الباحث القرآني
* بابُ الأكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ لَيْلَةَ الصِّيامِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ ذَلِكَ كانَ في الفَرْضِ الأوَّلِ مِنَ الصِّيامِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣] وأنَّهُ كانَ صَوْمُ ثَلاثَةِ أيّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وأنَّهُ كانَ مِن حِينِ يُصَلِّي العَتَمَةَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الطَّعامُ والشَّرابُ والجِماعُ إلى القابِلَةِ رَواهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ورَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَهُ، ولَمْ يَذْكُرْ أنَّهُ كانَ في الصَّوْمِ الأوَّلِ.
ورَوى عَطاءٌ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ " أنَّهُ كانَ إذا صَلّى العَتَمَةَ ورَقَدَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعامُ والشَّرابُ والجِماعُ "، ورَوى الضَّحّاكُ " أنَّهُ كانَ يُحَرَّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِن حِينِ يُصَلُّونَ العَتَمَةَ " وعَنْ مُعاذٍ " أنَّهُ كانَ يُحَرَّمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّوْمِ " وكَذَلِكَ ابْنُ أبِي لَيْلى عَنْ أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ قالُوا: ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ لَمْ يَأْكُلْ ولَمْ يَشْرَبْ حَتّى نامَ، فَأصْبَحَ صائِمًا فَأجْهَدَهُ الصَّوْمُ، وجاءَ عُمَرُ وقَدْ أصابَ امْرَأتَهُ بَعْدَ ما نامَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ ونَسَخَ بِهِ تَحْرِيمَ الأكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ بَعْدَ النَّوْمِ.
والرَّفَثُ المَذْكُورُ هو الجِماعُ لا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العَلَمِ فِيهِ واسْمُ الرَّفَثِ يَقَعُ عَلى الجِماعِ وعَلى الكَلامِ الفاحِشِ ويُكَنّى بِهِ عَنِ الجِماعِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ﴾ [البقرة: ١٩٧] إنَّهُ مُراجَعَةُ النِّساءِ بِذِكْرِ الجِماعِ؛ قالَ العَجّاجُ:
عَنِ اللَّغا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ
(p-٢٨٢)فَأوْلى الأشْياءِ بِمَعْنى الآيَةِ هو الجِماعُ نَفْسُهُ؛ لِأنَّ رَفَثَ الكَلامَ غَيْرُ مُباحٍ، ومُراجَعَةُ النِّساءِ بِذِكْرِ الجِماعِ لَيْسَ لَها حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ لا فِيما سَلَفَ ولا في المُسْتَأْنَفِ، فَعُلِمَ أنَّ المُرادَ هو ما كانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ مِنَ الجِماعِ فَأُبِيحَ لَهم بِهَذِهِ الآيَةِ ونُسِخَ بِهِ ما تَقَدَّمَ مِنَ الحَظْرِ
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكم وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾ بِمَعْنى هُنَّ كاللِّباسِ لَكم في إباحَةِ المُباشَرَةِ ومُلابَسَةِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما لِصاحِبِهِ؛ قالَ النّابِغَةُ الجَعْدِيُّ:
؎إذا ما الضَّجِيعُ ثَنى عِطْفَهُ تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكانَتْ لِباسا
ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِاللِّباسِ السِّتْرُ؛ لِأنَّ اللِّباسَ هو ما يَسْتُرُ، وقَدْ سَمّى اللَّهُ تَعالى اللَّيْلَ لِباسا؛ لِأنَّهُ يَسْتُرُ كُلَّ شَيْءٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بِظَلامِهِ، فَإنْ كانَ المَعْنى ذَلِكَ، فالمُرادُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما سَتَرَ صاحِبَهُ عَنِ التَّخَطِّي إلى ما يَهْتِكُهُ مِنَ الفَواحِشِ، ويَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُتَعَفِّفًا بِالآخَرِ مُسْتَتِرا بِهِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ ذِكْرٌ لِلْحالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْها الخِطابُ واعْتِدادٌ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْنا بِالتَّخْفِيفِ بِإباحَةِ الجِماعِ والأكْلِ والشُّرْبِ في لَيالِي الصَّوْمِ واسْتِدْعاءٌ لِشُكْرِهِ عَلَيْها.
ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ أيْ يَسْتَأْثِرُ بَعْضُكم بَعْضًا في مُواقَعَةِ المَحْظُورِ مِنَ الجِماعِ والأكْلِ والشُّرْبِ بَعْدَ النَّوْمِ في لَيالِي الصَّوْمِ، كَقَوْلِهِ: ﴿تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] يَعْنِي يَقْتُلُ بَعْضُكم بَعْضًا ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ كُلَّ واحِدٍ في نَفْسِهِ بِأنَّهُ يَخُونُها، وسَمّاهُ خائِنًا لِنَفْسِهِ مِن حَيْثُ كانَ ضَرَرُهُ عائِدًا عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ أنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ المُسْتَأْثِرِ لَهُ، فَهو يُعامِلُ نَفْسَهُ بِعَمَلِ الخائِنِ لَها، والخِيانَةُ هي انْتِقاصُ الحَقِّ عَلى جِهَةِ المُساتَرَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: قَبُولُ التَّوْبَةِ مِن خِيانَتِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ، والآخَرُ: التَّخْفِيفُ عَنْكم بِالرُّخْصَةِ والإباحَةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ [المزمل: ٢٠] يَعْنِي واللَّهُ أعْلَمُ: خَفَّفَ عَنْكم، وكَما قالَ عَقِيبَ ذِكْرِ حُكْمِ قَتْلِ الخَطَإ: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: ٩٢] يَعْنِي تَخْفِيفَهُ؛ لِأنَّ قاتِلَ الخَطَأِ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا تَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ مِنهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَفا عَنْكُمْ﴾ يَحْتَمِلُ أيْضًا العَفْوَ عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي اقْتَرَفُوهُ بِخِيانَتِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ، ثُمَّ لَمّا أحْدَثُوا التَّوْبَةَ مِنهُ عَفا عَنْهم في الخِيانَةِ، ويُحْتَمَلُ أيْضًا التَّوْسِعَةُ والتَّسْهِيلُ بِإباحَةِ ما أباحَ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّ العَفْوَ يُعَبَّرُ بِهِ في اللُّغَةِ عَنِ التَّسْهِيلِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أوَّلُ الوَقْتِ رِضْوانُ اللَّهِ وآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» يَعْنِي تَسْهِيلَهُ وتَوْسِعَتُهُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ إباحَةٌ لِلْجِماعِ المَحْظُورِ كانَ قَبْلَ ذَلِكَ في لَيالِي الصَّوْمِ، والمُباشَرَةُ هي إلْصاقِ البَشَرَةِ بِالبَشَرَةِ، وهي في هَذا المَوْضِعِ (p-٢٨٣)كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ؛ قالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمُ: " هي المُواقَعَةُ والجِماعُ " وقالَ في المُباشَرَةِ مَرَةً: " هي إلْصاقُ الجِلْدِ بِالجِلْدِ "، وقالَ الحَسَنُ: " المُباشَرَةِ النِّكاحُ "، وقالَ مُجاهِدً: " الجِماعُ " وهو مِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ .
وقَوْلُهُ: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قالَ عَبْدُ الوَهّابِ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " الوَلَدُ "، وعَنْ مُجاهِدٍ والحَسَنِ والضَّحّاكِ والحَكَمِ مِثْلُهُ، ورَوى مُعاذُ بْنُ هِشامٍ قالَ: حَدَّثَنِي أبِي عَنْ عَمْرِو بْنِ مالِكٍ عَنْ أبِي الجَوْزاءِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قالَ لَيْلَةَ القَدْرِ " وقالَ قَتادَةُ في قَوْلِهِ: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قالَ: " الرُّخْصَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكم "،
قالَ أبُو بَكْرٍ: إذا كانَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ الجِماعَ، فَقَوْلُهُ: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلى الجِماعِ لِما فِيهِ مِن تَكْرارِ المَعْنى في خِطابٍ واحِدٍ، ونَحْنُ مَتى أمْكَنَنا اسْتِعْمالُ كُلِّ لَفْظِ عَلى فائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ فَغَيْرُ جائِزٍ الِاقْتِصارُ بِها عَلى فائِدَةٍ واحِدَةٍ، وقَدْ أفادَ قَوْلُهُ: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾ إباحَةَ الجِماعِ، فالواجِبُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ عَلى غَيْرِ الجِماعِ، ثُمَّ لا يَخْلُو مِن أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ لَيْلَةَ القَدْرِ عَلى ما رَواهُ أبُو الجَوْزاءِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أوِ الوَلَدَ عَلى ما رُوِيَ عَنْهُ وعَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ قَدَّمْنا ذِكْرَهُ، أوِ الرُّخْصَةُ عَلى ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ، فَلَمّا كانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ المَعانِي ولَوْلا احْتِمالُهُ لَها لَما تَأوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْها وجَبَ أنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلى الجَمِيعِ، وعَلى أنَّ الكُلَّ مُرادُ اللَّهِ تَعالى فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُنْتَظِمًا لِطَلَبِ لَيْلَةِ القَدْرِ في رَمَضانَ ولِاتِّباعِ رُخْصَةِ اللَّهِ تَعالى ولِطَلَبِ الوَلَدِ، فَيَكُونُ العَبْدُ مَأْجُورًا عَلى ما يَقْصِدَهُ مِن ذَلِكَ، ويَكُونُ الأمْرُ بِطَلَبِ الوَلَدِ عَلى مَعْنى ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ فَإنِّي مُكاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ القِيامَةِ»، وكَما سَألَ زَكَرِيّا رَبَّهُ أنْ يَرْزُقَهُ ولَدًا بِقَوْلِهِ: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ولِيًّا﴾ [مريم: ٥] ﴿يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: ٦]
وقَوْلُهُ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ إطْلاقٌ مِن حَظْرٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ١٠] وقَوْلِهِ: ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ [المائدة: ٢] ونَظائِرِ ذَلِكَ مِنَ الإباحَةِ الوارِدَةِ بَعْدَ الحَظْرِ، فَيَكُونُ حُكْمُ اللَّفْظِ مَقْصُورًا عَلى الإباحَةِ لا عَلى الإيجابِ ولا النَّدْبِ.
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اقْتَضَتِ الآيَةُ إباحَةَ الأكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ إلى أنْ يَتَبَيَّنَ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ، رُوِيَ أنَّ رِجالًا مِنهم حَمَلُوا ذَلِكَ عَلى حَقِيقَةِ الخَيَطِ الأبْيَضِ والأسْوَدِ وتَبَيُّنِ أحَدِهِما مِنَ الآخَرِ، مِنهم عَدِيُّ بْنُ حاتِمِ حَدَّثَنا (p-٣٨٤)مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قالَ: وحَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ إدْرِيسَ المَعْنِيُّ عَنْ حُصَيْنٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ «عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ﴾ قالَ: أخَذْتُ عِقالًا أبْيَضَ وعِقالًا أسْوَدَ فَوَضَعْتُهُما تَحْتَ وِسادَتِي، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أتَبَيَّنْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَضَحِكَ فَقالَ: إنَّ وِسادَكَ إذًا لَعَرِيضٌ طَوِيلٌ إنَّما هو اللَّيْلُ والنَّهارُ» قالَ عُثْمانُ: إنَّما هو سَوادُ اللَّيْلِ وبَياضُ النَّهارِ " .
قالَ: وحَدَّثَنا أبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اليَمانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ أبِي مَرْيَمَ عَنْ أبِي غَسّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ قالَ: أخْبَرْنا أبُو حازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قالَ: لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ﴾ ولَمْ يَنْزِلِ ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ قالَ: فَكانَ رِجالٌ إذا أرادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أحَدُهم في رِجْلِهِ الخَيْطَ الأبْيَضَ والخَيْطَ الأسْوَدَ، فَلا يَزالُ يَأْكُلُ ويَشْرَبُ حَتّى يَتَبَيَّنا لَهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ فَعَلِمُوا أنَّهُ إنَّما يَعْنِي بِذَلِكَ اللَّيْلَ والنَّهارَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: إذا كانَ قَوْلُهُ ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ مُبَيَّنًا فِيهِ فَلا إلْباسَ عَلى أحَدٍ في أنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ حَقِيقَةُ الخَيْطِ، لِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ ويُشْبِهُ أنْ يَكُونَ إنَّما اشْتَبَهَ عَلى عَدِيٍّ وغَيْرِهِ مِمَّنْ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلى حَقِيقَتِهِ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ الخَيْطَ اسْمٌ لِلْخَيْطِ المَعْرُوفِ حَقِيقَةً، وهو مَجازٌ واسْتِعارَةٌ في سَوادِ اللَّيْلِ وبَياضِ النَّهارِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ كانَ شائِعًا في لُغَةِ قُرَيْشٍ ومَن خُوطِبُوا بِهِ مِمَّنْ كانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ نُزُولِ الآيَةِ، وأنَّ عَدِيَّ بْنَ حاتِمٍ ومَن أشْكَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُونُوا عَرَفُوا هَذِهِ اللُّغَةَ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ كُلُّ العَرَبِ تَعْرِفُ سائِرَ لُغاتِها.
وجائِزٌ مَعَ ذَلِكَ أنْ يَكُونُوا عَرَفُوا ذَلِكَ اسْمًا لِلْخَيْطِ حَقِيقَةً ولِبَياضِ النَّهارِ وسَوادِ اللَّيْلِ مَجازًا ولَكِنَّهم حَمَلُوا اللَّفْظَ عَلى الحَقِيقَةِ، فَلَمّا سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ أخْبَرَهم بِمُرادِ اللَّهِ تَعالى مِنهُ، وأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ فَزالَ الِاحْتِمالُ وصارَ المَفْهُومُ مِنَ اللَّفْظِ سَوادَ اللَّيْلِ وبَياضَ النَّهارِ، وقَدْ كانَ ذَلِكَ اسْمًا لِسَوادِ اللَّيْلِ وبَياضِ النَّهارِ في الجاهِلِيَّةِ، قَبْلَ الإسْلامِ مَشْهُورًا ذَلِكَ عِنْدَهم؛ قالَ أبُو داوُدَ الإيادِيُّ:
؎ولَمّا أضاءَتْ لَنا ظُلْمَةٌ ∗∗∗ ولاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أنارا
وقالَ آخَرُ في الخَيْطِ الأسْوَدِ:
؎قَدْ كادَ يَبْدُو أوْ بَدَتْ تُباشِرُهُ ∗∗∗ وسِدْفُ الخَيْطِ البَهِيمِ ساتِرُهُ
(p-٢٨٥)فَقَدْ كانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا في اللِّسانِ قَبَلَ نُزُولِ القُرْآنِ بِهِ وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ المُثَنّى: الخَيْطُ الأبْيَضُ هو الصُّبْحُ والخَيْطُ الأسْوَدُ اللَّيْلُ؛ قالَ: والخَيْطُ هو اللَّوْنُ.
فَإنْ قِيلِ: كَيْفَ شَبَّهَ اللَّيْلَ بِالخَيْطِ الأسْوَدِ وهو مُشْتَمِلٌ عَلى جَمِيعِ العالَمِ، وقَدْ عَلِمْنا أنَّ الصُّبْحَ إنَّما شُبِّهَ بِالخَيْطِ؛ لِأنَّهُ مُسْتَطِيلٌ أوْ مُسْتَعْرِضٌ في الأُفُقِ، فَأمّا اللَّيْلُ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الخَيْطِ تَشابُهٌ ولا مُشاكَلَةٌ ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ الخَيْطَ الأسْوَدَ هو السَّوادُ الَّذِي في المَوْضِعِ قَبْلَ ظُهُورِ الخَيْطِ الأبْيَضِ فِيهِ، وهو في ذَلِكَ المَوْضِعِ مُساوٍ لِلْخَيْطِ الأبْيَضِ الَّذِي يَظْهَرُ بَعْدَهُ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الخَيْطَ الأسْوَدَ.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في تَحْدِيدِ الوَقْتِ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ الأكْلُ والشُّرْبُ عَلى الصّائِمِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَوادَةَ القُشَيْرِيِّ عَنْ أبِيهِ قالَ: سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ يَخْطُبُ وهو يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَمْنَعَنَّكم مِن سَحُورِكم أذانُ بِلالٍ ولا بَياضُ الأُفُقِ الَّذِي هَكَذا حَتّى يَسْتَطِيرَ» وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسى قالَ: حَدَّثَنا مُلازِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمانِ قالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ عَنْ أبِيهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُوا واشْرَبُوا ولا يَهِيدَنَّكُمُ السّاطِعُ المُصْعِدُ فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأحْمَرُ» .
فَذَكَرَ في هَذا الخَبَرِ الأحْمَرَ، ولا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أنَّ الفَجْرَ الأبْيَضَ المُعْتَرِضَ في الأُفُقِ قَبْلَ ظُهُورِ الحُمْرَةِ يَحْرُمُ بِهِ الطَّعامُ والشَّرابُ عَلى الصّائِمِ؛ وقالَ ﷺ لِعَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ: «إنَّما هو بَياضُ النَّهارِ وسَوادُ اللَّيْلِ» ولَمْ يَذْكُرِ الحُمْرَةَ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ قالَ: «تَسَحَّرْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وكانَ نَهارًا إلّا أنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ»، قِيلَ لَهُ: لا يَثْبُتُ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ وهو مَعَ ذَلِكَ مِن أخْبارِ الآحادِ، فَلا يَجُوزُ الِاعْتِراضُ بِهِ عَلى القُرْآنِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ فَأوْجَبَ الصَّوْمَ والإمْساكَ عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ بِظُهُورِ الخَيْطِ الَّذِي هو بَياضُ الفَجْرِ.
وحَدِيثُ حُذَيْفَةَ إنْ حُمِلَ عَلى حَقِيقَتِهِ كانَ مُبِيحًا لِما حَظَرَتْهُ الآيَةُ؛ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ في حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ: «هُوَ بَياضُ النَّهارِ وسَوادُ اللَّيْلِ» فَكَيْفَ يَجُوزُ الأكْلُ نَهارًا في الصَّوْمِ مَعَ تَحْرِيمِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ بِالقُرْآنِ والسُّنَّةِ ؟ ولَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ مِن طَرِيقِ النَّقْلِ لَمْ يُوجِبْ جَوازَ الأكْلِ في ذَلِكَ الوَقْتِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَعْزُ الأكْلَ إلى النَّبِيِّ ﷺ وإنَّما أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أنَّهُ أكَلَ في ذَلِكَ الوَقْتِ لا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَكَوْنُهُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في وقْتِ الأكْلِ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى عِلْمِ (p-٢٨٦)النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ مِنهُ وإقْرارِهِ عَلَيْهِ، ولَوْ ثَبَتَ أنَّهُ ﷺ عَلِمَ بِذَلِكَ وأقَرَّهُ عَلَيْهِ احْتَمَلَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كانَ في آخِرِ اللَّيْلِ قُرْبَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَسَمّاهُ نَهارًا لِقُرْبِهِ مِنهُ، كَما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النّاقِدُ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ خالِدٍ الخَيّاطُ قالَ: حَدَّثَنا مُعاوِيَةُ بْنُ صالِحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ سَيْفٍ عَنْ الحارِثِ بْنِ زِيادٍ عَنْ أبِي رُهْمٍ عَنِ العِرْباضِ بْنِ سارِيَةَ قالَ: «دَعانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى السَّحُورِ في رَمَضانَ فَقالَ: هَلُمَّ إلى الغَداءِ المُبارَكِ» فَسَمّى السَّحُورَ غَداءً لِقُرْبِهِ مِنَ الغَداءِ.
كَذَلِكَ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ سَمّى الوَقْتَ الَّذِي تَسَحَّرَ فِيهِ نَهارًا لِقُرْبِهِ مِنَ النَّهارِ قالَ أبُو بَكْرٍ فَقَدْ وضَحَ بِما تَلَوْنا مِن كِتابِ اللَّهِ وتَوْقِيفِ نَبِيِّهِ ﷺ أنَّ أوَّلَ وقْتِ الصَّوْمِ هو طُلُوعُ الفَجْرِ الثّانِي المُعْتَرِضِ في الأُفُقِ، وأنَّ الفَجْرَ المُسْتَطِيلَ إلى وسَطِ السَّماءِ هو مِنَ اللَّيْلِ، والعَرَبُ تُسَمِّيهِ ذَنَبَ السِّرْحانِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في حُكْمِ الشّاكِّ في الفَجْرِ، فَذَكَرَ أبُو يُوسُفَ في الإمْلاءِ أنَّ أبا حَنِيفَةَ قالَ: " يَدَعُ الرَّجُلُ السَّحُورُ إذا شَكَّ في الفَجْرِ أحَبُّ إلَيَّ، فَإنْ تَسَحَّرَ فَصَوْمُهُ تامٌّ " وهو قَوْلُهم جَمِيعًا في الأصْلِ، وقالَ: " إنْ أكَلَ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ " وحَكى ابْنُ سِماعَةَ عَنْ أبِي يُوسُفَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ " أنَّهُ إنْ أكَلَ وهو شاكٌّ قَضى يَوْمًا " وقالَ أبُو يُوسُفَ: " لَيْسَ عَلَيْهِ في الشَّكِّ قَضاءٌ "، وقالَ الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ: " أنَّهُ إنْ كانَ في مَوْضِعٍ يَسْتَبِينُ الفَجْرَ ويَرى مَطْلَعَهُ مِن حَيْثُ يَطْلُعُ لَيْسَ هُناكَ عِلَّةٌ فَلْيَأْكُلْ ما لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ الفَجْرُ، وهو قَوْلُ اللَّهِ تَعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ " وقالَ: وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: " إنْ كانَ في مَوْضِعٍ لا يُرى فِيهِ الفَجْرُ أوْ كانَتْ مُقْمِرَةً وهو يَشُكُّ في الفَجْرِ فَلا يَأْكُلُ، وإنْ أكَلَ فَقَدْ أساءَ، وإنْ كانَ أكْبَرُ رَأْيِهِ أنَّهُ أكَلَ والفَجْرُ طالِعٌ قَضى، وإلّا لَمْ يَقْضِ، وسَواءٌ كانَ في سَفَرٍ أوْ حَضَرٍ "، وهَذا قَوْلُ زُفَرَ وأبِي يُوسُفَ، وبِهِ نَأْخُذُ.
وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهم في الشَّكِّ في غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ عَلى هَذا الِاعْتِبارِ،
قالَ أبُو بَكْرٍ: ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ رِوايَةُ الأصْلِ ورِوايَةُ الإمْلاءِ في كَراهِيَتِهِمُ الأكْلَ عِنْدَ الشَّكِّ في الفَجْرِ مَحْمُولَيْنِ عَلى ما رَواهُ الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ؛ لِأنَّهُ فَسَّرَ ما أجْمَلُوهُ في الرِّوايَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ؛ ولِأنَّها مُوافِقَةٌ لِظاهِرِ الكِتابِ، وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ بَعَثَ رَجُلَيْنِ لِيَنْظُرا لَهُ طُلُوعَ الفَجْرِ في الصَّوْمِ فَقالَ أحَدُهُما: قَدْ طَلَعَ، وقالَ الآخَرُ: لَمْ يَطْلُعْ، فَقالَ: " اخْتَلَفْتُما فَأكَلَ "، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وذَلِكَ في حالٍ أمْكَنَ فِيها الوُصُولُ إلى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ الفَجْرِ مِن طَرِيقِ المُشاهَدَةِ؛ وقالَ تَعالى: (p-٢٨٧)﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ فَأباحَ الأكْلَ إلى أنْ يَتَبَيَّنَ، والتَّبَيُّنُ إنَّما هو حُصُولُ العِلْمِ الحَقِيقِيِّ، ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ إنَّما أُمِرُوا بِهِ في حالٍ يُمْكِنُهم فِيها الوُصُولُ إلى العِلْمِ الحَقِيقِيِّ بِطُلُوعِهِ.
وأمّا إذا كانَتْ لَيْلَةً مُقْمِرَةً أوْ لَيْلَةَ غَيْمٍ أوْ في مَوْضِعٍ لا يُشاهِدُ مَطْلِعَ الفَجْرِ، فَإنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِياطِ لِلصَّوْمِ؛ إذْ لا سَبِيلَ لَهُ إلى العِلْمِ بِحالِ الطُّلُوعِ، فالواجِبُ عَلَيْهِ الإمْساكُ اسْتِبْراءً لِدِينِهِ؛ لِما حَدَّثَنا شُعْبَةُ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ أبِي مَرْيَمَ السَّلُولِيُّ قالَ: سَمِعْتُ أبا الجَوْزاءِ السَّعْدِيَّ قالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: ما تَذْكُرُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ؟ قالَ: كانَ يَقُولُ: «دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ، فَإنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ والكَذِبَ رِيبَةٌ» .
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قالَ: حَدَّثَنا أبُو شِهابٍ: حَدَّثَنا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: سَمِعْتُ النُّعْمانَ بْنِ بَشِيرٍ ولا أسْمَعُ أحَدًا بَعْدَهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ وبَيْنَهُما أُمُورٌ مُتَشابِهاتٌ؛ وسَأضْرِبُ في ذَلِكَ مَثَلًا: إنَّ اللَّهَ حَمى حِمًى وإنَّ حِمى اللَّهِ ما حَرَّمَ، وإنَّهُ مَن يَرْعى حَوَلَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يُخالِطَهُ، وإنَّهُ مَن يُخالِطِ الرِّيبَةَ يُوشِكْ أنْ يَجْسُرَ» .
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ مُوسى الرّازِيُّ قالَ: أخْبَرَنا عِيسى قالَ: حَدَّثَنا زَكَرِيّا عَنْ عامِرٍ قالَ: سَمِعْتُ النُّعْمانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؛ بِهَذا الحَدِيثِ، قالَ: «وبَيْنَهُما أُمُورٌ مُتَشابِهاتٌ لا يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأ عِرْضَهُ ودِينَهُ ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ»، فَهَذِهِ الأخْبارُ تَمْنَعُ مِنَ الإقْدامِ عَلى المَشْكُوكِ فِيهِ أنَّهُ مِنَ المُباحِ أوِ المَحْظُورِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمالُها.
فَمَن شَكَّ فَلا سَبِيلَ لَهُ إلى تَبَيُّنِ طُلُوعِ الفَجْرِ في أوَّلِ ما يَطْلُعُ حَتّى يَكُونَ مُسْتَبْرِئًا لِدِينِهِ وعِرْضِهِ مُجْتَنِبًا لِلرِّيبَةِ غَيْرَ مُواقِعٍ لِحِمى اللَّهِ تَعالى، فاسْتَعْمَلْنا قَوْلَهُ ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ فِيمَن يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ طُلُوعِهِ في أوَّلِ أحْوالِهِ؛ فَهَذا مَذْهَبُ أصْحابِنا وحِجاجُهُ فِيما ذَكَرْنا، وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: " أكْرَهُ أنْ يَأْكُلَ إذا شَكَّ في الفَجْرِ، وإنْ أكَلَ فَعَلَيْهِ القَضاءُ " وقالَ الثَّوْرِيُّ: " يَتَسَحَّرُ الرَّجُلُ ما شَكَّ حَتّى يَرى الفَجْرَ " .
وقالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ والشّافِعِيُّ: " إنْ أكَلَ شاكًّا في الفَجْرِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ " وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: " إنَّهُ يَأْكُلُ شاكًّا مِن غَيْرِ اعْتِبارٍ مِنهُ بِحالِ إمْكانِ التَّبَيُّنِ في حالِ طُلُوعِهِ أوْ تَعَذُّرِ ذَلِكَ عَلَيْهِ " فَذَلِكَ إغْفالٌ مِنهُ؛ لِأنَّ ضَرِيرًا لَوْ كانَ في مَوْضِعٍ لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَن يُعَرِّفُهُ طُلُوعَ الفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الإقْدامُ عَلى الأكْلِ بِالشَّكِّ وهو لا يَأْمَنُ أنْ يَكُونَ قَدْ أصْبَحَ، وكَذَلِكَ مَن كانَ (p-٢٨٨)فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لا يَأْمَنُ طُلُوعَ الفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الإقْدامُ عَلى الأكْلِ بِالشَّكِّ، فَإنْ أجازَ هَذا وألْغى الشَّكَّ لَزِمَهُ إلْغاءُ الشَّكِّ في كُلِّ مَوْضِعٍ والإقْدامُ عَلى كُلِّ ما لا يَأْمَنُ أنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مِن وطْءٍ أوْ غَيْرِهِ، وفي اسْتِعْمالِ ذَلِكَ مُخالَفَةٌ لِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ اجْتِنابِ الشُّبُهاتِ وتَرْكِ الرَّيْبِ إلى اليَقِينِ ومُخالَفَةِ إجْماعِ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّهم لا يَخْتَلِفُونَ أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لَهُ الإقْدامُ عَلى وطْءِ امْرَأةٍ لا يَعْرِفُها وهو شاكٌّ في أنَّها زَوْجَتُهُ، وكَذَلِكَ مَن طَلَّقَ إحْدى نِسائِهِ بِعَيْنِها ثَلاثًا ونَسِيَها فَغَيْرُ جائِزٍ لَهُ الإقْدامُ عَلى وطْءِ واحِدَةٍ مِنهُنَّ بِاتِّفاقِ الفُقَهاءِ إلّا بَعْدَ العِلْمِ بِأنَّها لَيْسَتِ المُطَلَّقَةَ.
وأمّا القَوْلُ بِإيجابِ القَضاءِ عَلى مَن أكَلَ شاكًّا في الفَجْرِ، فَإنَّهُ كَما لا يُبِيحُ لَهُ الإقْدامَ عَلى المَشْكُوكِ فِيهِ فَكَذَلِكَ لا يُوجِبُ عَلَيْهِ القَضاءَ بِالشَّكِّ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ الأصْلُ بَراءَةَ الذِّمَّةِ مِنَ الفَرْضِ فَلا جائِزٌ إلْزامُهُ بِالشَّكِّ، والَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ مِنَ الحُكْمِ مِن عِنْدِ قَوْلِهِ: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ نَسْخُ تَحْرِيمِ الجِماعِ والأكْلِ والشُّرْبِ في لَيالِي الصَّوْمِ بَعْدَ العَتَمَةِ أوْ بَعْدَ النَّوْمِ وفِيها الدَّلالَةُ عَلى نَسْخِ السُّنَّةِ بِالقُرْآنِ؛ لِأنَّ الحَظْرَ المُتَقَدِّمَ إنَّما كانَ ثُبُوتُهُ بِالسُّنَّةِ لا بِالقُرْآنِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالإباحَةِ المَذْكُورَةِ في القُرْآنِ وفِيها الدَّلالَةُ عَلى أنَّ الجَنابَةَ لا تُنافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ لِما فِيهِ مِن إباحَةِ الجِماعِ مِن أوَّلِ اللَّيْلِ إلى آخِرِهِ مَعَ العِلْمِ بِأنَّ المُجامِعَ في آخِرِ اللَّيْلِ إذا صادَفَ فَراغَهُ مِنَ الجِماعِ طُلُوعُ الفَجْرِ يُصْبِحُ جُنُبًا، ثُمَّ حَكَمَ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ صَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ وفِيها حَثٌّ عَلى طَلَبِ الوَلَدِ بِقَوْلِهِ: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ مَعَ تَأْوِيلِ مَن تَأوَّلَهُ واحْتِمالِ الآيَةِ لَهُ وفِيها الدَّلالَةُ عَلى أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ في رَمَضانَ لِأنَّ ابْنَ عَبّاسٍ قَدْ تَأوَّلَهُ عَلى ذَلِكَ، فَلَوْلا أنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَهُ لَما جازَ أنْ يَتَأوَّلَ عَلَيْهِ وفِيها النَّدْبُ إلى التَّرَخُّصِ بِرُخْصَةِ اللَّهِ لِتَأْوِيلِ مَن تَأوَّلَهُ عَلى ما بَيَّنّا فِيما سَلَفَ وفِيها الدَّلالَةُ عَلى أنَّ آخِرَ اللَّيْلِ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ الثّانِي بِقَوْلِهِ: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾ فَثَبَتَ أنَّ اللَّيْلَ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ وأنَّ ما بَعْدَ طُلُوعِهِ فَهو مِنَ النَّهارِ.
وفِيها الدَّلالَةُ عَلى إباحَةِ الأكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ إلى أنْ يَحْصُلَ لَهُ الِاسْتِبانَةُ واليَقِينُ بِطُلُوعِ الفَجْرِ، وأنَّ الشَّكَّ لا يَحْظُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ وُجُودُ الِاسْتِبانَةِ مَعَ الشَّكِّ؛ وهَذا فِيمَن يَصِلُ إلى الِاسْتِبانَةِ وقْتَ طُلُوعِهِ، وأمّا مَن لا يَصِلُ إلى ذَلِكَ لِساتِرٍ أوْ ضَعْفِ بَصَرِهِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَغَيْرُ داخِلٍ في هَذا الخِطابِ لِما بَيَّنّا آنِفًا قَبْلَ (p-٢٨٩)هَذا الفَصْلِ.
ووُرُودُ لَفْظِ الإباحَةِ بَعْدَ الحَظْرِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الإيجابَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ حُكْمُ لَفْظِ الإطْلاقِ إذا كانَ وُرُودُهُ بَعْدَ الحَظْرِ، عَلى نَحْوِ ما ذَكَرْنا مِن نَظائِرِهِ في قَوْلِهِ: ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ [المائدة: ٢] وقَوْلِهِ: ﴿فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا في الأرْضِ﴾ [الجمعة: ١٠] ومَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ الأكْلِ والشُّرْبِ مَندُوبًا وهو ما يَكُونُ في آخِرِ اللَّيْلِ عَلى جِهَةِ السَّحُورِ وقَدْ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ الحَرْبِيُّ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عَوانَةَ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «تَسَحَّرُوا فَإنَّ في السَّحُورَ بَرَكَةً» .
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ عَنْ مُوسى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَباحٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي قَيْسٍ مَوْلى عَمْرِو بْنِ العاصِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ فَصْلًا بَيْنَ صِيامِكم وصِيامِ أهْلِ الكِتابِ أكْلَةُ السُّحُورِ» .
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الزِّئْبَقِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبَيْلٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «نِعْمَ غَداءُ المُؤْمِنِ السَّحُورُ وإنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى المُتَسَحِّرِينَ» فَنَدْبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى السَّحُورِ، لَيْسَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مُرادُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ في بَعْضِ ما انْتَظَمَهُ أكْلَةُ السَّحُورِ، فَيَكُونَ مَندُوبًا إلَيْها بِالآيَةِ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ تَضَمَّنَتِ الآيَةُ لا مَحالَةَ الرُّخْصَةَ في إباحَةِ الأكْلِ، وهو ما كانَ مِنهُ في أوَّلِ اللَّيْلِ لا عَلى وجْهِ السُّحُورِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَنْتَظِمَ لَفْظٌ واحِدٌ نَدْبًا وإباحَةً ؟ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِظاهِرِ الآيَةِ، وإنَّما اسْتَدْلَلْنا عَلَيْهِ بِظاهِرِ السُّنَّةِ، فَأمّا ظاهِرُ اللَّفْظِ فَهو إطْلاقُ إباحَةٍ عَلى ما بَيَّنّا.
وفِيها الدَّلالَةُ عَلى أنَّ الغايَةَ قَدْ لا تَدْخُلُ في الحُكْمِ المُقَدَّرِ بِها، بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ﴾ وحالُ التَّبَيُّنِ غَيْرُ داخِلَةٍ في إباحَةِ الأكْلِ فِيها ولا مُرادَةٌ بِها؛ ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ فَجَعَلَ اللَّيْلَ غايَةَ الصِّيامِ ولَمْ تَدْخُلْ فِيهِ، وقَدْ دَخَلَتْ في بَعْضِ المَواضِعِ وهو قَوْلُهُ: ﴿ولا جُنُبًا إلا عابِرِي سَبِيلٍ حَتّى تَغْتَسِلُوا﴾ [النساء: ٤٣] والغايَةُ مُرادَةٌ في إباحَةِ الصَّلاةِ بَعْدَها، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأيْدِيَكم إلى المَرافِقِ﴾ [المائدة: ٦] ﴿وأرْجُلَكم إلى الكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: ٦] قَدْ دَخَلْتَ الغايَةُ في المُرادِ؛ وذَلِكَ أصْلٌ في أنَّ الغايَةَ قَدْ تَدْخُلُ في حالٍ ولا تَدْخُلُ في أُخْرى وأنَّها تَحْتاجُ إلى دَلالَةٍ في إسْقاطِ حُكْمِها أوْ إثْباتِهِ.
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ فَإنَّ عَطْفَهُ عَلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن إباحَةِ الجِماعِ (p-٢٩٠)والأكْلِ والشُّرْبِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الصَّوْمَ المَأْمُورَ بِهِ هو الإمْساكُ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَ إباحَتَها لَيْلًا، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ مَعَ ما يَقْتَضِيهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ مِنَ المَعانِي الَّتِي بَعْضُها إمْساكٌ وبَعْضُها شَرْطٌ لِكَوْنِ الإمْساكِ صَوْمًا شَرْعِيًّا.
وفِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ مَن حَصَلَ مُفْطِرًا لِغَيْرِ عُذْرٍ أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لَهُ الأكْلُ بَعْدَ ذَلِكَ، وأنَّ عَلَيْهِ أنْ يُمْسِكَ عَمّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصّائِمُ؛ لِأنَّ هَذا الإمْساكَ ضَرْبٌ مِنَ الصِّيامِ؛ وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ ﷺ «بَعَثَ إلى أهْلِ العَوالِي يَوْمَ عاشُوراءَ فَقالَ: مَن أكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ومَن لَمْ يَأْكُلْ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» فَسَمّى الإمْساكَ بَعْدَ الأكْلِ صَوْمًا.
فَإنْ قِيلَ: إذا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَوْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يَتَناوَلْهُ اللَّفْظُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ المُرادُ بِهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لا الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ، قِيلَ لَهُ: هَذا عِنْدَنا صَوْمٌ شَرْعِيٌّ قَدْ أمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ إيجابِهِ القَضاءَ، ووُجُوبُ القَضاءِ لا يُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ صَوْمًا مَندُوبًا إلَيْهِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوابِ عَلَيْهِ.
وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ مَن أصْبَحَ في رَمَضانَ غَيْرَ ناوٍ لِلصَّوْمِ أنَّ عَلَيْهِ أنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ ويَجْزِيهِ مِن فَرْضِهِ ما لَمْ يَفْعَلْ ما يُنافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ مِن أكْلٍ أوْ شُرْبٍ أوْ جِماعٍ.
فَإنْ قِيلَ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظّاهِرُ الأمْرُ بِإتْمامِ الصَّوْمِ والإتْمامُ يُطْلَقُ فِيما قَدْ صَحَّ الدُّخُولُ فِيهِ، وهو لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ حَتّى يَلْحَقَهُ الخِطابُ بِالإتْمامِ ؟ قِيلَ لَهُ: لَمّا أصْبَحَ مُمْسِكًا عَمّا يَجِبُ عَلى الصّائِمِ الإمْساكُ عَنْهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الدُّخُولُ في الصَّوْمِ لِما بَيَّنّا مِن أنَّ الإمْساكَ قَدْ يَكُونُ صَوْمًا شَرْعِيًّا وإنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ قَضاءُ فَرْضٍ ولا تَطَوُّعٍ؛ ويَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ صَوْمٌ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ اتِّفاقُ جَمِيعِ فُقَهاءِ الأمْصارِ عَلى أنَّ مَن أصْبَحَ في غَيْرِ رَمَضانَ مُمْسِكًا عَمّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصّائِمُ غَيْرَ ناوٍ لِلصَّوْمِ أنَّهُ جائِزٌ لَهُ أنْ يَبْتَدِئَ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ، ويَجْزِيهِ.
ولَوْ لَمْ يَكُنْ ما مَضى صَوْمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ لَما جازَ أنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الصَّوْمِ بِإيجادِ النِّيَّةِ بَعْدَهُ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ أكَلَ أوْ شَرِبَ ثُمَّ أرادَ أنْ يَنْوِيَ صِيامًا تَطَوُّعًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ ؟ فَثَبَتَ بِما وصَفْنا صِحَّةُ دَلالَةِ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ عَلى جَوازِ نِيَّةِ صِيامِ رَمَضانَ في بَعْضِ النَّهارِ؛ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
* * *
بابُ لُزُومِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِالدُّخُولِ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن دَخَلَ في صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَزِمَهُ إتْمامُهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ عامٌّ في سائِرِ اللَّيالِي الَّتِي يُرِيدُ النّاسُ الصَّوْمَ في صَبِيحَتِها، وغَيْرُ جائِزٍ الِاقْتِصارُ بِهِ عَلى لَيالِي صِيامِ رَمَضانَ دُونَ (p-٢٩١)غَيْرِهِ لِما فِيهِ مِن تَخْصِيصِ العُمُومِ بِلا دَلالَةٍ، ولَمّا كانَ حُكْمُ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا في إباحَةِ الأكْلِ والشُّرْبِ في لَيالِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثَبَتَ أنَّها مُرادَةٌ بِاللَّفْظِ، فَإذا كانَ كَذَلِكَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ اقْتَضى ذَلِكَ لُزُومَ إتْمامِ الصَّوْمِ الَّذِي صَحَّ لَهُ الدُّخُولُ فِيهِ تَطَوُّعًا كانَ ذَلِكَ الصَّوْمُ أوْ فَرْضًا، وأمْرُ اللَّهِ تَعالى عَلى الوُجُوبِ فَغَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ دَخَلَ في صَوْمِ التَّطَوُّعِ أوِ الفَرْضِ الخُرُوجُ مِنهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ وإذا لَزِمَ المُضِيُّ فِيهِ وإتْمامُهُ بِظاهِرِ الآيَةِ فَقَدْ صَحَّ عَلَيْهِ وُجُوبُهُ، ومَتى أفْسَدَهُ لَزِمَهُ قَضاؤُهُ كَسائِرِ الواجِباتِ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في صَوْمِ الفَرْضِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَقْصُورَ الحُكْمِ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: نُزُولُ الآيَةِ عَلى سَبَبٍ لا يَمْنَعُ عِنْدَنا اعْتِبارَ عُمُومِ اللَّفْظِ؛ لِأنَّ الحُكْمَ عِنْدَنا لِلَّفْظِ لا لِلسَّبَبِ، ولَوْ كانَ الحُكْمُ في ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلى السَّبَبِ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ خاصًّا في الَّذِينَ اخْتانُوا أنْفُسَهم مِنهم، فَلَمّا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى عُمُومِ الحُكْمِ فِيهِمْ وفي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ في مِثْلِ حالِهِمْ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الحُكْمَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلى السَّبَبِ وأنَّهُ عامٌّ في سائِرِ الصِّيامِ كَهو في سائِرِ النّاسِ في صَوْمِ رَمَضانَ.
فَصَحَّ بِما وصَفْنا وجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ عَلى لُزُومِ الصَّوْمِ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في ذَلِكَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: " مَن دَخَلَ في صِيامِ التَّطَوُّعِ أوْ صَلاةِ التَّطَوُّعِ فَأفْسَدَهُ أوْ عَرَضَ لَهُ فِيهِ ما يُفْسِدُهُ فَعَلَيْهِ القَضاءُ " وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ إذا أفْسَدَهُ وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إذا دَخَلَ في صَلاةِ التَّطَوُّعِ فَأقَلُّ ما يَلْزَمُهُ رَكْعَتانِ " .
وقالَ مالِكٌ: " إنْ أفْسَدَهُ هو فَعَلَيْهِ القَضاءُ " ولَوْ طَرَأ عَلَيْهِ ما أخْرَجَهُ مِنهُ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ " وقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " إنْ أفْسَدَهُ ما دَخَلَ فِيهِ تَطَوُّعٌ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ " ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ مِثْلُ قَوْلِنا، حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ قالَ: حَدَّثَنا هُشَيْمٌ قالَ: حَدَّثَنا عُثْمانُ البَتِّيُّ عَنْ أنَسِ بْنِ سِيرِينَ قالَ صُمْتُ يَوْمًا فَأُجْهِدْتُ فَأفْطَرْتُ فَسَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ وابْنَ عُمَرَ فَأمَرانِي أنْ أصُومَ يَوْمًا مَكانَهُ.
ورَوى طَلْحَةُ بْنُ يَحْيى عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: " هو بِمَنزِلَةِ الصَّدَقَةِ يُخْرِجُها الرَّجُلُ مِن مالِهِ فَإنْ شاءَ أمْضاها وإنْ شاءَ أمْسَكَها " ولَمْ يَخْتَلِفُوا في الحَجِّ والعُمْرَةِ إذا أحْرَمَ بِهِما تَطَوُّعًا ثُمَّ أفْسَدَهُما أنَّ عَلَيْهِ قَضاءَهُما، وإنْ أُحْصِرَ فِيهِما فَقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ أيْضًا، فَقالَ أصْحابُنا ومَن تابَعَهم: " عَلَيْهِ القَضاءُ " وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: " لا قَضاءَ عَلَيْهِ " وما قَدَّمْنا مِن دَلالَةِ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ يُوجِبُ القَضاءَ، سَواءٌ خَرَجَ مِنهُ بِعُذْرٍ أوْ بِغَيْرِ (p-٢٩٢)عُذْرٍ؛ لِأنَّ الآيَةَ قَدِ اقْتَضَتِ الإيجابَ بِالدُّخُولِ، وإذا وجَبَ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُ في إيجابِ القَضاءِ إذا كانَ خُرُوجُهُ بِعُذْرٍ أوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَسائِرِ ما أوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِن صِيامٍ أوْ صَلاةٍ أوْ غَيْرِهِما كالنُّذُورِ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في إيجابِ القُرَبِ بِالدُّخُولِ فِيها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً ورَحْمَةً ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها﴾ [الحديد: ٢٧] والِابْتِداعُ قَدْ يَكُونُ بِالفِعْلِ وقَدْ يَكُونُ بِالقَوْلِ.
ثُمَّ ذَمَّ تارِكِي رِعايَتِها بَعْدَ الِابْتِداعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مَنِ ابْتَدَعَ قُرْبَةً بِالدُّخُولِ فِيها أوْ بِإيجابِها بِالقَوْلِ أنَّ عَلَيْهِ إتْمامَها؛ لِأنَّهُ مَتى قَطَعَها قَبْلَ إتْمامِها فَلَمْ يَرْعَها حَقَّ رِعايَتِها، والذَّمُّ لا يُسْتَحَقُّ إلّا بِتَرْكِ الواجِباتِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ لُزُومَها بِالدُّخُولِ كَهو بِالنَّذْرِ والإيجابِ بِالقَوْلِ، ويُحْتَجُّ في مِثْلِهِ أيْضًا بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثًا﴾ [النحل: ٩٢] جَعَلَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِمَن عَهِدَ لِلَّهِ عَهْدًا أوْ حَلَفَ بِاللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَفِ بِهِ ويَقْضِيهِ؛ وهو عُمُومٌ في كُلِّ مَن دَخَلَ في قُرْبَةٍ، فَيَكُونُ مَنهِيًّا عَنْ نَقْضِها قَبْلَ إتْمامِها؛ لِأنَّهُ مَتى نَقَضَها فَقَدْ أفْسَدَ ما مَضى مِنها بَعْدَ تَضَمُّنِ تَصْحِيحِها بِالدُّخُولِ فِيها، ويَصِيرُ بِمَنزِلَةِ ناقِضَةِ غَزْلِها بَعْدَ فَتْلِها بِقُواها، وهَذا يُوجِبُ أنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَأ في حَقِّ اللَّهِ وإنْ كانَ مُتَطَوِّعًا بَدِيًّا فَعَلَيْهِ إتْمامُهُ والوَفاءُ بِهِ لِئَلّا يَكُونَ بِمَنزِلَةِ ناقِضَةِ غَزْلِها.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما هَذِهِ الآيَةُ فِيمَن نَقَضَ العَهْدَ والأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها؛ لِأنَّهُ قالَ تَعالى: ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذا عاهَدْتُمْ﴾ [النحل: ٩١] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢]
قِيلَ لَهُ: نُزُولُها عَلى سَبَبٍ لا يَمْنَعُ اعْتِبارَ عُمُومِ لَفْظِها، وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في مَواضِعَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُبْطِلُوا أعْمالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٣] وقَدْ عَلِمْنا أنَّ أقَلَّ ما يَصِحُّ في الفَرْضِ مِنَ الصَّوْمِ يَوْمٌ كامِلٌ، وفي الصَّلاةِ رَكْعَتانِ، ولا تَصِحُّ النَّوافِلُ ولا تَكُونُ قُرْبَةً إلّا حَسْبَ مَوْضُوعِها في الفُرُوضِ، بِدَلالَةِ أنَّهُ يَحْتاجُ إلى اسْتِيفاءِ شُرُوطِها؛ ألا تَرى أنَّ صَوْمَ النَّفْلِ مِثْلُ صَوْمِ الفَرْضِ في لُزُومِ الإمْساكِ عَنِ الجِماعِ والأكْلِ والشُّرْبِ ؟ وكَذَلِكَ صَلاةُ التَّطَوُّعِ تَحْتاجُ مِنَ القِراءَةِ والطَّهارَةِ والسِّتْرِ إلى مِثْلِ ما شُرِطَ في الفُرُوضِ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ في أصْلِ الفَرْضِ رَكْعَةٌ واحِدَةٌ ولا صَوْمُ بَعْضِ يَوْمٍ، وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ النَّفْلِ، فَمَتى دَخَلَ في شَيْءٍ مِنهُ ثُمَّ أفْسَدَهُ قَبْلَ إتْمامِهِ فَقَدْ أبْطَلَهُ وأبْطَلَ ثَوابَ ما فَعَلَهُ مِنهُ؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُبْطِلُوا أعْمالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٣] يَمْنَعُ الخُرُوجَ مِنهُ قَبْلَ إتْمامِهِ لِنَهْيِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ عَنْ إبْطالِهِ؛ وإذْ ألْزَمَهُ إتْمامَهُ فَقَدْ وجَبَ عَلَيْهِ قَضاؤُهُ إذا خَرَجَ مِنهُ قَبْلَ إتْمامِهِ مَعْذُورًا كانَ في خُرُوجِهِ أوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، (p-٢٩٣)ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: " أنَّهُ نَهى عَنِ البُتَيْراءِ " وهو أنْ يُوتِرَ الرَّجُلُ بِرَكْعَةٍ فاقْتَضى هَذا اللَّفْظُ إيجابَ إتْمامِهَ، وإذا وجَبَ إتْمامُها فَقَدْ لَزِمَتْهُ، فَمَتى أفْسَدَها أوْ فَسَدَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيارِهِ لَزِمَهُ قَضاؤُها كَسائِرِ الواجِباتِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الحَجّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأنْصارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن كُسِرَ أوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ وعَلَيْهِ الحَجُّ مِن قابِلٍ» قالَ عِكْرِمَةُ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ فَقالا: صَدَقَ فَصارَتْ رُواتُهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ثَلاثَةً، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: إلْزامُهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الفَرْضِ والنَّفَلِ.
والثّانِي: أنَّهُ وإنْ خَرَجَ مِنهُ بِغَيْرِ اخْتِيارٍ مِنهُ فَإنَّ القَضاءَ واجِبٌ عَلَيْهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ صالِحٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وهْبٍ قالَ: أخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنِ ابْنِ الهادِ عَنْ زُمَيْلٍ مَوْلى عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ «عائِشَةَ قالَتْ: أُهْدِيَ لِي ولِحَفْصَةَ طَعامٌ، وكُنّا صائِمَتَيْنِ فَأفْطَرْنا، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لَنا هَدِيَّةٌ فاشْتَهَيْناها فَأفْطَرْنا، فَقالَ: لا عَلَيْكُما صُوما مَكانَهُ يَوْمًا آخَرَ» وهَذا يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ القَضاءِ في التَّطَوُّعِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْألْهُما عَنْ جِهَةِ صَوْمِهِما، وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: حَدَّثَنا القَعْنَبِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنِ ابْنِ شِهابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ أنَّها قالَتْ: «أصْبَحْتُ أنا وحَفْصَةُ صائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَنا طَعامٌ فَأفْطَرْنا، فَسَألَتْ حَفْصَةُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: اقْضِيا يَوْمًا مَكانَهُ» .
قالَ عَبْدُ الباقِي: وحَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أسِيدٍ الأصْبَهانِيُّ الأكْبَرُ قالَ: حَدَّثَنا أزْهَرُ بْنُ جُمَيْلٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو هَمّامٍ مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائِشَةَ نَحْوَهُ قالَ عَبْدُ الباقِي: وحَدَّثَنا إسْحاقُ قالَ: حَدَّثَنا القَعْنَبِيُّ عَنْ مالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهابٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أنَّ حَفْصَةَ وعائِشَةَ؛ وذَكَرَ نَحْوَهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اقْضِيا مَكانَهُ يَوْمًا»، وأصْحابُ الحَدِيثِ يَتَكَلَّمُونَ في إسْنادِ هَذا الحَدِيثِ بِأشْياءَ يَطْعَنُونَ بِها فِيهِ.
أحَدُها: ما حَدَّثَنا بِهِ عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا الحُمَيْدِيُّ قالَ: سَمِعْتُ سُفْيانَ يُحَدِّثُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقِيلَ لِلزُّهْرِيِّ: هو مِن حَدِيثِ عُرْوَةَ ؟ فَقالَ الزُّهْرِيُّ: لَيْسَ هو مِن حَدِيثِ عُرْوَةَ قالَ الحُمَيْدِيُّ: وأخْبَرَنِي غَيْرُ واحِدٍ عَنْ مَعْمَرٍ أنَّهُ قالَ: لَوْ كانَ مِن حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ ما نَسِيتُهُ.
وهَذا الَّذِي ذَكَرُوهُ لا يُبْطِلُهُ عِنْدَنا؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يُرِيدَ الزُّهْرِيُّ بِذَلِكَ أنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِن عُرْوَةَ وسَمِعَهُ مِن غَيْرِ عُرْوَةَ؛ وأكْثَرُ أحْوالِهِ أنْ يَكُونَ مُرْسَلًا عَنْ (p-٢٩٤)عُرْوَةَ.
وإرْسالُهُ لا يُفْسِدُهُ عِنْدَنا، وأمّا قَوْلُ مَعْمَرٍ " لَوْ كانَ مِن حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ ما نَسِيتُهُ " فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ النِّسْيانَ جائِزٌ عَلَيْهِ في حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ كَجَوازِهِ في حَدِيثِ غَيْرِهِ، وأكْثَرُ أحْوالِهِ أنْ لا يَكُونَ مَعْمَرٌ قَدْ سَمِعَهُ مِن الزُّهْرِيِّ، وغَيْرُ مَعْمَرٍ قَدْ سَمِعَهُ مِنِ الزُّهْرِيِّ ورَواهُ عَنْهُ، فَلا يُفْسِدُهُ أنْ لا يَكُونَ مَعْمَرٌ قَدْ رَواهُ عَنْهُ.
وقَدْ رَواهُ زُمَيْلٌ مَوْلى عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ، ويَطْعَنُونَ فِيهِ أيْضًا بِما ذَكَرَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ أنَّهُ قالَ لِلزُّهْرِيِّ في هَذا الحَدِيثِ: أسَمِعْتَهُ مِن عُرْوَةَ ؟ قالَ: إنَّما أخْبَرَنا بِهِ رَجُلٌ بِبابِ عَبْدِ المَلِكِ، ورُوِيَ في غَيْرِ هَذا الحَدِيثِ أنَّ الرَّجُلَ سُلَيْمانُ بْنُ أرْقَمَ، وكَيْفَما تَصَرَّفَتْ بِهِ الحالُ فَلَيْسَ فِيهِ ما يُفْسِدُهُ عَلى مَذْهَبِ الفُقَهاءِ؛ وما يَعْتَرِضُ بِهِ أصْحابُ الحَدِيثِ مِن مِثْلِ هَذا لا يُفْسِدُ الحَدِيثَ ولا يَقْدَحُ فِيهِ عِنْدَهم، وقَدْ رَوى أيْضًا خُصَيْفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ حَفْصَةَ وعائِشَةَ أصْبَحَتا صائِمَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَهم طَعامٌ، فَأفْطَرَتا، فَأمَرَهُما النَّبِيُّ ﷺ أنْ تَقْضِيا يَوْمًا مَكانَهُ» . وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبّادٍ قالَ: حَدَّثَنا حاتِمُ بْنُ إسْماعِيلَ عَنْ أبِي حَمْزَةَ عَنْ الحَسَنِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: «أنَّ عائِشَةَ وحَفْصَةَ أصْبَحَتا صائِمَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ لَهُما طَعامٌ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ وهُما تَأْكُلانِ فَقالَ: ألَمْ تُصْبِحا صائِمَتَيْنِ ؟ قالَتا: بَلى قالَ: اقْضِيا يَوْمًا مَكانَهُ ولا تَعُودا» .
وقَدْ رُوِيَ مِن طَرِيقٍ آخَرَ، وهو ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ الفَضْلِ بْنِ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا حَرْمَلَةُ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ وهْبٍ قالَ: حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ حازِمٍ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «أصْبَحْتُ أنا وحَفْصَةُ صائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، فَأُهْدِيَ إلَيْنا طَعامٌ، فَأعْجَبَنا فَأفْطَرْنا، فَلَمّا جاءَ النَّبِيُّ ﷺ بَدَرَتْنِي حَفْصَةُ فَسَألَتْهُ وهي ابْنَةُ أبِيها فَقالَ ﷺ: صُوما يَوْمًا مَكانَهُ» ورَوى الحَجّاجُ بْنُ أرْطاةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. وقَدْ رَوى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذِهِ القِصَّةَ وذَكَرَ نَحْوَها إلّا أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ تَطَوُّعًا، فَهَذِهِ آثارٌ مُسْتَفِيضَةٌ قَدْ رُوِيَتْ مِن طُرُقٍ، في بَعْضِها أنَّهُما أصْبَحَتا صائِمَتَيْنِ مُتَطَوِّعَتَيْنِ، وفي بَعْضِها لَمْ يَذْكُرِ التَّطَوُّعَ، وفي كُلِّها الأمْرُ بِالقَضاءِ، ويَدُلُّ عَلى وُجُوبِ القَضاءِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا عِيسى بْنُ يُونُسَ قالَ: حَدَّثَنا هِشامُ بْنُ حَسّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن ذَرَعَهُ قَيْءٌ وهو صائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضاءٌ وإنِ اسْتَقاءَ فَلْيَقْضِ» وفي هَذا الحَدِيثِ ما يُوجِبُ القَضاءَ عَلى الصّائِمِ إذا اسْتَقاءَ عَمْدًا؛ لِأنَّهُ ﷺ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ المُتَنَفِّلِ وبَيْنَ مَن يَصُومُ فَرْضًا.
(p-٢٩٥)ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ المُتَصَدِّقَ بِصَدَقَةٍ تَطَوُّعًا إذا قَبَضَها مَن تَصَدَّقَ بِها عَلَيْهِ لا يَرْجِعُ فِيها؛ لِما فِيهِ مِن إبْطالِ القُرْبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ بِها، فَكَذَلِكَ الدّاخِلُ في صَلاةٍ أوْ صَوْمٍ تَطَوُّعًا غَيْرُ جائِزٍ لَهُ الخُرُوجُ مِنها قَبْلَ إتْمامِها، لِما فِيهِ مِن إبْطالِ ما تَقَدَّمَ مِنهُ، فَهو بِمَنزِلَةِ الصَّدَقَةِ المَقْبُوضَةِ.
فَإنْ قِيلَ: هو بِمَنزِلَةِ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ؛ لِأنَّهُ إنَّما امْتَنَعَ مِن فِعْلِ باقِي أجْزاءِ الصَّلاةِ والصَّوْمِ بِمَنزِلَةِ المُمْتَنِعِ مِن تَسْلِيمِ الصَّدَقَةِ، قِيلَ لَهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا كَذَلِكَ لَكانَ كَما ذَكَرْتَ، لَكِنَّهُ لَمّا كانَ في الخُرُوجِ مِنهُ قَبْلَ إتْمامِهِ إبْطالُ ما تَقَدَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إلى ذَلِكَ، ومَتى فَعَلَهُ لَزِمَهُ القَضاءُ؛ ألا تَرى أنَّهُ لا يَصِحُّ صَوْمُ بَعْضِ النَّهارِ دُونَ بَعْضٍ وأنَّ مَن أكَلَ في أوَّلِ النَّهارِ لا يَصِحُّ لَهُ صَوْمُ بَقِيَّتِهِ ؟ وكَذَلِكَ مَن صامَ أوَّلَهُ ثُمَّ أفْطَرَ في باقِيهِ فَقَدْ أخْرَجَ نَفْسَهُ مِن حُكْمِ صَوْمِ ذَلِكَ اليَوْمِ رَأْسًا وأبْطَلَ بِهِ حُكْمَ ما فَعَلَهُ كالرّاجِعِ في الصَّدَقَةِ المَقْبُوضَةِ، فَصارَ كَما إذا رَجَعَ في صَدَقَةٍ مَقْبُوضَةٍ لَزِمَهُ رَدُّها إلى المُتَصَدِّقِ بِها عَلَيْهِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ المُحْرِمَ بِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ تَطَوُّعًا مَتى أفْسَدَهُ لَزِمَهُ القَضاءُ وكانَ الدُّخُولُ فِيهِ بِمَنزِلَةِ الإيجابِ بِالقَوْلِ،
فَإنْ قِيلَ: إنَّما لَزِمَهُ القَضاءُ لِأنَّ فَسادَهُ لا يُخْرِجُهُ مِنهُ، ولَيْسَ ذَلِكَ كَسائِرِ القُرَبِ مِنَ الصَّلاةِ والصَّوْمِ؛ إذْ هو يَخْرُجُ مِنهُما بِالإفْسادِ، قِيلَ لَهُ: هَذا الفَرْقُ لا يَمْنَعُ تَساوِيَهُما في جِهَةِ الإيجابِ بِالدُّخُولِ، ولا يَخْلُو هَذا المُحْرِمُ مِن أنْ يَكُونَ قَدْ لَزِمَهُ الإحْرامُ بِالدُّخُولِ ووَجَبَ عَلَيْهِ إتْمامُهُ أوْ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإنْ كانَ قَدْ لَزِمَهُ إتْمامُهُ فالواجِبُ عَلَيْهِ القَضاءُ سَواءً أُحْصِرَ أوْ أفْسَدَهُ بِفِعْلِهِ؛ لِأنَّ ما قَدْ وجَبَ لا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ في وُقُوعِ الفَسادِ فِيهِ بِفِعْلِهِ أوْ غَيْرِ فِعْلِهِ مِثْلُ النَّذْرِ وحَجَّةِ الإسْلامِ.
فَمَتى اتَّفَقْنا عَلى أنَّهُ مَتى أفْسَدَهُ لَزِمَهُ قَضاؤُهُ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذا أُحْصِرَ وتَعَذَّرَ فِعْلُهُ مِن غَيْرِ جِهَتِهِ كَسائِرِ الواجِباتِ، وعَلى أنَّ السُّنَّةَ قَدْ قَضَتْ بِبُطْلانِ قَوْلِ الخَصْمِ، وهو قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «مَن كُسِرَ أوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وعَلَيْهِ الحَجُّ مِن قابِلٍ» فَأوْجَبَ عَلَيْهِ القَضاءُ مَعَ وُقُوعِ المَنعِ مِن قِبَلِ غَيْرِهِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ في الحَجِّ والعُمْرَةِ وجَبَ مِثْلُهُ في سائِرِ القُرَبِ الَّتِي شَرْطُ صِحَّتِها إتْمامُها وكانَ بَعْضُها مَنُوطًا بِبَعْضٍ، وذَلِكَ مِثْلُ الصَّلاةِ والصِّيامِ ويَجِبُ أنْ لا يَخْتَلِفَ في وُجُوبِ قَضائِهِ حُكْمُ خُرُوجِهِ مِنها بِفِعْلِهِ أوْ غَيْرِ فِعْلِهِ كَما في سائِرِ الواجِباتِ، واحْتَجَّ مَن خالَفَ في ذَلِكَ بِحَدِيثِ أُمِّ هانِئٍ حِينَ «ناوَلَها النَّبِيُّ ﷺ سُؤْرَهُ فَشَرِبَتْهُ ثُمَّ قالَتْ: إنِّي كُنْتُ صائِمَةً وكَرِهْتُ أنْ أرُدَّ سُؤْرَكَ؛ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: إنْ كانَ مِن قَضاءِ رَمَضانَ فاقْضِي يَوْمًا مَكانَهُ، وإنْ كانَ تَطَوُّعًا فَإنْ شِئْتِ (p-٢٩٦)فاقْضِي وإنْ شِئْتِ فَلا تَقْضِي»، وهَذا حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ السَّنَدِ والمَتْنِ جَمِيعًا، فَأمّا اضْطِرابُ سَنَدِهِ فَإنَّ سِماكَ بْنَ حَرْبٍ يَرْوِيهِ مَرَّةً عَمَّنْ سَمِعَ أُمَّ هانِئٍ، ومَرَّةً يَقُولُ هارُونُ ابْنُ أُمِّ هانِئٍ أوِ ابْنُ ابْنَةِ أُمِّ هانِئٍ، ومَرَّةً يَرْوِيهِ عَنِ ابْنَيْ أُمِّ هانِئٍ، ومَرَّةً عَنِ ابْنِ أُمِّ هانِئٍ قالَ: أخْبَرَنِي أهْلُنا. ومِثْلُ هَذا الِاضْطِرابِ في الإسْنادِ يَدُلُّ عَلى قِلَّةِ ضَبْطِ رُواتِهِ، وأمّا اضْطِرابُ المَتْنِ فَمِن قِبَلِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ قالَ: حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي زِيادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارِثِ عَنْ أُمِّ هانِئٍ قالَتْ: لَمّا كانَ يَوْمُ الفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ جاءَتْ فاطِمَةُ فَجَلَسَتْ عَنْ يَسارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأُمُّ هانِئٍ عَنْ يَمِينِهِ، قالَ: فَجاءَتِ الوَلِيدَةُ بِإناءٍ فِيهِ شَرابٌ فَناوَلَتْهُ، فَشَرِبَ مِنهُ ثُمَّ ناوَلَهُ أُمَّ هانِئٍ، فَشَرِبَتْ مِنهُ ثُمَّ قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ أفْطَرْتُ وكُنْتُ صائِمَةً فَقالَ لَها: " أكُنْتِ تَقْضِينَ شَيْئًا ؟ " قالَتْ: لا قالَ: " فَلا يَضُرُّكِ إنْ كانَ تَطَوُّعًا " . فَذَكَرَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّهُ قالَ: " لا يَضُرُّكِ " ولَيْسَ في ذَلِكَ نَفْيٌ لِوُجُوبِ القَضاءِ؛ لِأنّا كَذَلِكَ نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَضُرَّها؛ لِأنَّها لَمْ تَعْلَمْ أنَّهُ لا يَجُوزُ لَها الإفْطارُ، أوْ عَلِمَتْ ذَلِكَ ورَأتِ اتِّباعَ النَّبِيِّ ﷺ بِالشُّرْبِ، والإفْطارِ أوْلى مِنَ المُضِيِّ فِيهِ
وحَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أحْمَدَ بْنِ فارِسٍ قالَ: حَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ الطَّيالِسِيُّ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ قالَ: أخْبَرَنِي جَعْدَةُ رَجُلٌ مِن قُرَيْشٍ وهو ابْنُ أُمِّ هانِئٍ وكانَ سِماكُ بْنُ حَرْبٍ يُحَدِّثُهُ يَقُولُ: أخْبَرَنِي ابْنا أُمِّ هانِئٍ قالَ شُعْبَةُ: فَلَقِيتُ أنا أفْضَلَهُما جَعْدَةَ فَحَدَّثَنِي عَنْ أُمِّ هانِئٍ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَلَيْها، فَناوَلَتْهُ شَرابًا فَشَرِبَ، ثُمَّ ناوَلَها فَشَرِبَتْ، فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ صائِمَةً فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الصّائِمُ المُتَطَوِّعُ أمِينُ نَفْسِهِ أوْ أمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شاءَ صامَ وإنْ شاءَ أفْطَرَ» فَقُلْتُ لِجَعْدَةَ: سَمِعْتَهُ أنْتَ مِن أُمِّ هانِئٍ ؟ فَقالَ: أخْبَرَنِي أهْلُنا وأبُو صالِحٍ مَوْلى أُمِّ هانِئٍ عَنْ أُمِّ هانِئٍ، ورَواهُ سِماكٌ عَمَّنْ سَمِعَ أمَّ هانِئٍ، وذَكَرَ فِيهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «المُتَطَوِّعُ بِالخِيارِ إنْ شاءَ صامَ وإنْ شاءَ أفْطَرَ» .
ورَوى سِماكٌ عَنْ هارُونَ ابْنِ أُمِّ هانِئٍ عَنْ أُمِّ هانِئٍ، وقالَ فِيهِ: «إنْ كانَ مِن قَضاءِ رَمَضانَ فَصُومِي يَوْمًا مَكانَهُ، وإنْ كانَ تَطَوُّعًا فَإنْ شِئْتِ فَصُومِي وإنْ شِئْتِ فَأفْطِرِي»، ولَمْ يُذْكَرْ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الأخْبارِ نَفْيُ القَضاءِ، وإنَّما ذُكِرَ فِيهِ أنَّ الصّائِمَ بِالخِيارِ وأنَّهُ أمِينُ نَفْسِهِ وأنَّ لَهُ أنْ يُفْطِرَ في التَّطَوُّعِ، ولَمْ يَقُلْ: لا قَضاءَ عَلَيْكِ، وهَذا الِاخْتِلافُ في مَتْنِهِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، ولَوْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الألْفاظُ لَمْ يَكُنْ فِيها ما يَنْفِي وُجُوبَ القَضاءِ؛ لِأنَّ أكْثَرَ ما فِيها إباحَةُ الإفْطارِ، وإباحَةُ الإفْطارِ (p-٢٩٧)لا تَدُلُّ عَلى سُقُوطِ القَضاءِ.
وقَوْلُهُ: «الصّائِمُ أمِينُ نَفْسِهِ، والصّائِمُ بِالخِيارِ» جائِزٌ أنْ يُرِيدَ بِهِ مَن أصْبَحَ مُمْسِكًا عَمّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصّائِمُ مِن غَيْرِ نِيَّةٍ لِلصَّوْمِ أنَّهُ بِالخِيارِ في أنْ يَنْوِيَ صَوْمَ التَّطَوُّعَ أوْ يُفْطِرَ؛ والمُمْسِكُ عَمّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصّائِمُ يُسَمّى صائِمًا كَما قالَ ﷺ يَوْمَ عاشُوراءَ: «مَن أكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» ومُرادُهُ الإمْساكُ عَمّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصّائِمُ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: «الصّائِمُ بِالخِيارِ، والصّائِمُ أمِينُ نَفْسِهِ» هو عَلى هَذا المَعْنى.
فَإنْ وُجِدَ في بَعْضِ ألْفاظِ هَذا الحَدِيثِ «فَإنْ شِئْتِ فاقْضِي وإنْ شِئْتِ فَلا تَقْضِي» فَإنَّما هو تَأْوِيلٌ مِنَ الرّاوِي لِقَوْلِهِ: «لا يَضُرُّكِ، وإنْ شِئْتِ فَأفْطِرِي، والصّائِمُ بِالخِيارِ»، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ نَفْيُ القَضاءِ بِما ذَكَرْتُ، عَلى أنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَفْيُ إيجابِ القَضاءِ مِن غَيْرِ احْتِمالِ التَّأْوِيلِ مَعَ صِحَّةِ السَّنَدِ واتِّساقِ المَتْنِ، لَكانَتِ الأخْبارُ المُوجِبَةُ لِلْقَضاءِ أوْلى مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها أنَّهُ مَتى ورَدَ خَبَرانِ أحَدُهُما مُبِيحٌ والآخَرُ حاظِرٌ كانَ خَبَرُ الحَظْرِ أوْلى بِالِاسْتِعْمالِ، وخَبَرُنا حاظِرٌ لِتَرْكِ القَضاءِ، وخَبَرُهم مُبِيحٌ، فَكانَ خَبَرُنا أوْلى مِن هَذا الوَجْهِ، ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ الخَبَرَ النّافِيَ لِلْقَضاءِ وارِدٌ عَلى الأصْلِ، والخَبَرَ المُوجِبَ لَهُ ناقِلٌ عَنْهُ، والخَبَرَ النّاقِلَ أوْلى؛ لِأنَّهُ في المَعْنى وارِدٌ بَعْدَهُ كَأنَّهُ قَدْ عُلِمَ تارِيخُهُ، ومِن جِهَةٍ أُخْرى، وهو أنَّ تَرْكَ الواجِبِ يُسْتَحَقُّ بِهِ العِقابُ وفِعْلُ المُباحِ لا يُسْتَحَقُّ بِهِ العِقابُ، فَكانَ اسْتِعْمالُ خَبَرِ الوُجُوبِ أوْلى مِن خَبَرِ النَّفْيِ، ومِمّا يُعارِضُ خَبَرَ أُمِّ هانِئٍ في إباحَةِ الإفْطارِ، ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو خالِدٍ عَنْ هِشامٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا دُعِيَ أحَدُكم فَلْيُجِبْ، فَإنْ كانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ، وإنْ كانَ صائِمًا فَلْيُصَلِّ»، قالَ أبُو داوُدَ رَواهُ حَفْصُ بْنُ غِياثٍ أيْضًا، وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ عَنْ أبِي الزِّنادِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا دُعِيَ أحَدُكم إلى طَعامٍ وهو صائِمٌ فَلْيَقُلْ إنِّي صائِمٌ» فَهَذانِ خَبَرانِ يَحْظُرانِ عَلى الصّائِمِ الإفْطارَ مِن غَيْرِ عُذْرٍ، ولَمْ يُفَرِّقِ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الصّائِمِ تَطَوُّعًا أوْ مِن فَرْضٍ، ألا تَرى أنَّهُ قالَ في الخَبَرِ الأوَّلِ: «وإنْ كانَ صائِمًا فَلْيُصَلِّ» والصَّلاةُ تُنافِي الإفْطارَ ؟ وفَرَّقَ أيْضًا بَيْنَ المُفْطِرِ والصّائِمِ؛ فَلَوْ جازَ لِلصّائِمِ الإفْطارُ لَقالَ: فَلْيَأْكُلْ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما أرادَ بِالصَّلاةِ الدُّعاءَ والدُّعاءُ لا يُنافِي الأكْلَ، قِيلَ لَهُ: بَلْ هو عَلى الصَّلاةِ المَعْهُودَةِ عِنْدَ الإطْلاقِ، وهي الَّتِي بِرُكُوعٍ وسُجُودٍ، وصَرْفُهُ إلى الدُّعاءِ غَيْرُ جائِزٍ إلّا بِدَلالَةٍ، فَلَوْ كانَ المُرادُ الدُّعاءَ (p-٢٩٨)لَكانَتْ دَلالَتُهُ قائِمَةً عَلى أنَّهُ لا يُفْطِرُ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَ المُفْطِرِ والصّائِمِ بِما ذَكَرْنا، وقَوْلُهُ ﷺ في الحَدِيثِ: «فَلْيَقُلْ: إنِّي صائِمٌ» يَدُلُّ عَلى أنَّ الصَّوْمَ يَمْنَعُهُ مِنَ الأكْلِ.
وقَدْ عَلِمْنا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ جَعَلَ إجابَةَ الدَّعْوَةِ مِن حَقِّ المُسْلِمِ كالسَّلامِ وعِيادَةِ المَرِيضِ وشُهُودِ الجِنازَةِ، فَلَمّا مَنَعَهُ الإجابَةَ وقالَ: «فَلْيَقُلْ إنِّي صائِمٌ» دَلَّ ذَلِكَ عَلى حَظْرِ الإفْطارِ في سائِرِ الصِّيامِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ وجابِرٍ " أنَّهُما كانا لا يَرَيانِ بِالإفْطارِ في صِيامِ التَّطَوُّعِ بَأْسًا " وأنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ دَخَلَ المَسْجِدَ فَصَلّى رَكْعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ، فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ صَلَّيْتَ رَكْعَةً واحِدَةً فَقالَ: " هو التَّطَوُّعُ، فَمَن شاءَ زادَ ومَن شاءَ نَقَصَ "، قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوَيْنا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ إيجابَ القَضاءِ عَلى مَن أفْطَرَ في صِيامِ التَّطَوُّعِ، وأمّا ما رُوِيَ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ وجابِرٍ فَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ القَضاءِ وإنَّما فِيهِ إباحَةُ الإفْطارِ.
وحَدِيثُ عُمَرَ يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ مَن دَخَلَ في صَلاةٍ يَظُنُّ أنَّها عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ أنَّها لَيْسَتْ عَلَيْهِ أنَّها تَكُونُ تَطَوُّعًا وجائِزٌ أنْ يَقْطَعَها، ولَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ القَضاءُ، وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: " ما أجْزَأتْ رَكْعَةٌ قَطُّ "
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠] يَدُلُّ عَلى جَوازِ الِاقْتِصارِ عَلى رَكْعَةٍ، قِيلَ لَهُ: إنَّما ذَلِكَ تَخْيِيرًا في القِراءَةِ لا في رَكَعاتِ الصَّلاةِ، والتَّخْيِيرُ فِيها لا يُوجِبُ تَخْيِيرًا في سائِرِ أرْكانِها، فَلا دَلالَةَ في ذَلِكَ عَلى حُكْمِ الرَّكَعاتِ؛ وقالَ الشّافِعِيُّ: " عَلَيْهِ في الأُضْحِيَّةِ البَدَلُ إذا اسْتَهْلَكَها فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ في سائِرِ القُرَبِ " .
ومِن دَلالاتِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ عَلى الأحْكامِ: أنَّ مَن أصْبَحَ مُقِيمًا صائِمًا ثُمَّ سافَرَ أنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ الإفْطارُ في يَوْمِهِ ذَلِكَ، بِدَلالَةِ ظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَن سافَرَ بَعْدَ الدُّخُولِ في الصَّوْمِ وبَيْنَ مَن أقامَ.
وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ مَن أكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ وهو يَظُنُّ أنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا، أوْ أكَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وهو يَرى أنَّ الشَّمْسَ قَدْ غابَتْ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أنَّ عَلَيْهِ القَضاءَ، لِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ وهَذا لَمْ يُتِمَّ الصِّيامَ؛ لِأنَّ الصِّيامَ هو الإمْساكُ عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ وهو لَمْ يُمْسِكْ، فَلَيْسَ هو إذًا صائِمٌ.
وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في ذَلِكَ، فَقالَ مُجاهِدٌ وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ والحَكَمُ: " إنَّ صَوْمَهُ تامٌّ ولا قَضاءَ عَلَيْهِ " هَذا في المُتَسَحِّرِ الَّذِي يَظُنُّ أنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا، وقالَ مُجاهِدٌ: " لَوْ ظَنَّ أنَّ الشَّمْسَ قَدْ غابَتْ فَأفْطَرَ ثُمَّ عَلِمَ أنَّها لَمْ تَغِبْ كانَ عَلَيْهِ القَضاءُ " فَرَّقَ بَيْنَ المُتَسَحِّرِ وبَيْنَ مَن أكَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلى ظَنٍّ مِنهُ ثُمَّ عَلِمَ؛ قالَ: لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ فَما لَمْ يَتَبَيَّنْ فالأكْلُ (p-٢٩٩)لَهُ مُباحٌ، فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ فِيما أكَلَ قَبْلَ أنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ طُلُوعُ الفَجْرِ، وأمّا الَّذِي أفْطَرَ عَلى ظَنٍّ مِنهُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فَقَدْ كانَ صَوْمُهُ يَقِينًا، فَلَمْ يَكُنْ جائِزًا لَهُ الإفْطارُ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وأصْحابُنا جَمِيعًا ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والشّافِعِيُّ: " يَقْضِي في الحالَيْنِ " إلّا أنَّ مالِكًا قالَ في صَوْمِ التَّطَوُّعِ: " يَمْضِي فِيهِ " وفي الفَرْضِ: " يَقْضِي " .
ورَوى الأعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وهْبٍ، أنَّ عُمَرَ أفْطَرَ هو والنّاسُ في يَوْمِ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَقالَ: " لا تَجانَفْنا لِإثْمٍ، واللَّهِ لا نَقْضِيهِ " ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: " الخَطْبُ يَسِيرٌ نَقْضِي يَوْمًا " .، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ يَقْضِي بِبُطْلانِ صِيامِهِ؛ إذْ لَمْ يُتْمِمْهُ؛ ولَمْ تُفَصِّلِ الآيَةُ بَيْنَ مَن أكَلَ جاهِلًا بِالوَقْتِ أوْ عالِمًا بِهِ. فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾
فَما لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ فالأكْلُ لَهُ مُباحٌ، قِيلَ لَهُ: لا يَخْلُو هَذا الأكْلُ مِن أحَدِ حالَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونَ مِمَّنْ أمْكَنَهُ اسْتِبانَةُ طُلُوعِ الفَجْرِ والوُصُولُ إلى عِلْمِهِ مِن جِهَةِ اليَقِينِ بِأنْ يَكُونَ عارِفًا بِهِ ولَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ حائِلٌ، فَإنْ كانَ كَذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يَسْتَبِنْ فَإنَّ هَذا لا يَكُونُ إلّا مِن تَفْرِيطِهِ في تَأمُّلِهِ وتَرْكِ مُراعاتِهِ، ومَن كانَتْ هَذِهِ حالَهُ فَغَيْرُ جائِزٍ لَهُ الإقْدامُ عَلى الأكْلِ، فَإذا أكَلَ فَقَدْ فَعَلَ ما لَمْ يَكُنْ لَهُ أنْ يَفْعَلَهُ؛ إذْ قَدْ كانَ في وُسْعِهِ وإمْكانِهِ الوُصُولُ إلى اليَقِينِ والِاسْتِبانَةُ، فَفَرَّطَ فِيهِ ولَمْ يَفْعَلْهُ، وتَفْرِيطُهُ غَيْرُ مُسْقِطٍ عَنْهُ فَرْضَ الصَّوْمِ، وإنْ كانَ هَذا الآكِلُ مِمَّنْ لا يَعْرِفُ الفَجْرَ بِصِفَتِهِ، أوْ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ حائِلٌ أوْ قَمَرٌ أوْ ضَعْفُ بَصَرٍ أوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذا أيْضًا مِمَّنْ لا يَجُوزُ لَهُ العَمَلُ عَلى الظَّنِّ، بَلْ عَلَيْهِ أنْ يَصِيرَ إلى اليَقِينِ ولا يَأْكُلَ وهو شاكٌّ، وإذا كانَ ذَلِكَ عَلى ما وصَفْنا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ القَضاءُ بِتَرْكِهِ الِاحْتِياطَ لِلصَّوْمِ.
وكَذَلِكَ مَن أكَلَ عَلى ظَنٍّ مِنهُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ في يَوْمِ غَيْمٍ، فَهو بِهَذِهِ المَنزِلَةِ بِمُقْتَضى ظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾
فَإنْ قِيلَ: لَمْ يُكَلَّفْ تَبَيُّنَ الفَجْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وإنَّما كُلِّفَ ما عِنْدَهُ، قِيلَ لَهُ: إذا أمْكَنَهُ الوُصُولُ إلى مَعْرِفَةِ طُلُوعِ الفَجْرِ الَّذِي هو عِنْدَ اللَّهِ فَعَلَيْهِ مُراعاتُهُ، فَمَتى لَمْ يَكُنْ هُناكَ حائِلٌ اسْتَحالَ أنْ لا يَعْلَمَهُ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّهُ إنْ غَفَلَ أُبِيحَ لَهُ الأكْلُ في حالِ غَفْلَتِهِ، فَإنَّ إباحَةَ الأكْلِ غَيْرُ مُسْقِطَةٍ لِلْقَضاءِ كالمَرِيضِ والمُسافِرِ وهُما أصْلٌ في ذَلِكَ لِأنَّهُما مَعْذُورانِ؛ والَّذِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ طُلُوعُ الفَجْرِ أوْ ظَنَّهُ قَدْ طَلَعَ مَعْذُورٌ في الأكْلِ، والعُذْرُ يُسْقِطُ القَضاءَ بِدَلالَةِ ما وصَفْنا.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ أنَّهُ لَوْ غُمَّ عَلَيْهِمُ الهِلالُ في أوَّلِ لَيْلَةٍ مِن رَمَضانَ فَأفْطَرُوا ثُمَّ عَلِمُوا بَعْدَ ذَلِكَ أنَّهُ كانَ (p-٣٠٠)مِن رَمَضانَ كانَ عَلَيْهِمُ القَضاءُ، فَكَذَلِكَ مَن وصَفْنا أمْرَهُ، وكَذَلِكَ الأسِيرُ في دارِ الحَرْبِ إذا لَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضانَ حَتّى مَضى ثُمَّ عَلِمَ بِهِ كانَ عَلَيْهِ القَضاءُ، ولَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا في حالِ الإفْطارِ إلّا عِلْمَهُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ جَهْلُهُ بِالوَقْتِ مُسْقِطًا لِلْقَضاءِ؛ فَكَذَلِكَ مَن خَفِيَ عَلَيْهِ طُلُوعُ الفَجْرِ وغُرُوبُ الشَّمْسِ.
فَإنْ قِيلَ: هَلّا كانَ بِمَنزِلَةِ النّاسِي في سُقُوطِ القَضاءِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ في حالِ الأكْلِ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ: هَذا اعْتِلالٌ فاسِدٌ لِوُجُودِهِ فِيمَن غُمَّ عَلَيْهِ هِلالُ رَمَضانَ مَعَ إيجابِ الجَمِيعِ عَلَيْهِ القَضاءَ مَتى عَلِمَ أنَّهُ مِن رَمَضانَ، وكَذَلِكَ الأسِيرُ في دارِ الحَرْبِ إذا لَمْ يَعْلَمْ بِالشَّهْرِ حَتّى مَضى عَلَيْهِ القَضاءُ عِنْدَ الجَمِيعِ مَعَ جَهْلِهِ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ.
وقالَ أصْحابُنا في الآكِلِ ناسِيًا: " القِياسُ أنَّهُ يَجِبُ القَضاءُ عَلَيْهِ " ولَكِنَّهم تَرَكُوا القِياسَ لِلْأثَرِ؛ ولَوْ كانَ ظاهِرُ الآيَةِ يَنْفِي صِحَّةَ صَوْمِ النّاسِي لِأنَّهُ لَمْ يُتِمَّ صَوْمَهُ واللَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ والصَّوْمُ هو الإمْساكُ ولَمْ يُوجَدْ مِنهُ ذَلِكَ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ نَسِيَ الصَّوْمَ رَأْسًا أنَّهُ لا خِلافَ أنَّ عَلَيْهِ القَضاءَ ولَمْ يَكُنْ نِسْيانُهُ مُسْقِطًا القَضاءَ عَنْهُ " ؟
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا هارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ومُحَمَّدُ بْنُ العَلاءِ المُعَنّى قالا: حَدَّثَنا أبُو أُسامَةَ قالَ: حَدَّثَنا هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ فاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ عَنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ قالَتْ: «أفْطَرْنا يَوْمًا في رَمَضانَ في غَيْمٍ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ» قالَ أبُو أُسامَةَ: قُلْتُ لِهِشامٍ: أُمِرُوا بِالقَضاءِ ؟ قالَ: وبُدٌّ مِن ذَلِكَ.
* * *
وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ يُوجِبُ أيْضًا إبْطالَ صَوْمِ المُكْرَهِ عَلى الأكْلِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ عَلى ما قَدَّمْنا.
وكَذَلِكَ إبْطالُ صَوْمِ مَن جُنَّ فَأكَلَ في حالِ جُنُونِهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى حَكَمَ بِصِحَّةِ الصَّوْمِ لِمَن أتَمَّهُ إلى اللَّيْلِ، فَمَن وُجِدَ مِنهُ فِعْلٌ يَحْظُرُهُ الصَّوْمُ فَهو غَيْرُ مُتِمٍّ لِصَوْمِهِ إلى اللَّيْلِ فَيَلْزَمُهُ القَضاءُ.
وأمّا الوَقْتُ الَّذِي هو نِهايَةُ الصَّوْمِ ويَجِبُ بِهِ الإفْطارُ، هو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ داوُدَ عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أبِيهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا جاءَ اللَّيْلُ مِن هاهُنا وذَهَبَ النَّهارُ مِن هاهُنا وغابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أفْطَرَ الصّائِمُ» .
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الواحِدِ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ الشَّيْبانِيُّ قالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبِي أوْفى قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا رَأيْتُمُ اللَّيْلَ قَدْ أقْبَلَ مِن هاهُنا فَقَدْ أفْطَرَ الصّائِمُ وأشارَ بِأُصْبُعِهِ قِبَلَ المَشْرِقِ»، ورَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ «إذا سَقَطَ القُرْصُ (p-٣٠١)أفْطِرْ» ولا خِلافَ في أنَّهُ إذا غابَتِ الشَّمْسُ فَقَدِ انْقَضى وقْتُ الصَّوْمُ وجازَ لِلصّائِمِ الأكْلُ والشُّرْبُ والجِماعُ وسائِرُ ما حَظَرَهُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وقَوْلُهُ ﷺ: «إذا غابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أفْطَرَ الصّائِمُ» يُوجِبُ أنْ يَكُونَ مُفْطِرًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ أكَلَ أوْ لَمْ يَأْكُلْ؛ لِأنَّ الصَّوْمَ لا يَكُونُ بِاللَّيْلِ ولِذَلِكَ نَهى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الوِصالِ؛ لِأنَّهُ يَتْرُكُ الطَّعامَ والشَّرابَ وهو مُفْطِرٌ والوِصالُ أنْ يَمْكُثَ يَوْمَيْنِ أوْ ثَلاثَةً لا يَأْكُلُ شَيْئًا ولا يَشْرَبُ فَإنْ أكَلَ أوْ شَرِبَ في أيِّ وقْتٍ كانَ شَيْئًا قَلِيلًا فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الوِصالِ وقَدْ رَوى ابْنُ الهادِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبّابٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «أنَّهُ نَهى عَنِ الوِصالِ، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تُواصِلُ فَقالَ: إنَّكم لَسْتُمْ كَهَيْئَتِي، إنِّي أبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وساقٍ يَسْقِينِي؛ فَأيُّكم واصَلَ فَمِنَ السَّحَرِ إلى السَّحَرِ» .
فَأخْبَرَ أنَّهُ إذا أكَلَ أوْ شَرِبَ سَحَرًا فَهو غَيْرُ مُواصِلٍ، وأخْبَرَ ﷺ أنَّهُ لا يُواصِلُ؛ لِأنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ ويَسْقِيهِ، وفي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ قِيلَ لَهُ: إنَّكَ تُواصِلُ فَقالَ: «إنِّي أبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي ويَسْقِينِي» ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ مَخْصُوصًا بِإباحَةِ الوِصالِ دُونَ أُمَّتِهِ، وقَدْ أخْبَرَ ﷺ أنَّ اللَّهُ يُطْعِمُهُ ويَسْقِيهِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يُواصِلْ، واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
* * *
بابُ الِاعْتِكافِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ ومَعْنى الِاعْتِكافِ في أصْلِ اللُّغَةِ هو اللُّبْثُ، قالَ اللَّهُ: ﴿ما هَذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أنْتُمْ لَها عاكِفُونَ﴾ [الأنبياء: ٥٢] وقالَ تَعالى: ﴿فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ﴾ [الشعراء: ٧١] وقالَ الطِّرِمّاحُ:
؎فَباتَتْ بَناتُ اللَّيْلِ حَوْلِي عُكَّفًا عُكُوفَ البَواكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ
ثُمَّ نُقِلَ في الشَّرْعِ إلى مَعانٍ أُخَرَ مَعَ اللُّبْثِ لَمْ يَكُنِ الِاسْمُ يَتَناوَلُها في اللُّغَةِ؛ مِنها الكَوْنُ في المَسْجِدِ، ومِنها الصَّوْمُ، ومِنها تَرْكُ الجِماعِ رَأْسًا ونِيَّةُ التَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ عَزَة وجَلَّ، ولا يَكُونُ مُعْتَكِفًا إلّا بِوُجُودِ هَذِهِ المَعانِي، وهو نَظِيرُ ما قُلْنا في الصَّوْمِ إنَّهُ اسْمٌ لِلْإمْساكِ في اللُّغَةِ ثُمَّ زِيدَ فِيهِ مَعانٍ أُخَرُ لا يَكُونُ الإمْساكُ صَوْمًا شَرْعِيًّا إلّا بِوُجُودِها.
وأمّا شَرْطُ اللُّبْثِ في المَسْجِدِ فَإنَّهُ لِلرِّجالِ خاصَّةً دُونَ النِّساءِ، وأمّا شَرْطُ كَوْنِهِ في المَسْجِدِ في الِاعْتِكافِ فالأصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ فَجَعَلَ مِن شَرْطِ الِاعْتِكافِ الكَوْنَ في المَسْجِدِ، وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في المَسْجِدِ الَّذِي يَجُوزُ الِاعْتِكافُ فِيهِ (p-٣٠٢)عَلى أنْحاءٍ.
ورُوِيَ عَنْ أبِي وائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أنَّهُ قالَ لِعَبْدِ اللَّهِ: رَأيْتُ ناسًا عُكُوفًا بَيْنَ دارِكَ ودارِ الأشْعَرِيِّ لا تُعِيرُ. وقَدْ عَلِمْتَ أنْ لا اعْتِكافَ إلّا في المَساجِدِ الثَّلاثَةَ أوْ في المَسْجِدِ الحَرامِ فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَعَلَّهم أصابُوا وأخْطَأْتُ وحَفِظُوا ونَسِيتُ،
ورَوى إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ أنَّ حُذَيْفَةَ قالَ: " لا اعْتِكافَ إلّا في ثَلاثَةِ مَساجِدَ: المَسْجِدِ الحَرامِ، والمَسْجِدِ الأقْصى، ومَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ "، ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: " لا اعْتِكافَ إلّا في مَسْجِدِ نَبِيٍّ "، وهَذا مُوافِقٌ لِمَذْهَبِ حُذَيْفَةَ؛ لِأنَّ المَساجِدَ الثَّلاثَةَ هي مَساجِدُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ.
وقَوْلٌ آخَرُ؛ وهو ما رَوى إسْرائِيلُ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنْ الحارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: " لا اعْتِكافَ إلّا في المَسْجِدِ الحَرامِ أوْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ " .
ورُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وعائِشَةَ وإبْراهِيمَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وأبِي جَعْفَرٍ وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: " لا اعْتِكافَ إلّا في مَسْجِدِ جَماعَةٍ " فَحَصَلَ مِنِ اتِّفاقِ جَمِيعِ السَّلَفِ أنَّ مِن شَرْطِ الِاعْتِكافِ الكَوْنَ في المَسْجِدِ عَلى اخْتِلافٍ مِنهم في عُمُومِ المَساجِدِ وخُصُوصِها عَلى الوَجْهِ الَّذِي بَيَّنّا؛ ولَمْ يَخْتَلِفْ فُقَهاءُ الأمْصارِ في جَوازِ الِاعْتِكافِ في سائِرِ المَساجِدِ الَّتِي تُقامُ فِيها الجَماعاتُ إلّا شَيْءٌ يُحْكى عَنْ مالِكٍ ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ قالَ: " لا يَعْتَكِفُ أحَدٌ إلّا في المَسْجِدِ الجامِعِ أوْ في رِحابَ المَساجِدِ الَّتِي تَجُوزُ فِيها الصَّلاةُ " .
وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ يُبِيحُ الِاعْتِكافَ في سائِرِ المَساجِدِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، ومَنِ اقْتَصَرَ بِهِ عَلى بَعْضِها فَعَلَيْهِ بِإقامَةِ الدَّلالَةِ، وتَخْصِيصُهُ بِمَساجِدِ الجَماعاتِ لا دَلالَةَ عَلَيْهِ، كَما أنَّ تَخْصِيصَ مَن خَصَّهُ بِمَساجِدِ الأنْبِياءِ لَمّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ سَقَطَ اعْتِبارُهُ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ ﷺ: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلّا إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: مَسْجِدِ الحَرامِ ومَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ ومَسْجِدِي هَذا» يَدُلُّ عَلى اعْتِبارِ تَخْصِيصِ هَذِهِ المَساجِدِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: «صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذا أفْضَلُ مِن ألْفِ صَلاةٍ في غَيْرِهِ إلّا المَسْجِدَ الحَرامَ» يَدُلُّ عَلى اخْتِصاصِ هَذَيْنِ المَسْجِدَيْنِ بِالفَضِيلَةِ دُونَ غَيْرِهِما، قِيلَ لَهُ: لَعَمْرِي إنَّ هَذا القَوْلَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ في تَخْصِيصِهِ المَساجِدَ الثَّلاثَةَ في حالٍ والمَسْجِدَيْنِ في حالٍ دَلِيلٌ عَلى تَفْضِيلِهِما عَلى سائِرِ المَساجِدِ.
وكَذَلِكَ نَقُولُ كَما قالَ ﷺ إلّا أنَّهُ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى نَفْيِ جَوازِ الِاعْتِكافِ في غَيْرِهِما كَما لا دَلالَةَ عَلى نَفْيِ جَوازِ الجُمُعاتِ والجَماعاتِ في غَيْرِهِما، فَغَيْرُ جائِزٍ لَنا تَخْصِيصُ عُمُومِ الآيَةِ بِما لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى تَخْصِيصِهِما؛ وقَوْلُ مالِكٍ في الرِّوايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ في تَخْصِيصِ مَساجِدِ الجُمُعاتِ دُونَ مَساجِدِ الجَماعاتِ لا مَعْنى لَهُ، وكَما لا تَمْتَنِعُ صَلاةُ الجُمُعَةِ في سائِرِ المَساجِدِ كَذَلِكَ (p-٣٠٣)لا يَمْتَنِعُ الِاعْتِكافُ فِيها، فَكَيْفَ صارَ الِاعْتِكافُ مَخْصُوصًا بِمَساجِدِ الجُمُعاتِ دُونَ مَساجِدِ الجَماعاتِ ؟
وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في مَوْضِعِ اعْتِكافِ النِّساءِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: " لا تَعْتَكِفُ المَرْأةُ إلّا في مَسْجِدِ بَيْتِها، ولا تَعْتَكِفُ في مَسْجِدِ جَماعَةٍ " وقالَ مالِكٌ: " تَعْتَكِفُ المَرْأةُ في مَسْجِدِ الجَماعَةِ " ولا يُعْجِبُهُ أنْ تَعْتَكِفَ في مَسْجِدِ بَيْتِها، وقالَ الشّافِعِيُّ: " العَبْدُ والمَرْأةُ والمُسافِرُ يَعْتَكِفُونَ حَيْثُ شاءُوا؛ لِأنَّهُ لا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا تَمْنَعُوا إماءَ اللَّهِ مَساجِدَ اللَّهِ، وبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» فَأخْبَرَ أنَّ بَيْتَها خَيْرٌ لَها، ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حالِها في الِاعْتِكافِ وفي الصَّلاةِ، ولَمّا جازَ لِلْمَرْأةِ الِاعْتِكافُ بِاتِّفاقِ الفُقَهاءِ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في بَيْتِها لِقَوْلِهِ ﷺ: «وبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» فَلَوْ كانَتْ مِمَّنْ يُباحُ لَها الِاعْتِكافُ في المَسْجِدِ لَكانَ اعْتِكافُها في المَسْجِدِ أفْضَلَ ولَمْ يَكُنْ بُيُوتُهُنَّ خَيْرًا لَهُنَّ لِأنَّ الِاعْتِكافَ شَرْطُهُ الكَوْنُ في المَساجِدِ لِمَن يُباحُ لَهُ الِاعْتِكافُ فِيهِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ ﷺ: «صَلاةُ المَرْأةِ في دارِها أفْضَلُ مِن صَلاتِها في مَسْجِدِها، وصَلاتُها في بَيْتِها أفْضَلُ مِن صَلاتِها في دارِها، وصَلاتُها في مَخْدَعِها أفْضَلُ مِن صَلاتِها في بَيْتِها»، فَلَمّا كانَتْ صَلاتُها في بَيْتِها أفْضَلَ مِن صَلاتِها في المَسْجِدِ كانَ اعْتِكافُها كَذَلِكَ.
ويَدُلُّ عَلى كَراهَةِ الِاعْتِكافِ في المَساجِدِ لِلنِّساءِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ ويَعْلى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا أرادَ أنْ يَعْتَكِفَ صَلّى الفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، قالَتْ: وإنَّهُ أرادَ مَرَّةً أنْ يَعْتَكِفَ في العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ، قالَتْ: فَأمَرَ بِبِنائِهِ فَضُرِبَ، فَلَمّا رَأيْتُ ذَلِكَ أمَرْتُ بِبِنائِي فَضُرِبَ، قالَتْ: وأمَرَ غَيْرِي مِن أزْواجِ النَّبِيِ ﷺ بِبِنائِهِ فَضُرِبَ، فَلَمّا صَلّى الفَجْرَ نَظَرَ إلى الأبْنِيَةِ فَقالَ: ما هَذِهِ آلْبِرَّ تُرِدْنَ ؟ قالَتْ: ثُمَّ أمَرَ بِبِنائِهِ فَقُوِّضَ وأمَرَ أزْواجَهُ بِأبْنِيَتِهِنَّ فَقُوِّضَتْ، ثُمَّ أخَّرَ الِاعْتِكافَ إلى العَشْرِ الأُوَلِ؛ يَعْنِي مِن شَوّالٍ» .
وهَذا الخَبَرُ يَدُلُّ عَلى كَراهِيَةِ الِاعْتِكافِ لِلنِّساءِ في المَسْجِدِ بِقَوْلِهِ: «آلْبِرَّ تُرِدْنَ ؟» يَعْنِي أنَّ هَذا لَيْسَ مِنَ البِرِّ، ويَدُلُّ عَلى كَراهِيَةِ ذَلِكَ مِنهُنَّ أنَّهُ لَمْ يَعْتَكِفْ في ذَلِكَ الشَّهْرِ ونَقَضَ بِناءَهُ حَتّى نَقَضْنَ أبْنِيَتَهُنَّ.
ولَوْ ساغَ لَهُنَّ الِاعْتِكافُ عِنْدَهُ لَما تَرَكَ الِاعْتِكافَ بَعْدَ العَزِيمَةِ ولَما جَوَّزَ لَهُنَّ تَرْكَهُ وهو قُرْبَةٌ إلى اللَّهِ تَعالى، وفي هَذا دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ قَدْ كَرِهَ اعْتِكافَ النِّساءِ في المَساجِدِ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رَوى سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هَذا الحَدِيثَ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عائِشَةَ وقالَتْ فِيهِ: «فاسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ ﷺ في الِاعْتِكافِ فَأذِنَ لِي، (p-٣٠٤)ثُمَّ اسْتَأْذَنَتْهُ زَيْنَبُ فَأذِنَ لَها، فَلَمّا صَلّى الفَجْرَ رَأى في المَسْجِدِ أرْبَعَةَ أبْنِيَةٍ فَقالَ: ما هَذا ؟ فَقالُوا: لِزَيْنَبَ وحَفْصَةَ وعائِشَةَ فَقالَ: آلْبِرَّ تُرِدْنَ ؟ فَلَمْ يَعْتَكِفْ»، فَأخْبَرَتْ في هَذا الحَدِيثِ بِإذْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِيهِ أنَّهُ أذِنَ لَهُنَّ في الِاعْتِكافِ في المَسْجِدِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الإذْنُ انْصَرَفَ إلى اعْتِكافِهِنَّ في بُيُوتِهِنَّ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ لَمّا رَأى أبْنِيَتَهُنَّ في المَسْجِدِ تَرَكَ الِاعْتِكافَ حَتّى تَرَكْنَ أيْضًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الإذْنَ بَدِيًّا لَمْ يَكُنْ إذْنًا لَهُنَّ في الِاعْتِكافِ في المَسْجِدِ، وأيْضًا فَلَوْ صَحَّ أنَّ الإذْنَ بَدِيّا انْصَرَفَ إلى فِعْلِهِ في المَسْجِدِ لَكانَتِ الكَراهَةُ دالَّةً عَلى نَسْخِهِ وكانَ الآخِرُ مِن أمْرِهِ أوْلى مِمّا تَقَدَّمَ، فَإنْ قِيلَ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْإذْنِ لِأنَّ النَّسْخَ عِنْدَكم لا يَجُوزُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الفِعْلِ، قِيلَ لَهُ: قَدْ كُنَّ مُكِّنَّ مِنَ الفِعْلِ لِأدْنى الِاعْتِكافِ؛ لِأنَّهُ مِن حِينِ طُلُوعِ الفَجْرِ مِن ذَلِكَ اليَوْمِ إلى أنْ صَلّى النَّبِيُّ ﷺ وأنْكَرَ فِعْلَهُنَّ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ التَّمْكِينُ مِنَ الِاعْتِكافِ، فَلِذَلِكَ جازَ وُرُودُ النَّسْخِ بَعْدَهُ.
وأمّا قَوْلُ الشّافِعِيِّ فِيمَن لا جُمُعَةَ عَلَيْهِ: " إنَّ لَهُ أنْ يَعْتَكِفَ حَيْثُ شاءَ " فَلا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ لِلِاعْتِكافِ تَعَلُّقٌ بِالجُمُعَةِ، وقَدْ وافَقَنا الشّافِعِيُّ عَلى جَوازِ الِاعْتِكافِ في سائِرِ المَساجِدِ فِيمَن عَلَيْهِ جُمُعَةٌ ومَن لَيْسَتْ عَلَيْهِ لا يَخْتَلِفانِ في مَوْضِعِ الِاعْتِكافِ، وإنَّما كُرِهَ ذَلِكَ لِلْمَرْأةِ في المَسْجِدِ لِأنَّها تَصِيرُ لابِثَةً مَعَ الرِّجالِ في المَسْجِدِ وذَلِكَ مَكْرُوهٌ لَها سَواءٌ كانَتْ مُعْتَكِفَةً أوْ غَيْرَ مُعْتَكِفَةٍ، فَأمّا مَن سِواها فَلا يَخْتَلِفُ الحُكْمُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ فَلَمْ يُخَصِّصْ مَن عَلَيْهِ جُمُعَةٌ مِن غَيْرِهِمْ، فَلا يَخْتَلِفُ في الِاعْتِكافِ مَن عَلَيْهِ جُمُعَةٌ ومَن لَيْسَتْ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ نافِلَةٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلى أحَدٍ.
وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في مُدَّةِ الِاعْتِكافِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ والشّافِعِيُّ: " لَهُ أنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وما شاءَ " وقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عَنْ أصْحابِنا في مَن دَخَلَ في الِاعْتِكافِ مِن غَيْرِ إيجابٍ، بِالقَوْلِ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ: " هو مُعْتَكِفٌ ما دامَ في المَسْجِدِ ولَهُ أنْ يَخْرُجَ مَتى شاءَ بَعْدَ أنْ يَكُونَ صائِمًا في مِقْدارِ لُبْثِهِ فِيهِ " والرِّوايَةُ الأُخْرى، وهي في غَيْرِ الأُصُولِ " أنَّ عَلَيْهِ أنْ يُتِمَّهُ يَوْمًا " .
ورَوى ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ قالَ: " ما سَمِعْتُ أنَّ أحَدًا اعْتَكَفَ دُونَ عَشْرٍ، ومَن صَنَعَ ذَلِكَ لَمْ أرَ عَلَيْهِ شَيْئًا " وذَكَرَ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: " الِاعْتِكافُ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ " ثُمَّ رَجَعَ وقالَ: " لا اعْتِكافَ أقَلُّ مِن عَشَرَةِ أيّامٍ " وقالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ: " لا أسْتَحِبُّ أنْ يَعْتَكِفَ أقَلَّ مِن عَشَرَةِ أيّامِ "
قالَ أبُو بَكْرٍ: تَحْدِيدُ مُدَّةِ الِاعْتِكافِ لا يَصِحُّ إلّا بِتَوْقِيفٍ أوِ اتِّفاقٍ وهُما مَعْدُومانِ، فالمُوجِبُ لِتَحْدِيدِهِ مُتَحَكِّمٌ قائِلٌ بِغَيْرِ دَلالَةٍ.
(p-٣٠٥)فَإنْ قِيلَ: تَحْدِيدُ العَشَرَةِ لِما رُوِيَ أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأواخِرَ مِن رَمَضانَ»، ورُوِيَ أنَّهُ «اعْتَكَفَ العَشْرَ الأواخِرَ مِن شَوّالٍ في بَعْضِ السِّنِينَ»، ولَمْ يُرْوَ أنَّهُ اعْتَكَفَ أقَلَّ مِن ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: لَمْ يَخْتَلِفِ الفُقَهاءُ أنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ ﷺ لِلِاعْتِكافِ لَيْسَ عَلى الوُجُوبِ وأنَّهُ غَيْرُ مُوجِبِ عَلى أحَدٍ اعْتِكافًا، فَإذا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ لِلِاعْتِكافِ عَلى الوُجُوبِ فَتَحْدِيدُ العَشَرَةِ أوْلى أنْ لا يَثْبُتَ بِفِعْلِهِ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّهُ لَمْ يُنْفَ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ اعْتِكافَ العَشَرَةِ جائِزٌ ونَفْيُ ما دُونَها يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ، وقَدْ أطْلَقَ اللَّهُ تَعالى ذِكْرَ الِاعْتِكافِ فَقالَ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ ولَمْ يَحُدَّهُ بِوَقْتٍ ولَمْ يُقَدِّرْهُ بِمُدَّةٍ، فَهو عَلى إطْلاقِهِ وغَيْرُ جائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلالَةٍ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابٌ الِاعْتِكافُ هَلْ يَجُوزُ بِغَيْرِ صَوْمٍ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ في المَساجِدِ﴾ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ الِاعْتِكافَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ، وما كانَ هَذا حُكْمَهُ مِنَ الأسْماءِ فَهو بِمَنزِلَةِ المُجْمَلِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلى البَيانِ وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في ذَلِكَ، فَرَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعائِشَةَ قالُوا: " المُعْتَكِفُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ "، وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ عَنْ عائِشَةَ: " مِن سُنَّةِ المُعْتَكِفِ أنْ يَصُومَ " .
ورَوى حاتِمُ بْنُ إسْماعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: " لا اعْتِكافَ إلّا بِصَوْمٍ " وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وإبْراهِيمَ ومُجاهِدٍ، وقالَ آخَرُونَ: " يَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ "؛ رَوى الحَكَمُ عَنْ عَلِيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ، وقَتادَةَ عَنِ الحَسَنِ وسَعِيدٍ، وأبُو مَعْشَرٍ عَنْ إبْراهِيمَ قالُوا: " إنْ شاءَ صامَ وإنْ شاءَ لَمْ يَصُمْ " ورَوى طاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَهُ.
واخْتَلَفَ فِيهِ أيْضًا فُقَهاءُ الأمْصارِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " لا اعْتِكافَ إلّا بِصَوْمٍ " وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " الِاعْتِكافُ في رَمَضانَ، والجِوارُ في غَيْرِ رَمَضانَ، ومَن جاوَرَ فَعَلَيْهِ ما عَلى المُعْتَكِفِ مِنَ الصِّيامِ وغَيْرِهِ "، وقالَ الشّافِعِيُّ: " يَجُوزُ الِاعْتِكافُ بِغَيْرِ صَوْمٍ "
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَ الِاعْتِكافُ اسْمًا مُجْمَلًا لِما بَيَّنّا كانَ مُفْتَقِرًا إلى البَيانِ، فَكُلُّ ما فَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ في اعْتِكافِهِ فَهو وارِدٌ مَوْرِدَ البَيانِ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونُ عَلى الوُجُوبِ؛ لِأنَّ فِعْلَهُ إذا ورَدَ مَوْرِدَ البَيانِ فَهو عَلى الوُجُوبِ إلّا ما قامَ دَلِيلُهُ، فَلَمّا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «لا اعْتِكافَ إلّا بِصَوْمٍ» وجَبَ أنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِن شُرُوطِهِ الَّتِي لا يَصِحُّ إلّا بِهِ، كَفِعْلِهِ في الصَّلاةِ لِأعْدادِ الرَّكَعاتِ (p-٣٠٦)والقِيامِ والرُّكُوعِ والسُّجُودِ لَمّا كانَ عَلى وجْهِ البَيانِ كانَ عَلى الوُجُوبِ.
ومِن جِهَةِ السُّنَّةِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ إبْراهِيمَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ ورْقاءَ اللَّيْثِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ أنْ يَعْتَكِفَ في الجاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أوْ يَوْمًا عِنْدَ الكَعْبَةِ، فَسَألَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: اعْتَكِفْ وصُمْ» .
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبانَ بْنِ صالِحٍ القُرَشِيِّ قالَ: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ بِإسْنادِهِ، نَحْوَهُ، وأمْرُ النَّبِيِّ ﷺ عَلى الوُجُوبِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّهُ مِن شُرُوطِ الِاعْتِكافِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: " مِن سُنَّةِ المُعْتَكِفِ أنْ يَصُومَ "، ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى لُزُومِهِ بِالنَّذْرِ.
فَلَوْلا ما يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الصَّوْمِ لَما لَزِمَ بِالنَّذْرِ؛ لِأنَّ ما لَيْسَ لَهُ أصْلٌ في الوُجُوبِ لا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ ولا يَصِيرُ واجِبًا، كَما أنَّ ما لَيْسَ لَهُ أصْلٌ في القُرَبِ لا يَصِيرُ قُرْبَةً وإنْ تُقُرِّبَ بِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ الِاعْتِكافَ لُبْثٌ في مَكانٍ فَأشْبَهَ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، والكَوْنُ بِمِنًى لَمّا كانَ لُبْثًا في مَكانٍ لَمْ يَصِرْ قُرْبَةً إلّا بِانْضِمامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ هو في نَفْسِهِ قُرْبَةٌ، فالوُقُوفُ بِعَرَفَةَ الإحْرامُ والكَوْنُ بِمِنًى الرَّمْيُ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ مِن شَرْطِهِ الصَّوْمُ لَما صَحَّ بِاللَّيْلِ لِعَدَمِ الصَّوْمِ فِيهِ، قِيلَ لَهُ: قَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ مِن شَرْطِهِ اللُّبْثَ في المَسْجِدِ ثُمَّ لا يُخْرِجُهُ مِنَ الِاعْتِكافِ خُرُوجُهُ لِحاجَةِ الإنْسانِ ولِلْجُمُعَةِ، ولَمْ يَنْفِ ذَلِكَ كَوْنُ اللُّبْثِ في المَسْجِدِ شَرْطًا فِيهِ، كَذَلِكَ مِن شَرْطِهِ الصَّوْمُ وصِحَّتُهُ بِاللَّيْلِ مَعَ عَدَمِ الصَّوْمِ غَيْرُ مانِعٍ أنْ يَكُونَ مِن شَرْطِهِ، وكَذَلِكَ اللُّبْثُ بِمِنًى قُرْبَةٌ لِأجْلِ الرَّمْيِ، ثُمَّ يَكُونُ اللُّبْثُ بِاللَّيْلِ بِها قُرْبَةً لِرَمْيٍ يَفْعَلُهُ في غَدٍ، كَذَلِكَ الِاعْتِكافُ بِاللَّيْلِ صَحِيحٌ بِصَوْمٍ يَسْتَقْبِلُهُ في غَدٍ، واللَّهُ أعْلَمُ.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"أُحِلَّ لَكُمۡ لَیۡلَةَ ٱلصِّیَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَاۤىِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسࣱ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسࣱ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُوا۟ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّوا۟ ٱلصِّیَامَ إِلَى ٱلَّیۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِی ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ ءَایَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق