قوله تعالى: ﴿ولاَ تَنكِحُوا المُشْرِكاتِ حتّى يُؤْمِنَّ﴾ الآية:
الظاهرُ في هذه الآيةِ أنها محكمةٌ مخصَّصةٌ مبيَّنةٌ بآيةِ المائدةِ في جوازِ نكاح الكتابيّات. وقد تقدَّم ذكرُ هذا - وقاله قتادةُ وابنُ جبير -.
وعن ابن عباس: أنَّها في المشركاتِ مِن الكتابيّات وغيرهنّ اللواتي في دار الحرب، لا يَحِلُ نِكاح كتابيةٍ مُقيمةٍ في دارِ الحرب لأَنّها ليست من أهل ذمّة المسلمين، وهو قولُ أكثرِ العلماء. فالآيةُ محكمةٌ - على هذا القول - غيرُ عامّة وغيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصةٍ.
وآيةُ المائدةِ في الكتابيّات من أهل الذمَّة ذوات العهد المقيماتِ مع المسلمين.
(فالآيةُ) مخصوصةٌ في غيرِ الكتابيّات اللواتي بدار الإِسلام، فهي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ وغيرُ مخصَّصَةٍ].
وقد رُوِيَ عَن مالك أَنه قال: (هي) في غيرِ أَهلِ الكتاب، قال مالكٌ: قال اللهُ - جلَّ ذكرُه -: ﴿ولاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكوافر﴾ [الممتحنة: 10]، فهي عندَه محكمةٌ لم يُنْسَخ منها شيءٌ، إلا أنَّها غيرُ عامة، أُريدَ بها الخصوصُ في كل مشركةٍ من غيرِ أهلِ الكتاب، وبيَّن تخصيصَها آيةُ المائدة في تحليل نكاح الكتابيّات.
وروُيَ عن ابن عمر أنه قال: هذه الآيةُ محكمةٌ، لا يجوزُ نكاحُ مُشركَةٍ كتابيةٍ ولا غيرِها. وقيل عنه: إنه إنّما كَرِه ذلك ولم يُحَرِّمْه. ولا يَصِحُّ عنه تحريمُ (نكاح) الكتابياتِ ذواتِ الذِّمَّة؛ لأنَّ نصَّ القرآنِ يدُلُّ على تحليل الكتابية ذميَّةً كانت أو غيرَ ذِمِّيَّةٍ.
وعن مالك: أَنه كَرِهَ نكاحَ الكتابيّةِ التي في دار الحرب، ولم يُحرِّمه.
وعلى تحريمه جماعةٌ من العلماء، جعلوا آيةَ المائدة في الكتابيّات ذواتِ الذمّة خاصةً.
وهي عامّة في كُلِّ كتابيةٍ - عندَ مالكٍ وغيرِه، وعليه أكثرُ الصَّحابةِ والعلماء؛ لقوله: ﴿والمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجورَهُنّ﴾ [المائدة: 5] فعمَّ.
فآيةُ المائدة مُحْكَمَةٌ غيرُ منسوخَةٍ، لكنّها مخصِّصةٌ ومبيِّنةٌ لآيةِ البقرة.
وقد رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ أنه قال: آيةُ البقرة منسوخةٌ بآية المائدة. وهو أيضاً مرويٌ عن مالك، وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمرو (الأوزاعي).
قال أبو محمد: وهذا إنما يجوزُ على أن تكونَ آيةُ البقرة في الكتابيات خاصة ثم نسخَتْها آيةُ المائدة، ويكونَ تحريمُ نكاح المشركات من غير أهل الكتاب بالسنّة.
وحَمْلُ آية البقرة على العموم في كل المشركات ثم خصَّصَتْها وبَيَّنَتْها آيةُ المائدة أولى وأحسن؛ ليكونَ تحريمُ نكاح المشركات من غير أهل الكتاب بِنَصِّ القرآن.
وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: استثنى اللهُ منها نساءَ أهل الكتاب فأَحَلَّهُنّ بآية المائدة، وهذا معنى مفهومٌ مِن قوله، وإن كان بغير لفظ الاستثناء، فهو تخصيصٌ وبيان، كما أن الاستثناءَ بيانٌ أيضاً.
وقد قال الحسنُ وعِكرِمَةُ في آية البقرة: نسَخَ اللهُ منها نساءَ أهل الكتاب فأَحلَّ نكاحَهُنَّ. وقد ذكرنا هذه الآية فيما تقدّم.
{"ayah":"وَلَا تَنكِحُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكَـٰتِ حَتَّىٰ یُؤۡمِنَّۚ وَلَأَمَةࣱ مُّؤۡمِنَةٌ خَیۡرࣱ مِّن مُّشۡرِكَةࣲ وَلَوۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡۗ وَلَا تُنكِحُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَتَّىٰ یُؤۡمِنُوا۟ۚ وَلَعَبۡدࣱ مُّؤۡمِنٌ خَیۡرࣱ مِّن مُّشۡرِكࣲ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلنَّارِۖ وَٱللَّهُ یَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ وَٱلۡمَغۡفِرَةِ بِإِذۡنِهِۦۖ وَیُبَیِّنُ ءَایَـٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ یَتَذَكَّرُونَ"}