الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وعَفا عَنْكُمْ فالآنَ باشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ ولا تُباشِرُوهُنَّ وأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: ١٨٧].
الأصلُ في وطْءِ الزَّوْجةِ: الحِلُّ، والبراءةُ الأصليَّةُ ليستْ حُكْمًا شرعيًّا تنصُّ على أنواعِهِ الأدلَّةُ، بل هي البقاءُ على عدمِ التكليفِ الذي كان الناسُ عليه قبلَ ورودِ الشرعِ.
الأحوالُ التي تنُصُّ على حِلِّ المباحاتِ فيها:
الوحيُ لا يتعرَّضُ للنصِّ على إباحةِ أعيانِ المباحاتِ، لأنّ هذا هو الأصلُ، إلا عندَ مَظِنَّةِ اعتقادِ التحريمِ في نفوسِ السامعينَ، وذلك كقولِهِ تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] عندَ ظنِّ بعضِ الناسِ تحريمَ التِّجارةِ مع الحجِّ.
وتَنُصُّ الشريعةُ على إباحةِ المباحاتِ في موضعٍ ثانٍ، وهو: في موضعِ حصرِ المحرَّماتِ أو الواجباتِ، كما في هذه الآيةِ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾، لحصرِ الإلزامِ بالإمساكِ في النهارِ، وإخراجِ الليلِ منه، وكذلك في قولِه تعالى: ﴿وأُحِلَّ لَكُمْ ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] بعدَ أنْ ذكرَ اللهُ النساءَ المحرَّماتِ، أخرَجَ منهنَّ غيرَهُنَّ ونصَّ على حِلِّهِنَّ.
وعادةً مّا يأتي بعدَ فرضِ الحكمِ بيانُ حدودِهِ وضوابطِهِ ومنهيّاتِه، فبعدَ أنْ ذكَرَ فرضَ الصيامِ ووجوبَهُ وأهلَ الأعذارِ فيه، ذكَرَ ما يَحِلُّ ويحرُمُ فِعْلُه، ضبطًا لحدودِه، وإحكامًا لتشريعهِ، فلا يتسلَّلُ الاجتهادُ في الحُكْمِ حتى يُفْسِدَه، والنصُّ يقطعُ الاجتهادَ، فلا اجتهادَ معَ النصِّ.
وكلَّما جاءتِ الضوابطُ والشروطُ للحُكْمِ أكثَرَ وأدَقَّ في الكتابِ والسُّنَّةِ، دَلَّ على أهميَّتِهِ على غيرِهِ، لأنّ الضوابِطَ والأوامِرَ والشروطَ والأركانَ والمُبْطِلاتِ الواردةَ في الحُكْمِ المنزَّلِ: تدُلُّ على الاهتمامِ به، والاحترازِ مِن دخولِ غيرِهِ فيه، فيشتبِهُ، فتضعُفُ صفتُهُ وهيئتُهُ، وذلك كالمالِ، كلَّما وضَعْتَ حِرْزًا عليهِ، دلَّ على أهميَّتِهِ عندَكَ.
الحكمةُ من نسخِ تحريمِ جماع الصائمِ ليلًا:
وهذهِ الآيةُ ناسِخةٌ لنهيِ الصائمِ عن الجِماعِ ليلةَ الصيامِ، وكان ذلك أولَ الأمرِ، فشَقَّ ذلك على الصحابةِ عليهِم رضوانُ اللهِ، والحِكْمةُ الإلهيَّةُ في النهيِ غيرُ منصوصةٍ في النهيِ عن ذلك ليلةَ الصيامِ.
ويَحتمِلُ أنْ يكونَ ذلكَ تربيةً وتيسيرًا على النَّفْسِ، أن يُؤتى بالحكمِ الشديدِ، ثمَّ يَعملَ به الناسُ وقتًا يسيرًا، فتظهَرَ المشقَّةُ عليهم، ثمَّ يَنسَخَهُ اللهُ، ويُبقِيَ الحكمَ على الحالِ التي أرادَها اللهُ أن تكونَ عليه، فلو فرَضَ اللهُ الصيامَ ابتداءً، ونهى عن مباشَرةِ النِّساءِ نهارًا فقطْ، لكان ذلك أشقَّ على النفوسِ ممّا لو فرَضَ اللهُ الصيامَ ونهى عنِ المباشَرةِ ليلًا ونهارًا، ثمَّ أباحَ مباشَرةَ اللَّيْلِ تخفيفًا، فيَفرِضُ الأشَدَّ حتّى تأْنَسَ النفوسُ بما دونَه، وهذا من السِّياسةِ الدقيقةِ في التشريعِ لو صَحَّ هذا الاحتمالُ.
ويُؤخَذُ منهُ سياسةُ الحاكمِ لنفوسِ الرَّعِيَّةِ عند إرادةِ أمرٍ لصالحِ الأُمَّةِ وهو شديدٌ، أنْ يُظهِرَ ما هو أشَدُّ منه، فإذا جَرَّبُوهُ، خفَّف، ويُبقِي الأَخَفَّ، فيَظهَرُ الشديدُ بصورةِ اليُسْرِ.
وفيه: قطعٌ للنفوسِ المريضةِ الَّتي تتربَّصُ بالأحكامِ، وتَصِفُها بالتشديدِ، فالنفسُ تَنفِرُ مِنَ الماءِ الدافِئِ، ولا تشربُهُ إلا إذا ذاقَتْ ما هو أشدُّ حرارةً منه، فتستلِذُّ ما دُونَه، خاصَّةً أنّ فرضَ صيامِ رمضانَ جاء بعد صيامِ يومٍ في السَّنَةِ، ثمَّ تدرَّجَ، فشرَعَ صيامَ رمضانَ على التخيِيرِ بينَهُ وبينَ الإطعامِ، ثمَّ فرَضَهُ بعينِه، وهذا انتقالٌ كبيرٌ، فاحتاجَ مِثلُهُ إلى إظهارِ قُدْرةِ الناسِ عليه لو رأَوْا ما هو أشدُّ منه.
ومِنَ العلماءِ مَن قال: إنّه لم يأتِ في الشرعِ نَهيٌ عن المباشَرةِ ليلًا، ولكنَّ بيانَ حِلِّ المباشَرةِ جاءَ هنا دَفْعًا لتوهُّمِ ظَنٍّ، وربَّما نَسْخًا لما بَقِيَ مِن شريعةِ الأُمَمِ السابقةِ، فقد أنكَرَ أبو مسلِمٍ الأَصْفَهانِيُّ أن يكونَ هذا نَسْخًا لشيءٍ تقرَّرَ في شَرْعِنا، وقال: هو نَسخٌ لِما كان في شريعةِ النصارى.
والرَّفَثُ: هو حديثُ الرَّجُلِ مع المَرْأَةِ في شأنِ اللَّذَّةِ، وأُطلِقَ على الجِماعِ أيضًا كنايةً.
وأصلُ إطلاقِ الرَّفَثِ عندَ العربِ إنّما ينصرِفُ إلى الكلامِ الفاحِشِ، قال العَجّاجُ:
ورَبِّ أسْرابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ
عنِ اللَّغا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ[[ينظر: «ديوان العَجّاج» (١/٤٥٦)، و«الصـحـاح» (١/٢٨٣)، و«لـسـان الـعـرب» (٢/١٥٣)، و«تاج العروس» (٥/٢٦٤)، مادة: (رفث).]]
ويرادُ بِالرَّفَثِ فِي هذه الآيةِ: الجِماعُ، روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن أبي إسحاقَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ عَبّاسٍ، قال: «الرَّفَثُ: الجِماعُ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣١٥).]].
وروى ابنُ جريرٍ، عن بَكْرِ بنِ عَبْدِ اللهِ المُزَنِيِّ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، قال: «الرَّفَثُ: الجِماعُ، ولكِنَّ اللهَ كريمٌ يَكْنِي»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٢٩).]].
ورُوِيَ هذا عن عامَّةِ المفسِّرينَ مِنَ السلفِ.
حكمُ الجماعِ ليلَ رمضانَ:
وقدْ بيَّن اللهُ إباحةَ الرَّفَثِ إلى النِّساءِ، وأنّ المرادَ به الجِماعُ في قولِه: ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾، وهو شِدَّةُ الالتصاقِ، وذلك أنّ تحريمَ قُرْبِ النساءِ ليلًا بِالمباشَرةِ شاقٌّ، لأنّه وقتُ ضِجْعَةٍ وقُرْبٍ، وفي النهارِ يسيرٌ، لأنّه وقتُ بُعْدٍ عنِ النساءِ بِالكَسْبِ وطَلَبِ العَيْشِ، ويَظهَرُ أثرُ المشقَّةِ في قولِهِ تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ﴾، أيْ: تُقدِمونَ وتُبيِّتونَ في نفوسِكُمُ القُرْبَ مِن النساءِ، وتَرجِعونَ مَرَّةً وتُقْدِمُونَ أُخرى، كحالِ الخائِنِ المتربِّصِ المتهيِّبِ.
وسَمّى اللهُ النساءَ لِباسًا للرَّجُلِ، والرَّجُلَ لِباسًا للمرأةِ، كنايةً عنْ سَتْرِ ما يُبدِيهِ الإنسانُ من رَغْبةِ أحدِهِما في الجِنْسِ الآخَرِ، وطَمَعِهِ في قضاءِ وطَرِهِ، فالمرأةُ تَقضِي حاجةَ الرَّجُلِ فتَسْتُرُ نَزْوَتَهُ، والرَّجُلُ يَقْضِي حاجةَ المرأَةِ ويَسْتُرُ نَزْوَتَها، فوقوعُ الجِنسَيْنِ بعضِهِما بِبعضٍ بِمَسٍّ أو رَفَثٍ أو جِماعٍ محرَّمٌ، وهذه الأَفعالُ يستُرُها أحدُهُما عند زواجِهِ بالآخَرِ.
وقولُه: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ﴾، أيْ: جازَتْ لكمُ المباشَرةُ بظهورِ الحُكْمِ مِنَ اللهِ المُزِيلِ لما تَجِدُونَهُ مِن مشقَّةِ التحريمِ.
وقَولُه: ﴿وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾، يَعنِي: الوَلَدَ وقضاءَ الوَطَرِ.
وفي قولِه تعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ قطعٌ للتوهُّمِ بأنّ الأَكْلَ في الليلِ إنّما هو عِندَ الغروبِ إلى العشاءِ للفِطْرِ، وقبلَ الفَجْرِ للسُّحورِ، وما بينَهُما يحرُمُ، وذلك لأنّه مِن عادَتِهم أنّهم كانُوا ينامُونَ بعدَ صلاةِ العشاءِ وقيامِها، فَإذا صَلَّوْا، لم يَأْكُلوا إلا أُكْلةَ السحورِ، فبيَّن اللهُ أنّ وقتَ الإفطارِ هو ما بَينَ المَغرِبِ إلى الفجرِ.
وقتُ فطرِ الصائمِ:
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنّ المعتبَرَ في الفِطرِ: تحقُّقُ الغروبِ وثبوتُهُ، وأنّ مَن ثبَتَ عندَهُ ذلك، تأكَّدَ في حقِّهِ التعجيلُ ولو لم يَسمَعِ الأذانَ، لأنّ الأذانَ علامةٌ على ثبوتِ الغروبِ، فالمؤذِّنُ والصائِمُ كلٌّ منهما مرتبِطٌ بِالأذانِ على السَّواءِ، ولا يُشرَعُ لمن ثبَتَ عِندَهُ الغروبُ تأخيرُ الفِطْرِ حتّى يَسمَعَ الأذانَ.
وإنّما أمَرَ بِالأكلِ والشربِ بعدَ بيانِ حكمِ الجِماعِ، مع أنّ الأكلَ والشربَ أظْهَرُ في إفسادِ الصيامِ، وذلكَ لأنّ أمرَ الجِماعِ أشدُّ إشكالًا في نفوسِهم، فأزالَهُ أوَّلًا قبلَ الأكلِ والشربِ.
وقولُه: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ﴾، لأنّ الأصلَ بقاءُ الليلِ، فلا ينتقِلُ منه إلا ببيِّنةٍ، فيُمسِكُ بِعلْمٍ كما بَقِيَ على عِلْمٍ، وهذا في التبيُّنِ في حالِ البقاءِ على الليلِ، فإنّ التبيُّنَ في البقاءِ على الإمساكِ أوْلى، فلا يُفطِرُ حتّى يتبيَّنَ الغروبَ، ومَن أفطَرَ بالظنِّ، أعادَ، ومَن أفْطَرَ باليقينِ فبانَ أنّه في نهارٍ، صَحَّ صِيامُهُ، ولذا قالَ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾، أيْ: على ذلك التحرِّي والتبيُّنِ يجبُ أن يكونَ الإتْمامُ.
النية في الصومِ:
و«ثُمَّ» في عَطْفِ الجُمَلِ للتراخي في الترتيبِ، وقد تكلَّفَ بعضُ الفقهاءِ مِن الحنفِيَّةِ كأبِي جعفرٍ الخَبّازِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، فاستدَلَّ بهذه الآيةِ على صِحَّةِ تأخِيرِ النِّيَّةِ عنِ الفَجرِ إلى الضُّحا، تدلِيلًا على صِحَّةِ مذهبِ الحنفيَّةِ، وليس هذا مِن معاني «ثُمَّ» في التراخِي في عطفِ الجُمَلِ.
والخيطُ الأبيضُ والأسوَدُ المرادُ بهِ سَوادُ الليلِ وبياضُ النهارِ، وقد ظنَّه عَدِيٌّ أنّه الحبْلُ من الصُّوفِ ونحوِه، وهو تفسيرٌ صحيحٌ في اللغةِ، ولكنَّه ليس بصحيحٍ في اصطلاحِ الشارعِ والشرعِ، صحيحٌ لغةً، لأنّه نزَلَ بلُغَةِ العربِ، ولكنَّ اللُّغةَ عامَّةٌ فينزلُ القرآنُ كثيرًا على بعضِ أفرادِها، ويُعرَفُ باصطلاحِ الشارعِ المعاني الخارجةُ في اللغةِ منه.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى النِّيَّةِ، فتقسيمُ الحُكْمِ والزمَنِ وتفصيلُهما لا يتحقَّقُ إدراكُهُ في الإنسانِ إلاَّ بحضورِ قلبٍ، فقد ذكَرَ محرَّماتٍ يتخلَّلُها مباحاتٌ، فالأصلُ الصيامُ، ثمَّ يتخلَّلُهُ ليلٌ يُفطِرُ فيه، وفي الليلِ يُؤكَلُ ويُشرَبُ ويُرفثُ، وينتهي ذلك إلى الفجرِ، لأنّه قال: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾.
ووضوحُ الخيطَيْنِ إنما يكونُ في لَحْظةٍ يسيرةٍ لدقائِقَ معدودةٍ لا يميِّزُها إلا متحَرٍّ وراصدٌ مستحضِرٌ، وهذا معنى النيةِ المقصودُ في الآيةِ، فكما أنّه يجبُ استحضارُ النيةِ للإمساكِ إلى الليلِ، فيجبُ استحضارُ النيةِ بالفطرِ إلى الصبحِ.
وروى أهلُ السُّنَنِ، عنِ ابنِ عمرَ، عن حَفْصةَ، عن النبيِّ ﷺ، قال: (مَن لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيامَ قَبْلَ الفَجْرِ، فَلا صِيامَ لَهُ) [[أخرجه أبو داود (٢٤٥٤) (٢/٣٢٩)، والترمذي (٧٣٠) (٣/٩٩)، والنسائي (٢٣٣١) (٤/١٩٦).]].
وقد رُوِيَ عن نافعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ، قولَهُ موقوفًا، وهو أصحُّ.
صوَّبَ الوقفَ البخاريُّ والترمذيُّ[[«سنن الترمذي» (٣/٩٩).]] وأبو حاتمٍ والنَّسائيُّ وغيرُهم.
ويكفي في إيجابِ النِّيَّةِ في الأعمالِ قولُهُ ﷺ: (إنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيّاتِ) [[أخرجه البخاري (١) (١/٦)، ومسلم (١٩٠٧) (٣/١٥١٥).]]، أيْ: إنّما قَبُولُ الأعمالِ أو رَدُّها يكونُ بالنِّيَّةِ.
وقد اختَلَفُوا في صومِ النافلةِ، والصوابُ: جوازُ نيتِهِ مِن النهارِ، لحديثِ عائشةَ أنّ النبيَّ ﷺ كان يُصبِحُ مُمْسِكًا فإنْ لم يَجِدْ طعامًا، أتَمَّ[[أخرجه مسلم (١١٥٤) (٢/٨٠٨).]].
واختَلَفُوا في النيةِ، هل هي واجبةٌ لكلِّ ليلةٍ من رمضانَ، أم تكفي نيةٌ واحدةٌ له كلِّه، وهما روايتانِ في مذهبِ أحمدَ:
أُولاهما: يُجزِئُ لصيامِ رمضانَ نيةٌ واحدةٌ، وهذا هو المشهورُ عندَ المالكيَّةِ، وعليه جماعةٌ من السَّلفِ.
ثانيتُهما: وجوبُ النيةِ لكلِّ ليلةٍ.
ويكفي المسلِمَ أن يَعْلَمَ أنّ غدًا رمضانُ، ويريدَ صومَهُ، والأصلُ صيامُهُ له، فبعلمِهِ وإرادتِهِ يكونُ قد نَوى.
وقولُهُ: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾:
ذكَرَ الاعتكافَ بعدَ حُكْمِ الصيامِ، لأنّ غالِبَ الاعتكافِ يكونُ في رمضانَ، في عَشْرِهِ أو عِشْرينِهِ الأخيرةِ، حتّى لا يَظُنَّ ظانٌّ أنّ إطلاقَ حِلِّ إتيانِ النساءِ في ليلِ الصيامِ يدخُلُ فيه المعتكِفُ، فالمعتكِفُ يحرُمُ عليه مباشَرَةُ المرأةِ ما دام معتكِفًا، ولو كان في غيرِ رمضانَ أو كانَ غيرَ صائِمٍ، لأنّ العِلَّةَ في ذلك الاعتكافُ، ولذا قال: ﴿وأَنْتُمْ عاكِفُونَ﴾، يعني: حالَ اعتكافِكم.
روى ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِه: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ﴾: «هذا في الرَّجُلِ يَعْتَكِفُ فِي المَسْجِدِ فِي رَمَضانَ أوْ غَيْرِهِ، فَحَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ أنْ يَنْكِحَ النِّساءَ لَيْلًا ونَهارًا حَتّى يَقْضِيَ اعْتِكافَهُ»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٦٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣١٩).]].
وقاله ابنُ مسعودٍ وعطاءٌ ومجاهدٌ والحسنُ وقتادةُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣١٩).]].
والمرادُ بالاعتكافِ هو لزومُ الشيءِ وحَبْسُ النفسِ عن غيرِه، فيقالُ: اعتكَفَ فلانٌ على كذا، أيْ: لَزِمَهُ، واعتكَفَ فلانٌ في المسجدِ: إذا لزِمَهُ.
قال الطِّرِمّاحُ بنُ حَكِيمٍ:
فَباتَ بَناتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفًا
عُكُوفَ البَواكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ
والمرادُ بالمباشرةِ: الجِماعُ.
صَحَّ هذا عنِ ابنِ عبّاسٍ، رواهُ ابنُ جريرٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عنِ ابنِ عبّاسٍ.
وصحَّ عن عطاءٍ ومجاهدٍ والضَّحّاكِ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٣/٢٦٨ ـ ٢٧٠).]].
وروى عنِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان ابنُ عباسٍ يقولُ: «مَن خرَجَ مِن بيتِهِ إلى بيتِ اللهِ، فلا يَقْرَبِ النِّساءَ»[[ينظر: «تفسير الطبري» (٣/٢٧٠).]].
مباشَرَةُ المعتكِفِ لزوجتهِ:
والذي عليه العملُ والفُتيا عند السلفِ: أنّ المعتكِفَ لا يَقْرَبُ زَوْجَتَهُ بشهوةٍ بحالٍ، وأمّا مسُّه لها والأخذُ بيدِها وتقبيلُها بلا شَهْوةٍ، كقُبلةِ الرَّحْمةِ والعَطْفِ، فلا بأسَ به، لما قد صَحَّ عن عائشةَ: «أنّ رسولَ اللهِ ﷺ كان إذا اعتَكَفَ، يُدْنِي إليَّ رأسَهُ فأُرَجِّلُهُ»[[أخرجه مسلم (٢٩٧) (١/٢٤٤).]].
وأمّا ما كان بِلَذَّةٍ، فيُنْهى عنه، قال مالكُ بنُ أنسٍ: «لا يَمَسُّ المعتكِفُ امرأتَهُ، ولا يباشِرُها، ولا يتَلذَّذُ منها بشيءٍ، قُبْلةً ولا غيرَها»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٧١).]].
وذلك لأنّ المقامَ مقامُ تفرُّغٍ وتعظيمٍ للهِ، وانقطاعٍ عن اللذائِذِ، وحبسٍ للنَّفْسِ عنها، فإنّ الانصرافَ إلى الجِماعِ يَصرِفُ النَّفْسَ إلى التَّرَفِ والانشغالِ بالاستمتاعِ.
وفي ذلك: تربيةٌ للنَّفْسِ على المجاهَدةِ، وابتلاءٌ للنَّفْسِ، لتَعرِفَ نِعَمَ اللهِ على العبدِ، مِن معرفةِ حريَّتِهِ في خروجِهِ ودخولِه، وضربِهِ في الأرضِ، واستمتاعِهِ بما أحَلَّ اللهُ له منها، فنِعَمُ اللهِ لا تُحصى، وما يُعرفُ منها يُنسى، والعبدُ بحاجةٍ إلى تذكيرٍ، وحرمانُهُ منها باختيارِهِ وبغيرِ اختيارِهِ يذكِّرُهُ عظيمَ النِّعْمةِ التي مُنِعَ مِن الوصولِ إليها.
وفيه: شَغْلٌ للنَّفْسِ بالعبادةِ، حتى تستكثِرَ مِن الأجورِ، فتغتنمَ شيئًا ممّا فاتَ، فالنفسُ إنْ خلَتْ، أكثَرَتِ التفكُّرَ والتأمُّلَ والمحاسَبةَ، فتتذكَّرُ مِن التقصيرِ ما لا تتذكَّرُهُ في سَكْرةِ مُتْعَتِها.
لا اعتكافَ إلا في مسجدٍ:
وقولُه: ﴿ولا تُباشِرُوهُنَّ وأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ﴾ دليلٌ على أنْ لا اعتكافَ إلا في المساجِدِ، وأمّا اعتكافُ الأسواقِ والمصلَّياتِ، والمرأةُ تتَّخِذُ لها مكانًا تعتزِلُ فيه في بيتِها ـ: فلا أصلَ له، وبعضُ متأخِّري المالكيةِ يجوِّزُ ذلكَ، وهو قولٌ لا يعوَّلُ عليه.
وقولُه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾:
تنبيهٌ على أنّ تلك الأحكامَ ـ تحريمًا وتحليلًا ـ حدودٌ وضَعَها اللهُ وحَدَّها لعبادِهِ، يجبُ أن تُمتَثَلَ، ويَظهرُ التشديدُ في قولِه: ﴿فَلا تَقْرَبُوها﴾، والقربُ هو مرحلةٌ قبلَ التصرُّفِ، ويُصاحِبُهُ العزمُ على التغييرِ والتبديلِ لها، وهو محرَّمٌ، والتبديلُ لها والتحريفُ لتلك الحدودِ محرَّمٌ يُوجِبُ العقابَ، فهي آياتٌ بيِّناتٌ واضحةٌ، حتّى يتحقَّقَ العملُ بها، فتُتَّقى محارمُ اللهِ وتُجتنَبَ، وتُؤخَذَ رُخَصُ اللهِ وتُستباحَ، وهذه حقيقةُ التقوى والطاعةِ للهِ.
{"ayah":"أُحِلَّ لَكُمۡ لَیۡلَةَ ٱلصِّیَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَاۤىِٕكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسࣱ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسࣱ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَیۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٔـٰنَ بَـٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُوا۟ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَیۡطُ ٱلۡأَبۡیَضُ مِنَ ٱلۡخَیۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّوا۟ ٱلصِّیَامَ إِلَى ٱلَّیۡلِۚ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَـٰكِفُونَ فِی ٱلۡمَسَـٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ ءَایَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق