الباحث القرآني

﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ رَوى الواحِدِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ - «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا مِن غِنى، يُقالُ لَهُ: مَرْثَدُ بْنُ أبِي مَرْثَدٍ حَلِيفًا لِبَنِي هاشِمٍ إلى مَكَّةَ؛ لِيُخْرِجَ أُناسًا مِنَ المُسْلِمِينَ بِها أسْرى، فَلَمّا قَدِمَها سَمِعَتْ بِهِ امِرْأةٌ يُقالُ لَها: عَناقٌ، وكانَتْ خَلِيلَةً لَهُ في الجاهِلِيَّةِ، فَلَمّا أسْلَّمَ أعْرَضَ عَنْها، فَأتَتْهُ فَقالَتْ: ويَحُكَ يا مَرْثَدُ، ألا تَخْلُو؟ فَقالَ لَها: إنَّ الإسْلامَ قَدْ حالَ بَيْنِي وبَيْنَكِ وحَرَّمَهُ عَلَيْنا، ولَكِنْ إنْ شِئْتِ تَزَوَّجْتُكِ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، فَقالَ: إذا رَجَعْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - اسْتَأْذَنْتُهُ في ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجْتُكِ، فَقالَتْ لَهُ: أبِي تَتَبَرَّمُ؟ ثُمَّ اسْتَعانَتْ عَلَيْهِ فَضَرَبُوهُ ضَرْبًا وجِيعًا، ثُمَّ خَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَلَمّا قَضى (p-118)حاجَتَهُ بِمَكَّةَ انْصَرَفَ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - راجِعًا، وأعْلَمَهُ الَّذِي كانَ مِن أمْرِهِ وأمْرِ عَناقٍ، وما لَقِيَ بِسَبَبِها، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيَحِلُّ أنْ أتَزَوَّجَها ؟ - وفي رِوايَةٍ: أنَّها تُعْجِبُنِي – فَنَزَلَتْ”،» وتَعَقَّبَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ بِأنَّ هَذا لَيْسَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، وإنَّما هو سَبَبٌ في نُزُولِ آيَةِ النُّورِ ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ ورَوى السُّدِّيُّ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ في عَبْدِ اللهِ بْنِ رَواحَةَ، وكانَتْ لَهُ أمَةً سَوْداءَ، وأنَّهُ غَضِبَ عَلَيْها، فَلَطَمَها، ثُمَّ أنَّهُ فَزِعَ، فَأتى النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، فَأخْبَرَهُ خَبَرَها، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -:“ما هي يا عَبْدَ اللهِ؟ فَقالَ: هي - يا رَسُولَ اللَّهِ - تَصُومُ وتُصَلِّي وتُحْسِنُ الوُضُوءَ وتَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّكَ رَسُولُهُ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللهِ، هي مُؤْمِنَةٌ، قالَ عَبْدُ اللهِ: فَوالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ نَبِيًّا لَأُعْتِقَنَّها ولَأتَزَوَّجَنَّها، فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ ناسٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَقالُوا: أنَكَحَ أمَةً؟ وكانُوا يُرِيدُونَ أنْ يَنْكِحُوا إلى المُشْرِكِينَ ويَنْكِحُوهم رَغْبَةً في أنْسابِهِمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا﴾ الآيَةَ”». وقُرِئَ بِفَتْحِ التّاءِ وبِضَمِّها، وهو المَرْوِيُّ عَنِ الأعْمَشِ؛ أيْ: لا تَتَزَوَّجُوهُنَّ أوْ لا تُزَوِّجُوهُنَّ مِنَ المُسْلِمِينَ، وحَمَلَ كَثِيرٌ مِن أهْلِ العِلْمِ (المُشْرِكاتِ) عَلى ما عَدا الكِتابِيّاتِ، فَيَجُوزُ نِكاحُ الكِتابِيّاتِ عِنْدَهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ﴾ و﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ ولا المُشْرِكِينَ﴾ والعَطْفُ يَقْتَضِي المُغايَرَةَ؛ وأخْرَجَ ابْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ: المُرادُ بِالمُشْرِكاتِ مُشْرِكاتِ العَرَبِ الَّتِي لَيْسَ لَهُنَّ كِتابٌ، وعَنْ حَمّادٍ قالَ: سَألْتُ إبْراهِيمَ عَنْ تَزْوِيجِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ، فَقالَ: لا بَأْسَ بِهِ، فَقُلْتُ: ألَيْسَ اللَّهُ – تَعالى - يَقُولُ: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ﴾ ؟ فَقالَ: إنَّما ذَلِكَ المَجُوسِيّاتُ وأهْلُ الأوْثانِ، وذَهَبَ البَعْضُ إلى أنَّها تَعُمُّ الكِتابِيّاتِ، قِيلَ: لِأنَّ مَن جَحَدَ نُبُوَّةَ نَبِيِّنا - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَقَدْ أنْكَرَ مُعْجِزَتَهُ وأضافَها إلى غَيْرِهِ – تَعالى -، وهَذا هو الشِّرْكُ بِعَيْنِهِ، ولِأنَّ الشِّرْكَ وقَعَ في مُقابَلَةِ الإيمانِ فِيما بَعْدُ، ولِأنَّهُ - تَعالى - أطْلَقَ الشِّرْكَ عَلى أهْلِ الكِتابِ لِقَوْلِهِ: ﴿وقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وقالَتِ النَّصارى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ وأخْرَجَ البُخارِيُّ والنَّحّاسُ في ناسِخِهِ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما -، كانَ إذا سُئِلَ عَنْ نِكاحِ الرِّجْلِ النَّصْرانِيَّةَ أوِ اليَهُودِيَّةَ؟ قالَ: حَرَّمَ اللَّهُ - تَعالى - المُشْرِكاتِ عَلى المُسْلِمِينَ، ولا أعْرِفُ شَيْئًا مِنَ الإشْراكِ أعْظَمَ مِن أنْ تَقُولَ المَرْأةُ: رَبُّها عِيسى أوْ عَبَدٌ مِن عِبادِ اللَّهِ تَعالى، وإلى هَذا ذَهَبَ الإمامِيَّةُ وبَعْضُ الزَّيْدِيَّةِ، وجَعَلُوا آيَةَ المائِدَةِ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ مَنسُوخَةً بِهَذِهِ الآيَةِ نَسْخَ الخاصِّ بِالعامِّ، وتِلْكَ وإنْ تَأخَّرَتْ تِلاوَةً مُقَدَّمَةٌ نُزُولًا، والإطْباقُ عَلى أنَّ سُورَةَ المائِدَةِ لَمْ يُنْسَخْ مِنها شَيْءٌ مَمْنُوعٌ، فَفي الإتْقانِ: ومِنَ المائِدَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾ مَنسُوخٌ بِإباحَةِ القِتالِ فِيهِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ جاءُوكَ فاحْكم بَيْنَهم أوْ أعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وأنِ احْكم بَيْنَهم بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ والمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ العَمَلُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ قَدْ نُسِخَتْ بِما في المائِدَةِ عَلى ما يَقْتَضِيهِ الظّاهِرُ، فَقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ في ناسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما -، أنَّهُ قالَ في ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ﴾ نَسَخَ مِن ذَلِكَ نِكاحَ نِساءِ أهْلِ الكِتابِ، أحَلَّهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ وحَرَّمَ المُسْلِماتِ عَلى رِجالِهِمْ، وعَنِ الحَسَنِ ومُجاهِدٍ مِثْلَ ذَلِكَ، وهو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الحَنَفِيَّةُ والشّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِالتَّخْصِيصِ دُونَ النَّسْخِ، ومَبْنى الخِلافِ أنَّ قَصْرَ العامِّ بِكَلامٍ مُسْتَقِلٍّ تَخْصِيصٌ عِنْدَ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ - ونُسِخَ عِنْدَنا. ﴿ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكَةٍ﴾ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ وتَرْغِيبٌ في مُواصَلَةِ المُؤْمِناتِ، صُدِّرَ بِلامِ الِابْتِداءِ الشَّبِيهَةِ بِلامِ القَسَمِ في إفادَةِ التَّأْكِيدِ، مُبالَغَةً في الحَمْلِ عَلى الِانْزِجارِ، وأصْلُ (أمَةٍ) (أمُوَ) حُذِفَتْ لامُها عَلى غَيْرِ قِياسٍ، وعُوِّضَ عَنْها هاءُ التَّأْنِيثِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ لامَها واوٌ رُجُوعُها في الجَمْعِ؛ كَقَوْلِهِ: (p-119)أمّا الإماءُ فَلا يَدْعُونَنِي ولَدا إذا تَداعى بَنُو الأمْوانِ بِالعارِوَظُهُورُها في المَصْدَرِ يُقالُ: هي أمَةٌ بَيِّنَةُ الأُمُوَّةِ وأقَرَّتْ لَهُ بِالأُمُوَّةِ، وهَلْ وزَنُها فُعْلَةُ - بِسُكُونِ العَيْنِ - أوْ فُعَلَةُ – بِفَتْحِها -؟ قَوْلانِ، اخْتارَ الأكْثَرُونَ ثانِيهِما، وتُجْمَعُ عَلى (آمَّ)، وهو في الِاسْتِعْمالِ دُونَ إماءٍ، وأصْلُهُ (أأمُو) - بِهَمْزَتَيْنِ - الأُولى مَفْتُوحَةٌ زائِدَةٌ، والثّانِيَةُ ساكِنَةٌ هي فاءُ الكَلِمَةِ، فَوَقَعَتِ الواوُ طَرَفًا مَضْمُومًا ما قَبْلَها في اسْمٍ مُعْرَبٍ، ولا نَظِيرَ لَهُ، فَقُلِبَتْ ياءً والضَّمَّةُ قَبْلَها كَسْرَةٌ لِتَصِحَّ الياءُ، فَصارَ الِاسْمُ مِن قَبِيلِ (غازٍ وقاضٍ) ثُمَّ قُلِبَتِ الهَمْزَةُ الثّانِيَةُ ألِفًا لِسُكُونِها بَعْدَ هَمْزَةٍ أُخْرى مَفْتُوحَةٍ، فَصارا (آمَّ) وإعْرابُهُ كَقاضٍ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالأمَةِ ما تُقابِلُ الحُرَّةَ، وسَبَبُ النُّزُولِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ العَيْبُ عَلى مَن تَزَوَّجَ الأمَةَ والتَّرْغِيبُ في نِكاحِ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، فَفي الآيَةِ تَفْضِيلُ الأمَةِ المُؤْمِنَةِ عَلى المُشْرِكَةِ مُطْلَقًا - ولَوْ حُرَّةً - ويُعْلَمُ مِنهُ تَفْضِيلُ الحُرَّةِ عَلَيْها بِالطَّرِيقِ الأُولى، ثُمَّ إنَّ التَّفْضِيلَ يَقْتَضِي أنَّ في الشَّرِكَةِ خَيْرًا، فَإمّا أنْ يُرادَ بِالخَيْرِ الِانْتِفاعُ الدُّنْيَوِيُّ، وهو مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُما، أوْ يَكُونُ عَلى حَدِّ ﴿أصْحابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ وقِيلَ: المُرادُ بِـ(الأمَةِ) المَرْأةَ حُرَّةً كانَتْ أوْ مَمْلُوكَةً، فَإنَّ النّاسَ كُلَّهم عَبِيدُ اللهِ - تَعالى - وإماؤُهُ، ولا تُحْمَلُ عَلى الرَّقِيقَةِ؛ لِأنَّهُ لا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ المَوْصُوفِ في مُشْرِكَةٍ فَإنْ قَدَّرَ (أمَةً) بِقَرِينَةِ السِّياقِ لَمْ يَفِدْ خَيْرِيَّةُ الأمَةِ المُؤْمِنَةِ عَلى الحُرَّةِ المُشْرِكَةِ، وإنْ قَدَّرَ (حُرَّةً) أوِ (امِرْأةً) كانَ خِلافَ الظّاهِرِ، والمَذْكُورُ في سَبَبِ النُّزُولِ التَّزَوُّجُ (بِالأمَةِ) بَعْدَ عِتْقِها. و(الأمَةُ) بَعْدَ العِتْقِ حُرَّةٌ، ولا يُطْلَقُ عَلَيْها (أمَةً) بِاعْتِبارِ مَجازِ الكَوْنِ، والحَقُّ أنَّ (الأمَةَ) بِمَعْنى (الرَّقِيقَةِ) كَما هو المُتَبادَرُ، وأنَّ المَوْصُوفَ المُقَدَّرَ لِـ مُشْرِكَةٍ عامٌّ، وكَوْنُهُ خِلافُ الظّاهِرِ خِلافَ الظّاهِرِ. وعَلى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ هو مُشْتَرَكُ الإلْزامِ، ولَعَلَّ ارْتِكابَ ذَلِكَ آخِرًا أهْوَنُ مِنَ ارْتِكابِهِ أوَّلَ وهْلَةٍ؛ إذْ هو مِن قَبِيلِ نَزْعِ الخُفِّ قَبْلَ الوُصُولِ إلى الماءِ- وما في سَبَبِ النُّزُولِ مُؤَيَّدٌ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ - وقَدْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ عَبْدَ اللهِ نَكَحَ أمَةً - إنْ حَقًّا وإنْ كَذِبًا - فالمَعْنى ﴿ولأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ﴾ مَعَ ما فِيها مِن خَساسَةِ الرِّقِّ وقِلَّةِ الخَطَرِ ﴿خَيْرٌ﴾ مِمّا اتَّصَفَتْ بِالشِّرْكِ مَعَ مالِها مِن شَرَفِ الحُرِّيَّةِ ورِفْعَةِ الشَّأْنِ ﴿ولَوْ أعْجَبَتْكُمْ﴾ لِجَمالِها ومالِها وسائِرِ ما يُوجِبُ الرَّغْبَةَ فِيها، أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ ماجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما - عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «“لا تَنْكِحُوا النِّساءَ لِحُسْنِهِنَّ، فَعَسى حُسْنُهُنَّ أنْ يُرْدِيهِنَّ، ولا تَنْكِحُوهُنَّ عَلى أمْوالِهِنَّ، فَعَسى أمْوالُهُنَّ أنْ تُطْغِيهِنَّ، وانْكِحُوهُنَّ عَلى الدِّينِ، فَلَأمَةٌ سَوْداءُ خَرْماءُ ذاتُ دِينٍ أفْضَلُ”،» وأخْرَجَ الشَّيْخانِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «“تُنْكَحُ المَرْأةُ لِأرْبَعٍ؛ لِمالِها ولِحَسَبِها ولِجَمالِها ولِدِينِها، فاظْفَرْ بِذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَداكَ» والواوُ لِلْحالِ - ولَوْ لِمُجَرَّدِ الفَرْضِ - مُجَرَّدَةٌ عَنْ مَعْنى الشَّرْطِ، ولِذا لا تَحْتاجُ إلى الجَزاءِ والتَّقْدِيرِ مَفْرُوضًا إعْجابُها لَكِنْ بِالحُسْنِ ونَحْوِهِ، وقالَ الجِرْمِيُّ: الواوُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ أيْ: لَمْ تُعْجِبْكُمْ، ﴿ولَوْ أعْجَبَتْكُمْ﴾ وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ السّابِقَةُ، وقالَ الرِّضى: إنَّها اعْتِراضِيَّةٌ تَقَعُ في وسَطِ الكَلامِ وآخِرِهِ، وعَلى التَّقادِيرِ إثْباتُ الحُكْمِ في نَقِيضِ الشَّرْطِ بِطَرِيقِ الأوْلى لِيَثْبُتَ في جَمِيعِ التَّقادِيرِ، واسْتَدَلَّ بَعْضُهم بِالآيَةِ عَلى جَوازِ نِكاحِ (الأمَةِ المُؤْمِنَةِ) مَعَ وُجُودِ طُولِ الحُرَّةِ، واعْتَرَضَهُ الكِيا بِأنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ نِكاحُ الإماءِ، وإنَّما ذَلِكَ لِلتَّنْفِيرِ عَنْ نِكاحِ الحُرَّةِ المُشْرِكَةِ؛ لِأنَّ العَرَبَ كانُوا بِطِباعِهِمْ نافِرِينَ عَنْ نِكاحِ (الأمَةِ) فَقِيلَ لَهُمْ: إذا نَفَرْتُمْ عَنِ الأمَةِ فالمُشْرِكَةُ أوْلى - وفِيهِ تَأمُّلٌ - وفي البَحْرِ: أنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ يَقْتَضِي أنْ لا يَجُوزَ نِكاحُ (الأمَةِ) الكافِرَةِ (p-120)كِتابِيَّةً أوْ غَيْرَها؛ وأمّا وطْؤُها بِمِلْكِ اليَمِينِ فَيَجُوزُ مُطْلَقًا. ﴿ولا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا﴾ أيْ: لا تُزَوِّجُوا الكُفّارَ مِنَ المُؤْمِناتِ، سَواءٌ كانَ الكافِرُ كِتابِيًّا أوْ غَيْرَهُ، وسَواءٌ كانَتِ المُؤْمِنَةُ أمَةً أوْ حُرَّةً، فَـ تُنْكِحُوا بِضَمِّ التّاءِ لا غَيْرَ، ولا يُمْكِنُ الفَتْحُ وإلّا لَوَجَبَ: ولا يَنْكِحْنَ المُشْرِكِينَ، واسْتُدِلَّ بِها عَلى اعْتِبارِ الوَلِيِّ في النِّكاحِ مُطْلَقًا، وهو خِلافُ مَذْهَبِنا، وفي دَلالَةِ الآيَةِ عَلى ذَلِكَ خَفاءٌ؛ لِأنَّ المُرادَ النَّهْيُ عَنْ إيقاعِ هَذا الفِعْلِ والتَّمْكِينُ مِنهُ، وكُلُّ المُسْلِمِينَ أوْلِياءٌ في ذَلِكَ. ﴿ولَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ﴾ مَعَ ما فِيهِ مِن ذُلِّ المَمْلُوكِيَّةِ ﴿خَيْرٌ مِن مُشْرِكٍ﴾ مَعَ ما يُنْسَبُ إلَيْهِ مِن عِزِّ المالِكِيَّةِ ﴿ولَوْ أعْجَبَكُمْ﴾ بِما فِيهِ مِن دَواعِي الرَّغْبَةِ ﴿أُولَئِكَ﴾ أيِ: المَذْكُورِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ ﴿يَدْعُونَ إلى النّارِ﴾ أيِ: الكُفْرِ المُؤَدِّي إلَيْها إمّا بِالقَوْلِ أوْ بِالمَحَبَّةِ والمُخالَطَةِ فَلا تَلِيقُ مُناكَحَتُهُمْ، فَإنْ قِيلَ: كَما أنَّ الكُفّارَ يَدْعُونَ المُؤْمِنِينَ إلى النّارِ كَذَلِكَ المُؤْمِنُونَ يَدْعُونَهم إلى الجَنَّةِ بِأحَدِ الأمْرَيْنِ، أُجِيبُ بَأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ أنَّ المُؤْمِنَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ حَذِرًا عَمّا يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ، وأنْ لا يَحُومَ حَوْلَ حِمى ذَلِكَ ويَتَجَنَّبُ عَمّا فِيهِ الِاحْتِمالُ، مَعَ أنَّ النَّفْسَ والشَّيْطانَ يُعاوِنانِ عَلى ما يُؤَدِّي إلى النّارِ، وقَدْ ألِفَتِ الطِّباعُ في الجاهِلِيَّةِ ذَلِكَ - قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ - والجُمْلَةُ .. إلَخْ مُعَلِّلَةٌ لِخَيْرِيَّةِ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ مِنَ المُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ ﴿واللَّهُ يَدْعُو﴾ بِواسِطَةِ المُؤْمِنِينَ مَن يُقارِبُهم ﴿إلى الجَنَّةِ والمَغْفِرَةِ﴾ أيْ: إلى الِاعْتِقادِ الحَقِّ والعَمَلِ الصّالِحِ المُوَصِّلِينَ إلَيْهِما، وتَقْدِيمُ الجَنَّةِ عَلى المَغْفِرَةِ مَعَ قَوْلِهِمُ: التَّخْلِيَةُ أوْلى بِالتَّقْدِيمِ عَلى التَّحْلِيَةِ لِرِعايَةِ مُقابَلَةِ النّارِ ابْتِداءً ﴿بِإذْنِهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ يَدْعُو أيْ: يَدْعُو إلى ذَلِكَ مُتَلَبِّسًا بِتَوْفِيقِهِ الَّذِي مِن جُمْلَتِهِ إرْشادُ المُؤْمِنِينَ لِمُقارِبِيهِمْ إلى الخَيْرِ، فَهم أحِقّاءُ بِالمُواصَلَةِ. ﴿ويُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ 221﴾ لِكَيْ يَتَّعِظُوا أوْ يَسْتَحْضِرُوا مَعْلُوماتِهِمْ بِناءً عَلى أنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ - تَعالى - مَرْكُوزَةٌ في العُقُولِ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لِلنُّصْحِ والإرْشادِ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ أوْ عاطِفَةٌ، وفُصِلَتِ الآيَةُ السّابِقَةُ بِـ يَتَفَكَّرُونَ؛ لِأنَّها كانَتْ لِبَيانِ الأحْكامِ والمَصالِحِ والمَنافِعِ والرَّغْبَةِ فِيها الَّتِي هي مَحِلُّ تَصَرُّفِ العَقْلِ والتَّبْيِينِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَناسَبَ التَّفَكُّرَ، وهَذِهِ الآيَةُ بِـ يَتَذَكَّرُونَ؛ لِأنَّها تَذْيِيلٌ لِلْإخْبارِ بِالدَّعْوَةِ إلى الجَنَّةِ والنّارَ الَّتِي لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِها إلّا النَّقْلُ والتَّبْيِينُ لِجَمِيعِ النّاسِ فَناسَبَ التَّذَكُّرَ. ومِنَ النّاسِ مَن قَدَّرَ في الآيَةِ مُضافًا؛ أيْ فَرِيقُ اللَّهِ أوْ أوْلِياؤُهُ وهُمُ المُؤْمِنُونَ، فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ تَشْرِيفًا لَهُمْ، واعْتُرِضَ بِأنَّ الضَّمِيرَ في المَعْطُوفِ عَلى الخَبَرِ لِلَّهِ - تَعالى - فَيَلْزَمُ التَّفْكِيكُ مَعَ عَدَمِ الدّاعِي لِذَلِكَ، وأُجِيبُ بِأنَّ الدّاعِيَ كَوَّنَ هَذِهِ الجُمْلَةَ مُعَلِّلَةً لِلْخَيْرِيَّةِ السّابِقَةِ ولا يَظْهَرُ التَّعْلِيلُ بِدُونِ التَّقْدِيرِ، وكَذا لا تَظْهَرُ المُلاءَمَةُ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: بِإذْنِهِ بِدُونِ ذَلِكَ، فَإنَّ تَقْيِيدَ دَعَوْتِهِ - تَعالى - بِإذْنِهِ لَيْسَ فِيهِ حِينَئِذٍ كَثِيرُ فائِدَةٍ بِأيِّ تَفْسِيرٍ فُسِّرَ (الإذْنُ) وأمْرُ التَّفْكِيكِ سَهْلٌ؛ لِأنَّهُ بَعْدَ إقامَةِ المُضافِ إلَيْهِ مَقامَ المُضافِ لِلتَّشْرِيفِ بِجَعْلِ فِعْلِ الأوَّلِ فِعْلًا لِلثّانِي صُورَةً فَتَتَناسَبُ الضَّمائِرُ - كُما في الكَشْفِ ولا يَخْفى ما فِيهِ - وعَلى العِلّاتِ هو أوْلى مِمّا قِيلَ: إنَّ المُرادَ ( واللَّهُ يَدْعُو ) عَلى لِسانِ رَسُولِهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - إلى ذَلِكَ فَتَجِبُ إجابَتُهُ بِتَزْوِيجِ أوْلِيائِهِ؛ لِأنَّهُ وإنْ كانَ مُسْتَدْعِيًا لِاتِّحادِ المَرْجِعِ في الجُمْلَتَيْنِ المُتَعاطِفَتَيْنِ الواقِعَتَيْنِ خَبَرًا، لَكِنْ يَفُوتُ التَّعْلِيلُ وحُسْنُ المُقابَلَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ ﴿أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلى النّارِ﴾ وكَذا لَطافَةُ التَّقْيِيدِ كَما لا يَخْفى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب