الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) ﴾ قال أبو جعفر: أما قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، فبيان من الله عز وجل عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. "واللام" التي في"الفقراء" مردودة على موضع"اللام" في"فلأنفسكم" كأنه قال:"وما تنفقوا من خير" - يعني به: وما تتصدقوا به من مال فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. فلما اعترض في الكلام بقوله:"فلأنفسكم"، فأدخل"الفاء" التي هي جواب الجزاء فيه، تركت إعادتها في قوله:"للفقراء"، إذ كان الكلام مفهوما معناه، كما:- ٦٢١١ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم"، أما:"ليس عليك هداهم"، فيعني المشركين. وأما"النفقة" فبين أهلها، فقال:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله". [[الأثر: ٦٢١١- انظر الأثر السالف رقم: ٦٢٠٨ والتعليق عليه.]] . * * * وقيل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء. * ذكر من قال ذلك: ٦٢١٢ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، مهاجري قريش بالمدينة مع النبي ﷺ، أمر بالصدقة عليهم. ٦٢١٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" الآية، قال: هم فقراء المهاجرين بالمدينة. ٦٢١٤ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدى:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: فقراء المهاجرين. * * * القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: الذين جَعلهم جهادُهم عدوَّهم يُحْصِرون أنفسَهم فيحبسونها عن التصرُّف فلا يستطيعون تصرّفًا. [[التصرف: الكسب. يقال "فلان يصرف لعياله، ويتصرف لهم، ويصطرف"، أي يكتسب لهم. وهو من الصرف والتصرف: وهو التقلب والحيلة.]] . * * * وقد دللنا فيما مضى قبلُ على أن معنى"الإحصار"، تصيير الرجل المحصَر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوَّه، وغير ذلك من علله، إلى حالة يحبس نفسَه فيها عن التصرُّف في أسبابه، بما فيه الكفاية فيما مضى قبل. [[انظر ما سلف ٤: ٢١ -٢٦.]] . * * * وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، [[في المخطوطة: "وقال: اختلف أهل التأويل ... ". وهما سواء.]] . فقال بعضهم: في ذلك بنحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: ٦٢١٥ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: حَصَروا أنفسهم في سبيل الله للغزو. ٦٢١٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: كانت الأرض كلُّها كفرًا، لا يستطيع أحدٌ أن يخرج يبتغي من فضل الله، إذا خرج خرج في كُفر= وقيل: كانت الأرضُ كلها حربًا على أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجَّهون جهة إلا لهم فيها عدوّ، فقال الله عز وجل:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" الآية، كانوا ههنا في سبيل الله. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرُّف. * ذكر من قال ذلك: ٦٢١٧ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، حصرهم المشركون في المدينة. * * * قال أبو جعفر: ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدّيّ، لكان الكلام: للفقراء الذين حُصروا في سبيل الله، ولكنه"أحصِروا"، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صيَّر هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبَسوا -وهم في سبيل الله- أنفسَهم، لا أنّ العدوَّ هم كانوا الحابِسِيهم. وإنما يقال لمن حبسه العدوّ:"حصره العدوّ"، وإذا كان الرّجل المحبَّس من خوف العدوّ، قيل:"أحصره خوفُ العدّو". [[انظر تفضيل ذلك فيما سلف ٤: ٢١ -٢٦.]] . * * * القول في تأويل قوله: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض، وسفرًا في البلاد، ابتغاءَ المعاش وطَلبَ المكاسب، [[في المخطوطة: "المكاسر"، وهو دليل مبين عن غفلة الناسخ وعجلته، كما أسلفت مرارًا كثيرة.]] فيستغنوا عن الصدقات، رهبةَ العدوّ وخوفًا على أنفسهم منهم. كما:- ٦٢١٨ - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض" حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ، فلا يستطيعون تجارةً. ٦٢١٩ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، يعني التجارة. ٦٢٢٠ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فَضْل الله. * * * القول في تأويل قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك:"يحسبهم الجاهل" بأمرهم وحالهم="أغنياء" من تعففهم عن المسألة، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس، صبرًا منهم على البأساء والضراء. كما:- ٦٢٢١ - حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يحسبهم الجاهل أغنياء"، يقول: يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف. [[الأثر: ٦٢٢١ -كان الإسناد في المطبوعة والمخطوطة: "كما حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ... " أسقط الناسخ من الإسناد"حدثنا بشر قال"، كما زدته، وهو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم: ٦٢٠٦.]] . * * * ويعني بقوله:"منَ التعفف"، من تَرْك مسألة الناس. * * * وهو"التفعُّل" من"العفة" عن الشيء، والعفة عن الشيء، تركه، كما قال رؤبة: * فَعَفَّ عَنْ أسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ* [[مضى تخريج هذا البيت وتفسيره في ٥: ١١٠، ولم يذكر هناك مجيء ذكره في هذا الموضع من التفسير، فقيده هناك.]] يعني بَرئ وتجنَّبَ. * * * القول في تأويل قوله: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"تعرفهم" يا محمد="بسيماهم"، يعني بعلامتهم وآثارهم، من قول الله عز وجل: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [سورة الفتح: ٢٩] ، هذه لغة قريش. ومن العرب من يقول:"بسيمائهم" فيمدها. وأما ثقيف وبعض أسَدٍ، فإنهم يقولون:"بسيميائهم"؛ ومن ذلك قول الشاعر: [[هو ابن عنقاء الفزاري، وعنقاء أمه، وقد اختلف في اسمه، فقال القالي في أماليه ١: ٢٣٧: "أسيد"، وقال الآمدي في المؤلف والمختلف: ١٥٩، وقال المرزباني في معجم الشعراء: "فيس بن بجرة" (بالجيم) ، أو"عبد قيس بن بجرة"، وفي النقائض: ١٠٦"عبد قيس ابن بحرة" بالحاء الساكنة وفتح الباء، وهكذا كان في أصل اللآليء شرح أماني القالي: ٥٤٣، وغيره العلامة الراجكوتي"بجرة" بضم الباء وبالجيم الساكنة عن الإصابة في ترجمة"قيس بن بجرة" وفي هذه الترجمة أخطاء كثيرة. وذكر شيخنا سيد بن علي المرصفي في شرح الكامل ١: ١٠٨ أنه أسيد بن ثعلبة ابن عمرو. وهذا كاف في تعيين الاختلاف. وابن عنقاء، عاش في الجاهلية دهرًا، وأدرك الإسلام كبيرًا، وأسلم.]] . غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بالحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ [[يأتي في التفسير ٤: ٥٥ /٨: ١٤١ (بولاق) والأغاني ١٧: ١١٧، الكامل ١: ١٤، المؤلف والمختلف، ومعجم الشعراء: ١٥٩، ٣٢٣، أمالى القالي ١: ٢٣٧، الحماسة ٤: ٦٨، وسمط اللآليء: ٥٤٣، وغيرها كثير. من أبيات جياد في قصة، ذكرها القالي في أماليه. وذلك أن ابن عنقاء كان من أكثر أهل زمانه وأشدهم عارضة ولسانًا، فطال عمره، ونكبه دهره، فاختلت حاله، فمر عميلة بن كلدة الفزاري، وهو غلام جميل من سادات فزارة، فسلم عليه وقال: ياعم، ما أصارك إلى ما أدري؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصوني وجهى عن مسألة الناس! فقال والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أردي من حالك. فرجع ابن عنقاء فأخبر أهله، فقالت: لقد غرك كلام جنح ليل!! فبات متململا بين اليأس والرجاء. فلما كان السحر، سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟ فقال: هذا عميلة ساق إليك ماله! ثم قسم عميلة ماله شطرين وساهمه عليه، فقال ابن عنقاء فيه يمجده: رَآنِي عَلَى مَا بِي عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى ... إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا جَهَرْ دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ ... عَلَى حِينَ لاَ بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ ... وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ ... وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَي وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ ... ذَلِيلٌ بِلاَ ذُلّ وَلَوْ شَاءَ لاَنْتَصَرْ كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ ... فَجَاءَ وَلاَ بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه ... تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ وَأتْزَرْ وهذا شعر حر، ينبع من نفس حرة. هذا وقد روي الطبري في ٨: ١٤١"رماه الله بالحسن إذ رمي". وقال أبو رياش فيما انتقده على أبي العباس المبرد: "لا يروي بيت ابن عنقاء: "رماه الله بالحسن ... " إلا أعمى البصيرة، لأن الحسن مولود، وإنما هو: رماه الله بالخير يافعًا". وقوله: "لا تشق على البصر"، أي لا تؤذيه بقبح أو ردة أو غيرهما، بل تجلي بها العين، وتسر النفس وترتاح إليها.]] * * * وقد اختلف أهل التأويل في"السيما" التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفَ صفتهم، وأنهم يعرفون بها. [[في المخطوطة والمطبوعة: "وصفت صفتهم"، وهو مخالف للسياق، والصواب ما أثبت، وصف الله صفتهم.]] فقال بعضهم: هو التخشُّع والتواضع. * ذكر من قال ذلك: ٦٢٢٢ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تعرفهم بسيماهم" قال: التخشُّع. ٦٢٢٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ٦٢٢٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، قال: كان مجاهد يقول: هو التخشُّع. * * * وقال آخرون يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر وجَهد الحاجة في وجُوههم. * ذكر من قال ذلك: ٦٢٢٥ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"تعرفهم بسيماهم"، بسيما الفقر عليهم. ٦٢٢٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"تعرفهم بسيماهم"، يقول: تعرف في وجوههم الجَهد من الحاجة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم. وقالوا: الجوعُ خفيّ. * ذكر من قال ذلك: ٦٢٢٧ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: "تعرفهم بسيماهم" قال: السيما: رثاثة ثيابهم، والجوع خفي على الناس، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها [أن] تخفى على الناس. [[ما بين القوسين زيادة لا بد منها، لتستقيم العبارة.]] . * * * قال أبو جعفر: وأول الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيَّه ﷺ أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيُّ ﷺ يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان، فيعرفُهم وأصحابه بها، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة. وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشُّعًا منهم، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون كانت جميعَ ذلك، وإنما تُدرك علامات الحاجة وآثار الضر في الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضر، بالمعاينة دون الوصف. وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض، نظيرُ آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثيابَ الرثة، فيتزيّى بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به مختلٌّ ذو فاقة. وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصف الله [[في المخطوطة والمطبوعة: "كما وصفهم الله"، والسياق يقتضي ما أثبت. والمخطوطة التي نقلت عنها، فيما نظن، كل النسخ المخطوطة التي طبع عنها، مضطربة الخط، كما سلف الدليل على ذلك مرارًا، وفي هذا الموضع من كتابة الناسخ بخاصة.]] نظير ما يُعرف أنه مريض عند المعاينة، دون وَصْفه بصفته. * * * القول في تأويل قوله: ﴿لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ قال أبو جعفر: يقال:" قد ألحف السائل في مسألته"، إذا ألحّ="فهو يُلحف فيها إلحافًا". * * * فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف؟ قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف، [[في المطبوعة: "إلحافا وغير إلحاف"، بالواو، وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبت. وانظر معاني القرآن للفراء ١: ١٨١، وقد قال: "ومثله قولك في الكلام: قلما رأيت مثل هذا الرجل! ، ولعلك لم تر قليلًا ولا كثيرًا من أشباهه" وسيأتي بعد، في ص: ٥٩٩، وفي اللسان (لحف) ، وذكر الآية: "أي ليس منهم سؤال فيكون إلحاف، كما قال امرؤ القيس [يصف طريقًا غير مسلوكة: عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ... [إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا] المعنى: "ليس به منار فيهتدى به".]] وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم. فلو كانت المسألة من شأنهم، لم تكن صفتُهم التعفف، ولم يكن بالنبي ﷺ إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة، وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم. وفي الخبر الذي:- ٦٢٢٨ - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد الخدري، قال: أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيتَ رسولَ الله ﷺ فسألته! فانطلقت إليه مُعْنِقًا، فكان أوّل ما واجهني به:"من استعفّ أعفَّه الله، ومَن استغنى أغناهُ الله، ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئًا نجده". قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ فيُعِفَّني الله! فرجعت، فما سألتُ رسول الله ﷺ شيئًا بعد ذلك من أمر حاجة، حتى مالت علينا الدنيا فغرَّقَتنا، إلا من عَصَم الله. [[الحديث: ٦٢٢٨ -إسناده صحيح. هلال بن حصن، أخو بني مرة بن عباد، من بني قيس بن ثعلبة: تابعى ثقة. ذكره ابن حبّان في الثقات، ص: ٣٦٤، وترجمه البخاري في الكبير ٤ / ٢/ ٢٠٤، وابن أبي حاتم ٤ /٢/ ٧٣ -فلم يذكرا فيه جرحا. وهو مترجم في التعجيل، ص: ٤٣٤. والحديث رواه أحمد في المسند: ١٤٢٢١، ١٤٢٢٢ (ج ٣ ص ٤٤ حلبي) ، عن محمد بن جعفر وحجاج، ثم عن حسين بن محمد -ثلاثتهم عن شعبة، عن أبي حمزة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد. فذكر نحوه بأطول منه. وهذا أيضًا إسناد صحيح. أبو حمزة: هو البصري"جار شعبة"، عرف بهذا. واسمه: عبد الرحمن بن عبد الله المازني"، ثقة، مترجم في التهذيب ٦: ٢١٩. وقد ثبت في ترجمة"هلال بن حصن" -في الكبير، وابن أبي حاتم، والثقات، والتعجيل، أنه روى عنه أيضًا"أبو حمزة". وشك في صحة ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني مصحح التاريخ الكبير، واستظهر أن يكون صوابه "أبو جمرة"، يعنى نصر بن عمران الضبعي. ولكن يرفع هذا الشك أنه في المسند أيضًا "أبو حمزة". لاتفاقه مع ما ثبت في التراجم. " أعوز الرجل فهو معوز": ساءت حاله وحل عليه الفقر. "أعنق الرجل إلى الشيء يعنق": أسرع إليه إسراعًا.]] . * * * [[سياق الكلام: "وفي الخبر ... الدلالة الواضحة ... "]] . =الدلالةُ الواضحةُ على أنّ التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد، وأنَّ من كان موصوفًا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافًا أو غير إلحاف. [[في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: ١ ص٥٩٨.]] . * * * فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فما وجه قوله:"لا يسألون الناس إلحافا"، وهم لا يسألون الناس إلحافًا أو غير إلحاف [[في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: ١ ص٥٩٨.]] . قيل له: وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف، وعرّف عبادَه أنهم ليسوا أهل مسألة بحالٍ بقوله:"يحسبهم الجاهلُ أغنياء من التعفف"، وأنهم إنما يُعرفون بالسيما- زاد عبادَه إبانة لأمرهم، وحُسنَ ثناءٍ عليهم، بنفي الشَّره والضراعة التي تكون في الملحِّين من السُّؤَّال، عنهم. [["السؤال" جمع سائل، على زنة""جاهل وجهال". والسياق: "بنفي الشره ... عنهم".]] . وقد كان بعضُ القائلين يقول: [[في المطبوعة: و "قال: كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل" هو كلام شديد الخلل. وفي المخطوطة: "وقال كاد بعض القائلين يقول ... "وسائره كالذي كان في المطبوعة" وهو أشدّ اختلالا وفسادًا. وصواب العبارة ما استظهرته فأثبته. وهذا الذي حكاه أبو جعفر هو قول الفراء في معاني القرآن ١: ١٨١، كما سلف في ص: ٥٩٨ التعليق: ١.]] ذلك نظيرُ قول القائل:" قلَّما رأيتُ مثلَ فلان"! ولعله لم يَرَ مثله أحدًا ولا نظيرًا. * * * وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٦٢٢٩ - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: لا يلحفون في المسألة. ٦٢٣٠ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: هو الذي يلح في المسألة. ٦٢٣١ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، ذكر لنا أن نبيّ الله ﷺ كان يقول:"إن الله يحب الحليمَ الغنيّ المتعفف، ويبغض الغنيّ الفاحشَ البذِىء السائلَ الملحفَ= قال: وذكر لنا أن نبيّ الله ﷺ كان يقول: إن الله عز وجل كره لكم ثلاثًا: قيلا وقالا [[في المطبوعة: "قيل وقال" وهو صواب، وهما فعلان من قولهم"قيل كذا" و"قال كذا"، وهو نهى عن القول بما لا يصح ولا يعلم. وأثبت ما في المخطوطة، وهما مصدران بمعنى الإشارة إلى هذين الفعلين الماضين، يجعلان حكاية متضمنة للضمير والإعراب، على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير، فيدخل عليهما حرف التعريف لذلك فيقال: "القيل والقال".]] وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال. فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدرَ ليلته، حتى يُلقى جيفةً على فراشه، لا يجعلُ الله له من نهاره ولا ليلته نصيبًا. وإذا شئت رأيته ذَا مال [ينفقه] في شهوته ولذاته وملاعبه، [[في المخطوطة: "ذا مال في شهوته" وبين الكلامين بياض، أما في المطبوعة والدر المنثور ١: ٣٦٣، فساقه سياقًا مطردًا: "ذا مال في شهوته"، ولكنه لا يستقم مع قوله بعد: "ويعدله عن حق الله"، فلذلك وضعت ما بين القوسين استظهارًا حتى يعتدل جانبا هذه العبارة.]] . وَيعدِ له عن حقّ الله، فذلك إضاعة المال، وإذا شئت رأيته باسطًا ذراعيه، يسأل الناس في كفيه، فإذا أعطي أفرط في مدحهم، وإنْ مُنع أفرط في ذَمهم. .......................................................................... .......................................................................... [[هذه النقط دلالة على أنه قد سقط من الناسخ كلام لا ندري ما هو، ففي المخطوطة في إثر الأثر السالف ٦٢٣١، الأثر الآتي: ٦٢٣٢ "حدثنا يعقوب بن إبراهيم. . . ". وقد تنبه طابع المطبوعة، فرأي أن الأثر الآتي، هو من تفسير الآية التي أثبتها وأثبتناها اتباعًا له، والذي لا شك فيه أنه قد سقط من الكلام في هذا الموضع تفسير بقية الآتية: "وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم" وشيء قبله، وشيء بعده، لم أستطع أن أجد ما يدلني عليه في كتاب آخر، ولكن سياق الأقوال التي ساقها الطبري دال على هذا الخرم. وهذا دليل آخر على شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب.]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب