الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وهو يَرِثُها إنِ لَمْ يَكُنْ لَها ولَدٌ فَإنْ كانَتا اثْنَتَيْنِ فَلَهُما الثُلُثانِ مِمّا تَرَكَ وإنْ كانُوا إخْوَةً رِجالا ونِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا واللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في تَفْسِيرِ "الكَلالَةِ"؛ في صَدْرِ السُورَةِ؛ وأنَّ المُتَرَجَّحُ أنَّها الوِراثَةُ الَّتِي خَلَتْ مِن أبٍ وابْنٍ وابْنَةٍ؛ ولَمْ يَكُنْ فِيها عَمُودُ نَسَبٍ؛ لا عالٍ؛ ولا سافِلٍ؛ وبَقِيَ فِيها مَن يَتَكَلَّلُ؛ أيْ: يُحِيطُ مِنَ الجَوانِبِ؛ كَما يُحِيطُ الإكْلِيلُ. وكانَ أمْرُ الكَلالَةِ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ مُشْكِلًا؛ فَقالَ: « "ما راجَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في شَيْءٍ مُراجَعَتِي إيّاهُ في الكَلالَةِ؛ ولَوَدِدْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لَمْ يَمُتْ حَتّى يُبَيِّنَها"؛» وقالَ - عَلى المِنبَرِ -: (p-٧٧)« "ثَلاثٌ لَوْ بَيَّنَها رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لَكانَ أحَبَّ إلَيَّ مِنَ الدُنْيا: اَلْجِدُّ والكَلالَةُ؛ والخِلافَةُ؛ وأبْوابٌ مِنَ الرِبا"؛» ورُوِيَ عنهُ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - أنَّهُ كَتَبَ فِيها كِتابًا؛ فَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللهَ فِيهِ؛ ويَقُولُ: "اَللَّهُمَّ إنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأمْضِهِ"؛ فَلَمّا طُعِنَ دَعا بِالكِتابِ؛ فَمُحِيَ؛ فَلَمْ يَدْرِ أحَدٌ ما كانَ فِيهِ"؛ ورَوى الأعْمَشُ عن إبْراهِيمَ؛ وسائِرِ شُيُوخِهِ؛ قالَ: ذَكَرُوا أنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - قالَ: "لَأنْ أكُونَ أعْلَمُ الكَلالَةَ أحَبُّ إلَيَّ مِن جِزْيَةِ قُصُورِ الشامِ"؛ وقالَ طارِقُ بْنُ شِهابٍ: أخَذَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ كَتِفًا؛ وجَمَعَ أصْحابَ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ ثُمَّ قالَ: "لَأقْضِيَنَّ في الكَلالَةِ قَضاءً تُحَدِّثُ بِهِ النِساءُ في خُدُورِها"؛ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ حَيَّةٌ مِنَ البَيْتِ فَتَفَرَّقُوا؛ فَقالَ عُمَرُ: "لَوْ أرادَ اللهُ أنْ يُتِمَّ هَذا الأمْرَ لَأتَمَّهُ"؛ وقالَ مَعْدانُ بْنُ أبِي طَلْحَةَ: «خَطَبَ عُمَرُ بِالناسِ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَقالَ: "إنِّي واللهِ ما أدَعُ بَعْدِي شَيْئًا هو أهَمُّ إلَيَّ مِن أمْرِ الكَلالَةِ؛ وقَدْ سَألْتُ عنها رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ فَما أغْلَظَ لِي في شَيْءٍ ما أغْلَظَ لِي فِيها؛ حَتّى طَعَنَ في نَحْرِي وقالَ: (تَكْفِيكَ آيَةُ الصَيْفِ؛ الَّتِي أُنْزِلَتْ في آخِرِ سُورَةِ النِساءِ؛ فَإنْ أعِشْ فَسَأقْضِي فِيها بِقَضِيَّةٍ لا يَخْتَلِفُ مَعَها اثْنانِ مِمَّنْ يَقْرَأُ القُرْآنَ)"؛» وسُئِلَ عُقْبَةُ بْنُ عامِرٍ عَنِ الكَلالَةِ فَقالَ: ألا تَعْجَبُونَ لِهَذا؟ يَسْألُنِي عَنِ الكَلالَةِ؛ وما أعْضَلَ بِأصْحابِ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - شَيْءٌ ما أعْضَلَتْ بِهِمُ الكَلالَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَظاهِرُ كَلامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - أنَّ آيَةَ الصَيْفِ هي هَذِهِ؛ ورَوى أبُو سَلَمَةَ «عَنِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الكَلالَةِ؛ فَقالَ: "ألَمْ تَسْمَعِ الآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ في الصَيْفِ: ﴿وَإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً﴾ [النساء: ١٢]» ". (p-٧٨)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: هَذا هو الظاهِرُ؛ لِأنَّ البَراءَ بْنَ عازِبٍ قالَ: آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ عَلى النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكم في الكَلالَةِ﴾ ؛ وقالَ كَثِيرٌ مِنَ الصَحابَةِ: هي مِن آخِرِ ما نَزَلَ؛ «وَقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: نَزَلَتْ بِسَبَبِي؛ عادَنِي رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وأنا مَرِيضٌ؛ فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللهِ: كَيْفَ أقْضِي في مالِي؟ وكانَ لِي تِسْعُ أخَواتٍ؛ ولَمْ يَكُنْ لِي والِدٌ ولا ولَدٌ: فَنَزَلَتِ الآيَةُ.» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقَوْلُ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: « "تَكْفِيكَ مِنها آيَةُ الصَيْفِ"؛» بَيانٌ فِيهِ كِفايَةٌ وجَلاءٌ؛ ولا أدْرِي ما الَّذِي أشْكَلَ مِنها عَلى الفارُوقِ - رِضْوانُ اللهِ عَلَيْهِ -؛ إلّا أنْ تَكُونَ دَلالَةُ اللَفْظِ لَمْ تَطَّرِدْ لَهُ؛ أنْ كانَ اسْتِعْمالُ قُرَيْشٍ لَها قَلِيلًا؛ ولا مَحالَةَ أنَّ دَلالَةَ اللَفْظِ اضْطَرَبَتْ عَلى كَثِيرٍ مِنَ الناسِ؛ ولِذَلِكَ قالَ بَعْضُهُمْ: اَلْكَلالَةُ: اَلْمَيِّتُ نَفْسُهُ؛ وقالَ آخَرُونَ: اَلْكَلالَةُ: اَلْمالُ؛ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الخِلافِ؛ وإذا لَمْ يَكُنْ في الفَرِيضَةِ والِدٌ؛ ولا ولَدٌ؛ وتَرَكَ المَيِّتُ أُخْتًا؛ فَلَها النِصْفُ؛ فَرْضًا مُسَمًّى بِهَذِهِ الآيَةِ؛ فَإنْ تَرَكَ المَيِّتُ بِنْتًا؛ وأُخْتًا؛ فَلِلْبِنْتِ النِصْفُ؛ ولِلْأُخْتِ النِصْفُ؛ بِالتَعْصِيبِ؛ لا بِالفَرْضِ المُسَمّى؛ ولِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُبَيْرِ ؛ وعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ ؛ في هَذِهِ المَسْألَةِ خِلافٌ لِلنّاسِ؛ وذُكِرَ عن أبِي بَكْرٍ الصِدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -أنَّهُ قالَ (p-٧٩)- في خُطْبَتِهِ -: "ألا إنَّ آيَةَ أوَّلِ سُورَةِ النِساءِ أنْزَلَها اللهُ في الوَلَدِ والوالِدِ؛ والآيَةَ الثانِيَةَ أنْزَلَها اللهُ في الزَوْجِ؛ والزَوْجَةِ؛ والإخْوَةِ مِنَ الأُمِّ؛ والآيَةَ الَّتِي خَتَمَ بِها سُورَةَ النِساءِ أنْزَلَها في الإخْوَةِ؛ والأخَواتِ مِنَ الأبِ؛ والأُمِّ؛ والآيَةَ الَّتِي خَتَمَ بِها سُورَةَ الأنْفالِ أنْزَلَها اللهُ في أُولِي الأرْحامِ". وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "فَإنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "أنْ تَضِلُّوا"﴾ ؛ مَعْناهُ: "كَراهِيَةَ أنْ تَضِلُّوا؛ وحَذَرَ أنْ تَضِلُّوا"؛ فالتَقْدِيرُ: "لِئَلّا تَضِلُّوا"؛ ومِنهُ قَوْلُ القُطامِيِّ - في صِفَةِ ناقَةٍ: ؎ رَأيْنا ما يَرى البُصَراءُ مِنها ∗∗∗ فَآلَيْنا عَلَيْها أنْ تُباعا وكانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - إذا قَرَأ: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا﴾ ؛ قالَ: اَللَّهُمَّ مَن بَيَّنْتَ لَهُ الكَلالَةَ فَلَمْ تَتَبَيَّنْ لِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب