الباحث القرآني

(p-126)﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ رُوِيَ أنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا إذا أمْسَوْا حَلَّ لَهُمُ الأكْلُ والشُّرْبُ والجِماعُ إلى أنْ يُصَلُّوا العِشاءَ الآخِرَةَ أوْ يَرْقُدُوا، ثُمَّ: إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ باشَرَ بَعْدَ العِشاءِ فَنَدِمَ وأتى النَّبِيَّ ﷺ واعْتَذَرَ إلَيْهِ، فَقامَ رِجالٌ واعْتَرَفُوا بِما صَنَعُوا بَعْدَ العِشاءِ فَنَزَلَتْ. وَلَيْلَةُ الصِّيامِ: اللَّيْلَةُ الَّتِي تُصْبِحُ مِنها صائِمًا، والرَّفَثُ: كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ، لِأنَّهُ لا يَكادُ يَخْلُو مِن رَفَثٍ وهو الإفْصاحُ بِما يَجِبُ أنْ يُكَنّى عَنْهُ، وعُدِّيَ بِإلى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الإفْضاءِ، وإيثارُهُ هاهُنا لِتَقْبِيحِ ما ارْتَكَبُوهُ ولِذَلِكَ سَمّاهُ خِيانَةً. وقُرِئَ « الرُّفُوثُ» ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾ اسْتِئْنافٌ يُبَيِّنُ سَبَبَ الإحْلالِ وهو قِلَّةُ الصَّبْرِ عَنْهُنَّ، وصُعُوبَةُ اجْتِنابِهِنَّ لِكَثْرَةِ المُخالَطَةِ وشِدَّةِ المُلابَسَةِ، ولَمّا كانَ الرَّجُلُ والمَرْأةُ يَعْتَنِقانِ ويَشْتَمِلُ كُلٌّ مِنهُما عَلى صاحِبِهِ شُبِّهَ بِاللِّباسِ قالَ الجَعْدِيُّ: ؎ إذا ما الضَّجِيعُ ثَنّى عِطْفَها... تَثَنَّتْ فَكانَتْ عَلَيْهِ لِباسا أوْ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَسْتُرُ حالَ صاحِبِهِ ويَمْنَعُهُ مِنَ الفُجُورِ. ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ تَظْلِمُونَها بِتَعْرِيضِها لِلْعِقابِ، وتَنْقِيصِ حَظِّها مِنَ الثَّوابِ، والِاخْتِيانُ أبْلَغُ مِنَ الخِيانَةِ كالِاكْتِسابِ مِنَ الكَسْبِ. ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ لَمّا تُبْتُمْ مِمّا اقْتَرَفْتُمُوهُ. ﴿وَعَفا عَنْكُمْ﴾ ومَحا عَنْكم أثَرَهُ. ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ لَمّا نَسَخَ عَنْكُمُ التَّحْرِيمَ وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالقُرْآنِ، والمُباشَرَةُ: إلْزاقُ البَشَرَةِ كُنِّيَ بِهِ عَنِ الجِماعِ. ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ واطْلُبُوا ما قَدَّرَهُ لَكم وأثْبَتَهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مِنَ الوَلَدِ، والمَعْنى أنَّ المُباشِرَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ غَرَضُهُ الوَلَدَ فَإنَّهُ الحِكْمَةُ مِن خَلْقِ الشَّهْوَةِ. وشَرَعَ النِّكاحَ لا قَضاءَ الوَطَرِ، وقِيلَ النَّهْيُ عَنِ العَزْلِ، وقِيلَ عَنْ غَيْرِ المَأْتِيِّ. والتَّقْدِيرُ وابْتَغُوا المَحِلَّ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَكم. ﴿وَكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ شَبَّهَ أوَّلَ ما يَبْدُو مِنَ الفَجْرِ المُعْتَرِضِ في الأُفُقِ وما يَمْتَدُّ مَعَهُ مِن غَبَشِ اللَّيْلِ، بِخَيْطَيْنِ أبْيَضَ وأسْوَدَ، واكْتَفى بِبَيانِ الخَيْطِ الأبْيَضِ بِقَوْلِهِ ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ عَنْ بَيانِ الخَيْطِ الأسْوَدِ، لِدَلالَتِهِ عَلَيْهِ. وبِذَلِكَ خَرَجا عَنِ الِاسْتِعارَةِ إلى التَّمْثِيلِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِن لِلتَّبْعِيضِ، فَإنَّ ما يَبْدُو بَعْضُ الفَجْرِ. وما رُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ ولَمْ يَنْزِلْ مِنَ الفَجْرِ، فَعَمَدَ رِجالٌ إلى خَيْطَيْنِ أسْوَدَ وأبْيَضَ ولا يَزالُونَ يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ حَتّى يَتَبَيَّنا لَهم فَنَزَلَتْ، إنْ صَحَّ فَلَعَلَّهُ كانَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضانَ وتَأْخِيرِ البَيانِ إلى وقْتِ الحاجَةِ جائِزَةً، أوِ اكْتَفى أوَّلًا بِاشْتِهارِهِما في ذَلِكَ ثُمَّ صَرَّحَ بِالبَيانِ لِما التَبَسَ عَلى بَعْضِهِمْ وفي تَجْوِيزِ المُباشَرَةِ إلى الصُّبْحِ الدَّلالَةُ عَلى جَوازِ تَأْخِيرِ الغُسْلِ إلَيْهِ وصِحَّةِ صَوْمِ المُصْبِحِ جُنُبًا ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ بَيانٌ لِآخِرِ وقْتِهِ اللَّيْلِ عَنْهُ فَيَنْفِي صَوْمَ الوِصالِ ﴿وَلا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ مُعْتَكِفُونَ فِيها والِاعْتِكافُ هو اللُّبْثُ في المَسْجِدِ بِقَصْدِ القُرْبَةِ. والمُرادُ بِالمُباشَرَةِ: الوَطْءُ. وعَنْ قَتادَةَ كانَ الرَّجُلُ يَعْتَكِفُ فَيَخْرُجُ إلى امْرَأتِهِ فَيُباشِرُها ثُمَّ يَرْجِعُ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الِاعْتِكافَ يَكُونُ في المَسْجِدِ ولا يَخْتَصُّ بِمَسْجِدٍ دُونَ مَسْجِدٍ. وَأنَّ الوَطْءَ يَحْرُمُ فِيهِ ويُفْسِدُهُ لِأنَّ النَّهْيَ في العِباداتِ يُوجِبُ الفَسادَ. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أيِ الأحْكامُ الَّتِي ذُكِرَتْ. ﴿فَلا تَقْرَبُوها﴾ نَهى أنْ يُقْرَبَ الحَدُّ الحاجِزُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ لِئَلّا يُدانِيَ الباطِلَ، فَضْلًا عَنْ أنْ يَتَخَطّى عَنْهُ. كَما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وإنَّ حِمى اللَّهِ مَحارِمُهُ فَمَن رَتَعَ حَوْلَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يَقَعَ فِيهِ» . وَهُوَ أبْلَغُ مِن قَوْلِهِ ﴿فَلا تَعْتَدُوها﴾، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِ ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ مَحارِمَهُ ومَناهِيَهُ. ﴿كَذَلِكَ﴾ مِثْلُ ذَلِكَ التَّبْيِينِ ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ مُخالَفَةَ الأوامِرِ والنَّواهِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب