الباحث القرآني

والثّانِي قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ أخْرَجَ أحْمَدُ وجَماعَةٌ عَنْ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ، قالَ: «كانَ النّاسُ في رَمَضانَ إذا صامَ الرَّجُلُ فَنامَ، حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعامُ والشَّرابُ والنِّساءُ حَتّى يُفْطِرَ مِنَ الغَدِ، فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - مِن عِنْدِ النَّبِيِّ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ذاتَ لَيْلَةٍ وقَدْ سَمَرَ عِنْدَهُ، فَوَجَدَ امْرَأتَهُ قَدْ نامَتْ، فَأيْقَظَها وأرادَها، فَقالَتْ: إنِّي قَدْ نِمْتُ، فَقالَ: ما نِمْتِ؟ ثُمَّ وقَعَ بِها، وصَنَعَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ مِثْلَ ذَلِكَ، فَغَدا عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - إلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَأخْبَرَهُ فَنَزَلَتْ». وفي رِوايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ، «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - بَيْنَما هو نائِمٌ؛ إذْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ فَأتى أهْلَهُ، ثُمَّ أتى رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أعْتَذِرُ إلى اللَّهِ - تَعالى - وإلَيْكَ مِن نَفْسِي هَذِهِ الخاطِئَةَ، فَإنَّها زُيِّنَتْ لِي، فَواقَعْتُ أهْلِي، هَلْ تَجِدُ لِي مِن رُخْصَةٍ؟ قالَ: ”لَمْ تَكُنْ حَقِيقًا بِذَلِكَ يا عُمَرُ“ فَلَمّا بَلَغَ بَيْتَهُ أرْسَلَ إلَيْهِ، فَأنْبَأهُ بِعُذْرِهِ في آيَةٍ مِنَ القُرْآنِ، وأمَرَ اللَّهُ - تَعالى - رَسُولَهُ أنْ يَضَعَها في المِائَةِ الوُسْطى مِن سُورَةِ البَقَرَةِ، فَقالَ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ إلَخْ،» و﴿لَيْلَةَ الصِّيامِ﴾ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُصْبِحُ مِنها صائِمًا، فالإضافَةُ لِأدْنى مُلابَسَةٍ، والمُرادُ بِها الجِنْسُ، وناصِبُها ﴿الرَّفَثُ﴾ المَذْكُورُ أوِ المَحْذُوفُ الدّالُّ هو عَلَيْهِ، بِناءً عَلى أنَّ المَصْدَرَ لا يَعْمَلُ مُتَقَدِّمًا، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لأحل لِأنَّ إحْلالَ الرَّفَثِ في لَيْلَةِ الصِّيامِ وإحْلالَ الرَّفَثِ الَّذِي فِيها مُتَلازِمانِ، والرَّفَث مِن رَفَثَ في كَلامِهِ وأرْفَثَ وتَرْفُثُ أفْحَشُ وأفْصَحُ بِما يُكَنّى عَنْهُ، والمُرادُ بِهِ هُنا الجِماعُ؛ لِأنَّهُ لا يَكادُ يَخْلُو مِنَ الإفْصاحِ، وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّهُ أنْشَدَ، وهو مُحْرِمٌ: ؎وهُنَّ يَمْشِينَ بِنا هَمِيسا إنْ صَدَقَ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسا فَقِيلَ لَهُ: أرَفَثْتَ؟ فَقالَ: إنَّما الرَّفَثُ ما كانَ عِنْدَ النِّساءِ، فالرَّفَثُ فِيهِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلًا وأنْ يَكُونَ فِعْلًا، والأصْلُ فِيهِ أنْ يَتَعَدّى ( بِالباءِ ) وعُدِّيَ بِإلى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الإفْضاءِ، ولَمْ يَجْعَلْ مِن أوَّلِ الأمْرِ كِنايَةً عَنْهُ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ هو (p-65)الجِماعُ، فَقَصُرَتِ المَسافَةُ، وإيثارُهُ هَهُنا عَلى ما كَنّى بِهِ عَنْهُ في جَمِيعِ القُرْآنِ مِنَ التَّغْشِيَةِ والمُباشَرَةِ واللَّمْسِ والدُّخُولِ ونَحْوِها، اسْتِقْباحًا لِما وُجِدَ مِنهم قَبْلَ الإباحَةِ، ولِذا سَمّاهُ اخْتِيانًا فِيما بَعْدُ، والنِّساءُ جَمْعُ نِسْوَةٍ، فَهو جَمْعُ الجَمْعِ، أوْ جَمْعُ امِرْأةٍ عَلى غَيْرِ اللَّفْظِ، وإضافَتُها إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ لِلِاخْتِصاصِ؛ إذْ لا يَحِلُّ الإفْضاءُ إلّا لِمَنِ اخْتُصَّ بِالمُفْضِي، إمّا بِتَزْوِيجٍ أوْ مِلْكٍ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ( الرُّفُوثُ ). ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾ أيْ: هُنَّ سَكَنٌ لَكم وأنْتُمْ سَكَنٌ لَهُنَّ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ حِينَ سَألَهُ نافِعُ بْنُ الأزْرَقِ، وأنْشَدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - لَمّا قالَ لَهُ هَلْ تَعْرِفُ العَرَبُ ذَلِكَ؟ قَوْلَ الذِّبْيانِيِّ: إذا ما الضَّجِيعُ ثَنى عِطْفَهُ تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكانَتْ لِباسا ولَمّا كانَ الرَّجُلُ والمَرْأةُ يَتَعانَقانِ ويَشْتَمِلُ كُلٌّ مِنهُما عَلى صاحِبِهِ، شُبِّهَ كَلُّ واحِدٍ بِالنَّظَرِ إلى صاحِبِهِ بِاللِّباسِ، أوْ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما يَسْتُرُ صاحِبَهُ ويَمْنَعُهُ عَنِ الفُجُورِ، وقَدْ جاءَ في الخَبَرِ: «”مَن تَزَوَّجَ فَقَدْ أحْرَزَ ثُلُثَيْ دِينِهِ“،» والجُمْلَتانِ مُسْتَأْنِفَتانِ اسْتِئْنافًا نَحْوِيًّا، والبَيانِيُّ يَأْباهُ الذَّوْقُ، ومَضْمُونُهُما بَيانٌ لِسَبَبِ الحُكْمِ السّابِقِ، وهو قِلَّةُ الصَّبْرِ عَنْهُنَّ كَما يُسْتَفادُ مِنَ الأُولى، وصُعُوبَةُ اجْتِنابِهِنَّ كَما تُفِيدُهُ الثّانِيَةُ، ولِظُهُورِ احْتِياجِ الرَّجُلِ إلَيْهِنَّ وقِلَّةِ صَبْرِهِ قُدِّمَ الأوْلى، وفي الخَبَرِ: «”لا خَيْرَ في النِّساءِ ولا صَبْرَ عَنْهُنَّ، يَغْلِبْنَ كَرِيمًا ويَغْلِبُهُنَّ لَئِيمٌ، وأُحِبُّ أنْ أكُونَ كِرِيمًا مَغْلُوبًا، ولا أُحِبُّ أنْ أكُونَ لَئِيمًا غالِبًا“». ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: أحَلَّ إلَخْ وبَيْنَ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ، أعْنِي ﴿فالآنَ﴾ إلَخْ؛ لِبَيانِ حالِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلى ما فَرَطَ مِنهم قَبْلَ الإحْلالِ، ومَعْنى عُلِمَ تَعَلَّقَ عِلْمُهُ، و( الِاخْتِيانُ ) تَحَرُّكُ شَهْوَةِ الإنْسانِ لِتَحَرِّي الخِيانَةِ أوِ الخِيانَةُ البَلِيغَةُ، فَيَكُونُ المَعْنى: تُنْقِصُونَ أنْفُسَكم تَنْقِيصًا تامًّا بِتَعْرِيضِها لِلْعِقابِ وتَنْقِيصِ حَظِّها مِنَ الثَّوابِ، ويُؤَوَّلُ إلى مَعْنى: تَظْلِمُونَها بِذَلِكَ، والمُرادُ الِاسْتِمْرارُ عَلَيْهِ فِيما مَضى قَبْلَ إخْبارِهِمْ بِالحالِ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ صِيغَتا الماضِي والمُضارِعِ، وهو مُتَعَلِّقُ العِلْمِ، وما تُفْهِمُهُ الصِّيغَةُ الأُولى مِن تَقَدُّمِ كَوْنِهِمْ عَلى الخِيانَةِ عَلى العِلْمِ يَأْبى حَمْلَهُ عَلى الأزَلِيِّ الذّاهِبِ إلَيْهِ البَعْضُ ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى ( عِلْمِ ) والفاءُ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ، والمُرادُ قَبْلَ تَوْبَتِكم حِينَ تُبْتُمْ عَنِ المَحْظُورِ الَّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ، ﴿وعَفا عَنْكُمْ﴾ أيْ: مَحا أثَرَهُ عَنْكم وأزالَ تَحْرِيمَهُ، وقِيلَ: الأوَّلُ لِإزالَةِ التَّحْرِيمِ، وهَذا لِغُفْرانِ الخَطِيئَةِ، ﴿فالآنَ﴾ مُرَتَّبٌ عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ نَظَرًا إلى ما هو المَقْصُودُ مِنَ الإحْلالِ، وهو إزالَةُ التَّحْرِيمِ؛ أيْ: حِينَ نَسَخَ عَنْكم تَحْرِيمَ القُرْبانِ، وهو لَيْلَةُ الصِّيامِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ الغايَةُ الآتِيَةُ، فَإنَّها غايَةٌ لِلْأوامِرِ الأرْبَعَةِ الَّتِي هَذا ظَرْفُها، والحُضُورُ المَفْهُومُ مِنهُ بِالنَّظَرِ إلى فِعْلِ نَسْخِ التَّحْرِيمِ، ولَيْسَ حاضِرًا بِالنَّظَرِ إلى الخِطابِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿باشِرُوهُنَّ﴾، وقِيلَ: إنَّهُ وإنْ كانَ حَقِيقَةً في الوَقْتِ الحاضِرِ، إلّا أنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلى المُسْتَقْبَلِ القَرِيبِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنزِلَةَ الحاضِرِ، وهو المُرادُ هُنا أوْ إنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ والتَّقْدِيرُ قَدْ أبَحْنا لَكم مُباشَرَتَهُنَّ، وأصْلُ المُباشَرَةِ إلْزاقُ البَشَرَةِ بِالبَشَرَةِ، وأُطْلِقَتْ عَلى الجِماعِ لِلُزُومِها لَها. ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أيِ: اطْلُبُوا ما قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى لَكم في اللَّوْحِ مِنَ الوَلَدِ، وهو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والضَّحّاكِ ومُجاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - وغَيْرِهِمْ، والمُرادُ الدُّعاءُ بِطَلَبِ ذَلِكَ بِأنْ يَقُولُوا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنا ما كَتَبْتَ لَنا، وهَذا لا يَتَوَقَّفُ عَلى أنْ يَعْلَمَ كُلُّ واحِدٍ أنَّهُ قُدِّرَ لَهُ ولَدٌ، وقِيلَ: المُرادُ ما قَدَّرَهُ لِجِنْسِكم والتَّعْبِيرُ بِـ ما نَظَرًا إلى الوَصْفِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والسَّماءِ وما بَناها﴾ وفي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُباشِرَ يَنْبَغِي أنْ يَتَحَرّى بِالنِّكاحِ حِفْظَ النَّسْلِ - لا قَضاءَ الشَّهْوَةِ فَقَطْ - لِأنَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - جَعَلَ لَنا شَهْوَةَ الجِماعِ لِبَقاءِ نَوْعِنا إلى (p-66)غايَةٍ كَما جَعَلَ لَنا شَهْوَةَ الطَّعامِ لِبَقاءِ أشْخاصِنا إلى غايَةٍ، ومُجَرَّدُ قَضاءِ الشَّهْوَةِ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ إلّا لِلْبَهائِمِ، وجَعَلَ بَعْضُهم هَذا الطَّلَبَ كِنايَةً عَنِ النَّهْيِ عَنِ العَزْلِ، أوْ عَنْ إتْيانِ المَحاشِّ، وبَعْضٌ فَسَّرَ مِن أوَّلِ مَرَّةٍ ما كُتِبَ بِما سَنَّ وشَرِّعَ مِن صَبِّ الماءِ في مَحَلِّهِ؛ أيِ: اطْلُبُوا ذَلِكَ دُونَ العَزْلِ والإتْيانِ المَذْكُورَيْنِ - والمَشْهُورُ حُرْمَتُهُما - أمّا الأوَّلُ فالمَذْكُورُ في الكُتُبِ فِيهِ أنَّهُ لا يَعْزِلُ الرَّجُلُ عَنِ الحُرَّةِ بِغَيْرِ رِضاها، وعَنِ الأمَةِ المَنكُوحَةِ بِغَيْرِ رِضاها أوْ رِضا سَيِّدِها عَلى الِاخْتِلافِ بَيْنَ الإمامِ وصاحِبَيْهِ، ولا بَأْسَ بِالعَزْلِ عَنْ أمَتِهِ بِغَيْرِ رِضاها؛ إذْ لا حَقَّ لَها. وأمّا الثّانِي فَسَيَأْتِي بَسْطُ الكَلامِ فِيهِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - . ورُوِيَ عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أيْضًا، وعَنْ قَتادَةَ أنَّ المُرادَ: ( ابْتَغُوا ) الرُّخْصَةَ ﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ﴾ تَعالى لَكم فَإنَّ اللَّهَ - تَعالى - يُحِبُّ أنْ تُؤْتى رُخَصُهُ، كَما يُحِبُّ أنْ تُؤْتى عَزائِمُهُ، وعَلَيْهِ تَكُونُ الجُمْلَةُ كالتَّأْكِيدِ لِما قَبْلَها، وعَنْ عَطاءٍ أنَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - كَيْفَ تُقْرَأُ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ابْتَغَوُا﴾ أوِ ( اتْبَعُوا ) ؟ فَقالَ: أيُّهُما شِئْتَ، وعَلَيْكَ بِالقِراءَةِ الأُولى، ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ اللَّيْلَ كُلَّهُ، ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ﴾ أيْ: يَظْهَرَ. ﴿لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ﴾ وهو أوَّلُ ما يَبْدُو مِنَ الفَجْرِ الصّادِقِ المُعْتَرِضِ في الأُفُقِ قَبْلَ انْتِشارِهِ، وحَمْلُهُ عَلى الفَجْرِ الكاذِبِ المُسْتَطِيلِ المُمْتَدِّ كَذَنَبِ السِّرْحانِ، وهْمٌ ﴿مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ﴾ وهو ما يَمْتَدُّ مَعَ بَياضِ الفَجْرِ مِن ظُلْمَةِ آخِرِ اللَّيْلِ. ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ بَيانٌ لِأوَّلِ الخَيْطَيْنِ، ومِنهُ يَتَبَيَّنُ الثّانِي، وخَصَّهُ بِالبَيانِ؛ لِأنَّهُ المَقْصُودُ، وقِيلَ: بَيانٌ لَهُما بِناءً عَلى أنَّ ( الفَجْرَ ) عِبارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِهِما لِقَوْلِ الطّائِيِّ: ؎وأزْرَقُ الفَجْرِ يَبْدُو ∗∗∗ قَبْلَ أبْيَضِهِ فَهُوَ عَلى وِزانِ قَوْلِكَ: حَتّى يَتَبَيَّنَ العالِمُ مِنَ الجاهِلِ مِنَ القَوْمِ، وبِهَذا البَيانِ خَرَجَ الخَيْطانِ عَنْ الِاسْتِعارَةِ إلى التَّشْبِيهِ؛ لِأنَّ شَرْطَها عِنْدَهم تَناسِيهِ بِالكُلِّيَّةِ، وادِّعاءُ أنَّ المُشَبَّهَ هو المُشَبَّهُ بِهِ لَوْلا القَرِينَةُ والبَيانُ يُنادِي عَلى أنَّ المُرادَ مِثْلُ هَذا الخَيْطِ وهَذا الخَيْطِ؛ إذْ هُما لا يَحْتاجانِ إلَيْهِ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مِن تَبْعِيضِيَّةً؛ لِأنَّ ما يَبْدُو جُزْءٌ مِنَ ( الفَجْرِ ) كَما أنَّهُ فَجْرٌ بِناءً عَلى أنَّهُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ الكُلِّ والجُزْءِ، ومِنَ الأُولى قِيلَ: لِابْتِداءِ لِلْغايَةِ، وفِيهِ أنَّ الفِعْلَ المُتَعَدِّيَ بِها يَكُونُ مُمْتَدًّا أوْ أصْلًا لِلشَّيْءِ المُمْتَدِّ، وعَلامَتُها أنْ يَحْسُنَ في مُقابَلَتِها إلى أوْ ما يُفِيدُ مُفادَها، وما هُنا لَيْسَ كَذَلِكَ، فالظّاهِرُ أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِـ يَتَبَيَّنُ بِتَضْمِينِ مَعْنى التَّمَيُّزِ، والمَعْنى: حَتّى يَتَّضِحَ لَكُمُ الفَجْرُ مُتَمَيِّزًا عَنْ غَبَشِ اللَّيْلِ، فالغايَةُ إباحَةُ ما تَقَدَّمَ. ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ﴾ أحَدُهُما مِنَ الآخَرِ ويُمَيَّزَ بَيْنَهُما، ومِن هَذا وجْهُ عَدَمِ الِاكْتِفاءِ بِـ ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾ الفَجْرُ، أوْ ﴿يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطُ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾؛ لِأنَّ تَبَيُّنَ الفَجْرِ لَهُ مَراتِبُ كَثِيرَةٌ، فَيَصِيرُ الحُكْمُ مُجْمَلًا مُحْتاجًا إلى البَيانِ، وما أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - قالَ: أُنْزِلَتْ ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ إلَخْ، ولَمْ يُنْزَلْ ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ فَكانَ رِجالٌ إذا أرادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أحَدُهم في رِجْلَيْهِ الخَيْطَ الأبْيَضَ والخَيْطَ الأسْوَدَ، فَلا يَزالُ يَأْكُلُ ويَشْرَبُ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُما، فَأنْزَلَ اللَّهُ - تَعالى - بَعْدُ: ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾، فَعَلِمُوا إنَّما يَعْنِي اللَّيْلَ والنَّهارَ، فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلى أنَّ الآيَةَ قَبْلُ مُحْتاجَةٌ إلى البَيانِ بِحَيْثُ لا يُفْهَمُ مِنها المَقْصُودُ إلّا بِهِ، وأنَّ تَأْخِيرَ البَيانِ عَنْ وقْتِ الحاجَةِ جائِزٌ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ الخَيْطانِ مُشْتَهِرَيْنِ في المُرادِ مِنهُما، إلّا أنَّهُ صَرَّحَ بِالبَيانِ لِما التَبَسَ عَلى بَعْضِهِمْ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّهُ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وصَفَ مَن لَمْ يَفْهَمِ المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ قَبْلَ التَّصْرِيحِ بِالبَلادَةِ، ولَوْ كانَ الأمْرُ مَوْقُوفًا عَلى البَيانِ لاسْتَوى فِيهِ الذَّكِيُّ والبَلِيدُ، فَقَدْ أخْرَجَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وأحْمَدُ والبُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وجَماعَةٌ «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - قالَ: لَمّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ (p-67)﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ إلَخْ عَمَدْتُ إلى عِقالَيْنِ أحَدُهُما أسْوَدُ والآخَرُ أبْيَضُ، فَجَعَلْتُهُما تَحْتَ وِسادَتِي، فَجَعَلْتُ أنْظُرُ إلَيْهِما، فَلا يَتَبَيَّنُ لِيَ الأبْيَضُ مِنَ الأسْوَدِ، فَلَمّا أصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَأخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَقالَ: ”إنَّ وِسادَكَ إذًا لَعَرِيضٌ، إنَّما ذاكَ بَياضُ النَّهارِ مِن سَوادِ اللَّيْلِ“ وفي رِوايَةٍ: ”إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفا“،» وقِيلَ: إنَّ نُزُولَ الآيَةِ كانَ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضانَ - وهي مُبْهَمَةٌ - والبَيانُ ضَرُورِيٌّ، إلّا أنَّهُ تَأخَّرَ عَنْ وقْتِ الخِطابِ لا عَنْ وقْتِ الحاجَةِ، وهو لا يَضُرُّ، ولا يَخْفى ما فِيهِ. وقالَ أبُو حَيّانَ: إنَّ هَذا مِن بابِ النَّسْخِ، ألا تَرى أنَّ الصَّحابَةَ عَمِلُوا بِظاهِرِ ما دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، ثُمَّ صارَ مَجازًا بِالبَيانِ، ويَرُدُّهُ عَلى ما فِيهِ أنَّ النَّسْخَ يَكُونُ بِكَلامٍ مُسْتَقِلٍّ ولَمْ يُعْهَدْ نَسْخٌ هَكَذا، وفي هَذِهِ الأوامِرِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالكِتابِ، بَلْ عَلى وُقُوعِهِ بِناءً عَلى القَوْلِ بِأنَّ الحُكْمَ المَنسُوخَ مِن حُرْمَةِ الوِقاعِ والأكْلِ والشُّرْبِ كانَتْ ثابِتَةً بِالسُّنَّةِ، ولَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلَيْها، وأحِلُّ أيْضًا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ إلّا أنَّهُ نَسْخٌ بِلا بَدَلٍ وهو مُخْتَلَفٌ فِيهِ، واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ عَلى صِحَّةِ صَوْمِ الجُنُبِ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِن إباحَةِ المُباشَرَةِ إلى تَبَيُّنِ الفَجْرِ إباحَتُها في آخِرِ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ اللَّيْلِ مُتَّصِلٍ بِالصُّبْحِ، فَإذا وقَعَتْ كَذَلِكَ أصْبَحَ الشَّخْصُ جُنُبًا، فَإنْ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ لَمّا جازَتِ المُباشَرَةُ؛ لِأنَّ الجَنابَةَ لازِمَةٌ لَها ومُنافِي اللّازِمِ مُنافٍ لِلْمَلْزُومِ، ولا يَرِدُ خُرُوجُ المَنِيِّ بَعْدَ الصُّبْحِ بِالجِماعِ الحاصِلِ قَبْلَهُ؛ لِأنَّهُ إنَّما يَفْسُدُ الصَّوْمُ لِكَوْنِهِ مُكَمِّلَ الجِماعِ فَهو جِماعٌ واقِعٌ في الصُّبْحِ، ولَيْسَ بِلازِمٍ لِلْجِماعِ كالجَنابَةِ، وخالَفَ في ذَلِكَ بَعْضُهم ومَنَعَ الصِّحَّةَ زاعِمًا أنَّ الغايَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِما عِنْدَها، واحْتَجَّ بِآثارٍ صَحَّ لَدى المُحَدِّثِينَ خِلافُها. واسْتُدِلَّ بِها أيْضًا عَلى جَوازِ الأكْلِ مَثَلًا لِمَن شَكَّ في طُلُوعِ الفَجْرِ؛ لِأنَّهُ - تَعالى - أباحَ ما أباحَ مُغَيًّا بِتَبَيُّنِهِ، ولا تَبَيُّنَ مَعَ الشَّكِّ خِلافًا لِمالِكٍ. ومُجاهِدٍ بِها عَلى عَدَمِ القَضاءِ والحالُ هَذِهِ إذا بانَ أنَّهُ أكَلَ بَعْدَ الفَجْرِ؛ لِأنَّهُ أكَلَ في وقْتٍ أُذِنَ لَهُ فِيهِ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنصُورٍ مِثْلَهُ، ولَيْسَ بِالمَنصُورِ، والأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - عَلى أنَّ أوَّلَ النَّهارِ الشَّرْعِيِّ طُلُوعُ الفَجْرِ، فَلا يَجُوزُ فِعْلُ شَيْءٍ مِنَ المَحْظُوراتِ بَعْدَهُ، وخالَفَ في ذَلِكَ الأعْمَشُ ولا يَتْبَعُهُ إلّا الأعْمى، فَزَعَمَ أنَّ أوَّلَهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ كالنَّهارِ العُرْفِيِّ، وجَوَّزَ فِعْلَ المَحْظُوراتِ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وكَذا الإمامِيَّةُ، وحَمَلَ ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ عَلى التَّبْعِيضِ وإرادَةِ الجُزْءِ الأخِيرِ مِنهُ، والَّذِي دَعاهُ لِذَلِكَ خَبَرُ صَلاةِ النَّهارِ عَجْماءُ، وصَلاةُ الفَجْرِ لَيْسَتْ بِها فَهي في اللَّيْلِ، وأيَّدَهُ بَعْضُهم بِأنَّ شَوْبَ الظُّلْمَةِ بِالضِّياءِ، كَما أنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ اللَّيْلِيَّةِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَنْبَغِي أنْ يَمْنَعَ مِنها قَبْلَ طُلُوعِها وتُساوِي طَرَفَيِ الشَّيْءِ، مِمّا يُسْتَحْسَنُ في الحِكْمَةِ وإلى البَدْءِ يَكُونُ العَوْدُ، وفِيهِ أنَّ النَّهارَ في الخَبَرِ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِالمَعْنى العُرْفِيِّ، ولَوْ أرادَهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - في هَذا الحُكْمِ لَقالَ: كُلُوا واشْرَبُوا إلى النَّهارِ ثُمَّ أتَمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ مَعَ أنَّهُ أخْصَرُ وأوْفَقُ مِمّا عَدَلَ إلَيْهِ، فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ فُهِمَ أنَّ الأمْرَ مَرْبُوطٌ بِالفَجْرِ لا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، سَواءٌ عُدَّ ذَلِكَ نَهارًا أمْ لا، وما ذُكِرَ مِنَ اسْتِحْسانِ تَساوِي طَرَفَيِ الشَّيْءِ مَعَ كَوْنِهِ مِمّا لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِن جُوعٍ، في هَذا البابِ يُمْكِنُ مُعارَضَتُهُ بِأنَّ جَعْلَ أوَّلِ النَّهارِ كَأوَّلِ اللَّيْلِ وهُما مُتَقابِلانِ، مِمّا يَدُلُّ عَلى عِظَمِ قُدْرَةِ الصّانِعِ الحَكِيمِ وإلى الِانْتِهاءِ غايَةَ الإتْمامِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الصِّيامِ فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، ولا يَجُوزُ جَعْلُهُ غايَةً لِلْإيجابِ لِعَدَمِ امْتِدادِهِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ تَدُلُّ الآيَةُ عَلى نَفْيِ كَوْنِ اللَّيْلِ مَحَلَّ الصَّوْمِ، وأنْ يَكُونَ صَوْمُ اليَوْمَيْنِ صَوْمَةً واحِدَةً، وقَدِ اسْتَنْبَطَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِنها حُرْمَةَ الوِصالِ كَما قِيلَ، فَقَدْ رَوى أحْمَدُ مِن طَرِيقِ «لَيْلى امْرَأةِ بَشِيرِ بْنِ الخَصاصِيَةِ، قالَتْ: أرَدْتُ أنْ أصُومَ يَوْمَيْنِ مُواصَلَةً، فَمَنَعَنِي بَشِيرٌ، وقالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - نَهى عَنْهُ، وقالَ: يَفْعَلُ ذَلِكَ النَّصارى، ولَكِنْ صُومُوا كَما أمَرَكُمُ اللَّهُ - تَعالى -،» و﴿أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ فَإذا كانَ اللَّيْلُ فَأفْطِرُوا، ولا تُدُلُّ الآيَةُ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ الصَّوْمُ حَتّى يَتَخَلَّلَ الإفْطارُ خِلافًا لِزاعِمِهِ، (p-68)نَعَمِ اسْتُدِلَّ بِها عَلى صِحَّةِ نِيَّةِ رَمَضانَ في النَّهارِ، وتَقْرِيرُ ذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا﴾ إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿باشِرُوهُنَّ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ﴾ وكَلِمَةُ ثُمَّ للتَّراخِي والتَّعْقِيبِ بِمُهْلَةٍ، ( واللّامُ ) في ( الصِّيام ) لِلْعَهْدِ عَلى ما هو الأصْلُ، فَيَكُونُ مُفادُ ﴿ثُمَّ أتِمُّوا﴾ إلَخْ الأمْرَ بِإتْمامِ الصِّيامِ المَعْهُودِ؛ أيِ الإمْساكُ المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالغايَةِ، سَواءٌ فُسِّرَ بِإتْيانِهِ تامًّا، أوْ بِتَصْيِيرِهِ كَذَلِكَ مُتَراخِيًا عَنِ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ المُنْقَضِيَةِ بِطُلُوعِ الفَجْرِ، تَحْقِيقًا لِمَعْنى ثُمَّ فَصارَتْ نِيَّةُ الصَّوْمِ بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنَ الفَجْرِ؛ لِأنَّ قَصْدَ الفِعْلِ إنَّما يَلْزَمُنا حِينَ تَوَجُّهِ الخِطابِ، وتَوَجُّهُهُ بِالإتْمامِ بَعْدَ الفَجْرِ؛ لِأنَّهُ بَعْدَ الجُزْءِ الَّذِي هو غايَةٌ لِانْقِضاءِ اللَّيْلِ لِمَعْنى التَّراخِي، واللَّيْلُ لا يَنْقَضِي إلّا مُتَّصِلًا بِجُزْءٍ مِنَ الفَجْرِ، فَتَكُونُ النِّيَّةُ بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءِ الفَجْرِ الَّذِي بِهِ انْقَطَعَ اللَّيْلُ، وحَصَلَ فِيهِ الإمْساكُ المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالغايَةِ، فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ كَذَلِكَ وجَبَ وُجُوبَ النِّيَّةِ بَعْدَ المُضِيِّ، أُجِيبَ بِأنَّ تَرْكَ ذَلِكَ بِالإجْماعِ، وبِأنَّ إعْمالَ الدَّلِيلَيْنِ - ولَوْ بِوَجْهٍ - أوْلى مِن إهْمالِ أحَدِهِما، فَلَوْ قُلْنا بِوُجُوبِ النِّيَّةِ كَذَلِكَ عَمَلًا بِالآيَةِ بَطَلَ العَمَلُ بِخَبَرِ: «”لا صِيامَ لِمَن لَمْ يَنْوِ الصِّيامَ مِنَ اللَّيْلِ“،» ولَوْ قُلْنا بِاشْتِراطِ النِّيَّةِ قَبْلَهُ عَمَلًا بِالخَبَرِ بَطَلَ العَمَلُ بِالآيَةِ، فَقُلْنا بِالجَوازِ عَمَلًا بِهِما، فَإنْ قِيلَ: مُقْتَضى الآَيَةِ - عَلى ما ذُكِرَ - الوُجُوبُ وخَبَرُ الواحِدِ لا يُعارِضُها، أُجِيبَ بِأنَّها مَتْرُوكَةُ الظّاهِرِ بِالإجْماعِ، فَلَمْ تَبْقَ قاطِعَةً، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ بَيانًا لَها، ولِبَعْضِ الأصْحابِ تَقْرِيرُ الِاسْتِدْلالِ بِوَجْهٍ آخَرَ، ولَعَلَّ ما ذَكَرْناهُ أقَلُّ مُؤْنَةً فَتَدَبَّرْ. وزَعَمَ بَعْضُ الشّافِعِيَّةِ أنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ التَّبْيِيتِ؛ لِأنَّ مَعْنى ﴿ثُمَّ أتِمُّوا﴾ صَيِّرُوهُ تامًّا بَعْدَ الِانْفِجارِ، وهو يَقْتَضِي الشُّرُوعَ فِيهِ قَبْلَهُ، وما ذاكَ إلّا بِالنِّيَّةِ؛ إذْ لا وُجُوبَ لِلْإمْساكِ قَبْلُ، ولا يَخْفى ما فِيهِ. ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ أيْ: مُعْتَكِفُونَ فِيها، والِاعْتِكافُ في اللُّغَةِ الِاحْتِباسُ واللُّزُومُ مُطْلَقًا، ومِنهُ قَوْلُهُ: فَباتَتْ بَناتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفا عُكُوفَ بَواكِي حَوْلَهُنَّ صَرِيعُ وفي الشَّرْعِ لُبْثٌ مَخْصُوصٌ، والنَّهْيُ عُطِفَ عَلى أوَّلِ الأوامِرِ، والمُباشَرَةُ فِيهِ كالمُباشِرَةِ فِيهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ المُرادَ بِها الجِماعُ، إلّا أنَّهُ لَزِمَ مِن إباحَةِ الجِماعِ إباحَةُ اللَّمْسِ والقُبْلَةِ وغَيْرِهِما بِخِلافِ النَّهْيِ، فَإنَّهُ لا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيُ عَنِ الجِماعِ النَّهْيَ عَنْهُما، فَهُما إمّا مُباحانِ اتِّفاقًا بِأنْ يَكُونا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وإمّا حَرامانِ بِأنْ يَكُونا بِها، ”يَبْطُلُ الِاعْتِكافُ ما لَمْ يُنْزِلْ“، وصَحَّحَ مُعْظَمُ أصْحابِ الشّافِعِيِّ البُطْلانَ، وقِيلَ: المُرادُ مِنَ ( المُباشَرَةِ ) مُلاقاةُ البَشْرَتَيْنِ، فَفي الآيَةِ مَنعٌ عَنْ مُطْلَقِ المُباشَرَةِ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، فَقَدْ «كانَتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - تُرَجِّلُ رَأْسَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وهو مُعْتَكِفٌ،» وفي تَقْيِيدِ الِاعْتِكافِ بِالمَساجِدِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يَصِحُّ إلّا في المَسْجِدِ؛ إذْ لَوْ جازَ شَرْعًا في غَيْرِهِ لَجازَ في البَيْتِ، وهو باطِلٌ بِالإجْماعِ، ويَخْتَصُّ بِالمَسْجِدِ الجامِعِ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ. ورُوِيَ عَنِ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَسْجِدٍ لَهُ إمامٌ ومُؤَذِّنٌ راتِبٌ، وقالَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: يَخْتَصُّ بِالمَساجِدِ الثَّلاثِ، وعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - لا يَجُوزُ إلّا في المَسْجِدِ الحَرامِ، وعَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ: لا يَجُوزُ إلّا فِيهِ أوْ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّهُ يَصِحُّ في جَمِيعِ المَساجِدِ مُطْلَقًا، بِناءً عَلى عُمُومِ اللَّفْظِ، وعَدَمِ اعْتِبارِ أنَّ المُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلى الكامِلِ، واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ عَلى صِحَّةِ اعْتِكافِ المَرْأةِ في غَيْرِ المَسْجِدِ بِناءً عَلى أنَّها لا تَدْخُلُ في خِطابِ الرِّجالِ، وعَلى اشْتِراطِ الصَّوْمِ في الِاعْتِكافِ؛ لِأنَّهُ قَصَرَ الخِطابَ عَلى الصّائِمِينَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ مِن شَرْطِهِ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ مَعْنًى، وهو المَرْوِيُّ عَنْ نافِعٍ مَوْلى ابْنِ عُمَرَ وعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وعَلى أنَّهُ لا يَكْفِي فِيهِ أقَلُّ مِن يَوْمٍ - كَما أنَّ الصَّوْمَ لا يَكُونُ كَذَلِكَ - والشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ (p-69)تَعالى عَنْهُ - لا يَشْتَرِطُ يَوْمًا ولا صَوْمًا، لِما أخْرَجَ الدّارَقُطْنِيُّ والحاكِمُ، وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: «”لَيْسَ عَلى المُعْتَكِفِ صِيامٌ إلّا أنْ يَجْعَلَهُ عَلى نَفْسِهِ“،» ومِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - رِوايَتانِ أخْرَجَهُما ابْنُ أبِي شَيْبَةَ مِن طَرِيقَيْنِ إحْداهُما الِاشْتِراطُ وثانِيَتُهُما عَدَمُهُ، وعَلى أنَّ المُعْتَكِفَ إذا خَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ فَباشَرَ خارِجًا جازَ؛ لِأنَّهُ حَصَرَ المَنعَ مِنَ المُباشَرَةِ حالَ كَوْنِهِ فِيهِ، وأُجِيبَ بِأنَّ المَعْنى: ( لا تُباشِرُوهُنَّ ) حالَ ما يُقالُ لَكُمْ: إنَّكم ﴿عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ ومَن خَرَجَ مِنَ المَسْجِدِ لِقَضاءِ الحاجَةِ فاعْتِكافُهُ باقٍ، ويُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ: كانَ الرَّجُلُ يَعْتَكِفُ فَيَخْرُجُ إلى امِرْأتِهِ فَيُباشِرُها ثُمَّ يَرْجِعُ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، واسْتُدِلَّ بِها أيْضًا عَلى أنَّ الوَطْءَ يُفْسِدُ الِاعْتِكافَ؛ لِأنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وهو في العِباداتِ يُوجِبُ الفَسادَ، وفِيهِ أنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ هُنا المُباشَرَةُ حالَ الِاعْتِكافَ، وهو لَيْسَ مِنَ العِباداتِ، لا يُقالُ: إذا وقَعَ أمْرٌ مَنهِيٌّ عَنْهُ في العِبادَةِ، كالجِماعِ في الِاعْتِكافِ، كانَتْ تِلْكَ العِبادَةُ مَنهِيَّةً بِاعْتِبارِ اشْتِمالِها عَلى المَنهِيِّ ومُقارَنَتِها إيّاهُ؛ إذْ يُقالُ: فَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ مَنهِيًّا عَنْهُ بِاعْتِبارِ ما يُقارِنُهُ، وبَيْنَ كَوْنِ المُقارِنِ مَنهِيًّا في ذَلِكَ الشَّيْءِ والكَلامُ في الأوَّلِ، وما نَحْنُ فِيهِ مِن قَبِيلِ الثّانِي، ﴿تِلْكَ﴾ أيِ: الأحْكامُ السِّتَّةُ المَذْكُورَةُ المُشْتَمِلَةُ عَلى إيجابِ وتَحْرِيمِ وإباحَةِ ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ أيْ: حاجِزَةٌ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، ﴿فَلا تَقْرَبُوها﴾ كَيْلا يُدانِيَ الباطِلَ، والنَّهْيُ عَنِ القُرْبِ مِن تِلْكَ الحُدُودِ الَّتِي هي الأحْكامُ كِنايَةً عَنِ النَّهْيِ عَنْ قُرْبِ الباطِلِ؛ لِكَوْنِ الأوَّلِ لازِمًا لِلثّانِي، وهو أبْلَغُ مِن لا تعتدوها؛ لِأنَّهُ نَهى عَنْ قُرْبِ الباطِلِ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ الَّتِي هي أبْلَغُ مِنَ الصَّرِيحِ، وذَلِكَ نَهْيٌ عَنِ الوُقُوعِ في الباطِلِ بِطَرِيقِ الصَّرِيحِ، وعَلى هَذا لا يَشْكُلُ ( لا تَقرِّبُوها ) في تِلْكَ الأحْكامِ، مَعَ اشْتِمالِها عَلى ما سَمِعْتَ، ولا وُقُوعَ ﴿فَلا تَعْتَدُوها﴾، وفي آيَةٍ أُخْرى؛ إذْ قَدْ حَصَلَ الجَمْعُ، وصَحَّ ( لا تُقَرِّبُوها ) في الكُلِّ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِـ ( حُدُود اللَّهِ ) تَعالى مَحارِمُهُ ومَناهِيهِ؛ إمّا لِأنَّ الأوامِرَ السّابِقَةَ تَسْتَلْزِمُ النَّواهِيَ لِكَوْنِها مُغَيّاةً بِالغايَةِ، وإمّا لِأنَّ المُشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ﴾ وأمْثالُهُ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: مَعْنى ( لا تُقَرِّبُوها ) لا تَتَعَرَّضُوا لَها بِالتَّغْيِيرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ﴾ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ الأحْكامِ - ولا يَخْفى ما في الوَجْهَيْنِ مِنَ التَّكْلِيفِ – والقَوْلُ بِأنَّ تِلْكَ إشارَةٌ إلى الأحْكامِ، ( والحَدُّ ) إمّا بِمَعْنى المَنعِ أوْ بِمَعْنى الحاجِزِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فَعَلى الأوَّلِ يَكُونُ المَعْنى تِلْكَ الأحْكامُ مَمْنُوعاتُ اللَّهِ - تَعالى - عَنِ الغَيْرِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أنْ يَحْكُمَ بِشَيْءٍ، ﴿فَلا تَقْرَبُوها﴾ أيْ: لا تَحْكُمُوا عَلى أنْفُسِكم أوْ عَلى عِبادِهِ مِن عِنْدِ أنْفُسِكم بِشَيْءٍ، فَإنَّ الحُكْمَ لِلَّهِ - تَعالى عَزَّ شَأْنُهُ -، وعَلى الثّانِي يُرِيدُ أنَّ تِلْكَ الأحْكامَ حُدُودٌ حاجِزَةٌ بَيْنَ الأُلُوهِيَّةِ والعُبُودِيَّةِ، فالإلَهُ يَحْكُمُ والعِبادُ تَنْقادُ، فَلا تَقْرَبُوا الأحْكامَ؛ لِئَلّا تَكُونُوا مُشْرِكِينَ بِاللَّهِ تَعالى، لا يَكادُ يُعْرَضُ عَلى ذِي لُبٍّ فَيَرْتَضِيهِ، وهو بَعِيدٌ بِمَراحِلَ عَنِ المَقْصُودِ كَما لا يَخْفى. ﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّبْيِينِ الواقِعِ في أحْكامِ الصَّوْمِ ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ﴾ إمّا مُطْلَقًا أوِ الآياتِ الدّالَّةَ عَلى سائِرِ الأحْكامِ الَّتِي شَرَعَها ﴿لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَّقُونَ 187﴾ مُخالَفَةَ أوامِرِهِ ونَواهِيهِ، والجُمْلَةُ اعْتِراضٌ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِتَقْرِيرِ الأحْكامِ السّابِقَةِ والتَّرْغِيبِ إلى امْتِثالِها، بِأنَّها شُرِعَتْ لِأجْلِ تَقْواكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب