الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ الآية قال المفسرون: كان في أول فرض الصيام الجماع محرَّما في ليل الصيام، والأكل والشرب بعد العشاء الآخرة، فأحل الله عز وجل ذلك كله إلى طلوع الفجر [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 255، وقد اختصر المؤلف قصة سبب النزول، وهي مطولة، ينظر: في "تفسير الطبري" 2/ 165 - 167، وابن أبي حاتم 1/ 316، "تفسير الثعلبي" 2/ 346، وابن كثير 1/ 235، ورواها البخاري (1915، 4508).]]. وقوله تعالى: ﴿لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾ أراد: لَياليَ الصِّيام، فأوقع الواحد مَوْقِعَ الجماعة [[ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 67.]]، ومنه قول العباس بن مرداس [[انظر التعليق عند تفسير [البقرة: 61].]]: فقلنا اسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإِحنِ الصُّدُور وأما [[في (م): (فأما).]] الرفث، قال الليث: الرفث: الجماع، وأصله: قول الفحش، وأنشد الزجاج: عن اللَّغَا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ [[قبله: وَرَبِّ أسرابِ حجيج كُظَّمٍ وهو للعجاج، من ميميته الطويلة في "ديوانه" ص 296، وأسراب: قطع، وكُظَّم: لا تتكلم بالكلام القبيح واللغا بفتح اللام: اللغو من الكلام. "معاني القرآن" للزجاج 1/ 269]] يقال: رَفَثَ في كلامه يَرْفُثُ، وأرفث: إذا تكلم بالقبيح، هذا هو الأصل، ثم يكنى به عن الجماع [[ينظر في الرفث؛ "تهذيب اللغة" 2/ 1437، "اللسان" 3/ 1686، "المفردات" ص 205، وقال: الرفث: كلام متضمن لما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه، وجعل كناية عن الجماع في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾، تنبيها على جواز دعائهن إلى ذلك ومكالمتهن فيه، وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء.]]. قال أبو إسحاق: الرَّفَثُ: كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 255.]]. وقال عطاء فيما روى عن ابن عباس: الرفث: الجماع [[أخرجه الطبري في "تفسيره" 2/ 161 من طريق بكر بن عبد الله المزني عن ابن عباس، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 315 من طريق سعيد بن جبير، قال ابن أبي حاتم: وروي عن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس والحسن والضحاك وإبراهيم النخعي، وسالم بن عبد الله والسدي، وعمرو بن دينار وقتادة والزهري ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني نحو ذلك. وينظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 235 - 236، "الدر المنثور" 1/ 358.]]. قال ابن عباس: إن الله حيي كريم يكني، فما ذكر الله في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول والرفث فإنما يعنى به الجماع [[رواه الثوري في "تفسيره" ص 63، والطبري 2/ 161، وابن أبي حاتم 1/ 317، وعزاه في "الدر" 1/ 359 إلى ابن المنذر والبيهقي، وذكره الثعلبي 2/ 349، والبغوي 1/ 207.]]. قال الزجاجي: قد تأملنا الألفاظ الواردة عن العرب، المستعملة في معنى الجماع، فما وجدنا فيها لفظةً وُضِعَتْ حقيقة في معنى الجماع حتى لا تستعمل في غيره، لكن الكلمة إذا كثر استعمالها في معنى ويكون موضوعها لمعنى آخر فإنها تصير حقيقةً فيما استعملت فيه كثيرًا، حتى إذا أطلق لم يعرف غير ذلك، كما تقول في المباضعة، فإن أصلها من البَضْع، وهو قَطْعُ اللحم، فإذا أطلق لم يعرف منه غير معنى الجماع، كما أن نفس قولنا: فَرْج كناية، فإذا أطلقوا الفرج لم يعرف منه غير هذا المعنى المقصود إليه. وقالوا: بَاضَعَها كأنه باشر بُضْعَها، ولم يقولوا: فارجها، وصارت المباضعة كالحقيقة في معنى الجماع؛ لأنهم لا يستعملونها في غيره، ألا ترى أنهم يقولون: غَشِيَها وتَغَشَّاها، ووَطِئَها وتوطاها، وقربها، وبَطَنَها وتَبَطَنَها، وكل هذه الألفاظ موضوعةٌ لغير هذا المعنى [[ينظر: "البحر المحيط" 1/ 48.]]. وذكر جماعة من أهل هذه الصناعة: أن صريحَ اللفظ المستعمل في المباضعة قولهم: ناك ينيكُ نَيْكا، وليس كما ذهبوا إليه؛ لأن هذه اللفظة مستعارة أيضا، وقد ذكر أبو زيد عن العرب: ناكَ النعاسُ عينَهُ، ونكح النعاس بمعنى [[ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3659، "اللسان" 8/ 4537.]]، فجعل أصل الكلمة اللزوم والمواظبة. وأما معنى النكاح فسنذكره عند قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ [البقرة: 221]، إن شاء الله. قال أبو عبيدة: الرّفث إلى نسائكم: الإفضاء إلى نسائكم [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 67، "البحر المحيط" 1/ 48.]]، قال الأخفش: وانما عدّاه بإلى لأنه كان بمعنى الإفضاء [[لم أجده في "معاني القرآن" للأخفش.]]. وقوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ أصلُ اللِّباس: ما يَلْبَسُه الإنسان مما يواري جَسَدَه، ثم المرأة تسمى لباسَ الرّجل، والرجل لباس المرأة؛ لانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب [[في (م): (كالثوب لصاحبه كالثوب).]] الذي يلبسه، فلما كانا يتلابسان عند الجماع سمي كل واحد منهما لباسا للآخر [[ينظر: "تأويل مشكل القرآن" 141، "تفسير الطبري" 2/ 162، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 256، "تهذيب اللغة" 4/ 3228، 3229، "تفسير الثعلبي" 2/ 351، "البحر المحيط" 1/ 49.]]. قال الجعدي [[هو: قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة الجعدي العامري، شاعر مفلق، صحابي من المعمرين، اشتهر في الجاهلية وسمي النابغة؛ لأنه أقام ثلاثين سنة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله، هجر الأوثان ونهى عن الخمر في الجاهلية، ثم وفد إلى الرسول ﷺ فأسلم، توفي سنة 55 هـ. ينظر: "الإصابة" 3/ 537، "الأعلام" 5/ 207.]]: إذا ما الضجيعُ ثنى جيدَها ... تثنّتْ فكانت عليه لباسا [[البيت في "ديوانه" ص 81، "تأويل مشكل القرآن" 142 "الشعر والشعراء" 1/ 299 "تفسير الطبري" 2/ 162، "لسان العرب" 7/ 3986. ويروى عطفها بدل جيدها. وتداعت بدل تثنت.]] والعرب تسمى المرأة: اللباس، والفراش، والإزار، وأم العيال، والرَبَضَ [[في (ش): (الريض).]] والبيت. وقيل في قوله: فدًى لك من أخي ثقةٍ إزاري [[صدر البيت: ألا أبلغ أبا حفص رسولًا وهو لنفيلة الأكبر الأشجعي، وكنيته أبو المنهال، وكان كتب إلى عمر بن == الخطاب أبياتًا من الشعر يشير فيها إلى رجل كان واليًا على مدينتهم في قصة طويلة. والبيت في "تفسير الثعلبي" 2/ 354 "تاج العروس" 6/ 21، "الإصابة" 1/ 273، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 256، "غريب الحديث" للخطابي 2/ 101. والبيت للنابغة الجعدي، في "الشعر والشعراء" ص 255، والطبري 3/ 490، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 256.]] أي: نسائي [["تفسير الثعلبي" 2/ 354، "غريب الحديث" للخطابي 2/ 101، "الصحاح" للجوهري 2/ 578.]]. ومنه: أكِبرٌ غَيّرني أم بيت [[البيت لمجهول، ذكره في "الأمالي" لأبي علي 1/ 21، وفي "أساس البلاغة" 1/ 72 (بيت)، وفي "لسان العرب" 1/ 393 (بيتا).]] وقول [[في (ش): (وقال).]] الآخر: جاء الشتاء ولمّا أتخِذْ رَبَضًا [[عجز البيت: ياويح كفي من حفر القراميص وهو في "اللسان" 3/ 1559، بغير نسبة.]] وهذا المعنى الذي ذكرناه في اللباس [[ينظر في اللباس: "تفسير الطبري" 2/ 162، 163، ابن أبي حاتم 1/ 316، "المفردات" 450، " اللسان" 7/ 3986 (لبس).]] هاهنا موافق لما قاله المفسرون، قال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن [[ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 207 بهذا اللفظ، ورواه الطبري عنه 2/ 163، ابن أبي حاتم 1/ 316 ولفظهما: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن، وكذا ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 352.]]. وقال ابن زيد في قوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ قال: للمواقعة [[رواه الطبري عنه في "تفسيره" 2/ 163.]]، يريد: أن كلَّ واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس، [["تفسير البغوي" 1/ 207.]] وهذا من خصائص الإنسان. قال عمرو بن يحيى [[في (ش): (عمرو بن بحر) أقول لعله الجاحظ فليلاحظ]]: ليس شيء من الحيوان يتبطن طروقته غير الإنسان والتمساح. وزاد غيره: الدُبُّ. ومعنى تبطن: أتى من جهة البطن [["حياة الحيوان الكبرى" للدميري 1/ 164. (ط. دار الفكر).]]. وقيل: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ﴾ أي: سكن لكم وأنتم سكن لهن، وهو قول ابن عباس في جميع الروايات [[رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 316، وقال بعده: وروي عن مجاهد وسعيد ابن جبير وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك.]]، وقول مجاهد [[رواه الطبري في "تفسيره" عنه 2/ 163، وابن أبي حاتم 1/ 316.]] وقتادة [[رواه الطبري عنه 2/ 163.]]. والمعنى: أنكم تلابسونهن وتخالطونهن بالمساكنة، وهن كذلك، أي: قَلَّ ما يَصْبرُ أحد الزوجين عن الآخر. ويقال: إنما سُمِي الزوجان [[في (م): (سمي الزوجين).]] لباسًا؛ لسَتر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحلّ [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 163، "تفسير الثعلبي" 2/ 325، "تفسير البغوي" 1/ 207، "التفسير الكبير" 5/ 106، "البحر المحيط" 1/ 48.]]، كما جاء في الخبر: (من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه) [[ذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 207، دون إسناد، والحديث لفظه في كتب السنة الأخرى: "من تزوج فقد استكمل نصف دينه، أو نصف الإيمان" رواه الطبراني في "الأوسط" عن أنس برقم 7643، ورقم 8789، والأصفهاني في "الترغيب == والترهيب"، والحاكم 2/ 161، وصححه، ولفظه عنده: "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني". وضعفه ابن حجر في التلخيص 279، وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 612 (ط. دار الكتب العلمية): هذا حديث لا يصح عن رسول الله ﷺ، وإنما يذكر عنه، وفيه آفات منها: يزيد الرقاشي، وهياج يعني ابن بسطام، ومالك بن سليمان. اهـ. بتصرف. وينظر: "كشف الخفا" للعجلوني 2/ 239 برقم2432، "المقاصد الحسنة" للسخاوي ص 638 برقم1098 (ط. دار الكتاب العربي) وحسن الألباني الحديث بمجموع طرقه كما في "السلسلة الصحيحة" 1/ 200 برقم 625.]]. وإنما وحد [[في (ش): (وجد).]] اللباس بعد قوله: ﴿هُنَّ﴾ لأنه يجري مجرى المصدر. وفِعَال من مصادر فاعل، وتأويله: هنّ ملابسات لكم. وقوله تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ يقال: خَانه خَوْنًا وخِيانَةً ومَخَانَةً واخْتَانَه اخْتِيانًا: إذا لم يف له، والسيف إذا نبا عن الضريبة فقد خانك، وخَانَه الدهرُ والنعيمُ: إذا تغير حاله إلى شر منها. قال ابن قتيبة: الخيانة: أن يؤتمن الرجلُ على شيء فلا يؤدي الأمانةَ فيه، وناقض العهدِ خائن؛ لأنه آمن بالعهد فغدره، ومنه قوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ [الأنفال: 58]. أي: نقضا للعهد، ويقال لعاصي المسلمين: خائن؛ لأنه مؤتمن على دينه، ومنه قوله: ﴿لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ [الأنفال: 27]، أي: بالمعاصي [[ينظر في "خان": "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 74، "الكشاف" للزمخشري 1/ 115، وقال: الاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، فيه زيادة وشدة، "اللسان" 3/ 1294، "المفردات" للراغب ص 167، قال: والاختيان: مراودة الخيانة، ولم يقل تخونوا أنفسكم؛ لأنه لم تكن منهم الخيانة، بل كان منهم الاختيان، فإن الاختيان تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة. اهـ. أقول: وسبب النزول يدل على وقوعهم في الجماع المحظور.]]. وقوله: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: تخونونها بالمعصية، قال ابن عباس: يريد فيما ائتمنتكم عليه [[هذا من رواية عطاء، وقد تقدم الحديث عنها.]]، وخيانتهم: أنهم كانوا يباشرون ليالي الصيام [[ينظر أسباب النزول فيما تقدم.]]. وقوله تعالى: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ يريد: عمر وأصحابه، وذلك أنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكي، فأتى النبي ﷺ وطلب الرخصة، واعترف رجال بمثل ما صنع عمر فنزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه [[تنظر الروايات في ذلك عند الطبري 2/ 163 - 167، وابن أبي حاتم 1/ 316، والثعلبي 2/ 346.]]. وقوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ أمر إباحة [["تفسير الثعلبي" 2/ 356.]]، والمباشرة: المجامعة؛ لتلاصق البشرتين وانضمامهما [["تفسير الطبري" 2/ 168، وابن أبي حاتم 1/ 317، "الثعلبي" 2/ 354، "البغوي" 1/ 207، "التفسير الكبير" 5/ 108.]]. وقوله تعالى: ﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أكثر المفسرين على أن المراد بهذا: الولد، أي: اطلبوا بالمباشرة ما قضى الله لكم من الولد [[ذكر الآثار في ذلك: الطبري 2/ 169 - 170، وابن أبي حاتم 1/ 317 عن أنس وابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي والربيع وابن زيد والضحاك بن مزاحم وشريح وعطاء وسعيد بن جبير والحكم بن عتيبة وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان. وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 355، "تفسير البغوي" 1/ 207، "الدر المنثور" 1/ 359.]]. وقال قتادة: يعنى الرخصةَ التي كتبتُ لكم [[رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 71، والطبري 2/ 170، وذكره الجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 227.]]، وقال معاذ بن جبل [[رواه عنه الطبري 2/ 170، وذكره عنه الثعلبي 2/ 356، البغوي 1/ 207.]] وابن عباس في رواية أبي الجوزاء [[رواه عنه الطبري 2/ 170، وابن أبي حاتم 1/ 317، وذكره الثعلبي 2/ 356، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 227.]]: يعني: ليلةَ القدر، وكل هذا مما تحتمله الآية. وقال أبو إسحاق: الصحيح عندي أن ما كتب الله لنا هو [[هو: سقطت من (م).]] القرآن، أي: اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه [[سقطت من (ش).]] وأمرتم به [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 256 بمعناه، وقد بين الطبري 2/ 170 أن كل الأقوال المذكورة مرادة، وهو مما كتب الله، لكن أشبه المعاني بظاهر الآية من قال: إن المراد به الولد؛ لأنه ورد عقيب قوله: جامعوهن.]]. وقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ أمر إباحة حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود [[ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 109، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 91.]] روي في تفسير هذا عن النبي ﷺ أنه قال لعدي بن حاتم: "إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل" [[أخرجه البخاري (1916) كتاب الصوم، باب قول الله: وكلوا واشربوا، ومسلم (1090) كتاب الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر.]]. وبهذا قال عامة أهل التفسير [[ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 68، "تفسير غريب القرآن" ص 74، "تفسير الطبري" 2/ 170 - 172، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 318، "تفسير الثعلبي" 2/ 363، "البغوي" 1/ 208.]]، والعرب قد تكلمت بهذا اللفظ في الليل والنهار، قال أمية الثقفي [[هو: أمية بن أبي الصلت بن ربيعة بن عوف، تقدمت ترجمته.]]: الخيط الأبيض لون الصبح منفلق ... والخيط الأسود لون الليل مركوم [[في (ش): (مزكوم).]] [[البيت في "ديوانه" ص 77، وذكره الثعلبي دون نسبة 2/ 364 ولفظه: الخيط الأبيض وقت الصبح منصدع ... والخيط الاسود جوز الليل مركوم وهو في "تاج العروس"، "الدر المنثور" 1/ 360، وقد ورد في "الديوان"، "الدر المنثور" مكموم، بدل: مركوم.]] وقال أبو دواد [[جارية بن الحجاج بن حذاق، وقيل: حنظلة بن المشرقي، أبو دواد الإيادي، تقدمت ترجمته.]]: فَلمّا أَضَاءت لنا غُدْوَة ... ولاحَ من الصُّبْح خَيْطٌ أَنَارا [[البيت لأبي دواد الإيادي في "ديوانه" ص 352، "الأصمعيات" ص 190، "غريب الحديث" للخطابي 1/ 233، "لسان العرب" 3/ 1302 خيط. ورواية الطبري في "تفسيره" 2/ 176، سُدْفَة، بدل: غدوة، والسدفة: ظلمة الليل في لغة نجد، والضوء في لغة قيس، وهي أيضًا اختلاط الضوء والظلمة جميعًا وهذا مراد الشاعر. والخيط: اللون هنا يكون ممتداً كالخيط.]] واختلفوا لم سميا خيطين؟ [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 176 - 177، "تفسير البغوي" 1/ 208، "التفسير الكبير" 5/ 109 - 110.]] فقال الأكثرون: إنما [[في (ش): (إنهما).]] يسمى خيطين عند اختلاط الضوء بالظلام والتفاف أحدهما بالآخر؛ شبها [[في (ش): (شبّها).]] بخيطين بريمين، ومن هذا يقال: خَيّطَ الشيبُ رأسَه، إذا اختلط السواد بالبياض، ذكره أبو عبيد عن الأصمعي، وأنشد: حتى تُخَيَّطَ [[في (ش): (تخيط).]] بالبياض قروني [[عجز بيت ذكر الواحدي بعده صدره، وهو من قول بدر بن عامر الهذلي في "الأغاني" 24/ 166.]] البيت لبدر الهذلي، وأوله: آليت لا أنسى منيحة واحدٍ يعنى بالمنحة: هجاء مهاجيه [[من قوله البيت: البدر ... ساقط من: (ش).]]. وقرأت على أبي الحسين الفسوي: أخبركم حمد بن محمد، قال: أنشدنا الحسن بن خلّاد، قال: أنشدني دريد، قال: أنشدنا ابن أخي الأصمعي، عن عَمِّه، لرجل يصف ليلًا: كأن بقايا [[في (ش): (بقانا).]] الليل في أخرياته ... مُلاءٌ يبقى [[في (م): (كأنها سقى).]] من طيالسة خضرِ تخال بقاياه التي أسأر الدجى ... تمدُّ وشِيعًا فوق أرديةِ الفجرِ [[لم أهتد إلى قائله أو من ذكره.]] فشبهها بالوشيع، وهو فتائل الغزل؛ لما يتراءى في خلاله من خيوط سوادٍ وبياضٍ. وقال الزجاج: هما فجران، أحدهما: يبدو أسود معترضًا، وهو الخيط الأسود، والأبيض: الذي يطلع ساطعًا يملأ الأفق [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 257، والفجر فجران: أحدهما: يسطع في السماء مستطيلا كذنب السرحان (الذئب) ولا ينتشر، وهو الفجر الكاذب، فذاك لا يحل== الصلاة، ولا يحرم الطعام على الصائم. والثاني: هو المستطير الذي ينتشر ويأخذ الأفق، وهو الفجر الصادق الذي يحل الصلاة ويحرم الطعام على الصائم، وهو المعني بهذه الآية. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 172، والبيهقي 4/ 215، "تفسير الثعلبي" 1/ 334.]]، فعندهما الخيطان: هما الفجران، سميّا لامتدادهما، تشبيهًا بالخيطين. وقوله تعالى: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ الفجر: مصدر قولك: فَجَرْتُ الماء أَفْجُره فَجْرًا، وفَجرتُه تفجيرًا، فانفجر انفجارًا، إذا سال. قال الأزهري: أصله: الشق، ومنه: فَجْرُ السِّكْر [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 177، "تهذيب اللغة" 3/ 2743، "تفسير الثعلبي" 2/ 367، "المفردات" 75، "اللسان" 6/ 3351 (فجر).]]، فعلى هذا، الفجر في آخر الليل: هو شق عمود الصبح الليل، شَبَّه شقَّ الضوءِ ظُلْمةَ الليل بفجر الماء الحوض [["تفسير الثعلبي" 2/ 367.]]. قال سهل بن سعد [[هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي، أبو العباس، له ولأبيه صحبة، توفي سنة 88 هـ. وقيل بعدها. ينظر: "أسد الغابة" 2/ 472، "تقريب التهذيب" ص 257 (2658).]]: لما نزل قوله: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ كان الرجل إذا أراد الصوم ربط في رجله خيطين أسود وأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رِئْيُهُما، فأنزل الله: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾، فعلموا أنه يعني: الليل والنهار [[رواه البخاري (4511) كتاب التفسير، باب: قوله: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض وكذا برقم (1917) كتاب الصوم، باب: قول الله: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾، ومسلم (1091) كتاب الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر.]]. فالأكل للصائم بالليل منظوم في الإباحة بإباحة المباشرة المذكورة قبله بمثل معناها في التوقيت، فقد أباح عز وجل المباشرة والأكل والشرب في ليالي الصوم وإلى انفجار الصبح، وفي هذا ما يدفع قول من يتهول: إن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم؛ لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح [[ينظر: "تفسير الرازي" 5/ 110، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 94 - 95، وقال: ففي ذلك عدى جواز طلوع الفجر عليه وهو جنب، وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة رضوان الله عليهم كلام، ثم استقر الأمر على أنه من أصبح جنبا فإن صومه صحيح، وبهذا احتج ابن عباس عليه. ويعني -رحمه الله- بالخلاف بين الصحابة ما روي عن أبي هريرة أنه قال: من أصبح جنبا فلا صوم له، واختلف في رجوعه كما ذكره القرطبي 2/ 305.]]. وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ جعل الليل منتهى الصوم، ولم يُدْخِل الليلَ في الصوم، كما دخل المرفق في الغسل في قوله: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6] لأن الليل ليس من جنس النهار، والمرفق (من جنس اليد) [[ساقط من (م).]]. قال أحمد بن يحيى: سبيل الغاية الدخول والخروج، وكلا الأمرين فيهما ممكن، كما تقول: أكلتُ السمكةَ إلى رأسها، جائز أن يكون الرأس داخلًا في الأكل وخارجًا منه، وخرج الليلُ من الصوم؛ لأنه لا يشك ذو عقل أن الليل لا يُصام، ودخلت المرافق في الغسل أخذًا بالأوثق، ثم انضم إلى هذا تبيين السنة [[قد بينت السنة ذلك بقوله ﷺ: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم"، رواه البخاري (1941) كتاب الصوم، باب:== الصوم في السفر والإفطار، ومسلم (1101) كتاب الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار.]]. وقال قوم: (إلى) في هذه الآية للتحديد، وفي آية الوضوء معناه مع. كقوله: ﴿مَنْ أَنصَارِىَ إِلَى اَللَّهِ﴾ [آل عمران: 52]. وقوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: 2] [[ينظر: "المغني" 4/ 432 - 437، "المحرر الوجيز" 2/ 129، "تفسير القرطبي" 2/ 306، "التفسير الكبير" 5/ 111 - 112، وقد نقل كلام الواحدي هذا برمته.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ قال المفسرون: كان الرجلُ يخرجُ من المسجد وهو معتكف فيجامع ثم يعود، فنهوا عن ذلك ما داموا معتكفين [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 257، وروى الطبري في "تفسيره" 2/ 180، عن مجاهد والضحاك والربيع وقتادة معنى ذلك، وينظر ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 319، "تفسير الثعلبي" 2/ 375.]]، فالجماع يفسد الاعتكاف، وأما المباشرةُ غيرُ الجماع مما يُقْصدُ به التلذُّذُ فهو مَكْروه، ولا يفسده، وما لا يقصد به التلذذ فلا يكره [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 180 - 182، "تفسير الثعلبي" 2/ 374، "تفسير القرطبي" 2/ 311، وبين أن من جامع زوجته وهو معتكف عامدا، أنه أفسد اعتكافه بإجماع أهل العلم، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، وان لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله ﷺ وهو معتكف، رواه البخاري (2028) كتاب الاعتكاف، باب: الحائض ترجل رأس المعتكف، ومسلم (297) كتاب الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله ﷺ بيدها، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر، قال أبو عمر (يعني: ابن عبد البر): وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل، واختلفوا فيما == عليه إن فعل. وينظر في المسألة: "الإجماع" لابن المنذر ص 4، "الكافي" لابن عبد البر 1/ 308، "فتح الباري" 4/ 272.]]. وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ أشار إلى الأحكام التي ذكرها في هذه الآية. وأما معنى الحد، فقالَ الليثُ: فَصْل ما بينَ كلِّ شَيْئين: حد، ومنتهى كل شيء حدُّه. قال الأزهري: ومن هذا: حدود الأرضين، وحدود الحرم. قال أهل اللغة: أصل الحد: الصرفُ والمنعُ عن [[في نسختى (أ) (م): (عن)، وكأن في الكلام باقيًا لم يذكر.]] ومنه يقال للمحروم: محدودٌ؛ لأنه ممنوع عن الرزق، ولهذا قيل للبواب: حدَّاد؛ لأنه يمنع الناس من الدخول، قال الأعشى: وقُمْنا ولَّما يَصِحْ ديكُنَا ... إلى جَوْنَةٍ عند حَدَّادها [[ورد البيت هكذا: فقمنا ولما يصحْ ديكنا ... إلى خمرة عند حدّادها والبيت في "ديوانه" 69، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 308 "مجمل اللغة" 1/ 210، "الصحاح" 2/ 462 "تفسير الثعلبي" 2/ 380، والجونة: خابية الخمر "معاني القرآن" للزجاج 1/ 308.]]. يعني: صاحبها الذي يحفظها ويمنعها [["تفسير الثعلبي" 2/ 380.]]، والجونة: الخابية، ومنه قول النابغة: ...... فاحدُدْها عن الفَنَد [[تمام البيت: إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند والبيت للنابغة الذبياني في "ديوانه" ص 12، والقرطبي 9/ 260، "البحر المحيط" 5/ 340، "الدر المصون" 6/ 557، "اللسان" 2/ 801، "تاج العروس" 4/ 411== (حدد)، "تفسير الثعلبي" 2/ 380، وروايته (المليك) بدل (الإله). والفند: الخطأ في الرأي والقول.]] أي: امنعها. وحَدُّ الدار: ما يمنع غيرها أن يدخلَ فيها، وحدودُ الله: ما منع الله من مخالفتها [[ينظر: "تفسير الطبري" 3/ 546، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 357، 308، "تفسير الثعلبي" 2/ 379، "تهذيب اللغة" 1/ 759 (حدد).]]. قال الأزهري: حدود الله على ضربين. ضرب منها: ما حُدَّ للناسِ في مطاعمهم ومشاربهم ومناكحهم وغيرها مما أحل وحرم، وأمر بالانتهاء إليها [[عبارة الأزهري في "تهذيب اللغة" وأمر بالانتهاء عما نهي عنه منها.]]، ونهى عن تعدّيها. والضرب الثاني: عقوبات جعلت لمن تعداها [[عبارة الأزهري في "تهذيب اللغة" عقوبات جعلت لم ركب ما نهي عنه.]] كحد السارق وحد الزاني وحد القاذف، سميت حدودًا؛ لأنها تحدُّ، أي: تمنع من ارتكاب المعاصي التي جعلت عقوباتٍ فيها، وسميت الأولى حدودًا؛ لأنها نهايات أمر الله لا تُتَعَدَّى [[من "تهذيب اللغة" 1/ 759 (حدد) بتصرف.]]. وعلى ما ذكر الأزهري، وهو حسن صحيح، الضرب الأول سمي حدودًا؛ لأنها ممنوعة لا تؤتى، كالأكل بعد الفجر في الصوم، والضرب الثاني: مانعٌ، والمصدر يطلق على المفعول والفاعل كثيرًا، كقولهم: نسجُ اليمن، وضربُ الأمير، وقوله عز وجل: ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ [تبارك: 30]. ويؤكد ما ذكرنا من المعنى في الحدود قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ أي: لا تأتوها فبيّن أنها ممنوعة [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 182، "التفسير الكبير" 5/ 115.]]. وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾ أي: مثل هذا البيان الذي ذكر [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 257، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 183، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 320، "التفسير الكبير" 5/ 116.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب