الباحث القرآني

﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾؛ أيْ: يَسْألُونَكَ أنْ تُفْتِيَهُمْ؛ أيْ: أنْ تُبَيِّنَ لَهم بِما عِنْدَكَ مِنَ الكَرَمِ؛ والجُودِ؛ والسَّخاءِ؛ ما انْغَلَقَ عَلَيْهِمْ أمْرُهُ؛ وانْبَهَمَ لَدَيْهِمْ سِرُّهُ؛ مِن حُكْمِ الكَلالَةِ؛ ولِلِاعْتِناءِ بِأمْرِ المَوارِيثِ؛ قالَ - إشارَةً إلى أنَّ اللَّهَ لَمْ يَكِلْ أمْرَها إلى غَيْرِهِ -: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾؛ أيْ: المَلِكُ الأعْظَمُ؛ ﴿يُفْتِيكم في الكَلالَةِ﴾؛ وهو مَن لا ولَدَ لَهُ؛ ولا والِدَ؛ رَوى البُخارِيُّ؛ في التَّفْسِيرِ؛ عَنِ البَراءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ ”بَراءَةٌ“؛ وآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ﴾؛ وقالَ الأصْبَهانِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ: اخْتَلَفَ أبُو بَكْرٍ؛ وعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - في الكَلالَةِ؛ فَقالَ أبُو بَكْرٍ: هو ما عَدا الوالِدَ؛ وقالَ عُمَرُ: ما عَدا الوالِدَ والوَلَدَ؛ ثُمَّ قالَ عُمَرُ: إنِّي لَأسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أنْ أُخالِفَ أبا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ: ﴿إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ أيْ: وهو مَوْصُوفٌ بِأنَّهُ؛ أوْ حالَ كَوْنِهِ ﴿لَيْسَ لَهُ ولَدٌ﴾؛ أيْ: وإنْ سَفَلَ؛ سَواءٌ كانَ ذَكَرًا؛ أوْ أُنْثى؛ عِنْدَ إرْثِ النِّصْفِ؛ ولَيْسَ لَهُ أيْضًا والِدٌ؛ فَإنْ كانَ لَهُ أحَدُهُما لَمْ يُسَمَّ ”كَلالَةً“؛ وقَدْ بَيَّنَتْ ذَلِكَ السُّنَّةُ؛ قالَ الأصْبَهانِيُّ: ولَيْسا بِأوَّلِ حُكْمَيْنِ بُيِّنَ أحَدُهُما بِالكِتابِ؛ والآخَرُ بِالسُّنَّةِ؛ وهو قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: «”ألْحِقُوا الفَرائِضَ بِأهْلِها؛ فَما بَقِيَ فَلِأوْلى عُصْبَةٍ ذَكَرٍ؛ والأبُ أوْلى مِنَ الأخِ“؛» (p-٥٣٠)و؛ الحالُ أنَّهُ؛ لَهُ أُخْتٌ؛ أيْ: واحِدَةٌ؛ مِن أبٍ؛ شَقِيقَةً كانَتْ أوْ لا؛ لِأنَّهُ سَيَأْتِي أنَّ أخاها يَعْصِبُها؛ فَلَوْ كانَ ولَدَ أُمٍّ لَمْ يَعْصِبْ؛ ﴿فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وهُوَ﴾؛ أيْ: وهَذا الأخُ المَيِّتُ؛ ﴿يَرِثُها﴾؛ أيْ: إنْ ماتَتْ هي وبَقِيَ هُوَ؛ جَمِيعَ مالِها؛ ﴿إنْ لَمْ يَكُنْ لَها ولَدٌ﴾؛ أيْ: ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى - كَما مَرَّ في عَكْسِهِ؛ هَذا إنْ أُرِيدَ بِالإرْثِ جَمِيعُ المالِ؛ وإلّا فَهو يَرِثُ مَعَ الأُنْثى؛ كَما أنَّها هي أيْضًا تَرِثُ مَعَ الأُنْثى - كَما يُرْشِدُ إلَيْهِ السِّياقُ أيْضًا - دُونَ النِّصْفِ. ولَمّا بَيَّنَ الأمْرَ عِنْدَ الِانْفِرادِ أتْبَعَهُ بَيانَهُ عِنْدَ الِاجْتِماعِ؛ وقَدَّمَ أقَلَّهُ؛ فَقالَ: ﴿فَإنْ كانَتا﴾؛ أيْ: الوارِثَتانِ؛ بِبَيانِ السِّياقِ لَهُما؛ وإرْشادِهِ إلَيْهِما؛ ولَمّا أضْمَرَ ما دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ؛ وكانَ الخَبَرُ صالِحًا لِأنْ يَكُونَ: ”صالِحَتَيْنِ“؛ أوْ: ”صَغِيرَتَيْنِ“؛ أوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ بَيَّنَ أنَّ المُرادَ - كَما يُرْشِدُ إلَيْهِ السِّياقُ أيْضًا - مُطْلَقُ العَدَدِ عَلى أيِّ وصْفٍ اتَّفَقَ؛ فَقالَ: ﴿اثْنَتَيْنِ﴾؛ أيْ: مِنَ الأخَواتِ لِلْأبِ؛ شَقِيقَتَيْنِ كانَتا أوْ لا؛ ﴿فَلَهُما الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ﴾؛ فَإنْ كانَتْ شَقِيقَتَيْنِ كانَ لِكُلٍّ مِنهُما ثُلُثٌ؛ وإنِ اخْتَلَفَتا كانَ لِلشَّقِيقَةِ النِّصْفُ؛ ولِلَّتِي لِلْأبِ فَقَطِ السُّدُسُ؛ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ. ولَمّا بَيَّنَ أقَلَّ الِاجْتِماعِ أتْبَعَهُ ما فَوْقَهُ؛ فَقالَ: ﴿وإنْ كانُوا﴾؛ أيْ: (p-٥٣١)الوارِثُ؛ ﴿إخْوَةً﴾؛ أيْ: مُخْتَلِطِينَ؛ ﴿رِجالا ونِساءً فَلِلذَّكَرِ﴾؛ أيْ: مِنهُمْ؛ ﴿مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾؛ وقَدْ أنْهى - سُبْحانَهُ - ما أرادَ مِن بَيانِ إرْثِ الإخْوَةِ لِأبٍ؛ فَتَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعُ أحْوالِ ما أرادَ مِنَ الإرْثِ؛ وهو عَلى وجازَتِهِ كَما تَرى - يَحْتَمِلُ مُجَلَّداتٍ؛ واللَّهُ الهادِي؛ ووَضْعُ هَذِهِ الآيَةِ هُنا - كَما تَقَدَّمَ - إشارَةٌ مِنهُ إلى أنَّ مَن أبى تَوْرِيثَ النِّساءِ والصِّغارِ؛ الَّذِي تَكَرَّرَ الِاسْتِفْتاءُ عَنْهُ؛ فَقَدِ اسْتَنْكَفَ عَنْ عِبادَتِهِ؛ واسْتَكْبَرَ؛ وإنْ آمَنَ بِجَمِيعِ ما عَداهُ مِنَ الأحْكامِ؛ ومَنِ اسْتَنْكَفَ عَنْ حُكْمٍ مِنَ الأحْكامِ فَذاكَ هو الكافِرُ حَقًّا؛ كَما أنَّ مَن آمَنَ بِبَعْضِ الأنْبِياءِ؛ وكَفَرَ بِبَعْضٍ؛ فَهو الكافِرُ حَقًّا؛ وهَذا مُرادُ شَياطِينِ أهْلِ الكِتابِ العارِفِينَ بِصِحَّةِ هَذِهِ الأحْكامِ؛ الحاسِدِينَ لَكم عَلَيْها؛ المُرِيدِينَ لِضَلالِكم عَنْها؛ لِتُشارِكُوهم في الشَّقاءِ الَّذِي وقَعَ لَهُمْ؛ لَمّا بَدَّلُوا الأحْكامَ؛ المُشارِ إلَيْهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ آياتِ المِيراثِ؛ وما تَبِعَها مِن أحْوالِ النِّكاحِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكم ويَهْدِيَكم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]؛ وقَوْلِهِ: ﴿ويُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٢٧]؛ ثُمَّ المُصَرَّحِ بِهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ [النساء: ٤٤] ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِأعْدائِكُمْ﴾ [النساء: ٤٥]؛ ولِذَلِكَ - واللَّهُ أعْلَمُ - خَتَمَ هَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي (p-٥٣٢)أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ قُدْرَةً؛ وعِلْمًا؛ ﴿لَكُمْ﴾؛ أيْ: ولَمْ يَكِلْكم في هَذا البَيانِ إلى بَيانِ غَيْرِهِ؛ وقالَ - مُرَغِّبًا؛ مُرَهِّبًا -: ﴿أنْ﴾؛ أيْ: كَراهَةَ أنْ ﴿تَضِلُّوا واللَّهُ﴾؛ أيْ: الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ؛ ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؛ أيْ: فَقَدْ بَيَّنَ لَكم بِعِلْمِهِ ما يُصْلِحُكم بَيانُهُ؛ مَحْيًا ومَماتًا؛ دُنْيا وأُخْرى؛ حَتّى جَعَلَكم عَلى المَحَجَّةِ البَيْضاءِ؛ في مِثْلِ ضَوْءِ النَّهارِ؛ لا يَزِيغُ عَنْها مِنكم إلّا هالِكٌ؛ والحاصِلُ أنَّ تَأْخِيرَ هَذِهِ الآيَةِ إلى هُنا لِما تَقَدَّمَ مِن أنَّ تَفْرِيقَ القَوْلِ فِيما تَأْباهُ النُّفُوسُ؛ وإلْقاءَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا؛ بِاللُّطْفِ والتَّدْرِيجِ؛ أدْعى لِقَبُولِهِ؛ ولِلْإشارَةِ إلى شِدَّةِ الِاهْتِمامِ بِأمْرِ الفَرائِضِ؛ بِجَعْلِ الكَلامِ فِيها في جَمِيعِ السُّورَةِ؛ أوَّلِها؛ وأثْنائِها؛ وآخِرِها؛ والتَّخْوِيفِ مِن أنْ يَكُونَ حالُهم كَحالِ المُنافِقِينَ في إضْلالِ أهْلِ الكِتابِ لَهُمْ؛ بِإلْقاءِ الشُّبْهَةِ؛ وأخْذِهِمْ مِنَ المَوْضِعِ الَّذِي تَهْواهُ نُفُوسُهُمْ؛ ومَضَتْ عَلَيْهِ أوائِلُهُمْ؛ وأُشْرِبَتْهُ قُلُوبُهُمْ؛ والتَّرْهِيبِ مِن أنْ يَكُونُوا مِثْلَهم في الإيمانِ بِبَعْضٍ؛ والكُفْرِ بِبَعْضٍ؛ فَيُؤَدِّيهِمْ ذَلِكَ إلى إكْمالِ الكُفْرِ؛ لِأنَّ الدِّينَ لا يَتَجَزَّأُ؛ بَلْ مَن كَفَرَ بِشَيْءٍ مِنهُ كَفَرَ بِهِ جَمِيعِهِ؛ ومِن هُنا ظَهَرَتْ مُناسَبَةُ آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ لِأوَّلِها؛ لِأنَّ أوَّلَها مُشِيرٌ إلى أنَّ النّاسَ كُلَّهم كَشَيْءٍ واحِدٍ؛ وذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ الفَرْقِ بَيْنَهُمْ؛ إلّا فِيما شَرَعَهُ اللَّهُ؛ وآخِرُها مُشِيرٌ إلى ذَلِكَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ النِّساءِ؛ (p-٥٣٣)والرِّجالِ؛ في مُطْلَقِ التَّوْرِيثِ؛ بِقُرْبِ الأرْحامِ؛ وإنِ اخْتَلَفَتِ الأنْصِباءُ؛ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ”يا أيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ؛ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها؛ وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً؛ وسَوّى بَيْنَهم فِيما أرادَ مِنَ الأحْكامِ؛ فَإنَّهُ مَنِ اسْتَكْبَرَ - ولَوْ عَنْ حُكْمٍ مِن أحْكامِهِ - فَسَيُجازِيهِ يَوْمَ الحَشْرِ؛ ولا يَجِدُ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ ناصِرًا؛ ولا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن حالِهِ“؛ وما أشَدَّ مُناسَبَةَ خِتامِها بِإحاطَةِ العِلْمِ؛ لِما دَلَّ عَلَيْهِ أوَّلُها؛ مِن تَمامِ القُدْرَةِ! فَكانَ آخِرُها دَلِيلًا عَلى أوَّلِها؛ لِأنَّ تَمامَ العِلْمِ مُسْتَلْزِمٌ لِشُمُولِ القُدْرَةِ؛ قالَ الإمامُ: وهَذانِ الوَصْفانِ هُما اللَّذانِ بِهِما ثَبَتَتِ الرُّبُوبِيَّةُ؛ والإلَهِيَّةُ؛ والجَلالُ؛ والعِزَّةُ؛ وبِهِما يَجِبُ عَلى العَبْدِ أنْ يَكُونَ مُطِيعًا لِلْأوامِرِ؛ والنَّواهِي؛ مُنْقادًا لِكُلِّ التَّكالِيفِ؛ انْتَهى؛ ولِخِتامِ أوَّلِ آيَةٍ فِيها بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكم رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]؛ أيْ: وهو بِكُلِّ شَيْءٍ مِن أحْوالِكُمْ؛ وغَيْرِها؛ عَلِيمٌ؛ فَلا تَظُنُّوا أنَّهُ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ وإنْ دَقَّ؛ فَلْيَشْتَدَّ حَذَرُكم مِنهُ؛ ومُراقَبَتُكم لَهُ؛ وذَلِكَ أشَدُّ شَيْءٍ مُناسَبَةً لِأوَّلِ ”المائِدَةِ“؛ واللَّهُ المُوَفِّقُ بِالصَّوابِ؛ وإلَيْهِ المَرْجِعُ؛ والمَآبُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب