الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ (كان) كلمة تستعمل على أنحاء [[في (ي) (أحوال).]]: أحدها: أن يكون بمنزلة حَدَثَ وَوَقَعَ، وذلك قولك: قد كانَ الأمرُ، أي: وَقَع وحَدَثَ، وحينئذ لا تحتاج إلى خبر، وأكثر ما تستعمل بهذا المعنى في المنكرات، كقولك: إن كان رجل صالح فأكرمه. والثاني: أن يخلع [[في (أ) و (م) (الخلع).]] منه معنى الحدث، فتبقى الكلمة مجردة للزمان، فيلزمها الخبر المنصوب، وذلك قولك: كان زيد ذاهبًا. والثالث: أن يكون بمعنى صار. أنشد أحمد بن يحيى: بتيهاءَ قَفْرٍ والمَطِيَّ كأَنّها ... قَطَا الحَزْنِ قد كانت فِرَاخًا بُيُوضُها [[البيت لعمرو بن أحمر الباهلي في "ديوانه" ص119، "الحجة" 2/ 436، و"شرح الكافية" للرضي 4/ 189، و"لسان العرب" 5/ 2897 (مادة: عرض)، 7/ 3961 (مادة: كون).]] أي: صارت. والرابع: أن تكون زائدة، وذلك قولهم: ما كَان أحسنَ زيدًا، أنشد البغداديون: سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْر تَسَامَوا ... على كان المُسَوَّمةِ الجِيادِ [[البيت بلا نسبة في "الحجة" 2/ 437، "سر صناعة الإعراب" 1/ 298، والأزهية في علم الحروف ص 187وشواهد الأشموني 2/ 109، "الخزانة" 4/ 33، "لسان العرب" 7/ 3963 (كون). ويروى: العِراب بدل الجياد.]] [[من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 437، وينظر في معاني (كان): الكتاب. لسيبويه 1/ 45 - 56، "المقتضب" 3/ 96، 4/ 95، 116، 184، "تهذيب اللغة" 4/ 3083 - 3084، "الأزهية في علم الحروف" 183 - 192، "المفردات" ص 421 - 422، "لسان العرب" 7/ 3959 - 3963.]] فمما استعمل فيه (كان) بمعنى: وقع وحدث، هذه الآية، أي: وإن وقع ذو عسرة، والمعنى على هذا يصح، وذلك أنه لو نصب فقيل: وإن كان ذا عسرة، لكان المعنى: وإن كان المستربي ذا عسرة فنظرة، فيكون النظر مقصورًا عليه، وليس الأمركذلك؛ لأن المستربي وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظر إلى الميسرة [[من "الحجة" 2/ 439 بتصرف، وينظر في إعراب الآية: "معاني القرآن" للزجاج ==1/ 359، "تفسير الثعلبي" 2/ 1738، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 143، "البحر المحيط" 2/ 340، قال: وأجاز بعض الكوفيين أن تكون كان ناقصة هنا، وقَدَّر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، محذوف المجرور الذي هو الخبر، وحذف خبر (كان) لا يجوز عند أصحابنا لا اقتصارًا ولا اختصارًا.]]. والعُسْرة: الاسم من الإعسار: وهو تعذر الموجود من المال، يقال: أَعْسَر الرجلُ إذا صار إلى حالة العُسْرةِ، وهي الحالة التي يتعسَّر عليها وجود المال [[ينظر في العسرة: "تهذيب اللغة" 3/ 2431 - 2433، "المفردات" 337.]]. وقوله تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ﴾ أمر في صيغة الخبر، والفاء في جواب الشرط، تقديره: فالذي تعاملونه نظرة، أي: تأخير [[ينظر "تفسير الثعلبي" 2/ 1739، والتقدير عنده: فعليه نظرة، أو فالواجب نظرة]]. والنَّظِرة: الاسم من الإنظار، وهو الإمهال، تقول: بِعته الشيء بِنَظِرَةٍ وبإِنْظَار [[ينظر في نظرة: "تهذيب اللغة" 4/ 3603 - 3605، "تفسير الثعلبي" 2/ 1739، "المفردات" 499 - 500.]]. والميسرة: مفْعَلَة، من اليُسْرِ واليَسَارِ الذي هو ضد العُسْرة، وهو تيَسُّر الموجود من المال، ومنه يقال: أَيْسَرَ الرجلُ فهو مُوسر، أي: صار إلى حالةِ تَيَسُّرِ وجودِ المالِ، فالمَيْسُرة والمَيْسَرَة والمَيْسُور: الغنى [[في (ش): (والميسرة: الميسور وفيه).]] [[ينظر في الميسرة: "تهذيب اللغة" 4/ 3979 - 3981، "المفردات" 553، "اللسان" 8/ 4957 - 4960.]]. وفيه قراءتان: فتح السين وضمها [[قرأ نافع بضم السين، وقرأ الباقون بفتحها. ينظر: "السبعة" 192.]]، والفتح أشهر اللغتين؛ لأن مَفْعَلَة قد جاء في كلامهم كثيرًا، ومن قرأ بالضم فلأن مَفعُلة قد جاء أيضًا في كلامهم، كالمَشْرُبَة والمَشْرُقَة وبابهما، ومفعُلة بناء مبني على التأنيث، ألا ترى أن مَفْعُل بناء لم يجىء في الآحاد [[من "الحجة" 2/ 414 - 415 بتصرف، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 340.]]، قال سيبويه: وليس في الكلام مَفْعُل [["الكتاب": لسيبويه 4/ 91، ونقله أبو علي في "الحجة" 2/ 415.]]، فعلى هذا قراءة من قرأ (مَيْسُرِهِ) بالهاء وضم السين مُضافًا، فأخْطأ، وهو قراءة مجاهد، وإحدى الروايات عن يعقوب [[ينظر: "المحتسب" 1/ 143، "تفسير الثعلبي" 2/ 1741، و"إعراب القراءات الشواذ" 1/ 286، "البحر المحيط" 2/ 340.]]. قال أبو إسحاق: من قرأ: (مَيْسُرِه) على الإضافة إلى الهاء فمخطئ، لأن مَيْسُر مَفْعُل، وليس في الكلام مَفْعُل، وزعم البصريون أنهم لا يعرفون مفْعُلًا [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 360، وتمامه: إنما يعرفون مفعُلة.]]. فأما ما أنشده ابن السكيت: ليَوْمِ رَوْعٍ أو فَعَالِ مَكْرُم [[صدر البيت: مروان مروان أخو اليوم اليمي. والبيت لأبي الأخزر الحماني، في "اللسان" مادة: كرم 7/ 3861 - 3864، "البحر المحيط" 2/ 355.]] وقول آخر: بُثَيْنُ الْزَمِي (لا) إِنَّ (لا) إن لَزِمْتِه ... على كَثْرة الواشِينَ أَيُّ مَعُونِ [[البيت لجميل بثينة، انظر: "ديوانه" ص 105، "المحتسب" 1/ 144، "الخصائص" 3/ 321، "البحر المحيط" 2/ 355.]] وقول عدي: أبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنّي مَأْلُكًا [[البيت لعدي بن زيد العبادي، مطلع قصيدته الرائية المكسورة، يستعطف بها == النعمان، وعجزه: إنه قد طال حبسي وانتظاري في "ديوانه" ص 124، وينظر "الشعر والشعراء" ص 133، "الأغاني" 2/ 94، "العقد الفريد" 6/ 95، "الخزانة" 3/ 59.]] فهذه كلُّها عند جميع النحويين من البصريين والكوفيين جَمْعٌ، فمَكْرُم [[في (أ) و (م) (مكرم) بدون فاء.]] جمع مَكرُمَة، ومَعون جمْع مَعُونة، ومأْلُك جمع مالُكة، إلا عند الكسائى فإنه أجازَ أن يكونَ واحدًا، ولا يدخل هذا على كلام سيبويه، لأنه جمع، ومُراده فيما ذكر: أنه ليس في الكلام مفعُل المفرد دون الجمع، على أن مثلَ هذا الذي يقلّ [[في (ي) و (ش) (نقل).]] قد لا يَعتَدُّ به سيبويه، فربما أطلق القول فقال: ليس في الكلام كذا، وإن كان قد جاء عليه حرف أو حرفان، كأنه لا يعتد بالقليل، ولا يجعل له حكمًا [[من "الحجة" 2/ 416 - 417 بمعناه.]]. فأما الحكم في إنظار المعسر: فمهما علم الإنسان أن غريمه معسر حرم عليه حبسه وملازمته وأن يطالبَه بما له عليه، ووجب عليه الانتظار إلى وقت يساره، إلا أن يكون له ريبة في إعساره، فجاز له أن يحبِسَه إلى أن يقيمَ المحبوسُ البينةَ، وتعتبر زيادةُ عددٍ على شاهدين في بينة الإعدام؛ لما روي في حديث قبيصة بن مخارق [[هو قبيصة بن المخارق بن عبد الله بن شداد بن ربيعة بن نهيك العامري الهلالي، أبو بشر، صحابي، عداده في أهل البصرة، وفد على النبي ﷺ. ينظر: "أسد الغابة" 4/ 383]]: "حتى يشهدَ ثَلاثةٌ من ذَوِي الحِجَى أنه أصابتْه فاقة وحاجة" [[رواه مسلم (1044) كتاب: الزكاة، باب من لا تحل له الصدقة، وذوو الحجى: ذوو العقول.]]. وإذا أقام بينة الإعدام كان للخصم طلبُ يمينه؛ لأن الرجل ربما يكتم ذخائر أمواله، فشهادة الشهود للظاهر، واليمين للباطن، وليس للقاضي أن يتوقف في الإصغاء إلى شهادة الإِعدام؛ لأن رسول الله ﷺ لم يذكر مدة في سماع الشهادة [[في (ي) (الشهود).]] في حديث قبيصة. والحقوق مختلفة في هذا، فكلُّ حق لزم الإنسان عوضًا عن مالٍ حصلَ في يده، مثلُ قرضٍ أو ثمنِ سلعةٍ، فإذا ادّعى الإعسار لزمته إقامة البينة، وكلُّ حق لزمه من غير حصول مال في يده كالمهر والضمان، فإذا ادَّعى الإعسار لزمَ ربُّ المال إقامةَ البينة على كونه موسرًا، لأن الأصل في الناس الفقر. ويباع في الديون جميعُ أموالِ الغريم، فلا يستبقى له سِوى [[في (ي) (غير).]] قوتِ يومٍ [[في (ش) (يوم بيوم).]] ودست ثوب وسط [[ينظر في أحكام الآية: "تفسير الثعلبي" 2/ 1743، "معالم السنن" 4/ 179، "المغني" 6/ 585، "تكملة المجموع" 13/ 269، "مجموع فتاوى ابن تيمية" 35/ 397، "نيل الأوطار" 7/ 151.]]. وقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أعلم الله تعالى أن الصدقة برأس المال على المعسر خير وأفضل، والمراد: وأن تصدقوا على المعسر برأس المال خيرٌ لكم، ولكنه حذف للعلمِ به، لأنه قد جرى ذكرُ المعسر وذكرُ رأسِ المال، فعلم أن التصدقَ راجعٌ إليهما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب