الباحث القرآني

(p-٣٨٧)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١٧٧] ﴿لَيْسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسّائِلِينَ وفي الرِّقابِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ ﴿لَيْسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ اسْمٌ جامِعٌ لِلطّاعاتِ، وأعْمالِ الخَيْرِ المُقَرِّبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى، ومِن هَذا: بِرُّ الوالِدَيْنِ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ [الإنفطار: ١٣] ﴿وإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾ [الإنفطار: ١٤] فَجَعَلَ البِرَّ ضِدَّ الفُجُورِ، وقالَ: ﴿وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ﴾ [المائدة: ٢] فَجَعَلَ البِرَّ ضِدَّ الإثْمِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِجَمِيعِ ما يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الإنْسانُ. أيْ: لَيْسَ الصَّلاحُ والطّاعَةُ والفِعْلُ المُرْضِيُّ في تَزْكِيَةِ النَّفْسِ - الَّذِي يَجِبُ أنْ تُذْهَلُوا بِشَأْنِهِ عَنْ سائِرِ صُنُوفِ البِرِّ - هو أمْرَ القِبْلَةِ، ولَكِنَّ البِرَّ الَّذِي يَجِبُ الِاهْتِمامُ بِهِ - هو هَذِهِ الخِصالُ الَّتِي عَدَّها جَلَّ شَأْنُهُ. ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ - عِنْدَ نَسْخِ القِبْلَةِ وتَحْوِيلِها - حَصَلَ مِنهُمُ الِاغْتِباطُ بِهَذِهِ القِبْلَةِ، وحَصَلَ مِنهُمُ التَّشَدُّدُ في شَأْنِها حَتّى ظَنُّوا أنَّهُ الغَرَضُ الأكْبَرُ في الدِّينِ، فَبَعَثَهم تَعالى بِهَذا الخِطابِ عَلى اسْتِيفاءِ جَمِيعِ العِباداتِ والطّاعاتِ. أشارَ لِهَذا الرّازِيُّ. وقالَ الرّاغِبُ: الخِطابُ في هَذِهِ الآيَةِ لِلْكُفّارِ والمُنافِقِينَ الَّذِينَ أنْكَرُوا تَغْيِيرَ القِبْلَةِ. وقِيلَ: بَلْ لَهم ولِلْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ قَدْ يَرَوْنَ أنَّهم نالُوا البِرَّ كُلَّهُ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْها. ﴿ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ﴾ أيْ: إيمانُ مَن آمَنَ بِاللَّهِ الَّذِي دَعَتْ إلَيْهِ آيَةُ (p-٣٨٨)الوَحْدانِيَّةِ فَأثْبَتَ لَهُ صِفاتِ الكَمالِ، ونَزَّهَهُ عَنْ سِماتِ النُّقْصانِ ﴿واليَوْمِ الآخِرِ﴾ الَّذِي كَذَّبَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فاخْتَلَّ نِظامُهم بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ: ﴿والمَلائِكَةِ﴾ أيْ: وآمَنَ بِهِمْ وبِأنَّهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ مُتَوَسِّطُونَ بَيْنَهُ تَعالى وبَيْنَ رُسُلِهِ بِإلْقاءِ الوَحْيِ وإنْزالِ الكُتُبِ: ﴿والكِتابِ﴾ أيْ: بِحَبْسِ الكِتابِ. فَيَشْمَلُ الكُتُبَ المُنَزَّلَةَ مِنَ السَّماءِ عَلى الأنْبِياءِ الَّتِي مِن أفْرادِها: أشْرَفُها وهو القُرْآنُ المُهَيْمِنُ عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ الكُتُبِ الَّذِي انْتَهى إلَيْهِ كُلُّ خَيْرٍ واشْتَمَلَ عَلى كُلِّ سَعادَةٍ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ﴿والنَّبِيِّينَ﴾ جَمِيعًا مِن غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ، كَما فَعَلَ أهْلُ الكِتابَيْنِ. قالَ الحَرالِيُّ فَفِيهِ - أيِ: الإيمانُ بِهِمْ وبِما قَبْلَهم قَهْرُ النَّفْسِ لِلْإذْعانِ لِمَن هو مِن جِنْسِها، والإيمانُ بِغَيْبِ مَن لَيْسَ مِن جِنْسِها، لِيَكُونَ في ذَلِكَ ما يَزَعُ النَّفْسَ عَنْ هَواها. ﴿وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ﴾ أيْ: أخْرَجَهُ وهو مُحِبٌّ لَهُ راغِبٌ فِيهِ، نَصَّ عَلى ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وغَيْرُهُما مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ، كَما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ««أفْضَلُ الصَّدَقَةِ أنْ تَصَدَّقَ وأنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الغِنى وتَخْشى الفَقْرَ»» . وقَوْلُهُ: ﴿ذَوِي القُرْبى﴾ هم قَراباتُ الرَّجُلِ، وهم أوْلى مَن أعْطى مِنَ الصَّدَقَةِ. وقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ وغَيْرُهم عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ عامِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««إنَّ الصَّدَقَةَ عَلى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ. وعَلى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتانِ: صَدَقَةٌ وصِلَةٌ»» . وفي (p-٣٨٩)الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ زَيْنَبَ، امْرَأةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، «أنَّها وامْرَأةٌ أُخْرى سَألَتا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُما عَلى أزْواجِهِما وعَلى أيْتامٍ في حُجُورِهِما....؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَهُما أجْرانِ: أجْرُ القَرابَةِ وأجْرُ الصَّدَقَةِ»» . وقَدْ أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِالإحْسانِ إلى القَرابَةِ (p-٣٩٠)فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كِتابِهِ العَزِيزِ. ﴿واليَتامى﴾ وهُمُ الَّذِينَ لا كاسِبَ لَهم وقَدْ ماتَ آباؤُهم وهم ضُعَفاءُ صِغارٌ دُونَ البُلُوغِ ﴿والمَساكِينَ﴾ وهُمُ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يَكْفِيهِمْ في قُوَّتِهِمْ وكُسْوَتِهِمْ وسُكْناهُمْ، فَيُعْطَوْنَ ما يَسُدُّ بِهِ حاجَتَهم وخَلَّتَهم. وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««لَيْسَ المِسْكِينُ بِهَذا الطَّوافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ واللُّقْمَةُ واللُّقْمَتانِ، ولَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ولا يَفْطَنُ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ»» . ﴿وابْنَ السَّبِيلِ﴾ وهو المُسافِرُ المُجْتازُ الَّذِي قَدْ فَرَغَتْ نَفَقَتُهُ، فَيُعْطى ما يُوَصِّلُهُ إلى بَلَدِهِ لِعَجْزِهِ بِالغُرْبَةِ، وكَذا الَّذِي يُرِيدُ سَفَرًا في طاعَةٍ فَيُعْطى ما يَكْفِيهِ في ذَهابِهِ وإيابِهِ. ويَدْخُلُ في ذَلِكَ الضَّيْفُ، كَما قالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ابْنُ السَّبِيلِ هو الضَّيْفُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالمُسْلِمِينَ. (p-٣٩١)وكَذا قالَ مُجاهِدٌ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ الباقِرُ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ، والزُّهْرِيُّ، والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ، ومُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ. والسَّبِيلُ اسْمُ الطَّرِيقِ، وجُعِلَ المُسافِرُ ابْنًا لَها لِمُلازَمَتِهِ إيّاها كَما يُقالُ لِطَيْرِ الماءِ: ابْنُ الماءِ، ويُقالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ: ابْنُ الأيّامِ، ولِلشُّجْعانِ: بَنُو الحَرْبِ، ولِلنّاسِ: بَنُو الزَّمانِ. ﴿والسّائِلِينَ﴾ وهُمُ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلطَّلَبِ، فَيُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَواتِ والصَّدَقاتِ. كَما رَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِما السَّلامُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««لِلسّائِلِ حَقٌّ وإنْ جاءَ عَلى فَرَسٍ»» . ورَواهُ أبُو داوُدَ ﴿وفِي الرِّقابِ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى المَفْعُولِ الأوَّلِ وهو ذَوِي أيْ: وآتى المالَ في الرِّقابِ، أيْ: دَفَعَهُ في فَكِّها، أيْ: لِأجْلِهِ وبِسَبَبِهِ قالَ الرّاغِبُ: الرِّقابُ جَمْعُ رَقَبَةٍ. وأصْلُ الرَّقَبَةِ: العُنُقُ. ويُعَبَّرُ بِها عَنِ الجُمْلَةِ، كَما يُعَبَّرُ عَنْها بِالرَّأْسِ. وقالَ الحَرالِيُّ: الرِّقابُ جَمْعُ رَقَبَةٍ وهو ما نالَهُ الرِّقُّ مِن بَنِي آدَمَ. فالمُرادُ: الرِّقابُ المُسْتَرِقَّةُ الَّتِي يُرامُ فَكُّها بِالكِتابَةِ، وفَكُّ الأسْرى مِنهُ، وقَدَّمَ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ؛ لِأنَّ حاجَتَهم لِإقامَةِ البِنْيَةِ. قِيلَ: نُكْتَةُ إيرادِ: في هو أنَّ ما يُعْطى لَهُمْ: مَصْرُوفٌ في تَخْلِيصِ رِقابِهِمْ، فَلا يَمْلِكُونَهُ كالمَصارِفِ الأُخْرى. واللَّهُ أعْلَمُ. لَطِيفَةٌ: قالَ الرّاغِبُ: إنْ قِيلَ كَيْفَ اعْتُبِرَ التَّرْتِيبُ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ﴾ الآيَةَ؟ قِيلَ: لَمّا كانَ أوْلى مَن يَتَفَقَّدُهُ الإنْسانُ بِمَعْرُوفِهِ أقارِبَهُ، كانَ تَقْدِيمُها أوْلى ثُمَّ عَقَّبَهُ بِاليَتامى لِأنَّ مُواساتَهم بَعْدَ الأقارِبِ أوْلى، ثُمَّ ذَكَرَ المَساكِينَ الَّذِينَ لا مالَ لَهم حاضِرًا ولا غائِبًا، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنَ السَّبِيلِ الَّذِي قَدْ يَكُونُ لَهُ مالٌ غائِبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ السّائِلِينَ (p-٣٩٢)الَّذِينَ مِنهم صادِقٌ وكاذِبٌ، ثُمَّ ذَكَرَ الرِّقابَ الَّذِينَ لَهم أرْبابٌ يَعُولُونَهُمْ، فَكُلُّ واحِدٍ مِمَّنْ أُخِّرَ ذِكْرُهُ أقَلُّ فَقْرًا مِمَّنْ قُدِّمَ ذِكْرُهُ...! ﴿وأقامَ الصَّلاةَ﴾ أيْ: أتَمَّ أفْعالَها في أوْقاتِها بِرُكُوعِها وسُجُودِها وطُمَأْنِينَتِها وخُشُوعِها عَلى الوَجْهِ الشَّرْعِيِّ المُرْضِيِّ ﴿وآتى الزَّكاةَ﴾ أيْ: زَكاةَ المالِ المَفْرُوضَةَ؛ عَلى أنَّ المُرادَ بِما مَرَّ مِن إيتاءِ المالِ، التَّنَفُّلُ بِالصَّدَقاتِ والبِرِّ والصِّلَةِ، قُدِّمَ عَلى الفَرِيضَةِ مُبالَغَةً في الحَثِّ عَلَيْهِ، أوِ المُرادُ بِهِما المَفْرُوضَةُ، والأوَّلُ لِبَيانِ المَصارِفِ، والثّانِي لِبَيانِ وُجُوبِ الأداءِ، وقَدْ أبْعَدَ مَن حَمَلَ الزَّكاةَ هُنا عَلى زَكاةِ النَّفْسِ وتَخْلِيصِها مِنَ الأخْلاقِ الدَّنِيئَةِ الرَّذِيلَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ [الشمس: ٩] وقَوْلِهِ: ﴿هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى﴾ [النازعات: ١٨] ووَجْهُ البُعْدِ: أنَّ الزَّكاةَ المَقْرُونَةَ بِالصَّلاةِ في التَّنْزِيلِ لا يُرادُ بِها إلّا زَكاةُ المالِ، وأمّا مَعَ الِانْفِرادِ فَعَلى حَسَبِ المَقامِ: ﴿والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا﴾ عَطْفٌ عَلى مَن آمَنَ، فَإنَّهُ في قُوَّةٍ أنْ يُقالَ: ومَن أوْفَوْا بِعَهْدِهِمْ. وإيثارُ صِيغَةِ الفاعِلِ لِلدَّلالَةِ عَلى وُجُوبِ اسْتِمْرارِ الوَفاءِ. قالَ الرّازِيُّ: اعْلَمْ أنَّ هَذا العَهْدَ إمّا أنْ يَكُونَ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللَّهِ، أوْ بَيْنَهُ وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ، أوْ بَيْنَهُ وبَيْنَ سائِرِ النّاسِ. فالأوَّلُ: ما يَلْزَمُهُ بِالنُّذُورِ والأيْمانِ. والثّانِي: فَهو ما عاهَدَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّبِعَةِ: مِنَ القِيامِ بِالنُّصْرَةِ، والمُظاهَرَةِ، ومُوالاةِ مَن والاهُ، ومُعاداةِ مَن عاداهُ. والثّالِثُ: قَدْ يَكُونُ مِنَ الواجِباتِ: مِثْلُ ما يَلْزَمُهُ في عُقُودِ المُعاوَضاتِ مِنَ التَّسْلِيمِ والتَّسَلُّمِ. وكَذا الشَّرائِطُ الَّتِي يَلْتَزِمُها في السِّلْمِ والرَّهْنِ، وقَدْ يَكُونُ مِنَ المَندُوباتِ: مِثْلُ الوَفاءِ بِالمَواعِيدِ في بَذْلِ المالِ، والإخْلاصِ في المُناصَرَةِ. فالآيَةُ تَتَناوَلُ كُلَّ هَذِهِ الأقْسامِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وعَكْسُ هَذِهِ الصِّفَةِ النِّفاقُ، كَما صَحَّ في الحَدِيثِ: ««آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: (p-٣٩٣)إذا حَدَّثَ كَذِبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خانَ»» . وفي رِوايَةٍ: ««إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ»»: ﴿والصّابِرِينَ﴾ نُصِبَ عَلى الِاخْتِصاصِ. غَيَّرَ سَبْكَهُ عَمّا قَبْلَهُ تَنْبِيهًا عَلى فَضِيلَةِ الصَّبْرِ ومَزِيَّتِهِ، وهو في الحَقِيقَةِ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: إذا ذَكَرْتَ صِفاتٍ لِلْمَدْحِ أوْ لِلذَّمِّ فَخُولِفَ في بَعْضِها الإعْرابُ، فَقَدْ خُولِفَ لِلِافْتِنانِ، ويُسَمّى ذَلِكَ قَطْعًا؛ لِأنَّ تَغْيِيرَ المَأْلُوفِ يَدُلُّ عَلى زِيادَةِ تَرْغِيبٍ في اسْتِماعِ المَذْكُورِ، ومَزِيدِ اهْتِمامٍ بِشَأْنِهِ ! وقَدْ قُرِئَ: والصّابِرُونَ. كَما قُرِئَ: والمُوفِينَ. قالَ الرّاغِبُ: لَمّا كانَ الصَّبْرُ: مِن وجْهٍ مَبْدَأً لِلْفَضائِلِ، ومِن وجْهٍ جامِعًا لِلْفَضائِلِ؛ إذْ لا فَضِيلَةَ إلّا ولِلصَّبْرِ فِيها أثَرٌ بَلِيغٌ. غُيِّرَ إعْرابُهُ تَنْبِيهًا عَلى هَذا المَقْصِدِ..!: ﴿فِي البَأْساءِ﴾ أيِ: الشِّدَّةِ، أيْ: عِنْدَ حُلُولِها بِهِمْ: ﴿والضَّرّاءِ﴾ بِمَعْنى البَأْساءِ وهي الشِّدَّةُ أيْضًا، كَما فَسَّرَهُما بِها في القامُوسِ. وقالَ ابْنُ الأثِيرِ: الضَّرّاءُ: الحالَةُ الَّتِي تَضُرُّ وهي نَقِيضُ السَّرّاءِ، وهُما بِناءانِ لِلْمُؤَنَّثِ ولا مُذَكَّرَ لَهُما: ﴿وحِينَ البَأْسِ﴾ أيْ: وقْتَ مُجاهَدَةِ العَدُوِّ في مُواطِنِ الحَرْبِ، وزِيادَةُ الحِينِ لِلْإشْعارِ بِوُقُوعِهِ أحْيانًا، وسُرْعَةِ انْقِضائِهِ، ومَعْنى البَأْسِ في اللُّغَةِ: الشِّدَّةُ، يُقالُ: لا بَأْسَ عَلَيْكَ في هَذا أيْ: لا شِدَّةَ. وعَذابٌ بَئِيسٌ شَدِيدٌ. وسُمِّيَتِ الحَرْبُ بَأْسًا لِما فِيها مِنَ الشِّدَّةِ. والعَذابُ يُسَمّى بَأْسًا لِشِدَّتِهِ. قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ [غافر: ٨٤] ﴿فَلَمّا أحَسُّوا بَأْسَنا﴾ [الأنبياء: ١٢] ﴿فَمَن يَنْصُرُنا مِن بَأْسِ اللَّهِ﴾ [غافر: ٢٩] (p-٣٩٤)وقالَ ابْنُ سِيدَهْ: البَأْسُ الحَرْبُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتّى قِيلَ: لا بَأْسَ عَلَيْكَ، أيْ: لا خَوْفَ. وقالَ الرّاغِبُ: اسْتَوْعَبَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ أنْواعَ الضُّرِّ. لِأنَّهُ إمّا يَحْتاجُ إلى الصَّبْرِ في شَيْءٍ يُعْوِزُ الإنْسانَ، أوْ يُرِيدُهُ فَلا يَنالُهُ، وهو البَأْساءُ. أوْ فِيما نالَ جِسْمَهُ مِنَ ألَمٍ، وهو الضَّرّاءُ. أوْ في مُدافَعَةِ مُؤْذِيهِ وهو اليَأْسُ. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ في إيمانِهِمْ، لِأنَّهم حَقَّقُوا الإيمانَ القَلْبِيَّ بِالأقْوالِ والأفْعالِ، فَلَمْ تُغَيِّرْهُمُ الأحْوالُ، ولَمْ تُزَلْزِلْهُمُ الأهْوالُ. وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ مَن لَمْ يَفْعَلْ أفْعالَهم لَمْ يَصْدُقْ في دَعْواهُ الإيمانَ...!: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ عَنِ الكُفْرِ وسائِرِ الرَّذائِلِ. وتَكْرِيرُ الإشارَةِ لِزِيادَةِ تَنْوِيهٍ بِشَأْنِهِمْ. وتَوْسِيطُ الضَّمِيرِ لِلْإشارَةِ إلى انْحِصارِ التَّقْوى فِيهِمْ. قالَ الواحِدِيُّ: هَذِهِ الواواتُ في الأوْصافِ في هَذِهِ الآيَةِ لِلْجَمْعِ. فَمِن شَرائِطِ البِرِّ، وتَمامِ شَرْطِ البارِّ، أنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ هَذِهِ الأوْصافُ، ومَن قامَ بِهِ واحِدٌ مِنها لَمْ يَسْتَحِقَّ الوَصْفَ بِالبِرِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب