الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وهُوَ يَرِثُها إنْ لَمْ يَكُنْ لَها ولَدٌ فَإنْ كانَتا اثْنَتَيْنِ فَلَهُما الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالًا ونِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلُّوا واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: ١٧٦].
تقدَّمَ في أوَّلِ سورةِ النِّساءِ الكلامُ على المواريثِ وميراثِ الإخوةِ، وأرجَأْنا الكلامَ على الكَلالةِ وميراثِ الجَدِّ مع الإخوةِ إلى هذه الآيةِ.
الكلالةُ وحكمُها:
وتُسمّى هذه الآيةُ بآيةِ الكَلالةِ وآيةِ الصَّيْفِ، والكَلالةُ لها مَعانٍ، منها: الإكليلُ الذي يُحِيطُ بالرَّأْسِ مِن جَوانبِه، إشارةً إلى أنّ القَرابةَ ليستْ أصلًا ولا فرعًا، يعني: لا فَوْقًا كالأبِ، ولا تَحْتًا كالابنِ، ومِن مَعانيها: مَن لم يَكُنْ لَحًّا مِنَ القرابةِ، يَعني: قريبًا، فيُقالُ: فلانٌ ابنُ عمِّ فلانٍ لَحًّا، وفلانٌ ابنُ عمِّ فلانٍ كَلالةً.
وإنّما سمّاها النبيُّ ﷺ آيةَ الصَّيْفِ، لأنّه نزَلَ في الكَلالةِ آيَتانِ: آيةٌ في الشِّتاءِ، وهي ما تقدَّمَ في أوَّلِ النِّساءِ: ﴿ولَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أزْواجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ ولَدٌ﴾ [١٢]، وآيةٌ في الصَّيْفِ، وهي هذه الآيةُ، آخِرُ آيةٍ مِنَ النِّساءِ.
كما روى مسلمٌ في «صحيحِه»، مِن حديثِ مَعْدانَ بنِ أبي طَلْحَةَ، أنّ عُمرَ بنَ الخطّابِ خطَبَ يومَ الجُمُعةِ، فذكَرَ نبيَّ اللهِ ﷺ، وذكَرَ أبا بكرٍ، قال: «إنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلاثَ نَقَراتٍ، وإنِّي لا أُراهُ إلاَّ حُضُورَ أجَلِي، وإنَّ أقْوامًا يَأْمُرُونَنِي أنْ أسْتَخْلِفَ، وإنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ، ولا خِلافَتَهُ، ولا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ، فَإنْ عَجِلَ بِي أمْرٌ، فالخِلافَةُ شُورى بَيْنَ هَؤُلاءِ السِّتَّةِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وهُوَ عَنْهُمْ راضٍ، وإنِّي قَدْ عَلِمْتُ أنَّ أقْوامًا يَطْعَنُونَ فِي هَذا الأَمْرِ، أنا ضَرَبْتُهُمْ بِيَدِي هَذِهِ عَلى الإسْلامِ، فَإنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَأُولَئِكَ أعْداءُ اللهِ الكَفَرَةُ الضُّلاَّلُ، ثُمَّ إنِّي لا أدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أهَمَّ عِنْدِي مِنَ الكَلالَةِ، ما راجَعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي شَيْءٍ ما راجَعْتُهُ فِي الكَلالَةِ، وما أغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ ما أغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتّى طَعَنَ بِإصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، فَقالَ: (يا عُمَرُ، ألا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّساءِ؟!)، وإنِّي إنْ أعِشْ أقْضِ فِيها بِقَضِيَّةٍ، يَقْضِي بِها مَن يَقْرَأُ القُرْآنَ ومَن لا يَقْرَأُ القُرْآنَ...»[[أخرجه مسلم (٥٦٧) (١/٣٩٦).]].
والكَلالةُ في أولِ سورةِ النِّساءِ هي مَن لا ولَدَ له وإنْ نزَلَ، ولا والِدَ له وإنْ عَلا، وأمّا الكلالةُ في هذه الآيةِ، فقد اختُلِفَ فيها اختِلافًا عريضًا، وقد ثبَتَ عنه في «الصحيحَيْنِ»، أنّه قال: «ثَلاثٌ أيُّها النّاسُ، ودِدتُّ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ عَهِدَ إلَيْنا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إلَيْهِ: الجَدُّ، والكَلالَةُ، وأَبْوابٌ مِن أبْوابِ الرِّبا»[[أخرجه البخاري (٥٥٨٨) (٧/١٠٦)، ومسلم (٣٠٣٢) (٤/٢٣٢٢).]].
وإنّما لم يقضِ فيها النبيُّ ﷺ، لأنّها آخِرُ الآياتِ نزولًا، ولم يَطُلْ بقاؤُهُ بعدَها كثيرًا، ولم يَقُمْ مُوجِبُ القضاءِ بها في زَمَنِه، وقد روى البخاريُّ ومسلِمٌ عن البَراءِ، قال: «آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ: (بَراءَةُ)، وآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ﴾»[[أخرجه البخاري (٤٦٠٥) (٦/٥٠)، ومسلم (١٦١٨) (٣/١٢٣٦).]].
وقد كان السَّلَفُ يَستَشكِلونَها ويَستثقِلُونَ الكلامَ فيها، لأنّها تتعلَّقُ بالأموالِ والحقوقِ، وهي مبنيَّةٌ على المُشاحَّةِ لا على المُسامَحةِ، والعاقبةُ فيها في الدُّنيا والآخِرَةِ شديدةٌ لِمَن قضى فيها بغيرِ علمٍ وبيِّنةٍ، وقد سأل رجلٌ عُقْبةَ عن الكلالةِ؟ فقال: ألا تَعْجَبُونَ مِن هذا؟! يَسألُني عنِ الكلالةِ! وما أعضَلَ بأصحابِ النبيِّ ﷺ شيءٌ ما أعضَلَتْ بهِمُ الكَلالةُ[[«تفسير الطبري» (٧/٧٢٣).]].
وقد اجتَهَدَ فيها الصحابةُ، حَسْمًا للنِّزاعِ، ورَفْعًا للحَرَجِ، وهم معذورونَ مأجورون، لأنّ بعضَ الأحكامِ التي لا دليلَ فيها صحيحًا صريحًا لو تُرِكَتْ مع قيامِ حاجةِ الناسِ إليها، وقَعَ مِن النِّزاعِ والشِّقاقِ أعظَمُ مِن تَبِعَتِها على المجتهِدِ المُخطِئِ فيها، وهذا مِن الفقهِ لا مِن التعدِّي على المسائلِ الشرعيَّةِ بلا عِلْمٍ، ولأنّ اللهَ لا يسكُتُ عَن حُكْمٍ ولا يُبيِّنُهُ في كتابِهِ ولا يفصِّلُ فيه في سُنَّةِ نبيِّه ﷺ إلاَّ ويجعلُ فيه مِن السَّعَةِ للمجتهِدِينَ أن يَقْضُوا فيه بما يُوافِقُ الأصولَ ولا يُعارِضُها، ويجري مَجرى الفروعِ ولا يُعطِّلُها، وقد جاء تفسيرُ الكلالةِ عَنِ السَّلَفِ والفُقهاءِ على مَعانٍ:
الأوَّلُ: ما قضى أبو بكرٍ به في الكَلالةِ، وتَبِعَهُ عُمَرُ، أنّ الكلالةَ هي ما عَدا الوالِدَ والولَدَ، رواهُ الدّارِميُّ مِن حديثِ الشَّعْبيِّ عنهُما[[أخرجه الدارمي (٢٩٧٢).]].
ومُرادُهما: كلُّ مَن ماتَ وليس له والدٌ ولا ولَدٌ، مهما كان وارثُهُ الموجودُ زوجًا أو أخًا أو غيرَهما.
الثاني: أنّ الكَلالةَ هي مَن لا ولَدَ له، وبهذا قال مِن الصحابةِ: ابنُ عُمَرَ وابنُ عبّاسٍ، ورُوِيَ قولًا لعُمرَ صحيحًا، أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ عنه[[«تفسير الطبري» (٦/٤٨٠).]]، وبه قال طاوسٌ.
وأخَذَ مَن جعَلَ الكَلالةَ هي فَقْدَ الولَدِ وحدَهُ ولو كانَ الوالدُ موجودًا ـ بظاهِرِ قولِه تعالى: ﴿إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ﴾.
وتُعُقِّبَ: بأنّ عدَمَ ذِكْرِ الوالدِ للعِلْمِ به، لأنّ الآيةَ نزَلَتْ في حالِ جابرٍ، ولم يكنْ له والِدٌ ولا ولَدٌ حِينَ نُزولِها، ففي «الصحيحَيْنِ»، عن جابرٍ، قال: «مَرِضْتُ فَأَتانِي رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَبُو بَكْرٍ يَعُودانِي ماشِيَيْنِ، فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِن وضُوئِهِ، فَأَفَقْتُ، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أقْضِي فِي مالِي؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، حَتّى نَزَلَتْ آيَةُ المِيراثِ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ﴾»، واللفظُ لِمُسلمٍ[[أخرجه البخاري (٥٦٥١) (٧/١١٦)، ومسلم (١٦١٦) (٣/١٢٣٤).]].
ميراثُ الأبِ والإخوةِ:
ثمَّ إنّ الوالِدَ هو الأبُ وإن علا، كالجَدِّ وأبي الجَدِّ، ولم يُذكَرْ في الآيةِ، حتّى لا يدخُلَ فيه أوَّلُ داخلٍ، وهو الأبُ، فيُظَنَّ أنّ الإخوةَ يَرِثُونَ معَ الأبِ، وهم لا يَرِثونَ بالإجماعِ، فهو يحجُبُهم بلا خلافٍ، كما حكى الإجماعَ ابنُ المُنذِرِ وغيرُه[[«الإجماع» لابن المنذر (ص ٧٠).]]، ولم يُخالِفْ في هذا إلاَّ الرافِضةُ، ورُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ، ولا يَصِحُّ.
ميراثُ الإخوةِ لأبٍ مع الأشقّاء:
وميراثُ الإخوةِ لأبٍ مع الإخوةِ الأشِقّاءِ كميراثِ بني الابنِ مع الابنِ مِن الصُّلْبِ بلا خِلافٍ، فلا يَرِثُ الإخوةُ لأبٍ مع الإخوةِ الأشِقّاءِ شيئًا، ولا تَرِثُ الأخواتُ لأبٍ مع الأخواتِ الشقيقاتِ شيئًا، لأنّهُنَّ استَكمَلْنَ الثُّلُثَيْنِ، وذلك لأنّ حُكْمَهُنَّ كحُكْمِ بناتِ الابنِ مع الجَمْعِ مِن بناتِ الصُّلْبِ، وهذا لا خلافَ فيه.
وأمّا إن كان مع الأخواتِ لأبٍ أخٌ ذكَرٌ، فقال جمهورُ العلماءِ: إنّه يُعصِّبهنَّ بما تبقّى مِن المالِ بعدَ الثُّلثَيْنِ، كما يعصِّبُ ابنُ الابنِ بناتِ الابنِ، وقيلَ: إنّ المالَ للأخِ دونَهُنَّ، وبِهذا قال أبو ثَوْرٍ.
ورُوِيَ عنِ ابنِ مسعودٍ: أنّ الأخَ لأبٍ يعصِّبُ الأخواتِ لأبٍ معَهُ إن كان حقُّه فَرْضًا، وهو السُّدُسُ تكمِلةَ الثُّلثَيْنِ معَ الأختِ الواحدةِ التي تَستحِقُّ النِّصْفَ، فالسُّدُسُ الباقي بَينَهُ وبينَ مَن معَه مِن الأخواتِ لأبٍ، للذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثيَيْنِ، وإنْ أخَذَهُ تعصيبًا بما بَقِيَ مِن المالِ بعدَ استكمالِ الثُّلثَيْنِ وهو الثُّلُثُ، فالباقي له، ولا يُعصِّبُ أخواتِه معَهُ.
ولا خلافَ عندَ العلماءِ في أنّ الإخوةَ لأبٍ يقومونَ مقامَ الإخوةِ الأشِقّاءِ عندَ فَقْدِهم، كما يقومُ أبناءُ الابنِ مقامَ أبناءِ الصُّلْبِ عندَ فقْدِهم.
ومِن صُوَرِ الكَلالةِ التي وقَعَ فيها خِلافٌ:
لو ماتَ ميِّتٌ عن بنتٍ وأخٍ لأبٍ وأختٍ شقيقةٍ، فاتَّفَقَ العلماءُ: أنّ البنتَ لها النِّصْفُ، واختَلَفُوا في النِّصْفِ الباقي:
فالذي عليه جمهورُ العلماءِ: أنّ الباقيَ للأختِ، ولا شيءَ للأخِ لأبٍ.
وذهَبَ ابنُ عبّاسٍ: أنّ النِّصْفَ الباقيَ للأخِ دون الأختِ الشقيقةِ.
ولا خلافَ عند الفقهاءِ: أنّ الأخَ يعصِّبُ أخَواتِهِ فيَأخُذْنَ ما بَقِيَ بعدَ الفرضِ.
المُشَرَّكةُ وحكمُها:
ووقعَ الخلافُ في المُشتَرَكةِ أو المُشرَّكةِ أو الحِمارِيَّةِ، وهي هَلاكُ الهالكةِ عن زوجِها وأمِّها وأخَوَيْنِ لأُمٍّ وإخوةٍ أشقّاءَ ـ على قولَيْنِ: هل يتَقاسَمُ الإخوةُ ما تبقّى مِنَ المالِ جميعًا، أم لأهلِ الفرائضِ ولا يبقى للإخوةِ شيءٌ؟
والقولانِ هُما روايتانِ عن زيدِ بنِ ثابتٍ:
الأوَّلُ: أنّ المالَ لأهلِ الفرائضِ، ولا يبقى للإخوةِ شيءٌ، وإلى هذا ذهَبَ أحمَدُ، وهو قضاءُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ وأبَيٍّ وأَبي مُوسى وابنِ مسعودٍ.
وذلك لقولِ النبيِّ ﷺ: (اقْسِمُوا المالَ بَيْنَ أهْلِ الفَرائِضِ عَلى كِتابِ اللهِ، فَما تَرَكَتِ الفَرائِضُ، فَلأَوْلى رَجُلٍ ذَكَرٍ)[[أخرجه البخاري (٦٧٣٧) (٨/١٥٢)، ومسلم (١٦١٥) (٣/١٢٣٤).]].
الثاني: أنّ المالَ يُقسَمُ بينَهم، وإلى هذا ذهَبَ مالكٌ والشافعيُّ والثوريُّ وكثيرٌ مِنَ التّابعينَ، كشُرَيْحٍ ومسروقٍ وابنِ المسيَّبِ وعُمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وطاوسٍ، وذلك أنّهم يُشارِكونَ إخوانَهم في النَّسَبِ الذي يَمُتُّونَ إلى الميِّتِ به، فوجَبَ أن يُشارِكوهم في الميراثِ.
ميراثُ الأَخَواتِ:
وتأخُذُ الأختُ مع عدَمِ الوالدِ النِّصْفَ، فقد روى أحمدُ، عن أبي بكرِ بنِ عبدِ اللهِ، عن مكحولٍ وعَطيَّةَ وضَمْرَةَ وراشدٍ، عن زيدِ بنِ ثابتٍ، أنَّهُ سُئِلَ عَنْ زَوْجٍ وأُخْتٍ لِأُمٍّ وأَبٍ، فَأَعْطى الزَّوْجَ النِّصْفَ، والأُخْتَ النِّصْفَ، فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ، فَقالَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَضى بِذَلِكَ[[أخرجه أحمد (٢١٦٣٩) (٥/١٨٨).]].
والأخَواتُ عَصَبةٌ معَ البناتِ، وإن لم يَكُنْ معَهُنَّ أخٌ عندَ عامَّةِ العُلَماءِ، كمَن ماتَ عن بنتٍ وأختٍ، فلا خلافَ في أنّ للبنتِ النِّصْفَ، واختُلِفَ في ميراثِ الأختِ على قولَيْنِ:
الأوَّلُ: أنْ لا مِيراثَ للأُخْتِ، لأنّ البنتَ حجَبَتْها، لأنّها ولَدٌ، كما في قولِه تعالى: ﴿إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ﴾، وذلك أنّ الوالدَ ترَكَ بِنْتًا، ومَن ترَك بِنتًا، فقَدْ ترَكَ ولَدًا، فلا شيءَ للأُختِ.
وهذا القولُ رُوِيَ عنِ ابنِ عبّاسٍ وابنِ الزُّبَيْرِ، وعدَّه ابنُ جريرٍ غريبًا، لِمخالَفةِ الأمَّةِ له، وقال: اتَّفقَ جميعُ أهلِ القِبْلةِ على أنّ الباقيَ للأُخْتِ[[«تفسير الطبري» (٧/٧٢٣).]].
وأخبَرَ الأسوَدُ بنُ يَزيدَ ابنَ الزُّبيرِ بقضاءِ مُعاذٍ في بنتٍ وأختٍ، فرَجَعَ عن قولِهِ هذا.
الثاني: قولُ عامَّةِ العُلَماءِ: أنّ للبنتِ النِّصْفَ بالفَرْضِ، وللأختِ النِّصْفَ الآخَرَ بالتعصيبِ، وهو الصحيحُ، لأنّ آيةَ الكَلالةِ تكلَّمَتْ عن ميراثِ الفَرْضِ، وميراثُ الأختِ هنا مع البنتِ ليس فَرْضًا، بل تعصيبًا، لِما روى البخاريُّ، عن سُلَيْمانَ، عن إبْراهِيمَ عن الأسوَدِ، قال: «قَضى فِينا مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ، عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: النِّصْفُ لِلابْنَةِ، والنِّصْفُ لِلْأُخْتِ، ثُمَّ قالَ سُلَيْمانُ: قَضى فِينا، ولَمْ يَذْكُرْ: عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ»[[أخرجه البخاري (٦٧٤١) (٨/١٥٢).]].
وكذلك ما رواهُ البخاريُّ، عن هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قالَ: «سُئِلَ أبُو مُوسى عَنْ بِنْتٍ وابْنَةِ ابْنٍ وأُخْتٍ، فَقالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، ولِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَسَيُتابِعُنِي، فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأُخْبِرَ بِقَوْلِ أبِي مُوسى، فَقالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وما أنا مِنَ المُهْتَدِينَ! أقْضِي فِيها بِما قَضى النَّبِيُّ ﷺ: لِلابْنَةِ النِّصْفُ، ولاِبْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وما بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فَأَتَيْنا أبا مُوسى فَأَخْبَرْناهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقالَ: لا تَسْأَلُونِي ما دامَ هَذا الحَبْرُ فِيكُمْ»[[أخرجه البخاري (٦٧٣٦) (٨/١٥١).]].
وقولُه تعالى: ﴿إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ﴾، ولم يَذكُرِ اللهُ شَرْطَ عدَمِ الوالدِ، وهو الأَبُ والجَدُّ، فخرَجَ الأبُ بالإجماعِ: أنّه يَحجُبُ الأَخَ، وقد أجمَعَ العُلَماءُ: على أنّ الجَدَّ لا يَرِثُ مع وجودِ الأَبِ، ولا يحجُبُ الجَدَّ إلا الأبُ، وأجمَعوا على أنّ الجدَّ الرَّحِميَّ ـ وهو مَن تَدخُلُ في نِسْبَتِهِ إلى الميِّتِ أُنثى ـ لا يَرِثُ معَ وجودِ أصحابِ الفرضِ والتعصيبِ، لأنّه يُعَدُّ مِن ذوي الأرحامِ.
ميراثُ الجَدِّ مع الإخوةِ:
وأمّا الجَدُّ، فهَل يرِثُ معَ الإخوةِ أو لا؟ فاتَّفَقُوا على أنّ الجَدَّ الصحيحَ الذي لا تَدخُلُ في نِسْبَتِهِ إلى الميِّتِ أُنثى: يحجُبُ الإخوةَ لأمٍّ، واختَلَفُوا في الإخوةِ الأشِقّاءِ والإخوةِ لأبٍ معَ الجَدِّ الصَّحيحِ على قولَيْنِ في مذهَبِ أحمدَ:
ذهَبَ أبو بكرٍ: إلى عدَمِ توريثِ الإخوةِ ـ أشقّاءَ ولأبٍ ولأمٍّ ـ مع الجَدِّ، فأنزَلَ الجَدَّ مَنزِلةَ الأبِ، وكان الناسُ على قولِه في حياتِه، ولم يُخالِفْهُ أحدٌ مِنَ الصحابةِ في زَمانِهِ، وذلك أنّ الجَدَّ أبٌ، كما قال تعالى: ﴿واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ﴾ [يوسف: ٣٨]، وقال: ﴿مِلَّةَ أبِيكُمْ إبْراهِيمَ﴾ [الحج: ٧٨]، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ وابنِ الزُّبَيْرِ، قالا: الجدُّ أبٌ.
وقال ابنُ عبّاسٍ: «يَرِثُني ابنُ ابني دونَ إخْوَتي، ولا أرِثُ أنا ابنَ ابني؟!»[[«صحيح البخاري» (٨/١٥١).]]
وقال به أبو موسى وجماعةٌ مِن الصحابةِ، وهو مذهبُ أبي حَنِيفةَ وأحَدُ قولَيْ أحمدَ، رجَّحَه ابنُ تيميَّةَ وغيرُه.
وذهَبَ جماعةٌ: إلى أنّ الجَدَّ لا يحجُبُ الإخوةَ الأشقّاءَ والإخوةَ لأبٍ، وإنّما يحجُبُ الجدُّ الإخوةَ لأمٍّ فقَطْ، وذلك أنّ الإخوةَ يتَساوَوْنَ معَ الجدِّ في سبَبِ الاستحقاقِ الذي أدْلَوْا به، فكِلاهُما اتَّصَلَ بالميِّتِ بواسطةِ الأبِ، لأنّ الجدَّ أبُو الأبِ، والأخَ ابنُ الأبِ.
وصحَّ ذلك عَن عُمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وزيدٍ، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وقولٌ لأحمدَ.
واختَلَفُوا في مِقْدارِ حقِّ الجَدِّ في الميراثِ مع الإخوةِ:
فكان عمرُ يُعطِيهِ السُّدُسَ، ثمَّ قال: إنّا نخافُ أن نكونَ أجْحَفْنا بالجَدِّ، فأعطاهُ الثُّلُثَ، رواهُ محمَّدُ بنُ نصرٍ بسندٍ صحيحٍ عن عَبِيدةَ بنِ عَمْرٍو[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٦/٢٤٩). وينظر: «فتح الباري» (١٢/٢٢).]].
وأخرَجَ سعيدُ بنُ مَنصورٍ، عن عُبَيْدِ بنِ نُضَيْلَةَ، أنّ عُمَرَ وابنَ مسعودٍ كانا يُقاسِمانِ الجَدَّ مع الإخوَةِ ما بينَهُ وبينَ أن يكونَ السُّدُسُ خيرًا له مِن مُقاسَمةِ الإخوةِ[[أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (٥٩) (١/٦٦).]].
وكان عليٌّ يُعطِيهِ السُّدُسَ بكلِّ حالٍ.
وإنّما اختَلَفَ اجتِهادُهم، لأنّه ليس في المسألةِ نَصٌّ صريحٌ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ في أصلِ حقِّ الإخوةِ معَهُ في الميراثِ.
وقولُه تعالى: ﴿وهُوَ يَرِثُها إنْ لَمْ يَكُنْ لَها ولَدٌ﴾، يَعني: الأختَ، فيَرِثُ الأخُ أختَهُ بلا خلافٍ بكاملِ مالِها، إنْ لم يَكُنْ لها والِدٌ ولا ولَدٌ، فإنّهم يَحْجُبُونَ الأخَ، وإن كان للأُخْتِ زوجٌ فيَرِثُ الزوجُ نصيبَهُ والباقي للأخِ.
وقولُه: ﴿فَإنْ كانَتا اثْنَتَيْنِ فَلَهُما الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ﴾، وحُكْمُ ما زادَ عن الاثنتَيْنِ مِن الأخَواتِ حُكْمُ الأختَيْنِ.
وعلى هذه الآيةِ: قاسَ العُلَماءُ حُكْمَ البِنتَيْنِ على حُكْمِ الأُختَيْنِ، فلهما الثُّلثانِ، ومِن آيةِ البناتِ في أوَّلِ النِّساءِ: ﴿فَإنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ﴾ [النساء: ١١] قاسَ العُلَماءُ ما زادَ على الأُختَيْنِ على حُكْمِ ما زاد على البِنتَيْنِ، فلهنَّ جميعًا الثُّلثانِ.
وقولُه: ﴿وإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالًا ونِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾، وهذا في الأولادِ وأولادِ الأولادِ والإخوةِ، ذكورًا وإناثًا، لِلذَّكَرِ مِثلُ حظِّ الأنثيَيْنِ تعصيبًا لكلِّ طَبَقةٍ مع طَبَقتِهِ مِن الجِنسَيْنِ.
وقولُه تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلُّوا﴾ دليلٌ على أنّ الخروجَ عن حُكْمِ اللهِ ضلالٌ عن الحقِّ وإنِ استحسَنَهُ الناسُ.
{"ayah":"یَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ یُفۡتِیكُمۡ فِی ٱلۡكَلَـٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌا۟ هَلَكَ لَیۡسَ لَهُۥ وَلَدࣱ وَلَهُۥۤ أُخۡتࣱ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ یَرِثُهَاۤ إِن لَّمۡ یَكُن لَّهَا وَلَدࣱۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَیۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوۤا۟ إِخۡوَةࣰ رِّجَالࣰا وَنِسَاۤءࣰ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۗ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّوا۟ۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمُۢ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق