الباحث القرآني
قال اللهُ تعالى: ﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسّائِلِينَ وفِي الرِّقابِ وأَقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ فِي البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: ١٧٧].
لمّا تحوَّلَ النبيُّ ﷺ عن قِبْلةِ أهلِ الكتابِ ـ وهي بيتُ المَقْدِسِ ـ إلى مكةَ، ضاقَ ذلك عليهم، وعلى اليهودِ خاصَّةً، ورأَوْا أنّهم كانوا على شيءٍ مِن الحقِّ والبِرِّ، فانحرَفُوا عنه.
و«البِرُّ»: هو شدةُ الإحسانِ، والصِّدْقُ في إصابةِ الحقِّ[[ينظر: «تهذيب اللغة» (١٥/١٣٨).]].
وهذه الآيةُ خطابٌ لأهلِ الكتابِ وللذين آمَنُوا: أنّ الجهةَ التي يوجِّهُ اللهُ إليها ليست بِرًّا لِمَن لا يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، ويقومُ بأعمالِ البِرِّ والعبادةِ، وقولُ اللَّهِ تعالى: ﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾، أيْ: ليستِ العِبرةُ بالجهاتِ، فهذا فرعٌ عن الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخِرِ وملائكتِهِ وكُتُبِهِ والنبيِّينَ، ومَن تمسَّكَ بالجهةِ فقطْ وجعَلَها علَمًا على البِرِّ ولو كفَرَ الإنسانُ، فهذا مخطِئٌ.
روى ابنُ جريرٍ، عن حَجّاجٍ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: هذه الآيةُ نزَلَتْ بالمدينةِ: ﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾، يعني: الصلاةَ، يقولُ: ليس البِرَّ أنْ تُصَلُّوا ولا تَعمَلُوا غيرَ ذلك[[«تفسير الطبري» (٣/٧٥).]].
روى ابنُ جريرٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ: ﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾، ولكنَّ البِرَّ ما ثبَتَ في القلوبِ مِن طاعةِ اللهِ[[«تفسير الطبري» (٣/٧٤).]].
فاللهُ تعالى أرادَ بالتوجيهِ إلى الكعبةِ بدلًا مِن بيتِ المَقْدِسِ النظرَ في الامتثالِ لأمرِهِ ومقدارِ الإيمانِ به، وهذا نظيرُ قولِه تعالى: ﴿لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنكُمْ﴾ [الحج: ٣٧]، فاللهُ أمَرَ بالنَّحْرِ له، والمرادُ مِن ذلك: ظهورُ التَّقْوى والامتثالِ.
وإنّما ذكَرَ اللهُ المشرقَ والمغرِبَ، لأنّهما أشهَرُ الجهاتِ ذِكْرًا، وأراد بذلك: عمومَ الجهاتِ.
وقال بعضُ المفسِّرينَ ـ كالحسَنِ، وأبي العاليةِ، وقتادةَ، والرَّبِيعِ بنِ أنسٍ ـ: «إنّ المرادَ بذلك المشرِقُ قِبْلةُ النصارى، والمغرِبُ قِبْلةُ اليهودِ»:
قال أبو العاليةِ: «كانتِ اليهودُ تُقبِلُ قِبَلَ المغرِبِ، وكانتِ النصارى تُقبِلُ قِبَلَ المشرِقِ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٢٨٧).]].
وروى عبدُ الرزّاقِ ـ وعنه ابنُ جريرٍ ـ عن مَعْمَرٍ، عن قَتادةَ، قال: كانتِ اليهودُ تصلِّي قِبَلَ المغرِبِ، والنصارى تصلِّي قِبَلَ المشرِقِ، فنزَلَتْ: ﴿لَيْسَ البِرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ [[«تفسير الطبري» (٣/٧٥ ـ ٧٦).]].
ونفيُ البِرِّ عن استقبالِ الجهاتِ كلِّها ومنها الكَعْبةُ، إنّما هو نفيٌ لاستقبالٍ غيرِ مقترِنٍ بأسبابِ التوجيهِ مِن اللهِ، كالإيمانِ باللهِ ورُسُلِهِ، فذاتُ الاستقبالِ متجرِّدًا عن الإيمانِ ليس بِرًّا.
وقد جمَعَ اللهُ في هذه الآيةِ جميعَ أنواعِ البِرِّ في العباداتِ: العبادةِ القلبيَّةِ، وهي الإيمانُ: قولُ القلبِ وعملُه، والعبادةِ اللسانِيَّةِ، وهي فعلُ اللسانِ، وهي لازمُ الأولِ، والعبادةِ البدنيَّةِ، كالصلاةِ، والعبادةِ الماليةِ، وهي النفقةُ.
مِن ضلالِ الأُممِ جهلُ الأولويّات:
وإنّما ضلَّ أهلُ الكتابِ بجهلِهم بالأولويّاتِ في الدِّينِ، وهكذا تَضِلُّ الأممُ إذا كان لدَيْها دِينٌ أو قانونٌ، فتَضَعُ الأصولَ مكانَ الفروعِ، والعكسَ، وتقدِّمُ وتؤخِّرُ بالهَوى، والنفسُ إذا أحبَّتْ شيئًا، عظَّمَتْهُ والتمَسَتْ ما يعضُدُهُ مِن الأدلةِ، حتى يتضخَّمَ عملُها في نفسِها فتَرى أنّها أدرَكتْ كلَّ الخيرِ، والحقيقةُ أنّها لم تتجاوَزْ قَدْرَهُ المعتبَرَ إلا وهْمًا في نفسِها.
وحينَما تضيِّعُ الأمَّةُ الأصولَ، تتشبَّثُ بالفروعِ، تَسْلِيَةً لنفسِها أنّها باقيةٌ على شأنِها.
ومِن أعظمِ مهمّاتِ العالِمِ: إعادةُ المراتبِ إلى وضعِها الصحيحِ، وتصحيحُ الخَلْطِ فيها، وقطعُ الطريقِ على شهوةِ السُّلْطانِ وهَوى النفسِ.
وكثيرٌ مِن الناسِ يجعلونَ مراتبَ الشرائعِ حسَبَ أهوائِهم، فما أحبَّتْهُ النفسُ وسَهُلَ عليها تحقيقُهُ، رَفَعُوه، وما شَقَّ عليها، بحَثُوا عن أسبابِ تجاهُلِهِ ووضعِهِ عن مرتبتِهِ، قال تعالى: ﴿أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الحَآجِّ وعِمارَةَ المَسْجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١٩]، قريشٌ تُحِبُّ سقايةَ الحاجِّ وعِمارةَ المسجدِ الحرامِ، لأنّ لها به جاهًا، ولأنّه يحفظُ مكانتَها بين الناسِ، فقدَّمَتْهُ وبالَغتْ فيه، وفرَّطَتْ في توحيدِ اللهِ وعبادتِه.
وقولُ اللَّهِ تعالى: ﴿وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى﴾، يعني: أعطى المالَ وهو مُحِبٌّ له محتاجٌ إليه، وهذا بيانٌ لتمكُّنِ حبِّ المالِ، وكثيرًا ما يأتي في الشرعِ بيانُ منزلةِ الصَّدَقةِ، وأنّها تتباينُ بحَسَبِ منزلتِها وقيمتِها عندَ صاحِبِها.
ومِثلُ هذه الآيةِ قولُهُ: ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا﴾ [الإنسان: ٨]، وقولُهُ: ﴿لَنْ تَنالُوا البِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢].
روى وكيعٌ، عن الأعمشِ، وسُفْيانُ الثوريُّ، عن زُبَيْدٍ، كلاهما عن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ، قال في قوله تعالى: ﴿وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ﴾: «أنْ تُعْطِيَهُ وأنتَ صحيحٌ شحيحٌ، تأمُلُ العيشَ، وتخشى الفقرَ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٢٨٨).]].
ورُوِيَ مرفوعًا، من حديثِ شُعْبةَ والثوريِّ، عن منصورٍ، عن زُبَيْدٍ، عن مُرَّةَ، به[[أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٣٠٧٨) (٢/٢٧٢).]]، والوقفُ أشبهُ بالصوابِ.
والذي يُنفِقُ المالَ وهو يُحِبُّهُ ليس كمَن يُنفِقُهُ وهو زاهدٌ فيه، وبقدرِ حبِّ النفسِ له يعظُمُ أجرُهُ.
وفي «الصحيحَيْنِ»، وغيرِهما، مِن حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ: سُئِلَ: أيُّ الصَّدَقَةِ أعْظَمُ أجْرًا؟ قالَ: (أنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنى) [[أخرجه البخاري (١٤١٩) (٢/١١٠)، ومسلم (١٠٣٢) (٢/٧١٦).]].
أفضلُ الصدقةِ وحكمُ إعطاءِ السائلِ:
وأفضلُ أنواعِ الصدقةِ: الصدقةُ التي يُخرِجُها الإنسانُ وهو مضطَرٌّ محتاجٌ إليها، وهذا هو الإيثارُ، قال تعالى: ﴿ويُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩]، والخَصاصةُ: الحاجَةُ.
وذكَرَ اللهُ مَن يُنفَقُ عليه، وقدَّم أفْضلَهم وأَوْلاهم بمالِ الإنسانِ، وهم قرابتُهُ، لأنّ النفقةَ عليه صَدَقةٌ وصِلَةٌ، فيتصدَّقُ ويَصِلُ رحِمَهُ، ويؤلِّفُ قلبَه، ويَسُلُّ سَخِيمَتَه.
وبيَّنَ اللهُ مراتبَهم في مواضعَ، كقولِهِ: ﴿يَسْأَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ٢١٥].
وموضعُ الشاهدِ مِن إيرادِ الآيةِ: ذِكْرُ اللهِ للسائِلِينَ فيها، وهو مَن يسألُ لفقرِهِ، وفي الآيةِ دليلٌ على أنّ إعطاءَ السائلِ مِن زكاةِ المالِ مِن غيرِ طلبِ بَيِّنةٍ، مُبْرِئٌ للذِّمَّةِ، ولا يجبُ على الإنسانِ أنْ يسألَ عنه ويتحرّى مِن الناسِ ما دام أنّ الأصلَ براءتُهُ، ولا قرينةَ على كَذِبِه، فيُعطى لمجرَّدِ سؤالِه، وذلك لأنّ الإنسانَ تمنعُهُ نفسُهُ مِن مَدِّ يدِهِ والسؤالِ بلا حاجةٍ، فسؤالُهُ بلا حاجةٍ: له تَبِعَةٌ على سُمْعَتِه، وهذا ممّا يَصُونُ الناسُ أنفسَهم عنه، والنفسُ حَيِيَّةٌ تستحيِي مِن أنْ يظهَرَ ضعفُها وحاجتُها، خاصَّةً عندَ مَن تَعرِفُ.
ولو كان السائلُ لا يُعطى حتى يُتحرّى عنه، لَما اكتفى اللهُ بوصفِهِ: ﴿والسّائِلِينَ﴾، فذكَرَ اللهُ اليتامى والمساكِينَ، وهذه أوصافٌ يجبُ على الإنسانِ أنْ يتحقَّقَ منها عندَ دَفْعِها، فليس الفقرُ بالظَّنِّ، وأمّا السائلُ، فاكتفى الشارعُ بذِكْرِ سؤالِهْ، عن تتبُّعِ حالِهْ، ولو كان سؤالُهُ وحدَهُ لا تبرَأُ الذِّمَّةُ بإعطائِه، لاكتفى بذِكْرِ اليتامى والمساكينِ وابنِ السبيلِ وفي الرقابِ، لأنّ السائلَ غالبًا منهم، فجعَلَ اللهُ ابتداءَ الإنفاقِ لا بدَّ فيه مِن السؤالِ عن تحقُّقِ الحالِ المذكورةِ في القرآنِ، وأمّا السؤالُ، فيكفِي وجودُهُ دَلالةً على الإنفاقِ، لأنّ السائلَ باحَ بوصفِ نفسِهِ، وغيرُهُ يحتاجُ إلى سؤالٍ عنه.
وفي «المسندِ»، و«سننِ أبي داودَ»، وغيرِهما، مِن حديثِ يَعْلى بنِ أبي يَحْيى، عن فاطمةَ بِنتِ حُسَيْنٍ، عن حُسَيْنِ بنِ عليٍّ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (لِلسّائِلِ حَقٌّ وإنْ جاءَ عَلى فَرَسٍ) [[أخرجه أحمد (١٧٣٠) (١/٢٠١)، وأبو داود (١٦٦٥) (٢/١٢٦)، وابن أبي شيبة (٩٨٢٣) (٢/٣٥٣).]]، ويَعْلى لا يُعرَفُ[[ينظر: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٩/٣٠٣).]]، والحديثُ ضعيفٌ.
وأخرَجَ أحمدُ، عن منصورِ بنِ حَيّانَ الأَسَدِيِّ، عن ابنِ نَجادٍ، عن جَدَّتِهِ، قالت: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (رُدُّوا السّائِلَ ولَوْ بِظِلْفٍ مُحْتَرِقٍ، أوْ: مُحْرَقٍ) [[أخرجه أحمد (١٦٦٤٨) (٤/٧٠).]].
إعطاءُ الزكاة مَن لا يستحقُّ بغيرِ علم:
ولو عَلِمَ المُنفِقُ أنّ الزكاةَ وقَعَتْ في يدِ غيرِ مستحِقٍّ لها، وأصبَحَ كاذبًا، أجزَأَ عنه، لأنّه أدّاها على وجْهِها الشرعيِّ الذي أمَرَهُ اللهُ بها، والواجبُ عليه أنْ تخرُجَ مِن يدِهِ بوجهٍ مشروعٍ، وقد خرَجَتْ كذلك، وما تجاوَزَ يدَهُ: أمْرُهُ إلى اللهِ، والقولُ بعدمِ الإجزاءِ يتنافى مع ظاهرِ الآيةِ وأصلِ التكليفِ، فالتكليفُ بعِلْمِ المكلَّفِ، لا بعلمِ غيرِه.
ولو قيلَ بعدمِ الإجزاءِ، لَلَزِمَ أنْ يُقالَ ذلك فيمَن أنفَقَ على فقيرٍ، فاستعمَلَها في غيرِ وجهِها، لأنّ المقصودَ مِن الزكاةِ سَدُّ حاجةِ الفقيرِ، ولم تتحقَّقْ كما لم تتحقَّقِ الزكاةُ إلى مُدَّعٍ للفقر كاذبٍ وهو غنيٌّ، ويؤيِّدُ الإجزاءَ: ما ثبَتَ في «الصحيحَيْنِ»، عن أبي هُرَيْرةَ رضي الله عنه، أنّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: (قالَ رَجُلٌ: لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَها فِي يَدِ سارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلى سارِقٍ! فَقالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ! لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَها فِي يَدَيْ زانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلى زانِيَةٍ! فَقالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ! عَلى زانِيَةٍ! لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَها فِي يَدَيْ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلى غَنِيٍّ! فَقالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ! عَلى سارِقٍ، وعَلى زانِيَةٍ، وعَلى غَنِيٍّ! فَأُتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: أمّا صَدَقَتُكَ عَلى سارِقٍ، فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ، وأَمّا الزّانِيَةُ، فَلَعَلَّها أنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِناها، وأَمّا الغَنِيُّ، فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمّا أعْطاهُ اللهُ) [[أخرجه البخاري (١٤٢١) (٢/١١٠)، ومسلم (١٠٢٢) (٢/٧٠٩).]].
وقولُهُ تعالى: ﴿والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ فِي البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ﴾ مدَحَ اللهُ أهلَ الوفاءِ بعهدِه، ومَن صبَرَ على بأسِ الفقرِ والعَوَزِ، وضُرِّ المرضِ والأذى، قال تعالى عن مَرَضِ أيُّوبَ على لسانِهِ: ﴿أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: ٨٣].
وفي الآيةِ: مدحٌ للصابرِ على البأساءِ والضراءِ، وهي شدائدُ الأمورِ، وهذه مواضعُ الفضلِ في الناسِ.
وفيها: إشارةٌ إلى فضلِ الصبرِ على الفقرِ، والتعفُّفِ عن السؤالِ، ما دامتِ النفسُ تَقْوى على كفايةِ نفسِها.
وفيها: تنبيهٌ على الصبرِ على شِدَّةِ الدُّنيا وبلائِها، والصبرِ على أوامرِ اللهِ السابقةِ ما قَدَرَ الإنسانُ، وأنّ الصابِرَ الذي يَجِدُ مشقَّةً في عملِهِ، فهو أفضلُ مِن غيرِه.
وقولُه: ﴿وحِينَ البَأْسِ﴾: هو الجهادُ وقتالُ العدوِّ، والبُعْدُ عن المالِ والزوجةِ والوَلَدِ والبَلَدِ، فسَّرَهُ بهذا ابنُ مسعودٍ، ومجاهدٌ، وقتادةُ، والسُّدِّيُّ، وغيرُهم[[ينظر: «تفسير الطبري» (٣/٩١ ـ ٩٢).]].
وجعلُ هذه الأعمالِ علاماتِ صدقٍ، تُبعِدُ الإنسانَ عن مجرَّدِ الدَّعْوى، وهي التقوى الحقيقيَّةُ، ويبقى الإيمانُ دعوى حتى يصدِّقَهُ العملُ.
حكمُ النَّفَقةِ مِن غيرِ الزكاةِ:
واستدَلَّ بعضُ العلماءِ بهذه الآيةِ على وجوبِ الإنفاقِ مِن المالِ مِن غيرِ الزكاةِ، وهذه المسألةُ على حالَيْنِ:
الحالُ الأُولى: عندَ نزولِ حاجةٍ بالأمَّةِ تستوجِبُ النفقةَ، فتجبُ بلا خلافٍ بينَ العلماءِ ولو مِن غيرِ الزكاةِ، ونفقتُهُ تجبُ بحسَبِ الحاجةِ التي تَحُلُّ بالناسِ، وقد يجبُ على صاحِبِ المالِ أنْ يُنفِقَ مِن مالِهِ ولو افتقَرَ، إذا كانتِ الحاجةُ ماسَّةً، كإنقاذِ الناسِ مِن الموتِ والهلاكِ، وكلُّ حالةٍ لها صورةٌ يُقدَّرُ فيها قدْرُ وجوبِ النفقةِ وقَدْرُ استحبابِها.
والحالُ الثانيةُ: مِن غيرِ نزولِ نازلةٍ بالأمَّةِ، فهل يجبُ على صاحِبِ المالِ أنْ يُخرِجَ مِن مالِهِ نفقةً أُخرى غيرَ الزكاةِ؟ على قولَيْنِ، والأرجحُ: الوجوبُ عندَ وجودِ أحدِ الأصنافِ الثمانيةِ ولو واحدًا، فيُنفِقُ عليه ولو بالقليلِ.
وجاء في «المسندِ»، و«السننِ»، مِن حديثِ عامرٍ الشَّعْبيِّ، عن فاطمةَ بنتِ قيسٍ، عن النبيِّ ﷺ، قال: (فِي المالِ حَقٌّ سِوى الزَّكاةِ) [[أخرجه الترمذي (٦٥٩) (٣/٣٩)، وابن ماجه (١٧٨٩) (١/٧٥٠).]]، وهو ضعيفٌ، وقال بهذا ابنُ عباسٍ، وابنُ عمرَ، والشَّعْبيُّ، والنَّخَعيُّ، ومجاهدٌ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٢٣/٢٧٠).]].
روى ابنُ جريرٍ، عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ، في قولِه: ﴿والَّذِينَ فِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ ﴾ [المعارج: ٢٤ ـ ٢٥]، يقولُ: «هو سوى الصدقةِ يَصِلُ بها رَحِمَهُ، أو يَقْرِي بها ضيفًا، أو يَحْمِلُ بها كَلًّا، أو يُعِينُ بها محرومًا»[[المصدر السابق.]].
وبعضُ الفقهاءِ ـ كابنِ العَرَبيِّ ـ يحكُونَ الإجماعَ على عدمِ الوجوبِ[[ينظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (٢/٤٨٩).]]، وفي هذا نظرٌ، وبعضُهم يحكِي الإجماعَ على الوجوبِ، كالجَصّاصِ[[ينظر: «أحكام القرآن» للجصاص (٣/٥٤٧).]]، وفيه نظرٌ أيضًا.
ويأتي مزيدُ تفصيلٍ عندَ قولِه تعالى: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ﴾ [٦٠] في سورةِ التوبة، إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
{"ayah":"۞ لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤىِٕلِینَ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَـٰهَدُوا۟ۖ وَٱلصَّـٰبِرِینَ فِی ٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق