الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾: وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أنَّهُ كانَ إذا سُئِلَ عَنْ نِكاحِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ قالَ: ”إنَّ اللَّهَ تَعالى حَرَّمَ المُشْرِكاتِ عَلى المُسْلِمِينَ ولا أعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الشِّرْكِ أكْثَرَ مِن أنْ يَقُولَ: ( عِيسى رَبُّنا)“ .وأمّا الباقُونَ فَإنَّهم جَوَّزُوهُ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنَ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥] . ولا تَعارُضَ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ﴾، فَإنَّ ظاهِرَ لَفْظِ المُشْرِكِ لا يَتَناوَلُ أهْلَ الكِتابِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ ولا المُشْرِكِينَ أنْ يُنَزَّلَ (p-١٣٠)عَلَيْكم مِن خَيْرٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٠٥] . وقالَ: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ﴾ [البينة: ١] فَفَرَّقَ بَيْنَهم في اللَّفْظِ، وظاهِرُ العَطْفِ يَقْتَضِي مُغايِرَةً بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، إلّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي الإفْرادَ تَعْظِيمًا عَلى خِلافِ ظاهِرِ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٨] . ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ﴾ [الأحزاب: ٧] إلّا أنَّ ذَلِكَ خِلافُ الوَضْعِ الأصْلِيِّ، ولِأنَّ اسْمَ الشِّرْكِ عُمُومٌ ولَيْسَ بِنَصٍّ. وقَوْلُهُ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [المائدة: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ﴾ [المائدة: ٥] نَصٌّ، فَلا تَعارُضَ بَيْنَ المُحْتَمَلِ وبَيْنَ ما لَيْسَ بِمُحْتَمَلٍ. ولَيْسَ مِنَ التَّأْوِيلِ قَوْلُ القائِلِ: أرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنَ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥] . أيْ: أُوتُوا الكِتابَ مَن قَبْلِكم وأسْلَمُوا. وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّ مِن أهْلِ الكِتابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ (p-١٣١)وما أُنْزِلَ إلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٩٩] . وقَوْلِهِ: ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ﴾ [آل عمران: ١١٣] الآيَةُ. فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ﴾ [المائدة: ٥]، ثُمَّ قالَ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنَ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥] . والقِسْمُ الثّانِي عَلى هَذا الرَّأْيِ هو القِسْمُ الأوَّلُ بِعَيْنِهِ. ولِأنَّهُ لا يُشْكِلُ عَلى أحَدٍ جَوازُ التَّزَوُّجِ بِمَن أسْلَمَتْ وصارَتْ مِن أعْيانِ المُسْلِمِينَ. قالُوا: فَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلى النّارِ﴾، فَجَعَلَ العِلَّةَ في تَحْرِيمِ نِكاحِهِنَّ الدُّعاءَ إلى النّارِ. والجَوابُ عَنْهُ أنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ﴾، لِأنَّ المُشْرِكَ يَدْعُو إلى النّارِ. وهَذِهِ العِلَّةُ تَطَّرِدُ عِنْدَنا في جَمِيعِ الكُفّارِ، فَإنَّ المُسْلِمَ خَيْرٌ مِنَ الكافِرِ مُطْلَقًا، وهَذا بَيِّنٌ. فَإنْ زَعَمُوا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المجادلة: ٢٢] . وقَوْلَهُ: ﴿لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِن دُونِكم لا يَأْلُونَكم خَبالا﴾ [آل عمران: ١١٨] . (p-١٣٢)وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ﴾ [آل عمران: ٢٨] . صَرِيحٌ في تَحْرِيمِ النِّكاحِ، الَّذِي هو سَبَبُ الِاتِّحادِ والوُصْلَةِ والسَّكَنِ والرَّحْمَةِ، وكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَحْصُلَ لَنا مَعَ الكُفّارِ ما قالَهُ اللَّهُ تَعالى: ﴿خَلَقَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكم مَوَدَّةً ورَحْمَةً﴾ [الروم: ٢١] ؟ والجَوابُ: أنَّ ذَلِكَ مَنعٌ مِن مُوادَّةٍ ومُخالَطَةٍ، تَرْجِعُ إلى المُحاباةِ في أمْرِ الدِّينِ، وما أوْجَبَ اللَّهُ عَلى المُسْلِمِينَ مِن قِتالِهِمْ والتَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ دُونَ التَّوَدُّدِ إلَيْهِمْ، في حِفْظِ ذَمَّتِهِمْ وعِصْمَتِهِمْ، ومُبايَعَتِهِمْ ومُشاراتِهِمْ والإنْفاقِ عَلَيْهِمْ، إذا كانُوا مَمْلُوكِينَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يُخالِفُ الشَّرْعَ، ويُورِثُ المَوَدَّةَ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في مُشْرِكِي العَرَبِ المُحارِبِينَ، الَّذِينَ كانُوا لِرَسُولِ اللَّهِ أعْداءً ولِلْمُؤْمِنِينَ، فَنُهُوا عَنْ نِكاحِهِنَّ، حَتّى لا يَمِلْنَ بِهِمْ إلى مَوَدَّةِ أهالِيهِنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى التَّقْصِيرِ مِنهم في قِتالِهِمْ دُونَ أهْلِ الذِّمَّةِ. والمُرادُ بِهِ غَيْرُ الَّذِينَ أُمِرْنا بِتَرْكِ قِتالِهِمْ، إلّا أنَّ أصْحابَ الشّافِعِيِّ يَتَعَلَّقُونَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ﴾، في تَحْرِيمِ الأمَةِ الكِتابِيَّةِ مُطْلَقًا، في حالَتَيْ وُجُودِ طَوْلِ الحُرَّةِ وعَدَمِها. فَقِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ قالَ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنَ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥]، وذَلِكَ يُعارِضُ هَذا؟ (p-١٣٣)فَأجابُوا بِأنَّ سِياقَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى الِاخْتِصاصِ بِالحُرَّةِ لِأنَّهُ قالَ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنَ قَبْلِكم إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [المائدة: ٥] . ثُمَّ قالَ: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾ [النساء: ٢٤] . وكُلُّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالحُرَّةِ، غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ في الأمَةِ بِحالٍ. ولِأنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَهُ: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ﴾ [النساء: ٢٥] . فَلَوْ كانَ اسْمُ المُحْصَناتِ يَتَناوَلُ الإماءَ لَما قالَ: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٥]، فَدَلَّ أنَّ المُحْصَنَةَ المَذْكُورَةَ ها هُنا هي الحُرَّةُ، فَلا تَعَلُّقَ لِلْمُخالِفِ بِالآيَةِ. ولَهم أنْ يَقُولُوا عَلى ما تَعَلَّقْنا بِهِ مِن عُمُومِ لَفْظِ المُشْرِكَةِ: إنَّ الآيَةَ ظاهِرُها الحُرَّةُ، فَإنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ﴾ ولَوْ كانَتِ المُشْرِكَةُ عامَّةً في الجَمِيعِ، لَما صَحَّ هَذا القَوْلُ. (p-١٣٤)فَعُلِمَ أنَّ الآيَةَ سِيقَتْ لِبَيانِ تَحْرِيمِ المُشْرِكاتِ الحَرائِرِ، ثُمَّ المُشْرِكاتُ الإماءُ مَعْلُوماتٌ مِن طَرِيِقِ الفَحْوى والأوْلى. وظَنَّ قَوْمٌ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ﴾ يَدُلُّ عَلى جَوازِ نِكاحِ الأمَةِ مَعَ وُجُودِ الطَّوْلِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِتَزْوِيجِ الأمَةِ المُؤْمِنَةِ، بَدَلًا مِنَ الحُرَّةِ المُشْرِكَةِ الَّتِي تُعْجِبُهم لِوِجْدانِ الطَّوْلِ إلَيْها، وواجِدُ الطَّوْلِ إلى الحُرَّةِ المُشْرِكَةِ، هو واجِدُهُ إلى الحُرَّةِ المُسْلِمَةِ. وهَذا غَلَطٌ مِنَ الكَلامِ فَإنَّهُ لَيْسَ في قَوْلِهِ: ﴿ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ﴾ ذِكْرُ نِكاحِ الإماءِ في تِلْكَ الحالِ، وأنَّهُ لا خِلافَ في أنَّ نِكاحَ الإماءِ مَكْرُوهٌ مَعَ القُدْرَةِ عَلى طَوْلِ الحُرَّةِ، وإنَّما ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْ نِكاحِ الحُرَّةِ المُشْرِكَةِ، فَإنَّ العَرَبَ كانُوا بِطِباعِهِمْ نافِرِينَ عَنْ نِكاحِ الإماءِ، فَقالَ: ﴿ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ﴾، فَإذا نَفَرْتُمْ عَنْ نِكاحِ الأمَةِ المُسْلِمَةِ فَإنَّ المُشْرِكَةَ أوْلى بِأنْ تَكْرَهُوا نِكاحَها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب