الباحث القرآني
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكم هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكم فَتابَ عَلَيْكم وعَفا عَنْكم فالآنَ باشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكم وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى﴾ (p-٨٨)﴿يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾
فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ في أوَّلِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ كانَ الصّائِمُ إذا أفْطَرَ حَلَّ لَهُ الأكْلُ والشُّرْبُ والوِقاعُ بِشَرْطِ أنْ لا يَنامَ وأنْ لا يُصَلِّيَ العِشاءَ الأخِيرَةَ، فَإذا فَعَلَ أحَدَهُما حَرُمَ عَلَيْهِ هَذِهِ الأشْياءُ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى نَسَخَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ هَذِهِ الحُرْمَةُ ما كانَتْ ثابِتَةً في شَرْعِنا البَتَّةَ، بَلْ كانَتْ ثابِتَةً في شَرْعِ النَّصارى، واللَّهُ تَعالى نَسَخَ بِهَذِهِ الآيَةِ ما كانَ ثابِتًا في شَرْعِهِمْ، وجَرى فِيهِ عَلى مَذْهَبِهِ مِن أنَّهُ لَمْ يَقَعْ في شَرْعِنا نَسْخٌ البَتَّةَ، واحْتَجَّ الجُمْهُورُ عَلى قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ:
الحُجَّةُ الأُولى: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣] يَقْتَضِي تَشْبِيهَ صَوْمِنا بِصَوْمِهِمْ، وقَدْ كانَتْ هَذِهِ الحُرْمَةُ ثابِتَةً في صَوْمِهِمْ، فَوَجَبَ بِحُكْمِ هَذا التَّشْبِيهِ أنْ تَكُونَ ثابِتَةً أيْضًا في صَوْمِنا، وإذا ثَبَتَ أنَّ الحُرْمَةَ كانَتْ ثابِتَةً في شَرْعِنا، وهَذِهِ الآيَةُ ناسِخَةٌ لِهَذِهِ الحُرْمَةِ لَزِمَ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ ناسِخَةً لِحُكْمٍ كانَ ثابِتًا في شَرْعِنا.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ ولَوْ كانَ هَذا الحِلُّ ثابِتًا لِهَذِهِ الأُمَّةِ مِن أوَّلِ الأمْرِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ فائِدَةٌ.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾، ولَوْ كانَ ذَلِكَ حَلالًا لَهم لَما كانَ بِهِمْ حاجَةٌ إلى أنْ يَخْتانُونَ أنْفُسَهم.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْكم وعَفا عَنْكُمْ﴾، ولَوْلا أنَّ ذَلِكَ كانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ وأنَّهم أقْدَمُوا عَلى المَعْصِيَةِ بِسَبَبِ الإقْدامِ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ، لَما صَحَّ قَوْلُهُ: ﴿فَتابَ عَلَيْكم وعَفا عَنْكُمْ﴾ .
الحُجَّةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾، ولَوْ كانَ الحِلُّ ثابِتًا قَبْلَ ذَلِكَ كَما هو الآنَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ فائِدَةً.
الحُجَّةُ السّادِسَةُ: هي أنَّ الرِّواياتِ المَنقُولَةَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ دالَّةٌ عَلى أنَّ هَذِهِ الحُرْمَةَ كانَتْ ثابِتَةً في شَرْعِنا، هَذا مَجْمُوعُ دَلائِلِ القائِلِينَ بِالنَّسْخِ.
أجابَ أبُو مُسْلِمٍ عَنْ هَذِهِ الدَّلائِلِ فَقالَ:
أمّا الحُجَّةُ الأُولى: فَضَعِيفَةٌ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ تَشْبِيهَ الصَّوْمِ بِالصَّوْمِ يَكْفِي في صِدْقِهِ مُشابَهَتُهُما في أصْلِ الوُجُوبِ.
وأمّا الحُجَّةُ الثّانِيَةُ فَضَعِيفَةٌ أيْضًا لِأنّا نُسَلِّمُ أنَّ هَذِهِ الحُرْمَةَ كانَتْ ثابِتَةً في شَرْعِ مَن قَبْلَنا، فَقَوْلُهُ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ مَعْناهُ أنَّ الَّذِي كانَ مُحَرَّمًا عَلى غَيْرِكم فَقَدْ أُحِلُّ لَكم.
وأمّا الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: فَضَعِيفٌ أيْضًا؛ وذَلِكَ لِأنَّ تِلْكَ الحُرْمَةَ كانَتْ ثابِتَةً في شَرْعِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَبَ عَلَيْنا الصَّوْمَ، ولَمْ يُبَيِّنْ في ذَلِكَ الإيجازِ زَوالَ تِلْكَ الحُرْمَةِ فَكانَ يَخْطُرُ بِبالِهِمْ أنَّ تِلْكَ الحُرْمَةَ كانَتْ ثابِتَةً في الشَّرْعِ المُتَقَدِّمِ، ولَمْ يُوجَدْ في شَرْعِنا ما دَلَّ عَلى زَوالِها فَوَجَبَ القَوْلُ بِبَقائِها، ثُمَّ تَأكَّدَ هَذا الوَهْمُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾، فَإنَّ مُقْتَضى التَّشْبِيهِ حُصُولُ (p-٨٩)المُشابِهَةِ في كُلِّ الأُمُورِ، فَلَمّا كانَتْ هَذِهِ الحُرْمَةُ ثابِتَةً في الشَّرْعِ المُتَقَدِّمِ وجَبَ أنْ تَكُونَ ثابِتَةً في هَذا الشَّرْعِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ حُجَّةً قَوِيَّةً إلّا أنَّها لا أقَلَّ مِن أنْ تَكُونَ شُبْهَةً مُوهِمَةً؛ فَلِأجْلِ هَذِهِ الأسْبابِ كانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقاءَ تِلْكَ الحُرْمَةِ في شَرْعِنا، فَلا جَرَمَ شَدَّدُوا وأمْسَكُوا عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ؛ فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ وأرادَ بِهِ تَعالى النَّظَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّخْفِيفِ لَهم بِما لَوْ لَمْ تَتَبَيَّنِ الرُّخْصَةُ فِيهِ لَشَدَّدُوا وأمْسَكُوا عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ ونَقَصُوا أنْفُسَهم مِنَ الشَّهْوَةِ، ومَنَعُوها مِنَ المُرادِ، وأصْلُ الخِيانَةِ النَّقْصُ، وخانَ واخْتانَ وتَخَوَّنُ بِمَعْنًى واحِدٍ، كَقَوْلِهِمْ: كَسَبَ واكْتَسَبَ وتَكَسَّبُ، فالمُرادُ مِنَ الآيَةِ: عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكم إحْلالُ الأكْلِ والشُّرْبِ والمُباشَرَةِ طُولَ اللَّيْلِ أنَّكم كُنْتُمْ تَنْقُصُونَ أنْفُسَكم شَهَواتِها وتَمْنَعُونَها لَذّاتِها ومَصْلَحَتِها بِالإمْساكِ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ النَّوْمِ كَسُنَّةِ النَّصارى.
وأمّا الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأنَّ التَّوْبَةَ مِنَ العِبادِ الرُّجُوعُ إلى اللَّهِ تَعالى بِالعِبادَةِ، ومِنَ اللَّهِ الرُّجُوعُ إلى العَبْدِ بِالرَّحْمَةِ والإحْسانِ، وأمّا العَفْوُ فَهو التَّجاوُزُ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى إنْعامَهُ عَلَيْنا بِتَخْفِيفِ ما جَعَلَهُ ثَقِيلًا عَلى مَن قَبْلَنا، كَقَوْلِهِ: ﴿ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧] .
وأمّا الحُجَّةُ الخامِسَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأنَّهم كانُوا بِسَبَبِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ مُمْتَنِعِينَ عَنِ المُباشَرَةِ، فَلَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ وأزالَ الشُّبْهَةَ فِيهِ لا جَرَمَ قالَ: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ .
وأمّا الحُجَّةُ السّادِسَةُ: فَضَعِيفَةٌ لِأنَّ قَوْلَنا: هَذِهِ الآيَةُ ناسِخَةٌ لِحُكْمٍ كانَ مَشْرُوعًا لا تَعَلُّقَ لَهُ بِبابِ العَمَلِ ولا يَكُونُ خَبَرُ الواحِدِ حُجَّةً فِيهِ، وأيْضًا فَفي الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى ضَعْفِ هَذِهِ الرِّواياتِ لِأنَّ المَذْكُورَ في تِلْكَ الرِّواياتِ أنَّ القَوْمَ اعْتَرَفُوا بِما فَعَلُوا عِنْدَ الرَّسُولِ، وذَلِكَ عَلى خِلافِ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ لِأنَّ ظاهِرَهُ هو المُباشَرَةُ، لِأنَّهُ افْتِعالٌ مِنَ الخِيانَةِ، فَهَذا حاصِلُ الكَلامِ في هَذِهِ المَسْألَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: القائِلُونَ بِأنَّ هَذِهِ الحُرْمَةَ كانَتْ ثابِتَةً في شَرْعِنا، ثُمَّ إنَّها نُسِخَتْ ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ كانَ في أوَّلِ الشَّرِيعَةِ يُحَلُّ الأكْلُ والشُّرْبُ والجِماعُ، ما لَمْ يَرْقُدِ الرَّجُلُ أوْ يُصَلِّ العِشاءَ الآخِرَةَ، فَإذا فَعَلَ أحَدُهُما حَرُمَ عَلَيْهِ هَذِهِ الأشْياءُ إلى اللَّيْلَةِ الآتِيَةِ، «فَجاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ عَشِيَّةً وقَدْ أجْهَدَهُ الصَّوْمُ، واخْتَلَفُوا في اسْمِهِ، فَقالَ مُعاذٌ: اسْمُهُ أبُو صِرْمَةَ، وقالَ البَراءُ: قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ، وقالَ الكَلْبِيُّ: أبُو قَيْسِ بْنُ صِرْمَةَ، وقِيلَ: صِرْمَةُ بْنُ أنَسٍ، فَسَألَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ سَبَبِ ضَعْفِهِ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ عَمِلْتُ في النَّخْلِ نَهارِي أجْمَعَ حَتّى أمْسَيْتُ فَأتَيْتُ أهْلِي لِتُطْعِمَنِي شَيْئًا فَأبْطَأتْ فَنِمْتُ فَأيْقَظُونِي، وقَدْ حَرُمَ الأكْلُ؛ فَقامَ عُمَرُ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أعْتَذِرُ إلَيْكَ مِن مِثْلِهِ؛ رَجَعْتُ إلى أهْلِي بَعْدَما صَلَّيْتُ العِشاءَ الآخِرَةَ، فَأتَيْتُ امْرَأتِي، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: لَمْ تَكُنْ جَدِيرًا بِذَلِكَ يا عُمَرُ ثُمَّ قامَ رِجالٌ فاعْتَرَفُوا بِالَّذِي صَنَعُوا فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ»﴾ .
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ ”أحَلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثَ“ أيْ أحَلَّ اللَّهُ وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ”الرُّفُوثُ“ .
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: لَيْلَةَ الصِّيامِ أرادَ لَيالِيَ الصِّيامِ فَوَقَعَ الواحِدُ مَوْقِعَ الجَماعَةِ، ومِنهُ قَوْلُ العَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ:
؎فَقُلْنا أسْلِمُوا إنّا أخُوكم فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإحَنِ الصُّدُورُ
(p-٩٠)وأقُولُ فِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِن ”لَيْلَةِ الصِّيامِ“ لَيْلَةً واحِدَةً، بَلِ المُرادُ الإشارَةُ إلى اللَّيْلَةِ المُضافَةِ إلى هَذِهِ الحَقِيقَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ اللَّيْثُ: الرَّفَثُ أصْلُهُ قَوْلُ الفُحْشِ، وأنْشَدَ الزَّجّاجُ:
؎ورُبَّ أسْرابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ عَنِ اللَّغا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ
يُقالُ: رَفَثَ في كَلامِهِ يَرْفُثُ وأرْفَثَ إذا تَكَلَّمَ بِالقَبِيحِ قالَ تَعالى: ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٧]، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ أنْشَدَ وهو مُحْرِمٌ:
؎وهُنَّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسًا ∗∗∗ إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا
فَقِيلَ لَهُ: أتَرْفُثُ ؟ فَقالَ: إنَّما الرَّفَثُ ما كانَ عِنْدَ النِّساءِ، فَثَبَتَ أنَّ الأصْلَ في الرَّفَثِ هو قَوْلُ الفُحْشِ ثُمَّ جُعِلَ ذَلِكَ اسْمًا لِما يُتَكَلَّمُ بِهِ عِنْدَ النِّساءِ مِن مَعانِيَ الإفْضاءِ، ثُمَّ جُعِلَ كِنايَةً عَنِ الجِماعِ وعَنْ كُلِّ ما يَتْبَعُهُ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ كَنّى هَهُنا عَنِ الجِماعِ بِلَفْظِ الرَّفَثِ الدّالِّ عَلى مَعْنى القُبْحِ بِخِلافِ قَوْلِهِ: ﴿وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١] ﴿فَلَمّا تَغَشّاها﴾ [الأعراف: ١٨٩] ﴿أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ﴾ [النساء: ٤٣]، ﴿دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٣]، ﴿مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٧] ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ [النساء: ٢٤] ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٢] .
جَوابُهُ: السَّبَبُ فِيهِ اسْتِهْجانُ ما وُجِدَ مِنهم قَبْلَ الإجابَةِ كَما سَمّاهُ اخْتِيانًا لِأنْفُسِهِمْ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ الأخْفَشُ: إنَّما عَدّى الرَّفَثَ بِإلى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الإفْضاءِ في قَوْلِهِ: ﴿وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١] .
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ﴾ يَقْتَضِي حُصُولَ الحِلِّ في جَمِيعِ اللَّيْلِ لِأنَّ ”لَيْلَةَ“ نُصِبَ عَلى الظَّرْفِ، وإنَّما يَكُونُ اللَّيْلُ ظَرْفًا لِلرَّفَثِ لَوْ كانَ اللَّيْلُ كُلُّهُ مَشْغُولًا بِالرَّفَثِ، وإلّا لَكانَ ظَرْفُ ذَلِكَ الرَّفَثِ بَعْضَ اللَّيْلِ لا كُلَّهُ، فَعَلى هَذا النَّسْخُ حَصَلَ بِهَذا اللَّفْظِ، وأمّا الَّذِي بَعْدَهُ في قَوْلِهِ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ﴾ فَذاكَ يَكُونُ كالتَّأْكِيدِ لِهَذا النَّسْخِ، وأمّا الَّذِي يَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ﴾ يُفِيدُ حِلَّ الرَّفَثِ في اللَّيْلِ، فَهَذا القَدْرُ لا يَقْتَضِي حُصُولَ النَّسْخِ بِهِ فَيَكُونُ النّاسِخُ هو قَوْلُهُ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ .
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَدْ ذَكَرْنا في تَشْبِيهِ الزَّوْجَيْنِ بِاللِّباسِ وُجُوهًا:
أحُدُها: أنَّهُ لَمّا كانَ الرَّجُلُ والمَرْأةُ يَعْتَنِقانِ، فَيَضُمُّ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما جِسْمَهُ إلى جِسْمِ صاحِبِهِ حَتّى يَصِيرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما لِصاحِبِهِ كالثَّوْبِ الَّذِي يَلْبَسُهُ، سُمِّيَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما لِباسًا. قالَ الرَّبِيعُ: هُنَّ فِراشٌ لَكم وأنْتُمْ لِحافٌ لَهُنَّ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾، يُرِيدُ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَسْتُرُ صاحِبَهُ عِنْدَ الجِماعِ عَنْ أبْصارِ النّاسِ.
وثانِيها: إنَّما سُمِّيَ الزَّوْجانِ لِباسًا لِيَسْتُرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما صاحِبَهُ عَمّا لا يَحِلُّ، كَما جاءَ في الخَبَرِ ”«مَن تَزَوَّجَ فَقَدْ أحْرَزَ ثُلُثَيْ دِينِهِ» “ .
وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى جَعَلَها لِباسًا لِلرَّجُلِ، مِن حَيْثُ إنَّهُ يَخُصُّها بِنَفْسِهِ، كَما يَخُصُّ لِباسَهُ بِنَفْسِهِ، ويَراها أهْلًا لِأنْ يُلاقِيَ كُلُّ بَدَنِهِ كُلَّ بَدَنِها كَما يَعْمَلُهُ في اللِّباسِ.
ورابِعُها: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ سَتْرُهُ بِها عَنْ (p-٩١)جَمِيعِ المَفاسِدِ الَّتِي تَقَعُ في البَيْتِ، لَوْ لَمْ تَكُنِ المَرْأةُ حاضِرَةً، كَما يَسْتَتِرُ الإنْسانُ بِلِباسِهِ عَنِ الحَرِّ والبَرْدِ وكَثِيرٍ مِنَ المَضارِّ.
وخامِسُها: ذَكَرَ الأصَمُّ أنَّ المُرادَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما كانَ كاللِّباسِ السّاتِرِ لِلْآخَرِ في ذَلِكَ المَحْظُورِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ، وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّهُ تَعالى أوْرَدَ هَذا الوَصْفَ عَلى طَرِيقِ الإنْعامِ عَلَيْنا، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلى التَّسَتُّرِ بِهِنَّ في المَحْظُورِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: إنَّما وحَّدَ اللِّباسَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ”هُنَّ“ لِأنَّهُ يَجْرِي مَجْرى المَصْدَرِ، وفِعالٌ مِن مَصادِرِ فاعَلَ، وتَأْوِيلُهُ: هُنَّ مُلابِساتٌ لَكم.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: فَإنْ قُلْتَ: ما مَوْقِعُ قَوْلِهِ: ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ﴾، فَنَقُولُ: هو اسْتِئْنافٌ كالبَيانِ لِسَبَبِ الإحْلالِ، وهو أنَّهُ إذا حَصَلَتْ بَيْنَكم وبَيْنَهُنَّ مِثْلُ هَذِهِ المُخالَطَةِ والمُلابَسَةِ قَلَّ صَبْرُكم عَنْهُنَّ، وضَعُفَ عَلَيْكُمُ اجْتِنابُهُنَّ، فَلِذَلِكَ رَخَّصَ لَكم في مُباشَرَتِهِنَّ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: يُقالُ: خانَهُ يَخُونُهُ خَوْنًا وخِيانَةً إذا لَمْ يَفِ لَهُ، والسَّيْفُ إذا نَبا عَنِ الضَّرْبَةِ فَقَدْ خانَكَ، وخانَهُ الدَّهْرُ إذا تَغَيَّرَ حالُهُ إلى الشَّرِّ، وخانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ، وناقِضُ العَهْدِ خائِنٌ، لِأنَّهُ كانَ يُنْتَظَرُ مِنهُ الوَفاءُ فَغَدَرَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإمّا تَخافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيانَةً﴾ [الأنفال: ٥٨] أيْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ، ويُقالُ لِلرَّجُلِ المَدِينِ: إنَّهُ خائِنٌ، لِأنَّهُ لَمْ يَفِ بِما يَلِيقُ بِدِينِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ والرَّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٧]، وقالَ: ﴿وإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ﴾ [الأنفال: ٧١]، فَفي هَذِهِ الآيَةِ سَمّى اللَّهُ المَعْصِيَةَ بِالخِيانَةِ، وإذا عَلِمْتَ مَعْنى الخِيانَةِ، فَقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الِاخْتِيانُ مِنَ الخِيانَةِ، كالِاكْتِسابِ مِنَ الكَسْبِ فِيهِ زِيادَةٌ وشِدَّةٌ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ هَهُنا أنَّهم كانُوا يَخْتانُونَ أنْفُسَهم، إلّا أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أنَّ تِلْكَ الخِيانَةَ كانَتْ في ماذا ؟ فَلا بُدَّ مِن حَمْلِ هَذِهِ الخِيانَةِ عَلى شَيْءٍ يَكُونُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِما تَقَدَّمَ وما تَأخَّرَ، والَّذِي تَقَدَّمَ هو ذِكْرُ الجِماعِ، والَّذِي تَأخَّرَ قَوْلُهُ: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهَذِهِ الخِيانَةِ الجِماعَ، ثُمَّ هَهُنا وجْهانِ:
أحَدُهُما: عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تُسِرُّونَ بِالمَعْصِيَةِ في الجِماعِ بَعْدَ العَتَمَةِ والأكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وتَرْكَبُونَ المُحَرَّمَ مِن ذَلِكَ، وكُلُّ مَن عَصى اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ خانَ نَفْسَهُ وقَدْ خانَ اللَّهَ، لِأنَّهُ جَلَبَ إلَيْها العِقابَ، وعَلى هَذا القَوْلِ يَجِبُ أنْ يُقْطَعَ عَلى أنَّهُ وقَعَ ذَلِكَ مِن بَعْضِهِمْ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى وُقُوعِهِ مِن جَمِيعِهِمْ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ إنْ حُمِلَ عَلى ظاهِرِهِ وجَبَ في جَمِيعِهِمْ أنْ يَكُونُوا مُخْتانِينَ لِأنْفُسِهِمْ، لَكَنّا قَدْ عَلِمْنا أنَّ المُرادَ بِهِ التَّبْعِيضُ لِلْعادَةِ والإخْبارُ، وإذا صَحَّ ذَلِكَ فَيَجِبُ أنَّ يُقْطَعَ عَلى وُقُوعِ هَذا الجِماعِ المَحْظُورِ مِن بَعْضِهِمْ، فَمِن هَذا الوَجْهِ يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمٍ سابِقٍ وعَلى وُقُوعِ ذَلِكَ مِن بَعْضِهِمْ، ولِأبِي مُسْلِمٍ أنْ يَقُولَ قَدْ بَيَّنّا أنَّ الخِيانَةَ عِبارَةٌ عَنْ عَدَمِ الوَفاءِ بِما يَجِبُ عَلَيْهِ، فَأنْتُمْ حَمَلْتُمُوهُ عَلى عَدَمِ الوَفاءِ بِطاعَةِ اللَّهِ، ونَحْنُ حَمَلْناهُ عَلى عَدَمِ الوَفاءِ بِما هو خَيْرٌ لِلنَّفْسِ وهَذا أوْلى، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَقُلْ: عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ اللَّهَ، كَما قالَ: ﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ﴾ [الأنفال: ٢٧] بَلْ قالَ: ﴿كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾، فَكانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى ما ذَكَرْناهُ إنْ لَمْ يَكُنْ أوْلى فَلا أقَلَّ مِنَ التَّساوِي وبِهَذا التَّقْدِيرِ لا يَثْبُتُ النَّسْخُ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ لَوْ دامَتْ تِلْكَ الحُرْمَةُ ومَعْناهُ: أنَّ اللَّهَ (p-٩٢)يَعْلَمُ أنَّهُ لَوْ دامَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ الشّاقُّ لَوَقَعُوا في الخِيانَةِ، وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ ما وقَعَتِ الخِيانَةُ ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: التَّفْسِيرُ الأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّهُ لا حاجَةَ فِيهِ إلى إضْمارِ الشَّرْطِ وأنْ يُقالَ: بَلِ الثّانِي أوْلى، لِأنَّ عَلى التَّفْسِيرِ الأوَّلِ يَصِيرُ إقْدامُهم عَلى المَعْصِيَةِ سَبَبًا لِنَسْخِ التَّكْلِيفِ، وعَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي: عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ لَوْ دامَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ لَحَصَلَتِ الخِيانَةُ فَصارَ ذَلِكَ سَبَبًا لَنَسْخِ التَّكْلِيفِ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى عِبادِهِ حَتّى لا يَقَعُوا في الخِيانَةِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ فَمَعْناهُ عَلى قَوْلِ أبِي مُسْلِمٍ فَرَجَعَ عَلَيْكم بِالإذْنِ في هَذا الفِعْلِ والتَّوْسِعَةِ عَلَيْكم، وعَلى قَوْلِ مُثْبِتِي النَّسَخِ لا بُدَّ فِيهِ مِن إضْمارٍ تَقْدِيرُهُ: تُبْتُمْ فَتابَ عَلَيْكم فِيهِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَفا عَنْكُمْ﴾ فَعَلى قَوْلِ أبِي مُسْلِمٍ مَعْناهُ وسَّعَ عَلَيْكم أنْ أباحَ لَكُمُ الأكْلَ والشُّرْبَ والمُعاشَرَةَ في كُلِّ اللَّيْلِ، ولَفْظُ العَفْوِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ في التَّوْسِعَةِ والتَّخْفِيفِ. قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«عَفَوْتُ لَكم عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيقِ» “، وقالَ: ”«أوَّلُ الوَقْتِ رِضْوانُ اللَّهِ وآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» “، والمُرادُ مِنهُ التَّخْفِيفُ بِتَأْخِيرِ الصَّلاةِ إلى آخِرِ الوَقْتِ، ويُقالُ: أتانِي هَذا المالُ عَفْوًا، أيْ سَهْلًا فَثَبَتَ أنَّ لَفْظَ العَفْوِ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِسَبْقِ التَّحْرِيمِ، وأمّا عَلى قَوْلِ مُثْبِتِي النَّسْخِ، فَقَوْلُهُ: ﴿عَفا عَنْكُمْ﴾ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: عَفا عَنْ ذُنُوبِكم، وهَذا مِمّا يُقَوِّي أيْضًا قَوْلَ أبِي مُسْلِمٍ لِأنَّ تَفْسِيرَهُ لا يَحْتاجُ إلى الإضْمارِ، وتَفْسِيرَ مُثْبِتِي النَّسْخِ يَحْتاجُ إلى الإضْمارِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: هَذا أمْرٌ وارِدٌ عَقِيبَ الحَظْرِ، فالَّذِينَ قالُوا: الأمْرُ الوارِدُ عَقِيبَ الحَظْرِ لَيْسَ إلّا لِلْإباحَةِ، كَلامُهم ظاهِرٌ، وأمّا الَّذِينَ قالُوا: مُطْلَقُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ قالُوا إنَّما تَرَكْنا الظّاهِرَ وعَرَفْنا كَوْنَ هَذا الأمْرِ لِلْإباحَةِ بِالإجْماعِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُباشَرَةُ فِيها قَوْلانِ:
أحَدُهُما: وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ أنَّها الجِماعُ، سُمِّيَ بِهَذا الِاسْمِ لِتَلاصُقِ البَشَرَتَيْنِ وانْضِمامِهِما، ومِنها ما رُوِيَ أنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - «نَهى أنْ يُباشِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، والمَرْأةُ المَرْأةَ» .
الثّانِي: وهو قَوْلُ الأصَمِّ: إنَّهُ الجِماعُ فَما دُونَهُ وعَلى هَذا الوَجْهِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾، فَمِنهم مَن حَمَلَهُ عَلى كُلِّ المُباشَراتِ ولَمْ يَقْصُرْهُ عَلى الجِماعِ، والأقْرَبُ أنَّ لَفْظَ المُباشَرَةِ لَمّا كانَ مُشْتَقًّا مِن تَلاصُقِ البَشَرَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِالجِماعِ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الجِماعُ فِيما دُونَ الفَرْجِ، وكَذا المُعانَقَةُ والمُلامَسَةُ إلّا أنَّهم إنَّما اتَّفَقُوا في هَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ هو الجِماعُ؛ لِأنَّ السَّبَبَ في هَذِهِ الرُّخْصَةِ كانَ وُقُوعُ الجِماعِ مِنَ القَوْمِ، ولِأنَّ الرَّفَثَ المُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ لا يُرادُ بِهِ إلّا الجِماعُ إلّا أنَّهُ لَمّا كانَ إباحَةُ الجِماعِ تَتَضَمَّنُ إباحَةَ ما دُونَهُ صارَتْ إباحَتُهُ دالَّةً عَلى إباحَةِ ما عَداهُ، فَصَحَّ هَهُنا حَمْلُ الكَلامِ عَلى الجِماعِ فَقَطْ، ولَمّا كانَ في الِاعْتِكافِ المَنعُ مِنَ الجِماعِ لا يَدُلُّ عَلى المَنعِ مِمّا دُونَهُ صَلَحَ اخْتِلافُ المُفَسِّرِينَ فِيهِ، فَهَذا هو الَّذِي يَجِبُ أنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ، عَلى ما لَخَّصَهُ القاضِي.
* * *
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في الآيَةِ وُجُوهًا:
أحَدُها: وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكم مِنَ الوَلَدِ بِالمُباشَرَةِ، أيْ: لا تُباشِرُوا لِقَضاءِ الشَّهْوَةِ وحْدَها، ولَكِنْ لِابْتِغاءِ ما وضَعَ اللَّهُ لَهُ النِّكاحَ مِنَ التَّناسُلِ. قالَ - عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«تَناكَحُوا تَناسَلُوا تَكْثُرُوا» “ .
وثانِيها: أنَّهُ نَهى عَنِ العَزْلِ، وقَدْ رُوِيَتِ الأخْبارُ في كَراهِيَةِ ذَلِكَ، وقالَ الشّافِعِيُّ: لا يَعْزِلُ (p-٩٣)الرَّجُلُ عَنِ الحُرَّةِ إلّا بِإذْنِها ولا بَأْسَ أنْ يَعْزِلَ عَنِ الأمَةِ، ورَوى عاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ كانَ يَكْرَهُ العَزْلَ، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «نَهى أنْ يَعْزِلَ عَنِ الحُرَّةِ إلّا بِإذْنِها» .
وثالِثُها: أنْ يَكُونَ المَعْنى: ابْتَغُوا المَحِلَّ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَكم وحَلَّلَهُ دُونَ ما لَمْ يَكْتُبْ لَكم مِنَ المَحِلِّ المُحَرَّمِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأْتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٢٢] .
ورابِعُها: أنَّ هَذا التَّأْكِيدَ تَقْدِيرُهُ: فالآنَ باشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا هَذِهِ المُباشَرَةَ الَّتِي كَتَبَها لَكم بَعْدَ أنْ كانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْكم.
وخامِسُها: وهو عَلى قَوْلِ أبِي مُسْلِمٍ: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، يَعْنِي هَذِهِ المُباشَرَةَ الَّتِي كانَ اللَّهُ تَعالى كَتَبَها لَكم وإنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَها مُحَرَّمَةً عَلَيْكم.
وسادِسُها: أنَّ مُباشَرَةَ الزَّوْجَةِ قَدْ تَحْرُمُ في بَعْضِ الأوْقاتِ بِسَبَبِ الحَيْضِ والنِّفاسِ والعِدَّةِ والرِّدَّةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يَعْنِي لا تُباشِرُوهُنَّ إلّا في الأحْوالِ والأوْقاتِ الَّتِي أُذِنَ لَكم في مُباشَرَتِهِنَّ.
وسابِعُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ إذْنٌ في المُباشَرَةِ، وقَوْلَهُ: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ يَعْنِي لا تَبْتَغُوا هَذِهِ المُباشَرَةَ إلّا مِنَ الزَّوْجَةِ والمَمْلُوكَةِ لِأنَّ ذَلِكَ هو الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَكم بِقَوْلِهِ: ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ [المعارج: ٣٠] .
وثامِنُها: قالَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ أبِي الجَوْزاءِ: يَعْنِي اطْلُبُوا لَيْلَةَ القَدْرِ وما كَتَبَ اللَّهُ لَكم مِنَ الثَّوابِ فِيها إنْ وجَدْتُمُوها، وجُمْهُورُ المُحَقِّقِينَ اسْتَبْعَدُوا هَذا الوَجْهَ، وعِنْدِي أنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ، وذَلِكَ هو أنَّ الإنْسانَ ما دامَ قَلْبُهُ مُشْتَغِلًا بِطَلَبِ الشَّهْوَةِ واللَّذَّةِ، لا يُمْكِنُهُ حِينَئِذٍ أنْ يَتَفَرَّغَ لِلطّاعَةِ والعُبُودِيَّةِ والحُضُورِ، أمّا إذا قَضى وطَرَهُ وصارَ فارِغًا مِن طَلَبِ الشَّهْوَةِ يُمْكِنُهُ حِينَئِذٍ أنْ يَتَفَرَّغَ لِلْعُبُودِيَّةِ، فَتَقْدِيرُ الآيَةِ: فالآنَ باشِرُوهُنَّ حَتّى تَتَخَلَّصُوا مِن تِلْكَ الخَواطِرِ المانِعَةِ عَنِ الإخْلاصِ في العُبُودِيَّةِ، وإذا تَخَلَّصْتُمْ مِنها فابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ مِنَ الإخْلاصِ في العُبُودِيَّةِ في الصَّلاةِ والذِّكْرِ والتَّسْبِيحِ والتَّهْلِيلِ وطَلَبِ لَيْلَةِ القَدْرِ، ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ الرِّوايَةَ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدَةٍ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ”كَتَبَ“ فِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّ ”كَتَبَ“ في هَذا المَوْضُوعِ بِمَعْنى جَعَلَ، كَقَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ [ المُجادَلَةِ: ٢٢] أيْ جَعَلَ، وقَوْلُهُ: ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ [ آلِ عِمْرانَ: ٥٣]، ﴿فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [ الأعْرافِ: ١٥٦] أيْ: أجْعَلُها.
وثانِيها: مَعْناهُ قَضى اللَّهُ لَكم، كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا﴾ [ التَّوْبَةِ: ٥١] أيْ قَضاهُ، وقَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١]، وقَوْلِهِ: ﴿لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ﴾ [آل عمران: ١٥٤] أيْ قَضى.
وثالِثُها: أصْلُهُ هو ما كَتَبَ اللَّهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مِمّا هو كائِنٌ، وكُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ عَلى عِبادِهِ فَقَدْ أثْبَتَهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ.
ورابِعُها: هو ما كَتَبَ اللَّهُ في القُرْآنِ مِن إباحَةِ هَذِهِ الأفْعالِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ”وابْتَغُوا“ وقَرَأ الأعْمَشُ ”وابْغُوا“ .
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾، فالفائِدَةُ في ذِكْرِهِما أنَّ تَحْرِيمَهُما وتَحْرِيمَ الجِماعِ بِاللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، لَمّا تَقَدَّمَ احْتِيجَ في إباحَةِ كُلِّ واحِدٍ مِنها إلى دَلِيلٍ خاصٍّ يَزُولُ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَلَوِ اقْتَصَرَ تَعالى عَلى قَوْلِهِ: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ لَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ زَوالُ تَحْرِيمِ الأكْلِ والشُّرْبِ، فَقَرَنَ إلى ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ لِتَتِمَّ الدَّلالَةُ عَلى الإباحَةِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: «رُوِيَ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ: أخَذْتُ عِقالَيْنِ أبْيَضَ وأسْوَدَ (p-٩٤)فَجَعَلْتُهُما تَحْتَ وِسادَتِي، وكُنْتُ أقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَأنْظُرُ إلَيْهِما، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِيَ الأبْيَضُ مِنَ الأسْوَدِ، فَلَمّا أصْبَحْتُ غَدَوْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأخْبَرْتُهُ فَضَحِكَ، وقالَ إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفا، إنَّما ذَلِكَ بَياضُ النَّهارِ وسَوادُ اللَّيْلِ»، وإنَّما قالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفا» لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى بَلاهَةِ الرَّجُلِ، ونَقُولُ: يَدُلُّ قَطْعًا عَلى أنَّهُ تَعالى كَنّى بِذَلِكَ عَنْ بَياضِ أوَّلِ النَّهارِ وسَوادِ آخِرِ اللَّيْلِ، وفِيهِ إشْكالٌ وهو أنَّ بَياضَ الصُّبْحِ المُشَبَّهَ بِالخَيْطِ الأسْوَدِ هو بَياضُ الصُّبْحِ الكاذِبُ، لِأنَّهُ بَياضٌ مُسْتَطِيلٌ يُشْبِهُ الخَيْطَ، فَأمّا بَياضُ الصُّبْحِ الصّادِقُ فَهو بَياضٌ مُسْتَدِيرٌ في الأُفُقِ فَكانَ يَلْزَمُ بِمُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ أنْ يَكُونَ أوَّلُ النَّهارِ مِن طُلُوعِ الصُّبْحِ الكاذِبِ وبِالإجْماعِ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وجَوابُهُ: أنَّهُ لَوْلا قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ لَكانَ السُّؤالُ لازِمًا، وذَلِكَ لِأنَّ الفَجْرَ إنَّما يُسَمّى فَجْرًا لِأنَّهُ يَنْفَجِرُ مِنهُ النُّورُ، وذَلِكَ إنَّما يَحْصُلُ في الصُّبْحِ الثّانِي لا في الصُّبْحِ الأوَّلِ، فَلَمّا دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ الخَيْطَ الأبْيَضَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مِنَ الفَجْرِ، عَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ الصُّبْحَ الكاذِبَ بَلِ الصُّبْحَ الصّادِقَ، فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُشَبَّهُ الصُّبْحُ الصّادِقُ بِالخَيْطِ، مَعَ أنَّ الصُّبْحَ الصّادِقَ لَيْسَ بِمُسْتَطِيلٍ والخَيْطَ مُسْتَطِيلٌ ؟
وجَوابُهُ: أنَّ القَدْرَ مِنَ البَياضِ الَّذِي يَحْرُمُ هو أوَّلُ الصُّبْحِ الصّادِقِ، وأوَّلُ الصُّبْحِ الصّادِقِ لا يَكُونُ مُنْتَشِرًا بَلْ يَكُونُ صَغِيرًا دَقِيقًا، بَلِ الفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الصُّبْحِ الكاذِبِ أنَّ الصُّبْحَ الكاذِبَ يَطْلُعُ دَقِيقًا، والصّادِقُ يَبْدُو دَقِيقًا، ويَرْتَفِعُ مُسْتَطِيلًا فَزالَ السُّؤالُ، فَأمّا ما حُكِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ فَبَعِيدٌ، لِأنَّهُ يَبْعُدُ أنْ يَخْفى عَلى مِثْلِهِ هَذِهِ الِاسْتِعارَةُ مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لا شَكَّ أنَّ كَلِمَةَ“ حَتّى ”لِانْتِهاءِ الغايَةِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ حِلَّ المُباشَرَةِ والأكْلِ والشُّرْبِ يَنْتَهِي عِنْدَ طُلُوعِ الصُّبْحِ، وزَعَمَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ أنْ لا شَيْءَ مِنَ المُفْطِراتِ إلّا أحَدُ هَذِهِ الثَّلاثَةِ، فَأمّا الأُمُورُ الَّتِي تَذْكُرُها الفُقَهاءُ مِن تَكَلُّفِ القَيْءِ والحُقْنَةِ والسُّعُوطِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنها بِمُفْطِرٍ، قالَ: لِأنَّ كُلَّ هَذِهِ الأشْياءِ كانَتْ مُباحَةً ثُمَّ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى حُرْمَةِ هَذِهِ الثَّلاثَةِ عَلى الصّائِمِ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَبَقِيَ ما عَداها عَلى الحِلِّ الأصْلِيِّ، فَلا يَكُونُ شَيْءٌ مِنها مُفْطِرًا، والفُقَهاءُ قالُوا إنَّ اللَّهَ تَعالى خَصَّ هَذِهِ الأشْياءَ الثَّلاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ إلَيْها، وأمّا القَيْءُ والحُقْنَةُ فالنَّفْسُ تَكْرَهُهُما، والسُّعُوطُ نادِرٌ فَلِهَذا لَمْ يَذْكُرْها.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: مَذْهَبُ أبِي هُرَيْرَةَ والحَسَنِ بْنِ صالِحِ بْنِ حَيٍّ أنَّ الجُنُبَ إذا أصْبَحَ قَبْلَ الِاغْتِسالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْمٌ، وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِهِمْ لِأنَّ المُباشَرَةَ إذا كانَتْ مُباحَةً إلى انْفِجارِ الصُّبْحِ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسالُ إلّا بَعْدَ انْفِجارِ الصُّبْحِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: زَعَمَ الأعْمَشُ أنَّهُ يَحِلُّ الأكْلُ والشُّرْبُ والجِماعُ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ وقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قِياسًا لِأوَّلِ النَّهارِ عَلى آخِرِهِ، فَكَما أنَّ آخِرَهُ بِغُرُوبِ القُرْصِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ أوَّلُهُ بِطُلُوعِ القُرْصِ، وقالَ في الآيَةِ إنَّ المُرادَ بِالخَيْطِ الأبْيَضِ والخَيْطِ الأسْوَدِ النَّهارُ واللَّيْلُ، ووَجْهُ الشَّبَهِ لَيْسَ إلّا في البَياضِ والسَّوادِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ في الشَّكْلِ مُرادًا فَهَذا غَيْرُ جائِزٍ لِأنَّ ظُلْمَةَ الأُفُقِ حالَ طُلُوعِ الصُّبْحِ لا يُمْكِنُ تَشْبِيهُها بِالخَيْطِ الأسْوَدِ في الشَّكْلِ البَتَّةَ، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ بِالخَيْطِ الأبْيَضِ والخَيْطِ الأسْوَدِ هو النَّهارُ واللَّيْلُ ثُمَّ لَمّا بَحَثْنا عَنْ حَقِيقَةِ اللَّيْلِ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ وجَدْناها عِبارَةً عَنْ زَمانِ غَيْبَةِ الشَّمْسِ بِدَلِيلِ أنَّ (p-٩٥)اللَّهَ تَعالى سَمّى ما بَعْدَ المَغْرِبِ لَيْلًا مَعَ بَقاءِ الضَّوْءِ فِيهِ فَثَبَتَ أنْ يَكُونَ الأمْرُ في الطَّرَفِ الأوَّلِ مِنَ النَّهارِ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَيْلًا، وأنْ لا يُوجَدَ النَّهارُ إلّا عِنْدَ طُلُوعِ القُرْصِ، فَهَذا تَقْرِيرُ قَوْلِ الأعْمَشِ، ومِنَ النّاسِ مَن سَلَّمَ أنَّ أوَّلَ النَّهارِ إنَّما يَكُونُ مِن طُلُوعِ الصُّبْحِ فَقاسَ عَلَيْهِ آخِرَ النَّهارِ، ومِنهم مَن قالَ: لا يَجُوزُ الإفْطارُ إلّا بَعْدَ غُرُوبِ الحُمْرَةِ، ومِنهم مَن زادَ عَلَيْهِ وقالَ: بَلْ لا يَجُوزُ الإفْطارُ إلّا عِنْدَ طُلُوعِ الكَواكِبِ، وهَذِهِ المَذاهِبُ قَدِ انْقَرَضَتْ، والفُقَهاءُ أجْمَعُوا عَلى بُطْلانِها فَلا فائِدَةَ في اسْتِقْصاءِ الكَلامِ فِيها.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ:“ الفَجْرُ ”مَصْدَرُ قَوْلِكَ: فَجَرْتُ الماءَ أفْجُرُهُ فَجْرًا، وفَجَّرْتُهُ تَفْجِيرًا، قالَ الأزْهَرِيُّ: الفَجْرُ أصْلُهُ الشَّقُّ، فَعَلى هَذا: الفَجْرُ في آخِرِ اللَّيْلِ هو انْشِقاقُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ بِنُورِ الصُّبْحِ،
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ فَقِيلَ لِلتَّبْعِيضِ لِأنَّ المُعْتَبَرَ بَعْضُ الفَجْرِ لا كُلُّهُ، وقِيلَ لِلتَّبْيِينِ كَأنَّهُ قِيلَ: الخَيْطُ الأبْيَضُ الَّذِي هو الفَجْرُ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أحَلَّ الجِماعَ والأكْلَ والشُّرْبَ إلى غايَةِ تَبَيُّنِ الصُّبْحِ، وجَبَ أنْ يُعْرَفَ أنَّ تَبَيُّنَ الصُّبْحِ ما هو ؟ فَنَقُولُ: الطَّرِيقُ إلى مَعْرِفَةِ تَبَيُّنِ الصُّبْحِ إمّا أنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أوْ ظَنِّيًّا، أمّا القَطْعِيُّ فَبِأنْ يُرى طُلُوعُ الصُّبْحِ أوْ يُتَيَقَّنَ أنَّهُ مَضى مِنَ الزَّمانِ ما يَجِبُ طُلُوعُ الصُّبْحِ عِنْدَهُ، وأمّا الظَّنِّيُّ فَنَقُولُ: إمّا أنْ يَحْصُلَ ظَنٌّ أنَّ الصُّبْحَ طَلَعَ فَيَحْرُمُ الأكْلُ والشُّرْبُ والوِقاعُ، فَإنْ حَصَلَ ظَنٌّ أنَّهُ ما طَلَعَ كانَ الأكْلُ والشُّرْبُ والوِقاعُ مُباحًا، فَإنْ أكَلَ ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ خَطَأٌ وأنَّ الصُّبْحَ كانَ قَدْ طَلَعَ عِنْدَ ذَلِكَ الأكْلِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، وكَذَلِكَ إنْ ظَنَّ أنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَأفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنَّها ما كانَتْ غارِبَةً، فَقالَ الحَسَنُ: لا قَضاءَ في الصُّورَتَيْنِ قِياسًا عَلى ما لَوْ أكَلَ ناسِيًا، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومالِكٌ والشّافِعِيُّ في رِوايَةِ المُزَنِيُّ عَنْهُ: يَجِبُ القَضاءُ لِأنَّهُ أُمِرَ بِالصَّوْمِ مِنَ الصُّبْحِ إلى الغُرُوبِ ولَمْ يَأْتِ بِهِ، وأمّا النّاسِي فَعِنْدَ مالِكٍ يَجِبُ عَلَيْهِ القَضاءُ، وأمّا الباقُونَ الَّذِينَ سَلَّمُوا أنَّهُ لا قَضاءَ قالُوا: مُقْتَضى الدَّلِيلِ وُجُوبُ القَضاءِ عَلَيْهِ أيْضًا، إلّا أنّا أسْقَطْناهُ عَنْهُ لِلنَّصِّ، وهو ما رَوى أبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّ رَجُلًا قالَ: أكَلْتُ وشَرِبْتُ وأنا صائِمٌ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أطْعَمَكَ اللَّهُ وسَقاكَ فَأنْتَ ضَيْفُ اللَّهِ فَتَمِّمْ صَوْمَكَ» .
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ إذا أخْطَأ في طُلُوعِ الصُّبْحِ لا يَجِبُ القَضاءُ، وإذا أخْطَأ في غُرُوبِ الشَّمْسِ يَجِبُ القَضاءُ، والفَرْقُ أنَّ الأصْلَ في كُلِّ ثابِتٍ بَقاؤُهُ عَلى ما كانَ، والثّابِتُ في اللَّيْلِ حِلُّ الأكْلِ، وفي النَّهارِ حُرْمَتُهُ، أمّا إذا لَمْ يَغْلِبْ عَلى ظَنِّهِ لا بَقاءُ اللَّيْلِ ولا طُلُوعُ الصُّبْحِ، بَلْ بَقِيَ مُتَوَقِّفًا في الأمْرَيْنِ، فَهَهُنا يُكْرَهُ لَهُ الأكْلُ والشُّرْبُ والجِماعُ، فَإنْ فَعَلَ جازَ، لِأنَّ الأصْلَ بَقاءُ اللَّيْلِ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ كَلِمَةَ ﴿إلى﴾ لِانْتِهاءِ الغايَةِ، فَظاهِرُ الآيَةِ أنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، وذَلِكَ لِأنَّ غايَةَ الشَّيْءِ مَقْطَعُهُ ومُنْتَهاهُ، وإنَّما يَكُونُ مَقْطَعًا ومُنْتَهًى إذا لَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ، وقَدْ تَجِيءُ هَذِهِ الكَلِمَةُ لا لِلِانْتِهاءِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلى المَرافِقِ﴾ [المائدة: ٦] إلّا أنَّ ذَلِكَ عَلى خِلافِ الدَّلِيلِ، والفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مِن جِنْسِ النَّهارِ، فَيَكُونُ اللَّيْلُ خارِجًا عَنْ حُكْمِ النَّهارِ، والمَرافِقُ مِن جِنْسِ اليَدِ فَيَكُونُ داخِلًا فِيهِ، وقالَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى: سَبِيلٌ إلى الدُّخُولِ والخُرُوجِ، وكِلا الأمْرَيْنِ جائِزٌ، تَقُولُ: أكَلْتُ السَّمَكَةَ إلى رَأْسِها، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ الرَّأْسُ داخِلًا في الأكْلِ وخارِجًا مِنهُ، إلّا أنَّهُ لا يَشُكُّ ذُو عَقْلٍ أنَّ اللَّيْلَ (p-٩٦)خارِجٌ عَنِ الصَّوْمِ، إذْ لَوْ كانَ داخِلًا فِيهِ لَعَظُمَتِ المَشَقَّةُ ودَخَلَتِ المَرافِقُ في الغَسْلِ أخْذًا بِالأوْثَقِ، ثُمَّ سَواءٌ قُلْنا إنَّهُ مُجْمَلٌ أوْ غَيْرُ مُجْمَلٍ، فَقَدْ ورَدَ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ، وهو ما رَوى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:“ «إذا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِن هَهُنا، وأدْبَرَ النَّهارُ مِن هَهُنا، وقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أفْطَرَ الصّائِمُ» ”، فَهَذا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلى أنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي في هَذا الوَقْتِ، فَأمّا أنَّهُ يَجِبُ عَلى المُكَلَّفِ أنْ يَتَناوَلَ عِنْدَ هَذا الوَقْتِ شَيْئًا، فالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما رَوى الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - بِإسْنادِهِ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنِ الوِصالِ، قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ تُواصِلُ، أيْ كَيْفَ تَنْهانا عَنْ أمْرٍ أنْتَ تَفْعَلُهُ ؟ فَقالَ: إنِّي لَسْتُ مِثْلَكم إنِّي أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِي»، وقِيلَ فِيهِ مَعانٍ:
أحَدُها: أنَّهُ كانَ يُطْعَمُ ويُسْقى مِن طَعامِ الجَنَّةِ.
والثّانِي: أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - قالَ: إنِّي عَلى ثِقَةٍ مِن أنِّي لَوِ احْتَجْتُ إلى الطَّعامِ أطْعَمَنِي مُواصِلًا. وحَكىمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أنَّهُ كانَ يُواصِلُ سَبْعَةَ أيّامٍ، فَلَمّا كَبِرَ جَعَلَها خَمْسًا، فَلَمّا كَبِرَ جِدًّا جَعَلَها ثَلاثًا، فَظاهِرُ كَلامِ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا النَّهْيَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، وقِيلَ: هو نَهْيُ تَنْزِيهٍ، لِأنَّهُ تَرْكٌ لِلْمُباحِ، وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ صَحَّ فِعْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ. إذا عَرَفْتَ هَذا، فَنَقُولُ: إذا تَناوَلَ شَيْئًا قَلِيلًا ولَوْ قَطْرَةً مِنَ الماءِ، فَعَلى ذَلِكَ هو بِالخِيارِ في الِاسْتِيفاءِ إلّا أنْ يَخافَ المَرْءُ مِنَ التَّقْصِيرِ في صَوْمِ المُسْتَأْنَفِ، أوْ في سائِرِ العِباداتِ، فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ أنْ يَتَناوَلَ مِنَ الطَّعامِ قَدْرًا يَزُولُ بِهِ هَذا الخَوْفُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ اللَّيْلَ ما هو ؟ فَمِنَ النّاسِ مَن قالَ: آخِرُ النَّهارِ عَلى أوَّلِهِ، فاعْتَبَرُوا في حُصُولِ اللَّيْلِ زَوالَ آثارِ الشَّمْسِ، كَما حَصَلَ اعْتِبارُ زَوالِ اللَّيْلِ عِنْدَ ظُهُورِ آثارِ الشَّمْسِ ثُمَّ هَؤُلاءِ مِنهم مَنِ اكْتَفى بِزَوالِ الحُمْرَةِ، ومِنهم مَنِ اعْتَبَرَ ظُهُورَ الظَّلامِ التّامِّ وظُهُورَ الكَواكِبِ، إلّا أنَّ الحَدِيثَ الَّذِي رَواهُ عُمَرُ يُبْطِلُ ذَلِكَ وعَلَيْهِ عَمَلُ الفُقَهاءِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ في أنَّ التَّبْيِيتَ والتَّعْيِينَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ في صِحَّةِ الصَّوْمِ، قالُوا: الصَّوْمُ في اللُّغَةِ هو الإمْساكُ، وقَدْ وُجِدَ هَهُنا فَيَكُونُ صائِمًا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إتْمامُهُ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ فَوَجَبَ القَوْلُ بِصِحَّتِهِ، لِأنَّ الإمْساكَ حَرَجٌ ومَشَقَّةٌ وعُسْرٌ، وهو مَنفِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، وقَوْلِهِ: ﴿ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] تُرِكَ العَمَلُ بِهِ في الصَّوْمِ الصَّحِيحِ فَيَبْقى غَيْرُ الصَّحِيحِ عَلى الأصْلِ، ثُمَّ نَقُولُ: مُقْتَضى هَذا الدَّلِيلِ، أنْ يَصِحَّ صَوْمُ الفَرْضِ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوالِ إلّا أنّا قُلْنا: الأقَلُّ يَلْحَقُ بِالأغْلَبِ فَلا جَرَمَ أبْطَلْنا الصَّوْمَ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوالِ وصَحَّحْنا نِيَّتَهُ قَبْلَ الزَّوالِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الحَنَفِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ في أنَّ صَوْمَ النَّفْلِ يَجِبُ إتْمامُهُ قالُوا: لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ أمْرٌ وهو لِلْوُجُوبِ، وهو يَتَناوَلُ كُلَّ الصِّياماتِ، والشّافِعِيَّةُ قالُوا: هَذا إنَّما ورَدَ لِبَيانِ أحْكامِ صَوْمِ الفَرْضِ، فَكانَ المُرادُ مِنهُ صَوْمَ الفَرْضِ.
الحُكْمُ السّابِعُ
* * *
مِنَ الأحْكامِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ الِاعْتِكافُ
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ الصَّوْمَ، وبَيَّنَ أنَّ مِن حُكْمِهِ تَحْرِيمَ المُباشَرَةِ، كانَ يَجُوزُ أنْ يُظَنَّ في (p-٩٧)الِاعْتِكافِ أنَّ حالَهُ كَحالِ الصَّوْمِ في أنَّ الجِماعَ يَحْرُمُ فِيهِ نَهارًا لا لَيْلًا، فَبَيَّنَّ تَعالى تَحْرِيمَ المُباشَرَةِ فِيهِ نَهارًا ولَيْلًا، فَقالَ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ ثُمَّ في الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الِاعْتِكافُ اللُّغَوِيُّ مُلازَمَةُ المَرْءِ لِلشَّيْءِ وحَبْسُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ، بِرًّا كانَ أوْ إثْمًا، قالَ تَعالى: ﴿يَعْكُفُونَ عَلى أصْنامٍ لَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٣٨]، والِاعْتِكافُ الشَّرْعِيُّ: المُكْثُ في بَيْتِ اللَّهِ تَقَرُّبًا إلَيْهِ، وحاصِلُهُ راجِعٌ إلى تَقْيِيدِ اسْمِ الجِنْسِ بِالنَّوْعِ بِسَبَبِ العُرْفِ، وهو مِنَ الشَّرائِعِ القَدِيمَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ والعاكِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥]، وقالَ تَعالى: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لَوْ لَمَسَ الرَّجُلُ المَرْأةَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ جازَ، «لَأنَّ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - كانَتْ تُرَجِّلُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو مُعْتَكِفٌ»، أمّا إذا لَمَسَها بِشَهْوَةٍ، أوْ قَبَّلَها، أوْ باشَرَها فِيما دُونَ الفَرْجِ، فَهو حَرامٌ عَلى المُعْتَكِفِ، وهَلْ يَبْطُلُ بِها اعْتِكافُهُ ؟ لِلشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ قَوْلانِ: الأصَحُّ أنَّهُ يَبْطُلُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يَفْسُدُ الِاعْتِكافُ إذا لَمْ يُنْزِلْ.
احْتَجَّ مَن قالَ بِالإفْسادِ أنَّ الأصْلَ في لَفْظِ المُباشَرَةِ مُلاقاةُ البَشَرَتَيْنِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ﴾ مَنَعَ مِن هَذِهِ الحَقِيقَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الجِماعُ وسائِرُ هَذِهِ الأُمُورِ، لِأنَّ مُسَمّى المُباشَرَةِ حاصِلٌ في كُلِّها.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ حَمَلْتُمُ المُباشَرَةَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ عَلى الجِماعِ ؟
قُلْنا: لِأنَّ ما قَبْلَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ هو الجِماعُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ﴾، وسَبَبُ نُزُولِ تِلْكَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ هو الجِماعُ، ثُمَّ لَمّا أذِنَ في الجِماعِ كانَ ذَلِكَ إذْنًا فِيما دُونَ الجِماعِ بِطَرِيقِ الأوْلى، أمّا هَهُنا فَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِن هَذِهِ القَرائِنِ، فَوَجَبَ إبْقاءُ لَفْظِ المُباشَرَةِ عَلى مَوْضِعِهِ الأصْلِيِّ، وحُجَّةُ مَن قالَ: إنَّها لا تُبْطِلُ الِاعْتِكافَ، أجْمَعْنا عَلى أنَّ هَذِهِ المُباشَرَةَ لا تُفْسِدُ الصَّوْمَ والحَجَّ، فَوَجَبَ أنْ لا تُفْسِدَ الِاعْتِكافَ؛ لِأنَّ الِاعْتِكافَ لَيْسَ أعْلى دَرَجَةً مِنهُما، والجَوابُ: أنَّ النَّصَّ مُقَدَّمٌ عَلى القِياسِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اتَّفَقُوا عَلى أنَّ شَرْطَ الِاعْتِكافِ لَيْسَ الجُلُوسُ في المَسْجِدِ وذَلِكَ لِأنَّ المَسْجِدَ مُمَيَّزٌ عَنْ سائِرِ البِقاعِ مِن حَيْثُ إنَّهُ بُنِيَ لِإقامَةِ الطّاعاتِ فِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا في المَسْجِدِ الحَرامِ، والحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ والعاكِفِينَ﴾ [البقرة: ١٢٥] فَعَيَّنَ ذَلِكَ البَيْتَ لِجَمِيعِ العاكِفِينَ، ولَوْ جازَ الِاعْتِكافُ في غَيْرِهِ لَما صَحَّ ذَلِكَ العُمُومُ، وقالَ عَطاءٌ: لا يَجُوزُ إلّا في المَسْجِدِ الحَرامِ ومَسْجِدِ المَدِينَةِ، لِما رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:“ «صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذا أفْضَلُ مِن ألْفِ صَلاةٍ فِيما سِواهُ مِنَ المَساجِدِ إلّا المَسْجِدَ الحَرامِ، وصَلاةٌ في المَسْجِدِ الحَرامِ أفْضَلُ مِن مِائَةِ صَلاةٍ في مَسْجِدِي» ”. وقالَ حُذَيْفَةُ: يَجُوزُ في هَذَيْنِ المَسْجِدَيْنِ وفي مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:“ «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلّا إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: المَسْجِدِ الحَرامِ، والمَسْجِدِ الأقْصى، ومَسْجِدِي هَذا» ”. وقالَ الزُّهْرِيُّ: لا يَصِحُّ إلّا في الجامِعِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يَصِحُّ إلّا في مَسْجِدٍ لَهُ إمامٌ راتِبٌ ومُؤَذِّنٌ راتِبٌ، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجُوزُ في جَمِيعِ المَساجِدِ، إلّا أنَّ المَسْجِدَ الجامِعَ أفْضَلُ حَتّى لا يُحْتاجَ إلى الخُرُوجِ لِصَلاةِ الجُمُعَةِ، واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذِهِ الآيَةِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ عامٌّ يَتَناوَلُ كُلَّ المَساجِدِ.
* * *
(p-٩٨)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: يَجُوزُ الِاعْتِكافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ والأفْضَلُ أنْ يَصُومَ مَعَهُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ لا يَجُوزُ إلّا بِالصَّوْمِ، حُجَّةُ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذِهِ الآيَةُ، لِأنَّهُ بِغَيْرِ الصَّوْمِ عاكِفٌ واللَّهُ تَعالى مَنَعَ العاكِفَ مِن مُباشَرَةِ المَرْأةِ ولَوْ كانَ اعْتِكافُهُ باطِلًا لَما كانَ مَمْنُوعًا تَرْكُ العَمَلِ بِظاهِرِ اللَّفْظِ إذا تَرَكَ النِّيَّةَ، فَيَبْقى فِيما عَداهُ عَلى الأصْلِ، واحْتَجَّ المُزَنِيُّ بِصِحَّةِ قَوْلِ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - بِأُمُورٍ ثَلاثَةٍ:
الأوَّلُ: لَوْ كانَ الِاعْتِكافُ يُوجِبُ الصَّوْمَ لَما صَحَّ في رَمَضانَ، لَأنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هو مُوجِبُهُ إمّا صَوْمُ رَمَضانَ، وهو باطِلٌ لِأنَّهُ واجِبٌ بِسَبَبِ الشَّهْرِ لا بِسَبَبِ الِاعْتِكافِ، أوْ صَوْمٌ آخَرُ سِوى صَوْمِ رَمَضانَ، وذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وحَيْثُ أجْمَعُوا عَلى أنَّهُ يَصِحُّ في رَمَضانَ، عَلِمْنا أنَّ الصَّوْمَ لا يُوجِبُهُ الِاعْتِكافُ.
والثّانِي: أنَّهُ لَوْ كانَ الِاعْتِكافُ لا يَجُوزُ إلّا مُقارَنًا بِالصَّوْمِ لَخَرَجَ الصّائِمُ بِاللَّيْلِ عَنِ الِاعْتِكافِ لِخُرُوجِهِ فِيهِ عَنِ الصَّوْمِ، ولَمّا كانَ الأمْرُ بِخِلافِ ذَلِكَ، عَلِمْنا أنَّ الِاعْتِكافَ يَجُوزُ مُفْرَدًا أبَدًا بِدُونِ الصَّوْمِ.
والثّالِثُ: ما «رَوى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لِلَّهِ لَيْلَةً، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أوْفِ بِنَذْرِكَ» . ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا يَجُوزُ الصَّوْمُ في اللَّيْلِ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا تَقْدِيرَ لِزَمانِ الِاعْتِكافِ، فَلَوْ نَذَرَ اعْتِكافَ ساعَةٍ يَنْعَقِدُ، ولَوْ نَذَرَ أنْ يَعْتَكِفَ مُطْلَقًا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِاعْتِكافِهِ ساعَةً، كَما لَوْ نَذَرَ أنْ يَتَصَدَّقَ مُطْلَقًا تَصَدَّقَ بِما شاءَ مِن قَلِيلٍ أوْ كَثِيرٍ، ثُمَّ قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وأُحِبُّ أنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وإنَّما قالَ ذَلِكَ لِلْخُرُوجِ عَنِ الخِلافِ، فَإنَّ أبا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يُجَوِّزُ اعْتِكافَ أقَلَّ مِن يَوْمٍ بِشَرْطِ أنْ يَدْخُلَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، ويَخْرُجَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وحُجَّةُ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ لَيْسَ تَقْدِيرُ الِاعْتِكافِ بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الزَّمانِ أوْلى مِن بَعْضٍ، فَوَجَبَ تَرْكُ التَّقْدِيرِ والرُّجُوعُ إلى أقَلِّ ما لا بُدَّ مِنهُ، وحُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنَّ الِاعْتِكافَ هو حَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ في اللَّحْظَةِ الواحِدَةِ، ولِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَتَمَيَّزُ المُعْتَكِفُ عَمَّنْ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ﴾ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى حُكْمِ الِاعْتِكافِ لِأنَّ الحُدُودَ جَمْعٌ ولَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعالى في الِاعْتِكافِ إلّا حَدًّا واحِدًا، وهو تَحْرِيمُ المُباشَرَةِ بَلْ هو إشارَةٌ إلى كُلِّ ما تَقَدَّمَ في أوَّلِ آيَةِ الصَّوْمِ إلى هَهُنا عَلى ما سَبَقَ شَرْحُ مَسائِلِها عَلى التَّفْصِيلِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ اللَّيْثُ: حَدُّ الشَّيْءِ مَقْطَعُهُ ومُنْتَهاهُ، قالَ الأزْهَرِيُّ: ومِنهُ يُقالُ لِلْمَحْرُومِ مَحْدُودٌ لِأنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنِ الرِّزْقِ، ويُقالُ لِلْبَوّابِ: حَدّادٌ لِأنَّهُ يَمْنَعُ النّاسَ مِنَ الدُّخُولِ، وحَدُّ الدّارِ ما يَمْنَعُ غَيْرَها مِنَ الدُّخُولِ فِيها، وحُدُودُ اللَّهِ ما يَمْنَعُ مِن مُخالَفَتِها، والمُتَكَلِّمُونَ يُسَمُّونَ الكَلامَ الجامِعَ المانِعَ حَدًّا، وسُمِّيَ الحَدِيدُ حَدِيدًا لِما فِيهِ مِنَ المَنعِ، وكَذَلِكَ إحْدادُ المَرْأةِ لِأنَّها تُمْنَعُ مِنَ الزِّينَةِ. إذا عَرَفْتَ الِاشْتِقاقَ فَنَقُولُ: المُرادُ مِن حُدُودِ اللَّهِ مَحْدُوداتُهُ أيْ مَقْدُوراتُهُ الَّتِي قَدَّرَها بِمَقادِيرَ مَخْصُوصَةٍ وصِفاتٍ مَضْبُوطَةٍ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَقْرَبُوها﴾ فَفِيهِ إشْكالانِ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ إشارَةٌ إلى كُلِّ ما تَقَدَّمَ، والأُمُورُ المُتَقَدِّمَةُ بَعْضُها إباحَةٌ وبَعْضُها حَظْرٌ، فَكَيْفَ قالَ في الكُلِّ ﴿فَلا تَقْرَبُوها﴾ .
والثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وقالَ في آيَةِ المَوارِيثِ: (p-٩٩)﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ [النساء: ١٤] وقالَ هَهُنا: ﴿فَلا تَقْرَبُوها﴾ فَكَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَهُما ؟
والجَوابُ عَنِ السُّؤالَيْنِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: وهو الأحْسَنُ والأقْوى أنَّ مَن كانَ في طاعَةِ اللَّهِ والعَمَلِ بِشَرائِعِهِ فَهو مُتَصَرِّفٌ في حَيِّزِ الحَقِّ، فَنُهِيَ أنْ يَتَعَدّاهُ لِأنَّ مَن تَعَدّاهُ وقَعَ في حَيِّزِ الضَّلالِ، ثُمَّ بُولِغَ في ذَلِكَ فَنُهِيَ أنْ يَقْرَبَ الحَدَّ الَّذِي هو الحاجِزُ بَيْنَ حَيِّزِ الحَقِّ والباطِلِ، لِئَلّا يُدانِيَ الباطِلَ وأنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنِ الطَّرَفِ فَضْلًا أنْ يَتَخَطّاهُ، كَما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:“ «إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وحِمى اللَّهِ مَحارِمُهُ فَمَن رَتَعَ حَوْلَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يَقَعَ فِيهِ» " .
الثّانِي: ما ذَكَرَهُ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: لا تَقْرَبُوها أيْ لا تَتَعَرَّضُوا لَها بِالتَّغْيِيرِ كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ﴾ [الأنعام: ١٥٢] .
الثّالِثُ: أنَّ الأحْكامَ المَذْكُورَةَ فِيما قَبْلُ وإنْ كانَتْ كَثِيرَةً إلّا أنَّ أقْرَبَها إلى هَذِهِ الآيَةِ إنَّما هو قَوْلُهُ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾، وقَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ وذَلِكَ يُوجِبُ حُرْمَةَ الأكْلِ والشُّرْبِ في النَّهارِ، وقَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ وهو يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مُواقَعَةِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ والمَمْلُوكَةِ وتَحْرِيمَ مُواقَعَتِهِما في غَيْرِ المَأْتى وتَحْرِيمَ مُواقَعَتِهِما في الحَيْضِ والنِّفاسِ والعِدَّةِ والرِّدَّةِ، ولَيْسَ فِيهِ إلّا إباحَةُ الشُّرْبِ والأكْلِ والوِقاعِ في اللَّيْلِ، فَلَمّا كانَتِ الأحْكامُ المُتَقَدِّمَةُ أكْثَرَها تَحْرِيماتٍ، لا جَرَمَ غَلَبَ جانِبُ التَّحْرِيمِ فَقالَ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها﴾ أيْ تِلْكَ الأشْياءُ الَّتِي مُنِعْتُمْ عَنْها إنَّما مُنِعْتُمْ عَنْها بِمَنعِ اللَّهِ ونَهْيِهِ عَنْها فَلا تَقْرَبُوها.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: المُرادُ أنَّهُ كَما بَيَّنَ ما أمَرَكم بِهِ ونَهاكم عَنْهُ في هَذا المَوْضِعِ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ سائِرَ أدِلَّتِهِ عَلى دِينِهِ وشَرْعِهِ.
وثانِيها: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: المُرادُ بِالآياتِ الفَرائِضُ الَّتِي بَيَّنَها كَما قالَ: ﴿سُورَةٌ أنْزَلْناها وفَرَضْناها وأنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ [النور: ١] ثُمَّ فَسَّرَ الآياتِ بِقَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ [النور: ٢] إلى سائِرِ ما بَيَّنَهُ مِن أحْكامِ الزِّنا، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لِلنّاسِ ما شَرَعَهُ لَهم لِيَتَّقُوهُ بِأنْ يَعْمَلُوا بِما لَزِمَ.
وثالِثُها: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بَيَّنَ أحْكامَ الصَّوْمِ عَلى الِاسْتِقْصاءِ في هَذِهِ الآيَةِ بِالألْفاظِ القَلِيلَةِ بَيانًا شافِيًا وافِيًا، قالَ بَعْدَهُ: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ﴾ أيْ مِثْلُ هَذا البَيانِ الوافِي الواضِحِ الكامِلِ هو الَّذِي يُذْكَرُ لِلنّاسِ، والغَرَضُ مِنهُ تَعْظِيمُ حالِ البَيانِ، وتَعْظِيمُ رَحْمَتِهِ عَلى الخَلْقِ في ذِكْرِهِ مِثْلَ هَذا البَيانِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ فَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
الحُكْمُ الثّامِنُ
{"ayah":"أُحِلَّ لَكُمۡ لَیۡلَةَ ٱلصِّیَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَاۤىِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسࣱ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسࣱ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُوا۟ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّوا۟ ٱلصِّیَامَ إِلَى ٱلَّیۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِی ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ ءَایَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق