الباحث القرآني
(p-١)ولَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ وتَعالى كُفْرَ أهْلِ الكِتابِ الطّاعِنِينَ في نَسْخِ القِبْلَةِ بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ ﷺ وكِتْمانِ الحَقِّ وغَيْرِ ذَلِكَ إلى أنْ خُتِمَ بِكُفْرِهِمْ بِالِاخْتِلافِ في الكِتابِ وكِتْمانِ ما فِيهِ مِن مُؤَيِّداتِ الإسْلامِ أتْبَعَهُ الإشارَةَ إلى أنَّ أمْرَ الفُرُوعِ أحَقُّ مِن أمْرِ الأُصُولِ لِأنَّ الفُرُوعَ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِذاتِها، والِاسْتِقْبالَ الَّذِي جَعَلُوا مِن جُمْلَةِ شِقاقِهِمْ أنْ كَتَمُوا ما عِنْدَهم مِنَ الدَّلالَةِ عَلى حَقِّيَّتِهِ وأكْثَرُوا الإفاضَةَ في عَيْبِ المُتَّقِينَ بِهِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذاتِهِ، وإنَّما المَقْصُودُ بِالذّاتِ الإيمانُ فَإذا وقَعَ تَبِعَتْهُ جَمِيعُ الطّاعاتِ مِنَ الصَّلاةِ المُشْتَرَطِ فِيها الِاسْتِقْبالُ وغَيْرِها فَقالَ تَعالى: ﴿لَيْسَ البِرَّ﴾ أيِ الفِعْلَ المَرْضِيَّ الَّذِي هو في تَزْكِيَةِ النَّفْسِ كالبِرِّ في تَغْذِيَةِ البَدَنِ ﴿أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ﴾ أيْ (p-٢)فِي الصَّلاةِ ﴿قِبَلَ المَشْرِقِ﴾ الَّذِي هو جِهَةُ مَطالِعِ الأنْوارِ ﴿والمَغْرِبِ﴾ الَّذِي هو جِهَةُ أفْوالِها أيْ وغَيْرِهِما مِنَ الجِهاتِ المَكانِيَّةِ، فَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى كَما مَضى عِنْدَ أوَّلِ اعْتِراضِهِمُ التَّصْرِيحِ بِنِسْبَةِ الكُلِّ إلَيْهِ ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥]
ولَمّا كانَ قَدْ تَبَيَّنَ لِلْمُتَّقِينَ كَما ذُكِرَ قَبْلُ ما يَخْرُجُ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ وحُذِّرُوا مِنهُ لِيَجْتَنِبُوهُ عَقَّبَهُ بِما يَلْزَمُهم لِيَعْمَلُوهُ فابْتَدَأ مِن هُنا بِذِكْرِ الأحْكامِ إلى قَوْلِهِ ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة: ٢٨٥] وبَدَأ ذَلِكَ بِما بَدَأ بِهِ السُّورَةَ وفَصَّلَ لَهم كَثِيرًا مِمّا كُلِّفُوهُ مِمّا أجْمَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَفَصَّلَ الإيمانَ تَفْصِيلًا لَمْ يَتَقَدَّمْ فَقالَ: ﴿ولَكِنَّ البِرَّ مَن﴾ أيْ إيمانَ مَن، ولَعَلَّهُ (p-٣)عَبَّرَ بِذَلِكَ إفْهامًا لِأنَّ فاعِلَ ذَلِكَ نَفْسَهُ بَرَّ أيْ أنَّهُ زَكّى حَتّى صارَ نَفْسَ الزَّكاةِ ﴿آمَنَ بِاللَّهِ﴾ الَّذِي دَعَتْ إلَيْهِ آيَةُ الوَحْدانِيَّةِ فَأثْبَتَ لَهُ صِفاتِ الكَمالِ ونَزَّهَهُ عَنْ كُلِّ شائِبَةِ نَقْصٍ مِمّا عَلى ذَلِكَ مِن دَلائِلِ أفْعالِهِ.
ولَمّا كانَ مِن أهَمِّ خِلالِ الإيمانِ القُدْرَةُ عَلى البَعْثِ والتَّصْدِيقُ بِهِ لِأنَّهُ يُوجِبُ لُزُومَ الخَيْرِ والبُعْدَ عَنِ الشَّرِّ قالَ: ﴿واليَوْمِ الآخِرِ﴾ الَّذِي كَذَّبَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ فاخْتَلَّ نِظامُهم بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، فالأوَّلُ مُبَرَّأٌ عَنِ الأنْدادِ وهَذا مُبْعَدٌ عَنْ أذى العِبادِ.
ولَمّا كانَ هَذا إيمانُ الكُمَّلِ وكانَ أكْثَرُ النّاسِ نِيامَ العُقُولِ لا يَعْرِفُونَ شَيْئًا إلّا بِالتَّنْبِيهِ وضُلّالَ البَصائِرِ يَفْتَرِقُونَ إلى الهِدايَةِ ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى الهُداةُ الَّذِينَ جَعَلَهم وسائِطَ بَيْنَهُ وبَيْنَ عِبادِهِ بادِئًا بِالأوَّلِ فالأوَّلِ فَقالَ: ﴿والمَلائِكَةِ﴾ أيِ الَّذِينَ أقامَهم فِيما بَيْنَهُ (p-٤)وبَيْنَ النّاسِ وهم غَيْبٌ مَحْضٌ ﴿والكِتابِ﴾ الَّذِي يَنْزِلُونَ بِهِ عَلى وجْهٍ لا يَكُونُ فِيهِ رَيْبٌ أعَمُّ مِنَ القُرْآنِ وغَيْرِهِ ﴿والنَّبِيِّينَ﴾ الَّذِينَ تَنْزِلُ بِهِ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ، لِكَوْنِهِمْ خُلاصَةَ الخَلْقِ، فَلَهم جِهَةٌ مَلَكِيَّةٌ يَقْدِرُونَ بِها عَلى التَّلَقِّي مِنَ المَلائِكَةِ لِمُجانَسَتِهِمْ إيّاهم بِها، وجِهَةٌ بَشَرِيَّةٌ يَتَمَكَّنُ النّاسُ بِها مِنَ التَّلَقِّي مِنهُمْ، ولَهم مِنَ المَعانِي الجَلِيلَةِ الجَمِيلَةِ الَّتِي صَرَفَهُمُ اللَّهُ فِيها بِتَكْمِيلِ أبْدانِهِمْ وأرْواحِهِمْ ما لا يَعْلَمُهُ إلّا هو فَعَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ والتَّحِيَّةُ والإكْرامُ.
قالَ الحَرالِيُّ: فَفِيهِ أيِ الإيمانِ بِهِمْ وبِما قَبْلَهم قَهْرُ النَّفْسِ لِلْإذْعانِ لِمَن هو مِن جِنْسِها والإيمانُ بِغَيْبِ مَن لَيْسَ مِن جِنْسِها لِيَكُونَ في ذَلِكَ ما يَزَعُ النَّفْسَ عَنْ هَواها - انْتَهى.
وكَذا فَضَّلَ سُبْحانَهُ وتَعالى الصَّدَقَةَ، وفي تَعْقِيبِ الإيمانِ بِها إشْعارٌ بِأنَّها المُصَدِّقَةُ لَهُ فَمَن بَخِلَ بِها كانَ مُدَّعِيًا لِلْإيمانِ بِلا بَيِّنَةٍ، وإرْشادٍ إلى أنَّ في بَذْلِها سَلامَةً مِن فِتْنَةِ المالِ ﴿إنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: ١٥] لِأنَّ مَن آمَنَ وتَصَدَّقَ كانَ قَدْ أسْلَمَ لِلَّهِ رُوحَهُ ومالَهُ الَّذِي هو عَدِيلُ رُوحِهِ فَصارَ عَبْدَ اللَّهِ حَقًّا، وفي ذَلِكَ إشارَةٌ إلى الحَثِّ عَلى مُفارَقَةِ كُلِّ مَحْبُوبٍ سِوى اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى في اللَّهِ.
قالَ الحَرالِيُّ: فَمَن ظَنَّ (p-٥)أنَّ حاجَتَهُ يَسُدُّها المالُ فَلَيْسَ بِرًّا، إنَّما البِرُّ الَّذِي أيْقَنَ أنَّ حاجَتَهُ إنَّما يَسُدُّها رَبُّهُ بِبِرِّهِ الخَفِيِّ - انْتَهى.
فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿وآتى المالَ﴾ أيِ الَّذِي أباحَهُ بَعْدَ جَعْلِهِ دَلِيلًا عَلَيْهِ كَرَمَ نَفْسٍ وتَصْدِيقَ إيمانٍ بِالِاعْتِمادِ في الخَلَفِ عَلى مَن ضَمِنَ الرِّزْقَ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ وأشارَ إلى أنَّ شَرْطَ الإيمانِ بِهِ إيثارُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ: ﴿عَلى حُبِّهِ﴾ أيْ إيتاءً عالِيًا فِيهِ حُبُّ اللَّهِ عَلى حُبِّهِ المالَ إشارَةٌ إلى التَّصَدُّقِ في حالِ الصِّحَّةِ والشُّحِّ بِتَأْمِيلِ الغِنى وخَشْيَةِ الفَقْرِ؛ وأشارَ إلى أنَّهُ لِوَجْهِهِ لا لِما كانُوا يَفْعَلُونَهُ في الجاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفاخُرِ فَقالَ: ﴿ذَوِي القُرْبى﴾ أيْ لِأنَّهم أوْلى النّاسِ بِالمَعْرُوفِ لِأنَّ إيتاءَهم (p-٦)صَدَقَةٌ وصِلَةٌ ﴿واليَتامى﴾ مِن ذَوِي القُرْبى وغَيْرِهِمْ لِأنَّهم أعْجَزُ النّاسِ ﴿والمَساكِينَ﴾ لِأنَّهم بَعْدَهم في العَجْزِ ويَدْخُلُ فِيهِمُ الفُقَراءُ بِالمُوافَقَةِ ﴿وابْنَ السَّبِيلِ﴾ لِعَجْزِهِمْ بِالغُرْبَةِ، وإذا جَعَلْنا ذَلِكَ أعَمَّ مِنَ الحالِ والمَآلِ دَخَلَ فِيهِ الغازِي ﴿والسّائِلِينَ﴾ لِأنَّ الأغْلَبَ أنْ يَكُونَ سُؤالُهم عَنْ حاجَةٍ ويَدْخُلُ الغارِمُ ﴿وفِي الرِّقابِ﴾
قالَ الحَرالِيُّ: جَمْعُ رَقَبَةٍ وهو ما نالَهُ الرِّقُّ مِن بَنِي آدَمَ فالمُرادُ الرِّقابُ المُسْتَرَقَةُ الَّتِي يُرامُ فَكُّها بِالكِتابَةِ وفَكُّ الأسْرى مِنهُ، وقَدَّمَ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ لِأنَّ حاجَتَهم لِإقامَةِ البَيِّنَةِ.
ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى مُواساةَ الخَلْقِ وقَدَّمَها حَثًّا عَلى مَزِيدِ الِاهْتِمامِ بِها لِتَسْمَحَ النَّفْسُ بِما زَيَّنَ لَها حُبُّهُ مِنَ المالِ اتَّبَعَها حَقُّ الحَقِّ (p-٧)فَقالَ: ﴿وأقامَ الصَّلاةَ﴾ الَّتِي هي أفْضَلُ العِباداتِ البَدَنِيَّةِ ولا تَكُونُ إلّا بَعْدَ سَدِّ أوْدِ الجَسَدِ ولا تَكُونُ إقامَتُها إلّا بِجَمِيعِ حُدُودِها والمُحافَظَةِ عَلَيْها. ولَمّا ذَكَرَ ما يُزَكِّي الرُّوحَ بِالمُثُولِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى والتَّقَرُّبِ بِنَوافِلِ الصَّدَقاتِ ذَكَرَ ما يُطَهِّرُ المالَ ويُنَمِّيهِ وهو حَقُّ الخَلْقِ فَقالَ: ﴿وآتى الزَّكاةَ﴾ وفي الِاقْتِصارِ فِيها عَلى الإيتاءِ إشْعارٌ بِأنَّ إخْراجَ المالِ عَلى هَذا الوَجْهِ لا يَكُونُ إلّا مِنَ الإخْلاصِ.
ولَمّا أتَمَّ الإيمانَ وما يُصَدِّقُ دَعْواهُ في الجُمْلَةِ شَرَعَ في كَمالِ ذَلِكَ فَعَطَفَ عَلى أوَّلِ الكَلامِ ما دَلَّ بِعَطْفِهِ كَذَلِكَ عَلى أنَّهُ مَقْصُودٌ لِذاتِهِ فَإنَّهُ جامِعٌ لِدُخُولِهِ في جَمِيعِ ما تَقَدَّمَهُ فَقالَ: ﴿والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ (p-٨)
قالَ الحَرالِيُّ: مِنَ الإيفاءِ وهو الأخْذُ بِالوَفاءِ نُجازِ المَوْعُودِ في أمْرِ المَعْهُودِ - انْتَهى.
وبَيَّنَ قَوْلُهُ: ﴿إذا عاهَدُوا﴾ أنَّ المَطْلُوبَ ما ألْزَمُوا أنْفُسَهم بِهِ لِلْحَقِّ أوِ الخَلْقِ تَصْرِيحًا بِما أفْهَمَهُ ما قَبْلَهُ. ولَمّا قَطَعَ الوَفاءَ تَعْظِيمًا لَهُ لِدُخُولِهِ فِيما قَبْلُ فَعَلَ كَذَلِكَ في الصَّبْرِ لِذَلِكَ بِعَيْنِهِ فَقالَ: ﴿والصّابِرِينَ﴾ وفِيهِ رَمْزٌ إلى مُعامَلَتِهِ بِما كانَ مِن حَقِّهِ لَوْ عُطِفَ عَلى ”مِن آمَنَ“ لَوْ سِيقَ عَلى الأصْلِ.
قالَ الحَرالِيُّ: وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ مِن تَحَقَّقَ بِالصَّبْرِ عَلى الإيثارِ فَكانَ شاكِرًا تَحَقَّقَ مِنهُ الصَّبْرُ في الِابْتِلاءِ والجِهادِ تَأْيِيدًا مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِمَن شَكَرَهُ ابْتِداءً بِإعانَتِهِ عَلى الصَّبْرِ والمُصابَرَةِ انْتِهاءً، كَأنَّهُ لَمّا جادَ بِخَيْرِ الدُّنْيا عَلى حُبِّهِ أصابَهُ اللَّهُ بِبَلائِها تَكْرِمَةً لَهُ لِيُوَفِّيَهُ حَظَّهُ مِن مَقْدُورِهِ في دُنْياهُ فَيَكُونُ مِمَّنْ يَسْتَرِيحُ عِنْدَ مَوْتِهِ وبِأنَّهُ إنْ جاهَدَ ثَبَتَ بِما يَحْصُلُ في نَفْسِ الشّاكِرِ الصّابِرِ مِنَ الشَّوْقِ إلى لِقاءِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى تَبَرُّؤًا مِنَ الدُّنْيا وتَحَقُّقًا بِمَنالِ الخَيْرِ مِنَ اللَّهِ - انْتَهى.
وعَيَّنَ أشَدَّ ما يَكُونُ الصَّبْرُ فِيهِ فَقالَ: ﴿فِي البَأْساءِ﴾ أيْ عِنْدَ (p-٩)حُلُولِ الشِّدَّةِ بِهِمْ في أنْفُسِهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِلا واسِطَةٍ أوْ مِنهُ بِواسِطَةِ العِبادِ ﴿والضَّرّاءِ﴾ بِحُصُولِ الضُّرِّ في أمْوالِهِمْ وبَقِيَّةِ أحْوالِهِمْ مِنِ احْتِقارِ النّاسِ لَهم ونَحْوِهِ، وفَسَّرَها في القامُوسِ بِالشِّدَّةِ والنَّقْصِ في الأمْوالِ والأنْفُسِ فَهو حِينَئِذٍ أعَمُّ لِيَكُونَ الأخَصُّ مَذْكُورًا مَرَّتَيْنِ. وقالَ الحَرالِيُّ: البَأْساءُ فَعَلاءُ مِنَ البُؤْسِ وهو سُوءُ الحالِ والفاقَةُ وفَقْدُ المِنَّةِ عَنْ إصْلاحِهِ، والضَّرّاءُ مَرَضُ البَدَنِ وآفاتُهُ، فَكانَ البَأْساءُ في الحالِ والضَّرّاءُ في البَدَنِ - انْتَهى.
﴿وحِينَ البَأْسِ﴾ أيِ الحَرْبِ الجامِعِ لِلْأنْفُسِ والأمْوالِ. وقالَ الحَرالِيُّ: البَأْسُ الشِّدَّةُ في الحَرْبِ. (p-١٠)ولَمّا كانَتْ هَذِهِ الخِلالُ أشْرَفَ خِلالٍ أشارَ إلى شَرَفِها بِشَرَفِ أهْلِها فَقالَ مُسْتَأْنِفًا بَيانًا لِأنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ اسْمَ البِرِّ إلّا مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الخِلالُ: ﴿أُولَئِكَ﴾ أيْ خاصَّةً الَّذِينَ عَلَتْ هِمَمُهم وعَظُمَتْ أخْلاقُهم وشِيَمُهُمُ ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ أيْ فِيما ادَّعَوْهُ مِنَ الإيمانِ، فَفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ مَن لَمْ يَفْعَلْ أفْعالَهم لَمْ يُصَدَّقْ في دَعْواهُ ﴿وأُولَئِكَ هُمُ﴾ خاصَّةٌ ﴿المُتَّقُونَ﴾ لِيَوْمِ الجَزاءِ، وفي جَعْلِهِ نَعْتًا لَهم إشْعارٌ بِأنَّهم تَكَلَّفُوا هَذِهِ الأفْعالَ لِعَظِيمِ الخَوْفِ.
وقالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ في بُرْهانِهِ: ثُمَّ ذَكَرَ الزَّكاةَ والصِّيامَ والحَجَّ والجِهادَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأحْكامِ كالنِّكاحِ والطَّلاقِ والعِدَدِ والحَيْضِ والرَّضاعِ والحُدُودِ والرِّبا والبُيُوعِ إلى ما تَخَلَّلَ هَذِهِ الآياتِ مِن تَفاصِيلِ الأحْكامِ ومُجْمَلِها وقَدَّمَ مِنها الوَفاءَ بِالعَهْدِ والصَّبْرَ، لِأنَّ ذَلِكَ يُحْتاجُ إلَيْهِ في كُلِّ الأعْمالِ، وما تَخَلَّلَ هَذِهِ الآياتِ مِن لَدُنْ قَوْلِهِ ﴿لَيْسَ البِرَّ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ [البقرة: ٢٨٥] (p-١١)مِمّا لَيْسَ مِن قَبِيلِ الإلْزامِ والتَّكْلِيفِ فَلِتَسَبُّبٍ أوْجَبَ ذِكْرَهُ ولِتَعَلُّقٍ اسْتَدْعاهُ - انْتَهى.
والحاصِلُ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا طَهَّرَهم مِن أوْصارِ المَحارِمِ بِقَوارِعِ الزَّواجِرِ شَرَعَ في تَزْكِيَتِهِمْ بِالإقْحامِ في غَمَراتِ الأوامِرِ لِيُكْمِلَ تَعَبُّدَهم بِتَحَلِّيهِمْ بِأمْرِهِ بَعْدَ تَخَلِّيهِمْ مِن سُخْطِهِ بِصادِعِ زَجْرِهِ فَذَكَرَ في هَذِهِ السُّورَةِ جَمِيعَ أرْكانِ هَذا الحَرْفِ وحَظِيرَتِهِ.
قالَ الإمامُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِيُّ في العُرْوَةِ: وجْهُ إنْزالِ هَذا الحَرْفِ حَمْلُ الخَلْقِ عَلى صِدْقِ التَّذَلُّلِ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى إثْرَ التَّطْهِيرِ مِن رِجْزِهِمْ لِيَعُودَ بِذَلِكَ وصْلُ ما انْقَطَعَ وكَشْفُ ما انْحَجَبَ وهو حَرْفُ العِبادَةِ المُتَلَقّاةِ بِالإيمانِ المُثابِرِ عَلَيْها بِسابِقِ الخَوْفِ المُبادِرِ لَها تَشَوَّقًا بِصِدْقِ المَحَبَّةِ، فالعابِدُ مَن ساقَهُ الخَوْفُ إلَيْها والعارِفُ مَن قادَهُ الحُبُّ لَها وهو بِناءٌ ذُو عَمُودٍ وأرْكانٍ ولَهُ حَظِيرَةٌ تَحُوطُهُ، فَأمّا عَمُودُهُ فَإفْرادُ التَّذَلُّلِ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى تَوْحِيدًا وطَلِيعَتُهُ آيَةُ ما كانَ نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦] طَهَّرَهم حَرْفُ الزَّجْرِ مِن (p-١٢)رِجْزِ عِبادَةِ إلَهٍ آخَرَ فَأثْبَتَ لَهم حَرْفُ الأمْرِ التَّفْرِيدَ حَتّى لا يُشْرِكُوا مَعَهُ في التَّذَلُّلِ شَيْئًا أيَّ شَيْءٍ كانَ آخَرَ، وهو أوَّلُ ما أقامَ اللَّهُ مِن بِناءِ الدِّينِ ولَمْ يَفْرِضْ غَيْرَهُ نَحْوَ العَشْرِ مِنَ السِّنِينَ في إنْزالِ ما أنْزَلَ بِمَكَّةَ وسَنَّ مَعَ فَرْضِهِ الرُّكْنَ الأوَّلَ وهو الصَّلاةُ، وبُدِئَتْ بِالوُضُوءِ عَمَلًا مِن حَذْوِ تَطْهِيرِ القَلْبِ والنَّفْسِ بِحَرْفِ النَّهْيِ وأعْقَبَ بِالصَّلاةِ عَمَلًا مِن حَذْوِ طُهُورِ القَلْبِ بِالتَّوْحِيدِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ سُبْحانَهُ وتَعالى، فالوُضُوءُ وجْهُ عَمَلِ حَرْفِ الزَّجْرِ والصَّلاةُ وجْهُ عَمَلِ حَرْفِ الأمْرِ، وسَنَّ عَلى تَأْسِيسِ بِدارِ الحُبِّ لِتَبْدُوَ قُوَّةُ الإيمانِ في مَشْهُودِ مُلازَمَةِ خِدْمَةِ الأبْدانِ.
فَكانَ أقْواهم إيمانًا أكْثَرُهم وأطْوَلُهم صَلاةً وقَنُوتًا، مَن أحَبَّ مَلِكًا خَدَمَهُ ولازَمَهُ، ولا تُخْدَمُ المُلُوكُ بِالكَسَلِ والتَّهاوُنِ وإنَّما تُخْدَمُ بِالجَهْدِ والتَّذَلُّلِ، فَكانَتِ الصَّلاةُ عِلْمَ الإيمانِ تَكْثُرُ بِقُوَّتِهِ وتَقِلُّ بِضَعْفِهِ، لِأنَّها لَوْ فُرِضَتْ لَمْ يَظْهَرْ فِيها تَفاوُتُ قُوَّةِ الإيمانِ وصِدْقِ الحَقِّ كَما لا يَظْهَرُ بَعْدَ فَرْضِها إلّا في النَّوافِلِ، ولِإجْهادِ النَّبِيِّ ﷺ نَفْسَهُ وبَدَنَهُ في ذَلِكَ أنْزَلَ عَلَيْهِ ﴿ما أنْـزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى﴾ [طه: ٢] ﴿إلا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشى﴾ [طه: ٣] ﴿تَنْـزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ والسَّماواتِ العُلا﴾ [طه: ٤] ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] - إلى قَوْلِهِ ﴿اللَّهُ (p-١٢)لا إلَهَ إلا هو لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [طه: ٨] هَذا التَّوْحِيدُ وإظْهارُهُ هو كانَ يَوْمَئِذٍ المَقْصُودَ الأوَّلَ وذَلِكَ قَبْلَ إسْلامِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وعُمَرُ مُوفِي أرْبَعِينَ مِن عَدَدِ المُؤْمِنِينَ، فَلَمّا دَخَلَ الإسْلامَ مَن لا يَبْعَثُهُ الحَبُّ والِاسْتِراحَةُ عَلى الصَّلاةِ بَعْدَ عَشْرٍ أوْ نَحْوِها فُرِضَتِ الصَّلاةُ فاسْتَوى في فَرْضِها المُحِبُّ والخائِفُ، وسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ التَّطَوُّعَ عَلى ما كانَ أصْلُها، وذَلِكَ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الإسْراءِ، وأوَّلَ مَنزِلِ هَذا الحَرْفِ واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ في فَرْضِ هَذا الرُّكْنِ أوْ مِن أوَّلِ مَنزِلِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾ [الإسراء: ٧٨] اخْتَصَّ لَهم بِها أوْقاتَ الرَّحْمَةِ وجَنَّبَهم بِهِ أوْقاتَ الفِتْنَةِ ومِنهُ جَمِيعُ آيِ إقامَةِ الصَّلاةِ وإتْمامِها.
الرُّكْنُ الآخَرُ الصَّوْمُ وهو إذْلالُ النَّفْسِ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِإمْساكِها عَنْ كُلِّ ما تَشَوَّفُ إلَيْهِ مِن خاصِّ أمْرِها نَهارًا لِلْمُقْتَصِرِ ودَوامًا لِلْمُعْتَكِفِ، وهو صِلَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ نَفْسِهِ ووَصْلٌ لِشَتاتِهِ في ذاتِهِ، وأوَّلُ ما أُنْزِلَ هَذا الرُّكْنُ مِن هَذا الحَرْفِ بِالمَدِينَةِ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الهِجْرَةِ وأوَّلُ مَنزِلِهِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣] وإنَّما فُرِضَ واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ بِالمَدِينَةِ لِأنَّهم لَمّا آمَنُوا مِن (p-١٤)عَداوَةِ الأمْثالِ والأغْيارِ وعامِ الفِتْنَةِ بِالمَدِينَةِ عادَتِ الفِتْنَةُ خاصَّةً في الأنْفُسِ بِالتَّبَسُّطِ في الشَّهَواتِ وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالمُؤْمِنِينَ المُؤْثِرِينَ لِلدِّينِ عَلى الدُّنْيا، ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إتْمامَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ [البقرة: ١٨٥] إلى ما يَخْتَصُّ مِنَ الآيِ بِأحْكامِ الصِّيامِ.
الرُّكْنُ الآخَرُ الزَّكاةُ وهو كَسْرُ نَفْسِ الغَنِيِّ بِما يُؤْخَذُ بِأخْذِهِ مِنهُ مِن حَقِّ أصْنافِها إظْهارًا لِأنَّ المُشْتَغِلِينَ بِالدِّينِ آثَرُ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى مِنَ المُقِيمِينَ عَلى الأمْوالِ ولِيَمِيزَ بِها الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ المُنافِقِينَ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الرِّياءِ في العَمُودِ والرُّكْنَيْنِ، ولَمْ يَشْهَدِ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِالنِّفاقِ جَهْرًا أعْظَمَ مِن شَهادَتِهِ عَلى مانِعِ الزَّكاةِ، ومَن مَنَعَ زَكاةَ المالِ عَنِ الخَلْقِ كانَ كَمَنِ امْتَنَعَ عَنْ زَكاةِ قُواهُ بِالصَّلاةِ مِنَ الحَقِّ، فَلِذَلِكَ لا صَلاةَ لِمَن لا زَكاةَ لَهُ، وكَما كانَتِ الزَّكاةُ حُبًّا قَبْلَ فَرْضِها كَذَلِكَ كانَ الإنْفاقُ لِما زادَ عَلى الفَضْلِ عَزْمًا مَشْهُورًا عِنْدَهم لا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ ولا يَشْعُرُونَ في الإسْلامِ بِسِواهُ، فَلَمّا شَمِلَ الإسْلامَ أخْلاطٌ وشَحَّتِ النُّفُوسُ فُرِضَتِ الزَّكاةُ وعُيِّنَ أصْنافُها، وذَلِكَ بِالمَدِينَةِ حِينَ اتَّسَعَتْ أمْوالُهم وكَثُرَ خَيْرُ اللَّهِ عِنْدَهم وحَيَّ عَمَّ نِفاقَ قَوْمٍ بِها أنَفَةٌ (p-١٥)مِن حَطِّ رِئاسَتِهِمْ بِتَذَلُّلِ الإسْلامِ لِلَّهِ والنَّصَفَةِ بِخَلْقِ اللَّهِ وتَبَيَّنَ فِيها الخِطابُ مَرَّةً لِأرْبابِ الأمْوالِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ”وآتَوْا الزَّكاةَ“ لِتَكُونَ لَهم قُرْبَةً إذا آتَوْها سَماحًا ومَرَّةً لِلْقائِمِ بِالأمْرِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] حِينَ يُؤْنَسُ مِن نُفُوسِهِمْ شُحٌّ وشَدَّدَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى فِيها الوَعِيدَ في القُرْآنِ جَبْرًا لِضَعْفِ أصْنافِها ونَسَّقَ لِذَلِكَ جَمِيعَ ما أنْزَلَ في بَيانِ النَّفَقاتِ والصَّدَقاتِ بِدارًا عَنْ حُبٍّ أوِ ائْتِمارًا عَنْ خَوْفٍ.
الرُّكْنُ الآخَرُ الحَجُّ وهو حَشْرُ الخَلْقِ مِن أقْطارِ الأرْضِ لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ في خاتَمِ مَنِيَّتِهِمْ ومُشارَفَةِ وفاتِهِمْ لِيَكُونَ لَهم أمَنَةً مِن حَشْرِ ما بَعْدَ مَماتِهِمْ، فَكَمَّلَ بِهِ بِناءَ الدِّينِ وذَلِكَ في أواخِرِ سِنِي الهِجْرَةِ ومِن آخِرِ المُنَزَّلِ بِالمَدِينَةِ، وأوَّلِ خِطابِهِ ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] بِتَنْبِيهِهِ عَلى أذانِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالا﴾ [الحج: ٢٧] إلى ما أنْزَلَ في أمْرِ الحَجِّ وأحْكامِهِ الحَظِيرَةُ الحائِطُ وهي الجِهادُ، ولَمْ تَزَلْ مُصاحَبَةُ الأرْكانِ كُلِّها إمّا مَعَ ضَعْفٍ كَما بِمَكَّةَ أوْ مَعَ قُوَّةٍ كَما في المَدِينَةِ، ومِن أوَّلِ تَصْرِيحِ مَنزِلِهِ
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأنَّهم ظُلِمُوا﴾ [الحج: ٣٩] إلى قَوْلِهِ ﴿وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً (p-١٥)كَما يُقاتِلُونَكم كافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦] ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكم مِنَ الكُفّارِ﴾ [التوبة: ١٢٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ﴾ [التوبة: ٧٣] إلى انْتِهاءِ قِتالِ أهْلِ الكِتابِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] الآيَةَ إلى تَمامِ المُنَزَّلِ في شَأْنِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: ٣٩] وهَذا تَمامُ حَرْفِ الأمْرِ؛ ولِكُلٍّ في ذَلِكَ الظّاهِرِ في الإسْلامِ مَوْقِعُ حُدُودِهِ في الإيمانِ ومَوْقِعٌ في الإحْسانِ لَدى ثَلاثَتِها الَّذِي هو كَمالُ الدِّينِ كُلِّهِ، ذَلِكَ مِن تَنَزُّلِ القُرْآنِ مِن بَيْنِ إفْصاحٍ وإفْهامٍ في هَذا الحَرْفِ، وهو وفاءُ الدِّينِ والتَّعَبُّدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
ثُمَّ قالَ فِيما بِهِ تَحْصُلُ قِراءَةُ حَرْفِ الأمْرِ: اعْلَمْ أنَّ الوَفاءَ بِقِراءَةِ حَرْفِ النَّهْيِ تَمامًا يُفَرِّغُ لِقِراءَةِ حَرْفِ الأمْرِ، لِأنَّ المُقْتَنِعَ في مَعاشِ الدُّنْيا يَتَيَسَّرُ لَهُ التَّوَسُّعُ في عَمَلِ الأُخْرى، والمُتَوَسِّعُ في مَتاعِ الدُّنْيا لا يُمْكِنُهُ التَّوَسُّعُ في عَمَلِ الأُخْرى لِما بَيْنَهُما مِنَ التَّضارِّ والتَّضادِّ، والَّذِي تَحْصُلُ بِهِ قِراءَةُ هَذا الحَرْفِ أمّا مِن جِهَةِ القَلْبِ فالتَّوْحِيدُ والإخْلاصُ، وأعَمُّ ذَلِكَ البَراءَةُ مِنَ الشِّرْكِ العَظِيمِ لِئَلّا يَتَّخِذَ مَعَ اللَّهِ (p-١٧)إلَهًا آخَرَ، لِأنَّ المُشْرِكَ في الإلَهِيَّةِ لا تَصِحُّ مِنهُ المُعامَلَةُ بِالعِبادَةِ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أعْمالُهم كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ في يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ﴾ [إبراهيم: ١٨] وأخَصُّ مِنهُ الإخْلاصُ بِالبَراءَةِ مِنَ الشِّرْكِ الجَلِيِّ بِأنْ لا يَرى لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى شَرِيكًا في شَيْءٍ مِن أسْمائِهِ الظّاهِرَةِ، لِأنَّ المُشْرِكَ في سائِرِ أسْمائِهِ الظّاهِرَةِ لا يَصِحُّ لَهُ القَبُولُ، والَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: لَوْ أنَّ لِأحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأنْفَقَهُ ما قَبِلَ اللَّهُ مِنهُ حَتّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ.
ولِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ المَأْمُوراتِ خُصُوصُ اسْمٍ في الإخْلاصِ كَإخْلاصِ المُنْفِقِ بِأنَّ الإنْعامَ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لا مِنَ العَبْدِ المُنْفِقِ، وكَإخْلاصِ المُجاهِدِ بِأنَّ النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لا مِنَ العَبْدِ المُجاهِدِ ﴿وما النَّصْرُ إلا مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٢٦] وكَذَلِكَ سائِرُ الأعْمالِ يَخُصُّها الإخْلاصُ في اسْمٍ مِنَ الأسْماءِ يَكُونُ أمْلَكَ بِذَلِكَ العَمَلِ، وأمّا مِن جِهَةِ أحْوالِ النَّفْسِ فَأوَّلُها وأساسُها طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ بِرَبِّها في قِوامِها مِن غَيْرِ طُمَأْنِينَةٍ لِشَيْءٍ سِواهُ، فَمَتى اطْمَأنَّتِ النَّفْسُ بِما تَقْدِرُ عَلَيْهِ وما لَها مِن مِنَّةٍ أوْ بِما تَمْلِكُهُ مِن مَمْلُوكٍ أوْ بِما تَسْتَنِدُ إلَيْهِ مِن غَيْرٍ رُدَّتْ جَمِيعُ عِباداتِها لِما اطْمَأنَّتْ إلَيْهِ وكُتِبَ اسْمُها عَلى وجْهِهِ وكانَتْ أمَتَهُ لا أمَةَ رَبِّها وكانَ (p-١٨)المَرْءُ عَبْدَهُ لا عَبْدَ رَبِّهِ «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ وعَبْدُ الدِّرْهَمِ وعَبْدُ الخَمِيصَةِ» وهَذا هو الَّذِي أحْبَطَ عَمَلَ العامِلِينَ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، وأمّا مِن جِهَةِ ما يَخُصُّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الأوامِرِ في أحْوالِ النَّفْسِ فَما يُناسِبُهُ مِن أحْوالِها وأخْلاقِها كاجْتِماعِها في الصَّلاةِ بِأنْ لا تُصْغِيَ لِوَسْواسِ الشَّيْطانِ وأنْ لا تَتَحَدَّثَ في تَسْوِيلِها، وكَسَماحِها وسَخائِها في الإنْفاقِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، وكَصَبْرِها في الصَّوْمِ والصَّوْمُ الصَّبْرُ كُلُّهُ، ويَصْحَبُها كُلُّ ذَلِكَ في الحَجِّ مَعَ زِيادَةِ اليَقِينِ، ويَصْحَبُها الجَمِيعُ في الجِهادِ مَعَ غَرِيزَةِ الشَّجاعَةِ، هَذا مِن جِهَةِ حالِ النَّفْسِ وأمّا مِن جِهَةِ العَمَلِ وأحْوالِ الجَوارِحِ فَإنَّ أدَبَ النّاطِقِ بِكَلِمَةِ الشَّهادَةِ أنْ يَجْمَعَ حَواسَّهُ إلى قَلْبِهِ ويُحْضِرَ في قَلْبِهِ كُلَّ جارِحَةٍ فِيهِ ويَنْطِقَ بِلِسانِهِ عَنْ جَمِيعِ ذاتِهِ أحْوالَ نَفْسٍ وجَوارِحَ بَدَنٍ حَتّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مِنهُ وكُلُّ جارِحَةٍ فِيهِ وكُلُّ حالٍ لِنَفْسِهِ قِسْطَهُ مِنها كَما أشارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ واعْلَمْ أنَّ بِذَلِكَ
«تَتَحاتُّ عَنْهُ الذُّنُوبُ كَما يَتَحاتُّ الوَرَقُ عَنِ الشَّجَرِ» فَلَمْ يَقْرَأْ تَهْلِيلَ القُرْآنِ مَن لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حالَهُ فِيهِ وكَذَلِكَ في تَشَهُّدِ الأذانِ، وبِذَلِكَ يَهْدِمُ التَّهْلِيلُ سَيِّئاتِهِ في الإسْلامِ كَما هَدَمَ مِنَ المُخَلِّصِ بِهِ جَرائِمَ الكُفْرانِ، «سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا (p-١٩)يُؤَذِّنُ فَلَمّا قالَ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، قالَ: عَلى الفِطْرَةِ، فَلَمّا قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، قالَ: خَرَجْتَ مِنَ النّارِ» وأمّا أدَبُ الصَّلاةِ فَخُشُوعُ الجَوارِحِ والهُدُّوِّ في الأرْكانِ وإتْمامُ كُلِّ رُكْنٍ بِأذْكارِهِ المَخْصُوصَةِ بِهِ وجَمْعُ الحَواسِّ إلى القَلْبِ كَحالِهِ في الشَّهادَةِ حَتّى لا يُحَقِّقَ مُدْرِكُ حاسَّةٍ غَفْلَةً، وأمّا أدَبُ الإنْفاقِ فَحُسْنُ المُناوَلَةِ، كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُناوِلُ السّائِلَ بِيَدِهِ ولا يَكِلُهُ إلى غَيْرِهِ الإسْرارَ أتَمَّ ﴿وإنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوها الفُقَراءَ فَهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١] ويُنْفِقُ مِن كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ ما رَزَقَهُ مُياوَمَةً أوْ مُشاهَرَةً أوْ مُسانَهَةً ﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣] وأمّا أدَبُ الصَّوْمِ فالسُّحُورُ مُؤَخَّرًا والفِطْرُ مُعَجَّلًا، وصَوْمُ الأعْضاءِ كُلِّها عَنِ العَدْلِ فَأحْرى عَنِ الجَوْرِ وتَرْكُ العِنايَةِ بِما يُفْطِرُ عَلَيْهِ إلى ما بَعْدَ الزَّوالِ والأخْذُ فِيهِ لِشَهْوَةِ العِيالِ؛ وأمّا أدَبُ الحَجِّ فاسْتِطابَةُ الزّادِ والِاعْتِمادُ عَلى ما بِيَدِ اللَّهِ لا عَلى حاصِلِ ما بِيَدِ العَبْدِ، وهو تَزَوُّدُ التَّقْوى والرَّفْعُ مَعَ الرَّفِيقِ والرِّفْقُ بِالظَّهْرِ وتَحْسِينُ الأخْلاقِ والإنْفاقُ في الهَدْيِ وهو الثَّجُّ والإعْلانُ بِالتَّلْبِيَةِ وهو العَجُّ، وتَتَبُّعُ أرْكانِهِ عَلى ما تَقْتَضِيهِ أحْكامُهُ وإقامَةُ شَعائِرِهِ عَلى مَعْلُومِ السُّنَّةِ لا عَلى مَعْهُودِ (p-٢٠)العادَةِ، وأمّا أدَبُ الجِهادِ فاسْتِطابَةُ الزّادِ وإصْلاحُ العُدَّةِ ومُياسَرَةُ الخُلَطاءِ وحُسْنُ القِيامِ عَلى الخَيْلِ وتَطْيِيبُ عَلَفِها تَصْفِيَةً ووَرَعًا وتَناوُلُهُ بِيَدِهِ «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَناوَلُ عَلَفَ فَرَسِهِ بِيَدِهِ ويَمْسَحُهُ بِرِدائِهِ» والتِزامُ ما يَجِدُ مَعَهُ المِنَّةَ مِن أنْ يَكُونَ فارِسًا أوْ راجِلًا أوْ رامِحًا أوْ نابِلًا، مِن تَكَلُّفِ غَيْرِ ما يَجِدُ مُنْتَهٍ فَقَدْ ضَيَّعَ الحَقَّ وعَمِلَ بِالتَّكْلِيفِ، والصَّمْتُ عِنْدَ اللِّقاءِ وغَضُّ البَصَرِ عَنِ النَّظَرِ إلى الأعْداءِ، وقالَ ﷺ «إذا أكْثَبُوكم فارْمُوهم ولا تَسُلُّوا السُّيُوفَ حَتّى يَغُشُّوكم»، وكَفُّ اليَدِ عَمّا لِلْغَيْرِ فِيهِ حَقٌّ وهو الغُلُولُ، وأنْ لا يَدْعُوا لِلْبِرازِ وأنْ يُجِيبَ إذا دُعِيَ وقالَ ﷺ:
«يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: عَبْدِي كُلُّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُ اللَّهَ وهو مُلاقٍ قَرْنَهُ» ولِكُلِّ أمْرٍ وتَلَبُّسٍ بِمَأْمُورٍ أدَبٌ يَخُصُّهُ عَلى ما يُسْتَقْرَأُ مِنَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ وآثارِ الخُلَفاءِ وصالِحِي الأُمَراءِ (p-٢١)فَبِهَذِهِ الأُمُورِ مِن إخْلاصِ القَلْبِ وطِيبِ النَّفْسِ وأدَبِ الجَوارِحِ، فَيَصِحُّ قِراءَةُ حَرْفِ الأمْرِ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ - انْتَهى.
{"ayah":"۞ لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤىِٕلِینَ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَـٰهَدُوا۟ۖ وَٱلصَّـٰبِرِینَ فِی ٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











