الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ قرئ (البرُّ) رفعًا ونصبًا [[قرأ حمزة وحفص: بالنصب، وقرأ الباقون: بالرفع. ينظر: "النشر" 2/ 226.]]، وكلتا القراءتين حَسَن؛ لأن اسم ليس وخبرها، اجتمعا في التعريف، فتكافآ في كون أحدهما اسمًا، والآخر خبرًا، كما يتكافأ النكرتان. وحجة من رفع (البر): أن اسم ﴿لَيْسَ﴾ مشبهة بالفاعل وخبرها بالمفعول، والفاعل أن يلي الفعل أولى من المفعول، كما تقول: قام زيد، فيلي الاسم الفعل، وإذا قدمت المفعول كان النيةُ به التأخير، كما تقول: ضرب غلامَه زيدٌ [[من "الحجة" لأبي علي 2/ 270 بمعناه.]]. ومن نصب البر، ذهب إلى أن بعض النحويين قال: أَنْ مع صلتها أولى أن تكون اسم ليس؛ لشبهها بالمضمر، في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر، وكان هاهنا اجتمع مُضْمَرٌ ومظهر، والأولى إذا اجتمعا أن يكون المُضْمَرُ الاسم، من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر، فكذلك إذا اجتمع (أن) مع مظهر غيره كان أن يكون (أن) [[(أن) ليست في (ش).]] الاسم، والمظهرُ الخبرُ أولى [["الحجة" لأبي علي 2/ 271، وينظر: "معاني القرآن" للزجاج.]]، وعلى هذا قرئ في التنزيل قوله: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)﴾ [الحشر: 17]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ [الأعراف: 82] ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ [الجاثية: 25]، والاختيار رفع البر؛ لأنه روي عن ابن مسعود أنه قرأ: ليس البرُّ بأن [[رواه الثعلبي بسنده عن عبد الله، وأبي بن كعب. وينظر: "معاني القرآن" للفراء، "المحرر الوجيز" 2/ 78، "تفسير القرطبي" 2/ 220، ونسب القراءة لأبي بن كعب أيضًا، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 2.]]، والباء تدخل في خبر ليس. واختلف المفسرون في هذه الآية على وجهين: فقال قتادةُ [[رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 66، والطبري 2/ 94.]] والربيع [[رواه عنه الطبري 2/ 95 واختاره، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 287.]] ومقاتل [[لعل المراد به هنا مقاتل بن حيان، كما هو عند الثعلبي، وقد روى عنه ابن أبي حاتم 1/ 287 ما يوافق القول الثاني.]]: عنى الله بهذه الآية: اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود كانت تصلي قِبَلَ المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قِبَلَ المشرق، وزعم كل طائفة أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر غيرُ دينهم وعملهم، ولكنه ما بينه في هذه الآية. فقال ابن عباس [[رواه عنه الطبري 2/ 94، وابن أبي حاتم 1/ 387.]]، ومجاهد [[السابق.]]، والضحاك [[السابق.]]، وعطاء [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 143، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 178، وأبو حيان في "البحر المحيط" 2/ 2.]]: المراد به المؤمنون، وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد الشهادتين، وصلى إلى أي ناحية [[في (م): (جهة).]] كانت، ثم مات على ذلك، وجبت له الجنة، فلما هاجر رسول الله ﷺ، ونزلت الفرائض، وحُدَّتْ الحدود، وصرفت القبلة إلى الكعبة، أنزل اللهُ هذه الآية، فقال: ليس البرُّ كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البرَّ ما ذكر في الآية [[رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 94 عن قتادة، وعزاه السيوطي في "الدر" 1/ 310 إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 140 - 141.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ ﴿الْبِرَّ﴾ مصدر، ولا يخبر عن المصادر بالأسماء ومَنْ اسم. واختلف النحويون وأهل المعاني في وجهه. وقال أبو عبيدة: البر، هاهنا، بمعنى: البار [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 65، و"تفسير الطبري" 2/ 95، "تفسير الثعلبي" 2/ 147.]]، والفاعل قد يسمى بالمصدر، كما يسمى المفعول به، ومنه قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30]. أي: غائرًا. وقالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار [[صدر البيت: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت والبيت في "ديوان الخنساء" ص 383، "الشعر والشعراء" ص 215.]] أي: مقبلة ومدبرة. وقال آخر: هَرِيقي مِنْ دمُوعهما سِجاما ... ضُباعَ وجَاوبِي نَوْحًا قيامًا [[في (م): (سقاقًا .. حاوي)، وفي (ش): (صباع .. وجاوني).]] [[البيت في "مجاز القرآن" 1/ 404 بلا نسبة، بل قال: وقال باكٍ يبكي هشامَ بن المُغيرة. والطبري 15/ 249، والقرطبي 10/ 409، و"شرح أبيات سيبويه" 1/ 94، 354.]] أراد: نائحاتٍ قائماتٍ. ومثله قوله: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132] أي: للمتقي. وحكى الزجَّاجُ أن معناه: ذا البر، فحذف [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 65.]]، كقوله: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 163]، أي: ذوو درجات [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1248، "البيان في إعراب القرآن" لأبي البركات الأنباري 1/ 139.]]. وقال قطرب [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1248، "البحر المحيط" 2/ 3، قال: وعلى هذا خرجه سيبويه. ينظر: "الكتاب" لسيبويه 1/ 212، وهو اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 95.]] والفراء [["معاني القرآن" للفراء. 1/ 105.]]: معناه: ولكن البرَّ برُّ من آمن، فحذف المضاف، وهو كثير في الكلام، كقوله: ﴿وَأُشرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ اَلعِجلَ﴾ [البقرة: 93] و ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: 82] ويقولون: الجود حاتم، والشعر زهير، والشجاعة عنتر. وقال النابغة: وكيف تواصل من أصبحت ... خِلالتُه كأبي مرحب [[البيت في "ديوانه" ص 26، "لسان العرب" 3/ 1607 (رحب).]] قال الفراء: والعرب تخبر عن الاسم بالمصدر، وعن المصدر بالاسم، وتجعل الاسمَ خبرًا للفعل، والفعلَ خبرًا للاسم؛ لأنه أمر معروف المعنى عندهم [[سقطت من (ش).]]، وحكي عن العرب أنهم يقولون: إنما البِرُّ الصادقُ [[سقطت من (ش).]]: الذي يصل رحمه، ويخفي صدقته، فيجعلون الاسم خبرًا للفعل، وأما الأفعال التي جعلت أخبارًا للأسماء، فقولُ الشاعر: لَعَمْرُك ما الفتيان أن تَنْبُتَ اللّحى ... ولكنما الفتيانُ كلُّ فَتًى نَدِيّ [[قال البغدادي في شرح أبيات "مغني اللبيب": البيت ملفق من مصراعين من أبيات لابن بيض، وهي: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ... وتعظم أبدان الرجال من الهبر ولكنما الفتيان كل فتى ندي ... صبور على الآفات في العسرِ واليُسْرِ وقد ذكره غير منسوب الفراء في "معاني القرآن" 1/ 104، الثعلبي في "تفسيره" 2/ 145، "أمالي المرتضى" 1/ 201، "شرح شواهد المغني" 2/ 264، "مغني اللبيب" 2/ 691.]] فجعل نباتَ اللِّحى، وهو مصدر، خبرًا للفتيان [["معاني القرآن" 1/ 104 - 105 للفراء بمعناه.]]. قال ابن الأنباري: ولا يجوز القياس على هذا، وإنما يستعمل في مثل هذا ما استعملته العرب، لا يجوزُ أن تقولَ: الرُّكوب عبد الله؛ لأن هذا [[ليست في (أ)، (م).]] من المجاز، والمجاز لا يقاس بعضه على بعض، إلا أن يُوصفَ رجلٌ بحسن الركوب فيصير عَلَمًا فيه، فيقال فيه: الرُكوبُ عبدُ الله، كما يقال: الجُودُ حاتم، ولا يقاس على المشهور ما ليس بمشهور. قال أبو علي: ومثل هذه الآية قوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾. ثم قال: ﴿كَمَنْ آمَنَ﴾ [التوبة:19]، وهذا على: أجعلتم أهل سقاية حاج كمن آمن أو أجعلتم سقاية الحاج [[الجملة من قوله: (ثم قال ..) سقطت من (ش).]] كإيمان من آمن، ليقع التمثيل بين حَدَثَيْن، أو بين فَاعِلَيْن، إذ لا يقع التمثيل بين [[في (م): (من).]] حدث وفاعل [[ينظر: "التفسير الكبير" للرازي 5/ 39.]]. وقوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ﴾ يريد: الكُتُب، قاله ابن عباس [["تفسير الثعلبي" 2/ 149، وقال الزمخشري في "الكشاف" 1/ 109: والكتاب: جنس كتب الله، أو القرآن. ينظر: "تفسير الرازي" 5/ 37.]]. وقوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ الأكثرون [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 95، 96، و"تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 288، "المحرر الوجيز" 2/ 80، "البحر المحيط" 2/ 5، وقال: لأنه أقرب مذكور، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل.]] على أن الكناية في الحب راجعة إلى المال، والتقدير [[سقطت من (ش).]]: وآتى المال على حب [[في (ش): (حبه).]] المال، فأضيف الحب إلى المفعول، كما تقول: اشتريت طعامي كاشتراء طعامك. قال ابن عباس [[عزاه إليه في "التفسير الكبير" 5/ 39.]] وابنُ مسعود [[رواه عنه ابن المبارك في "الزهد" ص 8، وعبد الرزاق في "المصنف" 9/ 55، وسعيد بن منصور 2/ 648، والطبري في "تفسيره" 2/ 95، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 288، وبمعنى هذا: حديث أبي هريرة مرفوعًا، رواه البخاري (1419) كتاب الزكاة، باب: أي الصدقة أفضل، ومسلم (1032) كتاب الزكاة، باب: بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح.]]: هو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح. وهذا التفسير يقوي رجوع الكناية إلى المال. وقال ابن الأنباري: يجوز أن تكون الهاء عائدة على ﴿مَنْ﴾ في قوله: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ فيكون المصدر مضافًا إلى الفاعل، وتُرِكَ ذكرُ المفعول معه، لانكشاف المعنى. قال: ويجوزُ أن يعودَ إلى الإيتاء، أي: على حُب الإيتاء، (وآتى) يدل على الإيتاء؛ لأن الفعل يدل على المصدر، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا﴾ [آل عمران: 180]، أي: البخل، كنى عنه؛ لأن (يبخلون) يدل عليه، ومثله قولُ القَطَامي: هُمُ الملوكُ وأبناءُ المُلوكِ هُمُ ... والآخذون به والسَّاسَةُ الأُوَلُ [[البيت من البسيط، وهو بهذه الصيغة للنابغة في "ديوانه" ص 75، "لسان العرب" 1/ 119مادة (ألا).]] أراد: والآخذون بالملك، ودلَّ (الملوكُ) عليه، فكنى عنه، وأنشد الفراء [["معاني القرآن" للفراء 1/ 104 - 105.]]: إذا نُهي السفيهُ جرى إليه ... وخَالف والسفيهُ إلى خلاف [[تقدم تخريج البيت عند تفسير [البقرة: 177].]] أي: إلى السفه، ويكون المعنى على هذا الوجه: لا يعطيه وهو متسخِّط، وهذا الوجْهُ اختيارُ الحسين بن الفضل [["تفسير الثعلبي"، 2/ 150 "المحرر الوجيز" 2/ 81، "زاد المسير" 1/ 177، "البحر المحيط" 2/ 5، وقال عن هذا القول: إنه بعيد من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ: فإنه يعود على غير مصرح به، وعلى أبعد من المال، وأما المعنى: فلأن من فعل شيئًا وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك؛ لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها.]]. وقوله تعالى: ﴿وَابْنَ اَلسَّبِيلِ﴾ قال مجاهد: هو المنقطع من أهله يَمُرُّ عليك [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 97، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 290، وروى مثله عن قتادة.]]. وقال قتادة: هو الضيفُ ينزل بالرجل [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 97، وذكره ابن أبي حاتم 1/ 289، وأسنده عن ابن عباس، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 81: والأول أعم.]]. قال أهل المعاني: كل مسافر من حاجٍّ وغازٍ وغيرهما، فهو ابن السبيل؛ لملازمته الطريق، وكل من لزم شيئا نسب إليه، فيقال للشجعان: بنو الحروب، وللناس: بنو الزمان؛ لأنهم لا يَنْفَكُّون منه، ولطيرِ الماءِ: ابنُ الماء، وهو كثير [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 97، "المحرر الوجيز" 2/ 81.]]. وقوله تعالى: ﴿وَفِى اَلرِّقَابِ﴾ قال ابن عباس: يريد المكاتبين [[عزاه إليه ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 178، قال وهو مروي عن علي== والحسن وابن زيد والشافعي، ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 290 عن سعيد ابن جبير ومقاتل بن حيان والحسن والزهري، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 98، وقد حكى الواحدي في "الوسيط" أن جميع المفسرين قالوا: يريد به المكاتبين، والمفسرون ذكروا الخلاف على أربعة أقوال: المكاتبون، وأنهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون، وفداء الأسرى، وجميع هؤلاء، وهذا قول ابن عطية وابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 60، واستظهره أبو حيان في "البحر" 2/ 6. ينظر: "الإجماع في التفسير" ص 195.]]، ويكون التقدير: وفي غزو الرقاب. وقيل: فداء الأسارى، وعتق النسمة، وفك الرقبة [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1249، "المحرر الوجيز" 2/ 81، "الكشاف" 1/ 109، وقال في "زاد المسير" 1/ 179: رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وأبو عبيد وأبو ثور، وعنه كالقولين.]]، والرقاب: جمع الرقبة، وهو مُؤَخَّر أصل العنق، واشتقاقها: من المراقبة، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم؛ ولهذا المعنى يقال: أعتق الله رقبته، ولا يقال: أعتق الله عُنَقَه، لأنها لما سميت رقبةً كانت كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد: رَقُوب؛ لأجل مراعاتها موتَ ولدِها [[ينظر في الرقاب: "المفردات" ص 206، "اللسان" 3/ 1701 (رقب)، والكلام بنصه عند الرازي في "تفسيره" 5/ 42.]]. وقوله تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ قال المفسرون: أراد: فيما بينهم وبين الله، وبينهم وبين الناس، إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حَلَفُوا ونَذَروا وَفَّوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا ائتمنوا أدَّوا [["تفسير الثعلبي" 2/ 166، وينظر: "تفسير الرازي" 5/ 43، "تفسير القرطبي" 2/ 225.]]. ارتفع قوله: ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ بالعطف على محل (مَنْ) في قوله: {مَنْ آمَنَ} وهو رفع؛ لأنه خبر لكن، كأنه: ولكن البر من آمن بالله والموفون، أو على المدح على أن يكون خبر ابتداء محذوف، تقديره: وهم الموفون [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 247، "تفسير الثعلبي" 2/ 167، "التفسير الكبير" 1/ 42، "التبيان" ص 112، وذكر وجهًا ثالثًا: وهو أن يعطف (الموفون) على الضمير في (آمن).]]. وقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ قال الكسائي: هو معطوف على ذوي القُربى، كأنه: وآتى المال على حبه ذوي القربي والصابرين [["معاني القرآن" للفراء 1/ 107، قال: وإنما امتنع من مذهب المدح -يعني الكسائي- الذي فسرت لك؛ لأنه قال: لا ينصب الممدوح إلا عند تمام الكلام، ولم يتمم الكلام في سورة النساء، ألا ترى أنك حين قلت: (لكن الراسخون في العلم منهم) - إلى قوله: (والمقيمين والمؤتون)، كأنك منتظر لخبره، وخبره في قوله: (أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً). والكلام أكثره على ما وصف الكسائي، ولكن العرب إذا تطاولت الصفة جعلوا الكلام في الناقص والتام كالواحد وينظر أيضا: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 231، وقال: وهذا القول خطأ بين.]]. قال النحويون: إذا عطفت قوله: (والموفون) على الموصول وهو قوله: (من) لا يجوز أن يكون (الصابرين) مِنْ صلة (مَنْ) وقوله: (وآتى المال)، مِنْ صلة (مَنْ)، فإذا نصبت الصابرين بقوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾، على ما ذكره الكسائي فقد جعلت ﴿وَالْصَّابِرِينَ﴾ من تمام الصلة، ولا يجوز هذا؛ لأنك قطعت ذلك الكلام بالعطف على (مَنْ)، حيث عطفت عليه قوله: ﴿وَالْمُوفُونَ﴾، ولا يجوز العطف على الموصول حتى ينقضي بصلته، كما لا يؤكد ولا يوصف إلا بعد انقضائه بجميع صلته؛ لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد، ومحالٌ أن يوصف الاسم، أو يؤكد، أو يعطف عليه، إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه وما يتصل به، فلا يجوز إذن أن يكون ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ عطفا على قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾. واذا كان قوله: ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ عطفا على الموصول؛ لأن قولَه: ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ على هذا من تمام الموصول، فلا يجوز الفصل بينه وبين الموصول بالمعطوف على الموصول، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: مررت بالضاربين وقوم زيدًا، حتى تقدم زيدًا على القوم، وكذلك سبيل التأكيد والصفة، لو قلت: أعجبني كلامُكَ كلُّه زيدًا، أو أعجبني كلامُك الحسن زيدًا، لم يجز؛ لوصفك الاسم وتأكيدك قبل تمامه بما في صلته. وإن جعلت قوله: ﴿وَالْمُوفُونَ﴾ رفعًا على المدح على ما ذكرنا، لم يصح أيضا قول الكسائي؛ لأن الفصل بين الصلة والموصول يقع به إذا كان مدحًا، كما يقع إذا كان معطوفًا على الموصول، بل الفصل بينهما بالمدح أشنع؛ لكون المدح جملة، والجمل ينبغي أن تكون في الفصل أشنع بحسب زيادتها على المفرد [[ذكر هذا بمعناه الرازي في "تفسيره" 5/ 44.]]. فإن قيل: أليس جاز الفصلُ بين المبتدأ والخبر بالجملة، كقول القائل: إن زيدًا -فافهم ما أقول- رجلُ صدقٍ، وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: 30]. ثم قال: ﴿أُولَئِكَ﴾ ففصل بين المبتدأ والخبر بقوله: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ﴾؟ قيل: ليس الصلة مع الموصول كالمبتدأ مع الخبر؛ لأن اتصال كل واحد منهما بالآخر أشد من اتصال المبتدأ وخبره، لأن مجراهما مجرى حروف الاسم الواحد وأجزائه، وعلى حسب شدة الاتصال يقبح الانفصال، وليس كذلك المبتدأ مع خبره، ألا ترى أنَّ كل واحد منهما ليس كَجُزْء [[في (ش): (ليس كَجَسر الآخر).]] الآخر. وإذا كان الأمرُ على ما ذكرنا، لم يَجُزْ الفصل بين بعض الصلة وبعض؛ لأن عطفَك على الموصول بالمفرد والجملة وتأكيدَك إياه ووصفَك له وإبدالَك منه يؤذن كل ذلك بالتمام والانقضاء، فلا يسوغ أن يذكر ما يؤذن بالتمام ويدل عليه ثم يتم بعد؛ لأن ذلك نَقْصٌ وفساد [[ذكر هذا بمعناه الرازي في "تفسيره" 5/ 44.]]. فأما [[في (ش): (وأما).]] قول الشاعر: ذاك الذي وأبيك يَعرِف مالكٌ ... والحقُّ يَدفَع تُرَّهاتِ الباطلِ [[البيت لجرير في "ديوانه" ص580، "لسان العرب" 1/ 431 (تره).]] ففصل بين الصلة والموصول بالقسم، وهو جملة؛ لأن القسم، وإن كان في الأصل جملة، فإنه لا توصف به النكرة، ولا توصل به الموصول، كسائر الجمل، فالفصلُ بها -لجريها مجرى غير الجمل في هذه المواضع- أسهَل وأسْوَغ من الفصل بغيره؛ لمخالفة القسم سائر الجمل. وأيضًا فإن للقسم مداخل ليس لغيره من الجمل، ألا ترى أن القسم قد دخل بين الشرط وجزائه في نحو: إن تأتنى والله آتك، ولا يدخل عليه غيره من الجمل. فالقسم مما [[في (م): (ما).]] قد اتسع بالفصل فيه؛ لكثرته، ويقع مواقع لم يقع غيره، فلا يلزم إذا اتسع فيه ففصل به أن يفصل بغيره. ألا ترى أنهم اتسعوا في الفصل بالظرف، ففصلوا به بين إن واسمها، وليس يوجب فصلهم بذلك فصلهم بغيره. وكذلك يجوز الفصل بالقسم في الصلة، ولا يجوز ذلك في غيره، فبان [[في (ش): (فان).]] بما ذكرنا أنه لا وجه لقول الكسائي، وهذا كله كلام أبي علي. ثم قولُ الكسائي ضعيف أيضا في المعنى؛ لأنه يَضْعُفُ أن يُقَال: معنى الآية: ولكن البرّ من آمن بالله وآتى الصابرين. والصحيح: أنَّ ما بعد ﴿آمَنَ﴾ تَعدادٌ لأفعال ﴿مَنْ آمَنَ﴾ وأوصافه. والوجه في نصب ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ قولُ الفراء، وهو أنه ذهب به إلى المدح، وإن كان مِنْ صفة ﴿مَنْ﴾، والعرب تعترض في صفات الواحد إذا تطاولت بالمدح أو الذم، فينصبون بعض المدح، وإن كان الاسم رفعًا، كأنهم ينوون إخراج المنصوب بمدح مجدد غير متبع لأول الكلام، من ذلك قولُ الشاعر: لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْر النازلينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطيبين معاقِدَ الأزْرِ [[البيتان لخرنق بنت بدر بن هفَّان، ترثي زوجها ومن قتل معه، في "ديوانها" ص 43، "معاني القرآن" للفراء، "لسان العرب" 7/ 4454 (نضر). وفي "الكتاب" لسيبويه 2/ 64، لكن قال: (والطيبون) قال الفراء: وربما رفعوا (النازلون) (الطيبون)، وربما نصبوهما على المدح، والرفع على أن يُتْبَعَ آخرُ الكلام أوّلَه.]] فنصبوا النازلين والطيبين على المدح. وأنشد أيضا: إلى الملك القَرْمِ وابنِ الهمام ... وليثَ الكتيبةِ في المُزْدَحمْ [[البيت بلا نسبة في "معاني القرآن" للفراء 1/ 105، "الإنصاف" ص 376، "الخزانة" 1/ 216. والقَرْم: السيد المعظم.]] فنصب ليثَ الكتيبة على المدح، والاسم قبله مخفوض [[من "معاني القرآن" للفراء 1/ 106 بتصرف، واختاره الطبري في "تفسيره" 2/ 100.]]. وقال أبو علي مختارًا هذا القول: الأحسن عندي في هذه الأوصاف التي تعطف وتذكر للرفع من موصوفها والمدح أو النقص منهم والذم: أن يخالف [[في (ش): (لا تخالف).]] بإعرابها، ولا يجعل كلها جارية على موصوفيها؛ لأن هذه المواضع من مواضع الإطناب في الوصف، والإبلاغ في القول، فإذا خُولِفَ بإعراب الأوصاف كان أشدَ وأوقعَ فيما يعني لضرورةِ الكلام، وكونه بذلك ضروبًا وجملًا [[في (م): (وحولًا).]]، وكونه في الإجراء على الأول وجهًا واحدًا وجملةً واحدة [[نقله عنه الرازي في "تفسيره" 5/ 45، ونقله في "البحر المحيط" 2/ 7 - 8.]]. ونص سيبويه في قوله: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ [النساء: 162]، أنه نصبٌ على المدح. انتهى كلامه [["الكتاب" لسيبويه 2/ 63 - 65.]]. ومعنى المدحِ والذمِّ في النحو: أن العربَ لما أطنبت في وصفٍ بمدح أو ذم سلكت طرقًا، وأتت بأوصاف كثيرة، فلذلك خالفت بإعراب الأوصاف، تنويهًا بالموصوف وتنبيهًا على المراد، كأنهم ظنوا أنهم لو أجروا الأوصافَ على نحوٍ واحدٍ، كانوا قد أَتوا بوصفٍ واحدٍ. وأما علة اختلاف الحركة في المدح والذم: فقال الفراء: أصل المدح والذم من كلام السامع، وذلك أن الرجل إذا أخبر الرجل، فقال له: قام زيد، أثنى السامع عليه، فقال: ذكرت والله الظريف، ذكرت العاقل، وهو والله الظريف، هو العاقل، فأراد المتكلم أن يمدحه بمثل ما مدحه به السامع، فجرى الإعراب على ذلك [[نقله الرازي في "تفسيره" 5/ 45، وينظر: "الكتاب" لسيبويه 2/ 65.]]. وقال الخليل: المدح والذم ينصبان على معنى: أعني الظريفَ [[نقله الرازي في "تفسيره" 5/ 45.]]. وأنكر الفراء هذا القول [[ليست في (أ)، (م).]]، وقال: (أعني) إنما تقع تفسيرًا للاسم المجهول، والمدح يأتي بعد المعروف، ولو اطرد لنا إضمار (أعني) لأجزنا [[في (ش): (لأجرينا).]]: قام زيدٌ أخاك، على معنى: أعني أخاك، وهذا لا يقوله [[في (ش): (بالتاء وفيهما).]] العرب أصلًا [[نقله الرازي في "تفسيره" 5/ 45.]]. قال: والذم بمنزلة المدح، يقال: مررت بزيدٍ الخبيثِ، والخبيثَ، ومن هذا: قوله عز وجل ﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ﴾ [المسد: 4]. وقد تدخل الواو على المنصوب على المدح والذم ويكون [[في (ش): (بالتاء).]] نكرةً، فيقال: مررت برجل ينصفُ من يُناظرهُ، وعاقلًا لبيبًا عالمًا، قال الشاعر: ويأوي إلى نسوة عُطَّلٍ ... وشُعثًا مراضيعَ مثل السَّعَالِي [[البيت، وهو لأمية بن أبي عائذ الهذلي، في "شرح أشعار الهذليين" 2/ 507، ذكره الفراء في "معاني القرآن" 1/ 108ولم ينسبه، وفي "لسان العرب" 3/ 1661 (رضع). ويروى: وشعث على النعت كما ذكر الفراء. وهذا البيت في وصف صائد وإعساره. وعطل: هن اللواتي لاحلي عليهن، وشعث: جمع شعثاء، وشعثها من قلة التعهد بالدهن والنظافة. والسعالي: ضرب من الغيلان، الواحد: سعلاة.]] فنصب شعثًا على الذم. وقال آخر: إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليثَ الكتيبة في المزدحم [[سبق تخريج البيت.]] فنصب ليثَ على المدح. وقوله تعالى: ﴿فِي الْبَأْسَاءِ﴾ قال ابن عباس: يريد الفقر، وهو اسم من البؤس. (والضراء) قال: يريد المرض [[ذكره ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 291، ورواه الطبري في "تفسيره" 2/ 99، عن ابن مسعود والربيع وقتادة والضحاك وابن جريج.]]. وهما اسمان على فعلاء ولا أَفْعل لهما؛ لأنهما ليسا بنعتين [["تفسير الثعلبي" 2/ 170، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 100، "التفسير الكبير" للرازي 5/ 45.]]. (وحين البأس) قال ابن عباس: يريد القتال في سبيل الله والجهاد [[رواه الطبري 2/ 101، وابن أبي حاتم 1/ 292 عن ابن مسعود ومجاهد وقتادة والربيع والضحاك وسعيد بن جبير والحسن وأبي العالية ومرة ومقاتل بن حيان.]]. ومعنى البأس في اللغة: الشدة، يقال: لا بأس عليكم في هذا، أي: لا شدة ولا حرج، ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعراف: 165]، شديد، ثم تسمى الحرب بأساء لما فيها من الشدة، والعذاب يسمى بأسًا لشدته، قال الله: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: 84] وقال: ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا﴾ [الأنبياء: 12] وقال: ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ﴾ [غافر: 29] كل هذا معناه: العذاب [[ينظر في معاني البأس: "تهذيب اللغة" 1/ 255 (بأس)، "المفردات" ص 75، "التفسير الكبير" 5/ 45.]]. وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ أي: أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 101، "تفسير الثعلبي" 2/ 171، "المحرر الوجيز" 2/ 82.]]. وهذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع، فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن يجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر، فلا يظنن ظان أن الموفي بعهده على انفراد هذا الوصف فيه من جملة من قام بالبر، وكذا الصابر في البأساء حتى يستكمل هذه الأوصاف، وقد تدخل الواو في الأوصاف لموصوف واحد بقوله: إلى الملك القرم ......... [[تقدم تخريج البيت.]] البيت الذي أنشدناه آنفًا، دخلت الواو في هذه الأوصاف وهي لموصوف واحد. ولهذه النكتة اختلف السلف في هذه الآية، فقال بعضهم: هذه الصفة خاصة بالأنبياء؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها، وقال بعضهم: هذه عامة في جميع المؤمنين [[نقله بتمامه الرازي في "تفسيره" 5/ 45 وصرح فيه بالنقل عن الواحدي.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب