الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ تَعالى فِيما مَرَّ حِلَّ الجِماعِ في لَيْلِ الصِّيامِ وأتْبَعَ ذَلِكَ مِن أمْرِهِ ما أرادَ إلى أنْ ذَكَرَ المُخالَطَةَ عَلى وجْهٍ يَشْمَلُ النِّكاحَ في سِياقٍ مانِعٍ مَعَ الفَسادِ داعٍ إلى (p-٢٦٩)الصَّلاحِ وخَتَمَ بِوَصْفِ الحِكْمَةِ ولَمّا كانَ النِّكاحُ مِن مُعْظَمِ المُخالَطَةِ في النَّفَقَةِ وغَيْرِها وكانَ الإنْسانُ جَهُولًا تَوَلّى سُبْحانَهُ وتَعالى بِحِكْمَتِهِ تَعْرِيفَهُ ما يَصْلُحُ لَهُ وما لا يَصْلُحُ مِن ذَلِكَ، وأخَّرَ أمْرَ النِّكاحِ عَنْ بَيانِ ما ذَكَرَ مَعَهُ مِنَ الأكْلِ والشُّرْبِ في لَيْلِ الصِّيامِ لِأنَّ الضَّرُورَةَ إلَيْهِما أعْظَمُ، وقَدَّمَهُ في آيَةِ الصِّيامِ لِأنَّ النَّفْسَ إلَيْهِ أمْيَلُ فَقالَ عاطِفًا عَلى ما دَلَّ العَطْفُ عَلى غَيْرِ مَذْكُورٍ عَلى أنَّ تَقْدِيرَهُ: فَخالِطُوهم وأنْكِحُوا مَن تَلُونَهُ مِنَ اليَتِيماتِ عَلى وجْهِ الإصْلاحِ إنْ أرَدْتُمْ ﴿ولا تَنْكِحُوا﴾ (p-٢٧٠) قالَ الحَرالِيُّ: مِمّا مِنهُ النِّكاحُ وهو إيلاجُ نَهْدٍ في فَرْجٍ لِيَصِيرا بِذَلِكَ كالشَّيْءِ الواحِدِ - انْتَهى. وهَذا أصْلُهُ لُغَةً، والمُرادُ هُنا العَقْدُ لِأنَّهُ اسْتُعْمِلَ في العَقْدِ في الشَّرْعِ وكَثُرَ اسْتِعْمالُهُ فِيهِ وغَلَبَ حَتّى صارَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً فَهو في الشَّرْعِ حَقِيقَةٌ في العَقْدِ مَجازٌ في الجِماعِ وفي اللُّغَةِ بِالعَكْسِ وسَيَأْتِي عِنْدَ ﴿حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] عَنِ الفارِسِيِّ قَرِينَةٌ يُعْرَفُ بِها مُرادُ أهْلِ اللُّغَةِ ﴿المُشْرِكاتِ﴾ أيِ الوَثَنِيّاتُ، والأكْثَرُ عَلى أنَّ الكِتابِيّاتِ مِمّا شَمِلَتْهُ الآيَةُ ثُمَّ خُصَّتْ بِآيَةِ ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥] ﴿حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ فَإنَّ المُشْرِكاتِ شَرٌّ مَحْضٌ ﴿ولأمَةٌ﴾ رَقِيقَةٌ ﴿مُؤْمِنَةٌ﴾ لِأنَّ نَفْعَ الإيمانِ أمْرٌ دِينِيٌّ (p-٢٧١)يَرْجِعُ إلى الآخِرَةِ الباقِيَةِ ﴿خَيْرٌ﴾ عَلى سَبِيلِ التَّنْزِيلِ ﴿مِن مُشْرِكَةٍ﴾ حُرَّةٍ ﴿ولَوْ أعْجَبَتْكُمْ﴾ أيِ المُشْرِكَةِ لِأنَّ نَفْعَ نَسَبِها ومالِها وجَمالِها يَرْجِعُ إلى الدُّنْيا الدَّنِيَّةِ الفانِيَةِ. قالَ الحَرالِيُّ: فانْتَظَمَتْ هَذِهِ الآياتُ في تَبْيِينِ خَيْرِ الخَيْرَيْنِ وتَرْجِيحِ أمْرِ الغَيْبِ في أمْرِ الدِّينِ والعُقْبى في أدْنى الإماءِ مِنَ المُؤْمِناتِ خَلْقًا وكَوْنًا وظاهِرَ صُورَةٍ عَلى حالِ العَيْنِ في أمْرِ العاجِلَةِ مِنَ الدُّنْيا في أعْلى الحَرائِرِ مِنَ المُشْرِكاتِ خُلُقًا وظاهِرَ صُورَةٍ وشَرَفَ بَيْتٍ - انْتَهى. ﴿ولا تَنْكِحُوا﴾ أيُّها الأوْلِياءُ (p-٢٧٢)﴿المُشْرِكِينَ﴾ أيِ الكُفّارَ بِأيِّ كُفْرٍ كانَ شَيْئًا مِنَ المُسَلَّماتِ ﴿حَتّى يُؤْمِنُوا﴾ فَإنَّ الكُفّارَ شَرٌّ مَحْضٌ ﴿ولَعَبْدٌ﴾ أيْ مَمْلُوكٌ ﴿مُؤْمِنٌ خَيْرٌ﴾ عَلى سَبِيلِ التَّنْزِيلِ ﴿مِن مُشْرِكٍ﴾ حُرٍّ ﴿ولَوْ أعْجَبَكُمْ﴾ أيِ المُشْرِكُ وأفْهَمَ هَذا خَيْرِيَّةَ الحُرَّةِ والحُرِّ المُؤْمِنَيْنِ مِن بابِ الأوْلى مَعَ التَّشْرِيفِ العَظِيمِ لَهُما بِتَرْكِ ذِكْرِهِما إعْلامًا بِأنَّ خَيْرِيَّتَهُما أمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ لا كَلامَ فِيهِ وأنَّ المُفاضَلَةَ إنَّما هي بَيْنَ مَن كانُوا يُعِدُّونَهُ دُنْيا فَشَرَّفَهُ الإيمانُ ومَن يَعُدُّونَهُ شَرِيفًا فَحَقَّرَهُ الكُفْرانُ، وكَذَلِكَ ذَكَرَ المَوْصُوفَ بِالإيمانِ في المَوْضِعَيْنِ لِيَدُلَّ عَلى أنَّهُ وإنْ كانَ دُنْيا مَوْضِعِ التَّفْضِيلِ لِعُلُوِّ وصْفِهِ، وأثْبَتَ الوَصْفَ بِالشِّرْكِ في المَوْضِعَيْنِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ لِأنَّهُ مَوْضِعُ التَّحْقِيرِ وإنْ عَلا في العُرْفِ مَوْصُوفُهُ. ولَمّا كانَتْ مُخالَطَةُ أهْلِ الشِّرْكِ مَظِنَّةَ الفَسادِ الَّذِي رُبَّما أدّى إلى التَّهاوُنِ بِالدِّينِ فَرُبَّما دَعا الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ إلى الكُفْرِ فَقادَهُ المَيْلُ إلى (p-٢٧٣)اتِّباعِهِ قالَ مُنَبِّهًا عَلى ذَلِكَ ومُعَلِّلًا لِهَذا الحُكْمِ: ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ الَّذِينَ هم أهْلٌ لِلْبُعْدِ مَن كُلِّ خَيْرٍ ﴿يَدْعُونَ إلى النّارِ﴾ أيِ الأفْعالِ المُؤَدِّيَةِ إلَيْها ولا بُدَّ فَرُبَّما أدّى الحُبُّ الزَّوْجَ المُسْلِمَ إلى الكُفْرِ ولا عِبْرَةَ بِاحْتِمالِ تَرْكِ الكافِرِ لِلْكُفْرِ وإسْلامِهِ مُوافَقَةً لِلزَّوْجِ المُسْلِمِ لِأنَّ دَرْءَ المَفاسِدِ مُقَدَّمٌ؛ وسَيَأْتِي في المائِدَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يَكْفُرْ بِالإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾ [المائدة: ٥] لِذَلِكَ مَزِيدُ بَيانٍ. ولَمّا رَهَّبَ مِن أهْلِ الشِّرْكِ حَثًّا عَلى البُغْضِ فِيهِ رَغَّبَ في الإقْبالِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِالإقْبالِ عَلى أوْلِيائِهِ بِالحُبِّ فِيهِ وبِغَيْرِ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿واللَّهُ﴾ أيْ بِعِزِّ جَلالِهِ وعَظَمَةِ كَمالِهِ ﴿يَدْعُو﴾ أيْ بِما يَأْمُرُ بِهِ ﴿إلى الجَنَّةِ﴾ أيِ الأفْعالِ المُؤَدِّيَةِ إلَيْها. ولَمّا كانَ رُبَّما لا يُوَصِّلُ إلى الجَنَّةِ إلّا بَعْدَ القِصاصِ قالَ: ﴿والمَغْفِرَةِ﴾ أيْ إلى أنْ يَفْعَلُوا ما يُؤَدِّي إلى أنْ يَغْفِرَ لَهم ويُهَذِّبَ نُفُوسَهم بِحَيْثُ يَصِيرُونَ إلى حالَةِ سَنِيَّةٍ (p-٢٧٤)يَغْفِرُونَ فِيها لِلنّاسِ ما أتَوْا إلَيْهِمْ. ولَمّا كانَ الدُّعاءُ قَدْ يَكُونُ بِالحَمْلِ عَلى الشَّيْءِ وقَدْ يَكُونُ بِالبَيانِ بِحَيْثُ يَصِيرُ المَدْعُوُّ إلَيْهِ مُتَهَيِّئًا لِلْوُصُولِ إلَيْهِ قالَ: ﴿بِإذْنِهِ﴾ أيْ بِتَمْكِينِهِ مِن ذَلِكَ لِمَن يُرِيدُ سَعادَتَهُ ﴿ويُبَيِّنُ آياتِهِ﴾ في ذَلِكَ وفي غَيْرِهِ ﴿لِلنّاسِ﴾ كافَّةً مَن أرادَ سَعادَتَهُ وغَيْرَهُ ﴿لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ أيْ لِيَكُونُوا عَلى حالَةٍ يَظْهَرُ لَهم بِها بِما خَلَقَ لَهم رَبُّهم مِنَ الفَهْمِ وما طَبَعَ في أنْفُسِهِمْ مِنَ الغَرائِزِ حُسْنُ ما دَعاهم إلَيْهِ وقُبْحُ ما نَهاهم عَنْهُ غايَةَ الظُّهُورِ بِما أفْهَمَهُ الإظْهارُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب