَوْطٌ تَعانَفُ
واسْتَسْهَلَها بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ. انْتَهى كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ. وتَعْلِيلُ المازِنِيِّ مُعْتَرَضٌ بِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ تَقُولَ: رَأيْتُكَ وزَيْدًا، ولا يَجُوزُ رَأيْتُ زَيْدًا وكَ، فَكانَ القِياسُ رَأيْتُكَ وزَيْدًا - أنْ لا يَجُوزَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أيْضًا: المُضْمَرُ المَخْفُوضُ لا يَنْفَصِلُ، فَهو كَحَرْفٍ مِنَ الكَلِمَةِ، ولا يُعْطَفُ عَلى حَرْفٍ.
ويَرُدُّ عِنْدِي هَذِهِ القِراءَةَ مِنَ المَعْنى وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّ ذِكْرَ الأرْحامِ مِمّا تَساءَلَ بِهِ لا مَعْنى لَهُ في الحَضِّ عَلى تَقْوى اللَّهِ تَعالى، ولا فائِدَةَ فِيهِ أكْثَرَ مِنَ الإخْبارِ بِأنَّ الأرْحامَ يُتَساءَلُ بِها، وهَذا تَفْرِيقٌ في مَعْنى الكَلامِ وغَضٌّ مِن فَصاحَتِهِ، وإنَّما الفَصاحَةُ في أنْ تَكُونَ في ذِكْرِ الأرْحامِ فائِدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ في ذِكْرِها عَلى ذَلِكَ تَقْدِيرَ التَّساؤُلِ بِها والقَسَمِ بِحُرْمَتِها، والحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَرُدُّ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: (مَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أوْ لِيَصْمُتْ) انْتَهى كَلامُهُ. وذَهَبَتْ طائِفَةٌ إلى أنَّ الواوَ في
﴿والأرْحامَ﴾ واوُ القَسَمِ لا واوُ العَطْفِ، والمُتَلَقّى بِهِ القَسَمُ هي الجُمْلَةُ بَعْدَهُ. ولِلَّهِ تَعالى أنْ يُقْسِمَ بِما شاءَ مِن مَخْلُوقاتِهِ عَلى ما جاءَ في غَيْرِ ما آيَةٍ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، وذَهَبُوا إلى تَخْرِيجِ ذَلِكَ فِرارًا مِنَ العَطْفِ عَلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ بِغَيْرِ إعادَةِ الجارِّ، وذَهابًا إلى أنَّ في القَسَمِ بِها تَنْبِيهًا عَلى صِلَتِها وتَعْظِيمًا لِشَأْنِها، وأنَّها مِنَ اللَّهِ تَعالى بِمَكانٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلٌ يَأْباهُ نَظْمُ الكَلامِ وسِرُّهُ. انْتَهى. وما ذَهَبَ إلَيْهِ أهْلُ البَصْرَةِ وتَبِعَهم فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ: مِنِ امْتِناعِ العَطْفِ عَلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ إلّا بِإعادَةِ الجارِّ، ومِنِ اعْتِلالِهِمْ لِذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلِ الصَّحِيحُ مَذْهَبُالكُوفِيِّينَ في ذَلِكَ وأنَّهُ يَجُوزُ. وقَدْ أطَلْنا الِاحْتِجاجَ في ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ٢١٧] . وذَكَرْنا ثُبُوتَ ذَلِكَ في لِسانِ العَرَبِ نَثْرِها ونَظْمِها، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا.
وأمّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: ويَرُدُّ عِنْدِي هَذِهِ القِراءَةَ مِنَ المَعْنى وجْهانِ، فَجَسارَةٌ قَبِيحَةٌ مِنهُ لا تَلِيقُ بِحالِهِ ولا بِطَهارَةِ لِسانِهِ؛ إذْ عَمَدَ إلى قِراءَةٍ مُتَواتِرَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَرَأ بِها سَلَفُ الأُمَّةِ، واتَّصَلَتْ بِأكابِرِ قُرّاءِ الصَّحابَةِ الَّذِينَ تَلَقَّوُا القُرْآنَ مِن في رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِغَيْرِ واسِطَةٍ: عُثْمانَ وعَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وزَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، وأقْرَأِ الصَّحابَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - عَمَدَ إلى رَدِّها بِشَيْءٍ خَطَرَ لَهُ في ذِهْنِهِ، وجَسارَتُهُ هَذِهِ لا تَلِيقُ إلّا بِالمُعْتَزِلَةِ كَ الزَّمَخْشَرِيِّ، فَإنَّهُ كَثِيرًا ما يَطْعَنُ في نَقْلِ القُرّاءِ وقِراءَتِهِمْ. وحَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخَذَ القُرْآنَ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ مِهْرانَ الأعْمَشِ، وحُمْرانَ بْنِ أعْيَنَ، ومُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى، وجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصّادِقِ، ولَمْ يَقْرَأْ حَمْزَةُ حَرْفًا مِن كِتابِ اللَّهِ إلّا بِأثَرٍ. وكانَ حَمْزَةُ صالِحًا ورِعًا ثِقَةً في الحَدِيثِ، وهو مِنَ الطَّبَقَةِ الثّالِثَةِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمانِينَ وأحْكَمَ القِراءَةَ ولَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وأمَّ النّاسَ سَنَةَ مِائَةٍ، وعَرَضَ عَلَيْهِ القُرْآنَ مِن نُظَرائِهِ جَماعَةٌ، مِنهم: سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ، والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ. ومِن تَلامِيذِهِ جَماعَةٌ، مِنهم إمامُ الكُوفَةِ في القِراءَةِ والعَرَبِيَّةِ أبُو الحَسَنِ الكِسائِيُّ. وقالَ الثَّوْرِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ ويَحْيى بْنُ آدَمَ: غَلَبَ حَمْزَةُ النّاسَ عَلى القُرْآنِ والفَرائِضِ. وإنَّما ذَكَرْتُ هَذا وأطَلْتُ فِيهِ لِئَلّا يَطَّلِعَ غَمْرٌ عَلى كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ وابْنِ عَطِيَّةَ في هَذِهِ القِراءَةِ فَيُسِيءَ ظَنًّا بِها وبِقارِئِها، فَيُقارِبَ أنْ يَقَعَ في الكُفْرِ بِالطَّعْنِ في ذَلِكَ. ولَسْنا مُتَعَبَّدِينَ بِقَوْلِ نُحاةِ البَصْرَةِ ولا غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خالَفَهم، فَكَمْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِنَقْلِ الكُوفِيِّينَ مِن كَلامِ العَرَبِ لَمْ يَنْقُلْهُ البَصْرِيُّونَ، وكَمْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِنَقْلِ البَصْرِيِّينَ لَمْ يَنْقُلْهُ الكُوفِيُّونَ، وإنَّما يَعْرِفُ ذَلِكَ مَن لَهُ اسْتِبْحارٌ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ، لا أصْحابُ الكَنانِيسِ المُشْتَغِلُونَ بِضُرُوبٍ مِنَ العُلُومِ الآخِذُونَ عَنِ الصُّحُفِ دُونَ الشُّيُوخِ.
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكم رَقِيبًا﴾ لا يُرادُ بِـ (كانَ) تَقْيِيدُ الخَبَرِ بِالمُخْبَرِ عَنْهُ في الزَّمانِ الماضِي المُنْقَطِعِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، وإنْ كانَ مَوْضُوعُ (كانَ) ذَلِكَ، بَلِ المَعْنى عَلى الدَّيْمُومَةِ، فَهو تَعالى رَقِيبٌ في الماضِي وغَيْرِهِ عَلَيْنا، والرَّقِيبُ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ في المُفْرَداتِ. وقالَ بَعْضُهم: هُنا هو العَلِيمُ، والمَعْنى: أنَّهُ مُراعٍ لَكم لا يَخْفى عَلَيْهِ مِن أمْرِكم شَيْءٌ فاتَّقُوهُ