الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ الآية، قال الأزهري: أصل النكاح في كلام العرب: الوطء، وقيل للتزُّوج: نِكَاح، لأنه سبب الوطء [[في "تهذيب اللغة" 4/ 3659 (نكح)، سبب الوطء المباح.]]، يقال: نَكَح المطرُ الأرضَ: إذا اعتمد عليها، ونكح النعاسُ عَيْنَه. حكى ذلك أبو مالك [[هو غزوان الغفاري الكوفي، مشهور بكنيته أبي مالك، ثقة قال ابن حجر من الثالثة. انظر "الجرح والتعديل" 7/ 55، "التقريب" ص 442 (5354).]] وأبو زيد [[حكاه في "تهذيب اللغة" 4/ 3659 (نكح).]]. وقال أبو القاسم الزجاجي: النِّكَاح لفظةٌ جاريةٌ في كلام العرب بمعنى الوطء والعَقْدِ جميعًا، وموضوع (ن ك ح) على هذا الترتيب في كلامهم للزوم الشيء الشيء وإكبابه عليه، من ذلك قولهم: نكحَ المطرُ الأرضَ ينكحها نكحًا، إذا واظب عليها ولزمها، ذكر ذلك أبو زيد وابن الأعرابي فيما حكى عنه ثعلب في "الأمالي" [[في (ي) و (ش): (فيما حُكَي عنه في "الأمالي").]] [[نقله في "البحر المحيط" 2/ 155، ونسبه للتبريزي، فلعله الزجاجي.]]. وقال أبو عمرو الشيباني: نكح النعاس عينه، إذا غَلَبَ ولزم، هذا كلام العرب الصحيح فإذا قالوا: نكح الرجلُ فلانةً، ينكِحُها نَكْحُا ونِكَاحُا، أرادوا: تزوج بها، كما قال الأعشى: فلا تَقَربَنَّ جَارَةً إنَّ سِرَّها ... عَلَيْكَ حَرَامٌ فانكِحَنْ أو تَأَبَّدا [[البيت للأعشى في "ديوانه" ص 46، "تهذيب اللغة" 4/ 3659 (نكح)، "اللسان" 8/ 4537 "نكح" وروايتها ولا تقربن.]] وهذا الموضح لا يحتمل انكحن إلا الأمر بالعقد والتزوج؛ لأنه قال: لا تقربن جارة، يعني: مقاربتها على الطريق الذي يحرم فاعقد وتزوج، وإلا فتأبد في [[في (ي) و (ش) (أي تجنب).]] تجنب النساء وتوحش. قال عثمان بن جني [[في (ي) و (ش) (أن حسين).]] [[هو أبو "الفتح" عثمان بن جني الموصلي النحوي، صاحب التصانيف البديعة في النحو والأدب، سكن بغداد، وتوفي سنة 372 هـ. انظر "إنباه الرواة" 2/ 235، "وفيات الأعيان" 3/ 246.]]: سألت أبا علي عن قولهم: نَكَح المرأةَ، فقال: فَرَّقَتِ العربُ بالاستعمال فرقًا لطيفًا بين موضع العقد بفحوى الكلام وموضع الوطء حتى لا يلتبس، فإذا قالوا: نكح فلانٌ فلانة أو ابنةَ فلانٍ، أرادوا: أنه تزوجَ وعَقَدَ عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجَه، لم يريدوا غير المجامعة؛ لأنه إذا ذكر امرأته أو زوجه فقد استغنى عن ذكر العقد ولم تحتمل الكلمة غير المجامعة، وإذا قالوا: نَكَحَ بنتَ فلانٍ أو أُخْتَه أو امرأةً، لم يريدوا غير العَقْد [[ينظر: "البحر المحيط" 2/ 155، "عمدة الحفاظ" 4/ 251 قال: قلت: وهذا غير صحيح لظهوره بالقرينة. وقال الراغب في "المفردات" ص 506: أصل النكاح للعقد، ثم استعير للجماع، ومحال أن يكون في الأصل للجماع، ثم استعير للعقد؛ لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، قال تعالى: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى﴾ [النور: 32].]]. وروى سلم [[في (م): (مسلم)، وفي (ي): (سالم).]] [[لعله سلمة بن عاصم النحوي من تلاميذ الفراء.]] عن الفراء أنه قال: العرب تقول: نُكْحُ المرأةِ (بضم النون) بمعنى بضعها، وهو كناية عن الفرج، بُني على بناء القُبُل والدُّبُر، فإذا قالوا: نَكَحَها فمعناه: أصاب نُكْحَها، أي: ذلك الموضعَ منها، وقلّ ما يقال: نَاكَحَها كما يقال: باضعها من البُضْع [[الفراء، نقله في "البحر المحيط" 2/ 155.]]، وقد جاء لفظ النِّكاح في الشعر ولا يراد به إلا الوطء، من ذلك قوله: التارِكِينَ على طُهْرٍ نِسَاءَهُم ... والناكحينَ بِشَطَّيْ دِجْلةَ البَقَرَا [[البيت للربيع بن ضبع الفزاري. ورد البيت في: "عمدة الحفاظ" 4/ 251 بلفظ: النازلين على ظهور متونهم ... والناكحين بشاطي دجْلة البقرا ولم ينسبه، وورد في "البحر المحيط" 2/ 155، وروايته: الباركين على ظهور نسوتهم ... والناكحين بشاطي دجلة البقرا]] [[ينظر في (نكح): "تهذيب اللغة" 4/ 3659، "المفردات" 506 - 507، "عمدة الحفاظ" 4/ 250 - 251، "اللسان" 8/ 4537 - 4538.]] قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي [[هو: كناز بن حصين بن يربوع بن طريف بن خرشة، آخى النبي ﷺ بينه وبين عبادة بن الصامت وكان حليف حمزة بن عبد المطلب، وهو تربه، شهد هو وابنه مرثد بدرا، مات في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - سنة 12 هـ. انظر: "الطبقات الكبرى" 3/ 47، "أسد الغابة" 6/ 282، "الأعلام" 5/ 234.]]، كانت له خليلة مشركة في الجاهلية، يقال لها: عناق، فلما أسلم قالت له: تَزَوَّجْ بي، فسأل رسول الله ﷺ، وقال: يا رسول الله أيحل لي أن أتَزَوجَهَا، فأنزل الله هذه الآية [[ذكره مقاتل في "تفسيره" 1/ 190 وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 398، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 906، والواحدي في "أسباب النزول" ص 74، والرازي في "تفسيره" 6/ 58، والحافظ ابن حجر في "الحجاب" 1/ 551، والسيوطي في "لباب النقول" ص 42، وغيرهمِ، وقد ورد عن عبد الله بن عمرو قصة مرثد هذه فنزل قول الله: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: 3] رواها أبو داود في النكاح، باب: قول الله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ 2/ 227 برقم2051، والترمذي (3177) كتاب التفسير، باب: ومن سورة النور وقال: حسن غريب، والنسائي 6/ 66 كتاب النكاح، باب: تزويج الزانية، والحاكم 1/ 180 وصححه، قال الزيلعي: فظهر أن هذا الحديث ليس في هذه الآية التي في البقرة، إنما هو في الآية التي في النور [تخريج أحاديث "الكشاف"1/ 236]، وقال الحافظ في "الكشاف" 1/ 264 عن آية البقرة. ونزولها في هذه القصة ليس بصحيح.]]. ومعنى المشركات هاهنا: كل من كفر بالنبي ﷺ، وإن قال: إن الله واحد، وذلك أن من كفر بالنبي [[ساقط من (ي).]] ﷺ فقد زعم أن ما أتى به النبي ﷺ من القرآن [[ساقط من (ي).]] [[في (م) (إنه من عند).]] من عند غير الله، والقرآن إنما هو من عند الله عز وجل، فمن زعم أنه قد أتى غير الله [[من قوله: والقرآن .. ساقط من (ي).]] بما لا يأتي به إلا الله عز وجل قد أشرك به غيره [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 295.]] والله تعالى يقول: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: 30] ثم قال في آخر الآية الثانية: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]. فحرم الله تعالى بهذه الآية نكاح المشركات، ثم استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة، وهي قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5] فهذه الآية مخصوصة بتلك في قول ابن عباس [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 376، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 397، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ" 2/ 4، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 458 إلى ابن المنذر.]]، وهو الصحيح، والذي عليه جمهور [[ساقطة من (ش).]] أهل العلم [[ينظر: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد 84، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 2/ 4، "تفسير الثعلبي" 2/ 909، "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي ص 171، وقال ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" 241: قوله: "ولا تنكحوا المشركات" لفظ عام، خص منه الكتابيات بآية المائدة، وهذا تخصيص لا نسخ، وعلى هذا الفقهاء وهو الصحيح، وينظر: "تفسير القرطبي" 3/ 67، "النسخ في القرآن الكريم" لمصطفى زيد 2/ 604.]]. وقال قتادة [[رواه عنه الطبري 2/ 377، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 458 إلى عبد الرزاق وعبد ابن حميد.]] وسعيد بن جبير [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 377، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 397.]]: أراد بالمشركات في هذه الآية: مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه، فعلى قولهما: الآية محكمة لا نسخ فيها، والذي عليه أهل العلم أن التي في المائدة ناسخة لهذه [[قدم المؤلف أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة على الصحيح، وعليه فإن مراده بالنسخ هنا التخصيص على العادة المعروفة عند المتقدمين.]]، وبحكم [[في (م): (ومحكم).]] هذه الآية لا يحل تزوج الأمة الكتابية، لأن الله تعالى إنما استثنى الحرائر الكتابيات بقوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: 5]، فلا يحل نكاح الأمة الكتابية بحال [[انظر: "تفسير القرطبي" 3/ 70.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾ الأمة: المملوكة. ومصدرها: الأمُوَّة، وتأميتُ أَمَةً، أي: اتخَذْتُ أمة، وجمع الأمة: إماء وآم [[وتجمع أيضا على أَمَوَات، وإِمْوان، وأُمْوان، وأَمَات. ينظر: "اللسان" 1/ 121 (أما).]]، قال الشاعر: يا صاحِبيَّ ألا لا حَيَّ بالوادي ... إلا عَبِيدٌ وآمٍ بَيْنَ أذْوادِ [[القائل: السليك بن السلكة، في "ديوانه" ص 51، "لسان العرب" 1/ 121 (أما).]] ووزن أمة فَعَلَة، بدلالة الجمع، نحو: أكَمَة وآكَام. وقال الليث: يقال لجمع الأمة: إماء وإمَوَان وثلاث آم، وأنشد: تَمْشِي بها رُبْدُ [[في (ي): (رند).]] النَّعَام ... تَمَاشِيَ الآمِي الزَّوَافِر [[البيت للكميت في "ديوانه" 1/ 231، "تهذيب اللغة" 1/ 194، "لسان العرب" 1/ 121 (أما).]] [[ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 194 (أما).]] وقال أبو الهيثم: الآم جمع الأَمَة، كالنَّخْلَة والنَّخْل، والبَقْلَة والبَقْل. قال: وأصل الأَمَةِ أَمْوَة [[ضبطت في الأصل: أمَوَة، وما أثبتناه من "تهذيب اللغة"، "اللسان".]]، حذفوا لامها لما كانت من حروف اللين، فلما جمعوها على مثال نَخْلة ونَخْل لزمهم أن يقولوا: أَمَةٌ وآم، فكرهوا أن يجعلوها حرفين، وكرهوا أن يردوا الواو المحذوفة لما كانت آخر الاسم؛ لأنهم يستثقلون السكوت على الواو، فقدموا الواو وجعلوها ألفًا فيما بين الألف والميم [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" (أما) بتصرف يسير، وفي الأصل قال ابن الهيثم، والتصويب من "التهذيب"، "اللسان".]] [[ينظر في إماء: "تهذيب اللغة"، "البحر المحيط" 2/ 155، "اللسان" 1/ 121.]]. قال السدي: نزلت في عبد الله بن رواحة [[عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري، شهد العقبة، وهو أحد النقباء، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وكان من الشعراء، واستشهد بمؤتة، وكان ثالث الأمراء بها في جمادى الأولى سنة ثمان. ينظر: "معرفة الصحابة" 3/ 1638، "الاستيعاب" 3/ 33.]]، كانت له أمة سوداء فغضب عليها ولطمها، ثم أتى النبي ﷺ وأخبره بذلك، فقال له: "وما هي يا عبد الله"، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله، وتصوم رمضان، وتحسن الوضوء وتصلي، فقال: "هذه مؤمنة"، قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، وطعن عليه ناس من المسلمين وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل الله هذه الآية [[رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 387 - 389، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 398، والواحدي في "أسباب النزول" ص 75، وينظر: "العجاب" 1/ 551، "لباب النقول" 42.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾ أي: المشركة بمالها وجمالها [["تفسير الثعلبي" 2/ 910.]]. و (لو) بمعنى (أن) إلا أن (لو) للماضي، و (أن) للمستقبل [[ينظر: "مغني اللبيب" 337.]]. وقوله تعالى ﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾ لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك [[ينظر: "تفسير القرطبي" 3/ 72 قال: وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام.]]. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ يعني: المشركين ﴿يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ أي: الأعمال الموجبة للنار [["تفسير الثعلبي" 2/ 913.]]. فإن قيل: أليست الكتابية تدعو أيضًا إلى النار، فلم جاز نكاحها؟ قيل: الوثنية تدعو بما هي عليه إلى التقصير في الجهاد، والكتابية الذمية من جملة من سقط فيهم فرض القتال فلا تدعو إلى التقصير في الجهاد [[ينظر: "التفسير الكبير" 6/ 65 - 66.]]. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ﴾ يقول: إلى التوبة والتوحيد والعمل الموجب للجنة، ﴿وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ أي: بأمره، يعني: أنه بأوامره يدعوكم. وقيل: إن [[ساقطة من (ش).]] هذا مختصر على تقدير: يدعو إلى الجنة والمغفرة ولا هداية إلا بإذنه، كما قال في سورة يونس، فَبَسَطَ ما اخْتُصِر هاهنا، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [يونس: 25] فدعاء الله الخلق على العموم، وتوفيقه على الخصوص، ويؤيد هذا المعنى: ما روي عن الحسن أنه كان يقرأ: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ رفعاً [[ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 261، "التفسير الكبير" 6/ 66، "البحر المحيط" 2/ 166.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب