الباحث القرآني

﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُقاتِلٌ: هم أهْلُ الصُّفَّةِ حَبَسُوا أنْفُسَهم عَلى طاعَةِ اللَّهِ، ولَمْ يَكُنْ لَهم شَيْءٌ، وكانُوا نَحْوًا مِن أرْبَعِمِائَةٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: هم فُقَراءُ المُهاجِرِينَ مِن قُرَيْشٍ، ثُمَّ يَتَناوَلُ مَن كانَ بِصِفَةِ الفَقْرِ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هم قَوْمٌ أصابَتْهم جِراحاتٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَصارُوا زَمْنى، واخْتارَ هَذا الكِسائِيُّ، وقالَ: أُحْصِرُوا مِنَ المَرَضِ، ولَوْ أرادَ الحَبْسَ مِنَ العَدُوِّ لَقالَ: حَصَرُوا، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الإحْصارِ والحَصْرِ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] وثَبَتَ مِنَ اللُّغَةِ هُناكَ أنَّهُ يُقالُ في كُلٍّ مِنهُما أُحْصِرَ وحُصِرَ، وحَكاهُ ابْنُ سِيدَهْ. وقالَ السُّدِّيُّ: أُحْصِرُوا مِن خَوْفِ الكُفّارِ، إذْ أحاطُوا بِهِمْ، وقالَ قَتادَةُ: حَبَسُوا أنْفُسَهم لِلْغَزْوِ، ومَنَعَهُمُ الفَقْرُ مِنَ الغَزْوِ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ: مَنَعَهم عُلُوُّ هِمَّتِهِمْ عَنْ رَفْعِ حاجَتِهِمْ إلّا إلى اللَّهِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أحْصَرَهُمُ الجِهادُ، لا يَسْتَطِيعُونَ لِاشْتِغالِهِمْ بِهِ ضَرْبًا في الأرْضِ لِلْكَسْبِ، انْتَهى. و﴿لِلْفُقَراءِ﴾ في مَوْضِعِ الخَبَرِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وكَأنَّهُ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: لِمَن هَذِهِ الصَّدَقاتُ المَحْثُوثُ عَلى فِعْلِها ؟ فَقِيلَ: لِلْفُقَراءِ، أيْ: هي لِلْفُقَراءِ، فَبَيَّنَ مَصْرِفَ النَّفَقَةِ، وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ اللّامُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أعَجِبُوا لِلْفُقَراءِ، أوِ اعْمَدُوا لِلْفُقَراءِ، واجْعَلُوا ما تُنْفِقُونَ لِلْفُقَراءِ، وأبْعَدَ القَفّالُ في تَقْدِيرِ: إنْ تَبْدُوا الصَّدَقاتِ لِلْفُقَراءِ، وكَذَلِكَ مَن عَلَّقَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ﴾ وكَذَلِكَ مَن جَعَلَ (لِلْفُقَراءِ) بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: (فَلِأنْفُسِكم) لِكَثْرَةِ الفَواصِلِ المانِعَةِ مِن ذَلِكَ. ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا في الأرْضِ﴾ أيْ تَصَرُّفًا فِيها، إمّا لِزَمِنِهِمْ وإمّا لِخَوْفِهِمْ مِنَ العَدُوِّ لِقِلَّتِهِمْ، فَقِلَّتُهم تَمْنَعُهم مِنَ الِاكْتِسابِ بِالجِهادِ، وإنْكارُ الكُفّارِ عَلَيْهِمْ إسْلامَهم يَمْنَعُهم مِنَ التَّصَرُّفِ في التِّجارَةِ، فَبَقُوا فُقَراءَ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ المَنفِيَّةُ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: أحُصِرُوا عاجِزِينَ عَنِ التَّصَرُّفِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ. ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، بِفَتْحِ السِّينِ حَيْثُ وقَعَ، وهو القِياسُ؛ لِأنَّ ماضِيَهُ عَلى فَعِلَ بِكَسْرِ العَيْنِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِها، وهو مَسْمُوعٌ في ألْفاظٍ مِنها: عَمَدَ يَعْمُدُ ويَعْمِدُ، وقَدْ ذَكَرَها النَّحْوِيُّونَ، والفَتْحُ في السِّينِ لُغَةُ تَمِيمٍ، والكَسْرُ لُغَةُ الحِجازِ، والمَعْنى: أنَّهم لِفَرْطِ انْقِباضِهِمْ، وتَرْكِ المَسْألَةِ، واعْتِمادِ التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ تَعالى، يَحْسَبُهم مَن جَهِلَ أحْوالَهم أغْنِياءَ، و(مِن) سَبَبِيَّةٌ، أيِ: الحامِلُ عَلى حُسْبانِهِمْ أغْنِياءَ هو تَعَفُّفُهم؛ لِأنَّ عادَةَ مَن كانَ غَنِيَّ مالٍ أنْ يَتَعَفَّفَ ولا يَسْألُ، ويَتَعَلَّقُ (يَحْسَبُهم) وجُرَّ المَفْعُولُ لَهُ هُناكَ بِحَرْفِ السَّبَبِ، لِانْخِرامِ شَرْطٍ مِن شُرُوطِ المَفْعُولِ لَهُ مِن أجْلِهِ وهو اتِّحادُ الفاعِلِ؛ لِأنَّ فاعِلَ يَحْسَبُ هو الجاهِلُ، وفاعِلَ التَّعَفُّفِ هو الفُقَراءُ، وهَذا الشَّرْطُ هو عَلى الأصَحِّ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ هَذا الشَّرْطُ مُنْخَرِمًا لَكانَ الجَرُّ بِحَرْفِ السَّبَبِ أحْسَنُ في هَذا المَفْعُولِ لَهُ؛ لِأنَّهُ مُعَرَّفٌ بِالألِفِ واللّامِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فالأكْثَرُ في لِسانِ العَرَبِ أنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ حَرْفُ السَّبَبِ، وإنْ كانَ يَجُوزُ نَصْبُهُ، لَكِنَّهُ قَلِيلٌ كَما أنْشَدُوا. ؎لا أقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجاءِ أيْ: لِلْجُبْنِ، وإنَّما عُرِّفَ المَفْعُولُ لَهُ هُنا؛ لِأنَّهُ سَبَقَ مِنهُمُ التَّعَفُّفُ مِرارًا، فَصارَ مَعْهُودًا مِنهم، وقِيلَ: (مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ: مِن تَعَفُّفِهِمُ ابْتَدَأتْ مَحْسَبَتُهُ؛ لِأنَّ الجاهِلَ بِهِمْ لا يَحْسَبُهم أغْنِياءَ غِنى تَعَفَّفٍ، وإنَّما يَحْسَبُهم أغْنِياءَ مالٍ، فَمَحْسَبَتُهُ مِنَ التَّعَفُّفِ ناشِئَةٌ، وهَذا عَلى أنَّهم مُتَعَفِّفُونَ عِفَّةً تامَّةً مِنَ المَسْألَةِ، وهو الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، وكَوْنُها لِلسَّبَبِ أظْهَرُ، ولا يَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ: (مِن) بِأغْنِياءَ؛ لِأنَّ المَعْنى يَصِيرُ إلى ضِدِّ المَقْصُودِ، وذَلِكَ أنَّ المَعْنى: حالُهم يَخْفى عَلى الجاهِلِ بِهِمْ، فَيَظُنُّ أنَّهم أغْنِياءُ، وعَلى تَعْلِيقِ (مِن) بِأغْنِياءَ يَصِيرُ المَعْنى: أنَّ الجاهِلَ يَظُنُّ أنَّهم أغْنِياءُ، ولَكِنْ بِالتَّعَفُّفِ، والغَنِيُّ بِالتَّعَفُّفِ فَقِيرٌ مِنَ المالِ، وأجازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ تَكُونَ (مِن) لِبَيانِ الجِنْسِ، قالَ: يَكُونُ التَّعَفُّفُ داخِلًا في (p-٣٢٩)المَحْسَبَةِ، أيْ: أنَّهم لا يَظْهَرُ لَهم سُؤالٌ، بَلْ هو قَلِيلٌ، وبِإجْمالٍ فالجاهِلُ بِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِفَقْرِهِمْ يَحْسَبُهم أغْنِياءَ عِفَّةٍ، فَمِن، لِبَيانِ الجِنْسِ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ، انْتَهى. ولَيْسَ ما قالَهُ مِن أنْ (مِن) هَذِهِ في هَذا المَعْنى لِبَيانِ الجِنْسِ المُصْطَلَحِ عَلَيْهِ في بَيانِ الجِنْسِ؛ لِأنَّ لَها اعْتِبارًا عِنْدَ مَن قالَ بِهَذا المَعْنى لِمَن يَتَقَدَّرُ بِمَوْصُولٍ، وما دَخَلَتْ عَلَيْهِ يَحْصُلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، نَحْوَ: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠] التَّقْدِيرُ: فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هو الأوْثانُ، ولَوْ قُلْتَ هُنا: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ﴾ الَّذِي هو التَّعَفُّفُ، لَمْ يَصِحَّ هَذا التَّقْدِيرُ، وكَأنَّهُ سَمّى الجِهَةَ الَّتِي هم أغْنِياءُ بِها بَيانَ الجِنْسِ، أيْ: بَيَّنَتْ بِأيِّ جِنْسٍ وقَعَ غِناهم بِالتَّعَفُّفِ، لا غِنى بِالمالِ، فَتُسَمّى (مِن) الدّاخِلَةُ عَلى ما يُبَيِّنُ جِهَةَ الغِنى لِبَيانِ الجِنْسِ، ولَيْسَ المُصْطَلَحُ عَلَيْهِ كَما قَدَّمْناهُ، وهَذا المَعْنى يُؤَوَّلُ إلى أنَّ (مِن) سَبَبِيَّةٌ، لَكِنَّها تَتَعَلَّقُ (بِأغْنِياءَ) لا بِـ (يَحْسَبُهم) ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (يَحْسَبُهم) جُمْلَةً حالِيَّةً، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً. ﴿تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ الخِطابُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ والمَعْنى: أنَّكَ تَعْرِفُ أعْيانَهم بِالسِّيما الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: تَعْرِفُ فَقْرَهَمْ بِالسِّيما الَّتِي تَدُلُّ عَلى الفَقْرِ، مِن: رَثاثَةِ الأطْمارِ، وشُحُوبِ الألْوانِ لِأجْلِ الفَقْرِ. وقالَ مُجاهِدٌ: السِّيما الخُشُوعُ والتَّواضُعُ، وقالَ السُّدِّيُّ: الفاقَةُ، والجُوعُ في وُجُوهِهِمْ، وقِلَّةُ النِّعْمَةِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: رَثاثَةُ أثْوابِهِمْ، وصُفْرَةُ وُجُوهِهِمْ، وقِيلَ: أثَرُ السُّجُودِ، واسْتَحْسَنَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ قالَ: لِأنَّهم كانُوا مُتَفَرِّغِينَ لِلْعِبادَةِ، فَكانَ الأغْلَبُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةَ. وقالَ القُرْطُبِيُّ: هَذا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّحابَةِ كُلِّهِمْ لِقَوْلِهِ تَعالى في حَقِّهِمْ: ﴿سِيماهم في وُجُوهِهِمْ مِن أثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: ٢٩] إلّا إنْ كانَ يَكُونُ أثَرُ السُّجُودِ في هَؤُلاءِ أكْثَرَ، وأمّا مَن فَسَّرَ السِّيما بِالخُشُوعِ، فالخُشُوعُ مَحَلُّهُ القَلْبُ، ويَشْتَرِكُ فِيهِ الغَنِيُّ والفَقِيرُ، والَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الغَنِيِّ والفَقِيرِ ظاهِرًا إنَّما هو: رَثاثَةُ الحالِ، وشُحُوبُ الألْوانِ. ولِلصُّوفِيَّةِ في تَفْسِيرِ السِّيما مَقالاتٌ، قالَ المُرْتَعِشُ: عِزَّتُهم عَلى الفَقْرِ، وقالَ الثَّوْرِيُّ: فَرَحُهم بِالفَقْرِ، وقالَ أبُو عُثْمانَ: إيثارُ ما عِنْدَهم مَعَ الحاجَةِ إلَيْهِ، وقِيلَ: تِيهُهم عَلى الغَنِيِّ، وقِيلَ: طِيبُ القَلْبِ وبَشاشَةُ الوَجْهِ. والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ: بِـ (تَعْرِفُهم)، وهي لِلسَّبَبِ، وجَوَّزُوا في هَذِهِ الجُمْلَةِ ما جَوَّزُوا في الجُمَلِ قَبْلَها، مِنَ الحالِيَّةِ، ومِنَ الِاسْتِئْنافِ. وفي هَذِهِ الآيَةِ طِباقٌ في مَوْضِعَيْنِ: أحَدُهُما: في قَوْلِهِ: (أُحْصِرُوا) و﴿ضَرْبًا في الأرْضِ﴾ والثّانِي: في قَوْلِهِ: (لِلْفُقَراءِ) و(أغْنِياءَ) . ﴿لا يَسْألُونَ النّاسَ إلْحافًا﴾ إذا نُفِيَ حُكْمٌ عَنْ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِقَيْدٍ، فالأكْثَرُ في لِسانِ العَرَبِ انْصِرافُ النَّفْيِ لِذَلِكَ القَيْدِ، فَيَكُونُ المَعْنى عَلى هَذا ثُبُوتَ سُؤالِهِمْ، ونَفْيَ الإلْحاحِ أيْ: وإنْ وقَعَ مِنهم سُؤالٌ، فَإنَّما يَكُونُ بِتَلَطُّفٍ وتَسَتُّرٍ لا بِإلْحاحٍ، ويَجُوزُ أنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الحُكْمَ فَيَنْتَفِي ذَلِكَ القَيْدُ، فَيَكُونُ عَلى هَذا نَفْيُ السُّؤالِ ونَفْيُ الإلْحاحِ، فَلا يَكُونُ النَّفْيُ عَلى هَذا مُنْصَبًّا عَلى القَيْدِ فَقَطْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا يَسْألُونَ إلْحافًا ولا غَيْرَ إلْحافٍ، ونَظِيرُ هَذا: ما تَأْتِينا فَتُحَدِّثَنا، فَعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ: ما تَأْتِينا مُحَدِّثًا، إنَّما تَأْتِي ولا تُحَدِّثُ، وعَلى الوَجْهِ الثّانِي: ما يَكُونُ مِنكَ إتْيانٌ فَلا يَكُونُ (p-٣٣٠)حَدِيثٌ، وكَذَلِكَ هَذا لا يَقَعُ مِنهم سُؤالٌ البَتَّةَ فَلا يَقَعُ إلْحاحٌ، ونَبَّهَ عَلى نَفْيِ الإلْحاحِ دُونَ غَيْرِ الإلْحاحِ لِقُبْحِ هَذا الوَصْفِ، ولا يُرادُ بِهِ نَفْيُ هَذا الوَصْفِ وحْدَهُ ووُجُودُ غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ يَصِيرُ المَعْنى الأوَّلُ وإنَّما يُرادُ بِنَفْيِ مِثْلِ هَذا الوَصْفِ نَفْيُ المُتَرَتِّباتِ عَلى المَنفِيِّ الأوَّلِ؛ لِأنَّهُ نَفى الأوَّلَ عَلى سَبِيلِ العُمُومِ، فَتُنْفى مُتَرَتِّباتُهُ، كَما أنَّكَ إذا نَفَيْتَ الإتْيانَ فانْتَفى الحَدِيثُ انْتَفَتْ جَمِيعُ مُتَرَتِّباتِ الإتْيانِ مِنَ: المُجالَسَةِ والمُشاهَدَةِ والكَيْنُونَةِ في مَحَلٍّ واحِدٍ، ولَكِنَّهُ نَبَّهَ بِذِكْرِ مُتَرَتِّبٍ واحِدٍ لِغَرَضٍ ما عَنْ سائِرِ المُتَرَتِّباتِ، وتَشْبِيهُ الزَّجّاجِ هَذا المَعْنى في الآيَةِ، بِقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎عَلى لاحِبٍ لا يَهْتَدَي بِمَنارِهِ إنَّما هو مُطْلَقَ انْتِفاءِ الشَّيْئَيْنِ، أيْ: لا سُؤالَ ولا إلْحافَ، وكَذَلِكَ: هَذا لا مَنارَ ولا هِدايَةَ، لا أنَّهُ مِثْلُهُ في خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ، إذْ كانَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: لا إلْحافَ، فَلا سُؤالَ، ولَيْسَ تَرْكِيبُ الآيَةِ عَلى هَذا المَعْنى، ولا يَصِحُّ: لا إلْحافَ فَلا سُؤالَ؛ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مَن نَفْيِ الخاصِّ نَفْيُ العامِّ، كَما لَزِمَ مِن نَفْيِ المَنارِ نَفْيُ الهِدايَةِ الَّتِي هي مِن بَعْضِ لَوازِمِهِ، وإنَّما يُؤَدِّي مَعْنى النَّفْيِ عَلى طَرِيقَةِ النَّفْيِ في البَيْتِ أنْ لَوْ كانَ التَّرْكِيبُ: لا يُلْحِفُونَ النّاسَ سُؤالًا؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِن نَفْيِ السُّؤالِ نَفْيُ الإلْحافِ، إذْ نَفِيُ العامِّ يَدُلُّ عَلى نَفْيِ الخاصِّ، فَتَلَخَّصَ مِن هَذا كُلِّهِ أنَّ نَفْيَ الشَّيْئَيْنِ تارَةً يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلى شَيْءٍ فَتَنْتَفِي جَمِيعُ عَوارِضِهِ، ونَبَّهَ عَلى بَعْضِها بِالذِّكْرِ لِغَرَضٍ ما، وتَراهُ يُدْخِلُ حَرْفَ النَّفْيِ عَلى عارِضٍ مِن عَوارِضِهِ، والمَقْصُودُ نَفْيُهُ، فَيَنْتَفِي لِنَفْيِهِ عَوارِضَهُ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَشْبِيهُهُ - يَعْنِي الزَّجّاجَ - الآيَةَ بِبَيْتِ امْرِئِ القَيْسِ غَيْرُ صَحِيحٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ انْتِفاءَ صِحَّةِ التَّشْبِيهِ مِن جِهَةِ أنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ في خُصُوصِيَّةِ النَّفْيِ؛ لِأنَّ انْتِفاءَ المَنارِ في البَيْتِ يَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ الهِدايَةِ، ولَيْسَ انْتِفاءُ الإلْحاحِ يَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ السُّؤالِ، وأطالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في تَقْرِيرِ هَذا، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ تَشْبِيهَ الزَّجّاجِ إنَّما هو في مُطْلَقِ انْتِفاءِ الشَّيْئَيْنِ، وقَرَّرْنا ذَلِكَ. وقِيلَ: مَعْنى (إلْحافًا) أنَّهُ السُّؤالُ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ بِهِ المالُ لِكَثْرَةِ تَلَطُّفِهِ، أيْ: لا يَسْألُونَ النّاسَ بِالرِّفْقِ والتَّلَطُّفِ، وإذا لَمْ يُوجَدْ هَذا، فَلِأنْ لا يُوجَدَ بِطَرِيقِ العُنْفِ أوْلى، وقِيلَ: مَعْنى إلْحافًا أنَّهم يُلْحِفُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ في تَرْكِ السُّؤالِ، أيْ: لا يَسْألُونَ لِإلْحاحِهِمْ عَلى أنْفُسِهِمْ في تَرْكِهِمُ السُّؤالَ، ومَنعُهم ذَلِكَ بِالتَّكْلِيفِ الشَّدِيدِ، وقِيلَ: مَن سَألَ، فَلا بُدَّ أنْ يُلِحَّ، فَنَفْيُ الإلْحاحِ عَنْهم مُطْلَقًا مُوجِبٌ لِنَفْيِ السُّؤالِ مُطْلَقًا، وقِيلَ: هو كِنايَةٌ عَنْ عَدَمِ إظْهارِ آثارِ الفَقْرِ، والمَعْنى: أنَّهم لا يَضُمُّونَ إلى السُّكُونِ مِن رَثاثَةِ الحالِ والِانْكِسارِ، وما يَقُومُ مَقامَ السُّؤالِ المُلِحِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ حالًا، وأنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، ومَن جَوَّزَ الحالَ في هَذِهِ الجُمَلِ وذُو الحالِ واحِدٌ، إنَّما هو عَلى مَذْهَبِ مَن يُجِيزُ تَعَدَّدَ الحالِ لِذِي حالٍ، وهي مَسْألَةُ خِلافٍ وتَفْصِيلٍ مَذْكُورٍ في عِلْمِ النَّحْوِ. وجَوَّزُوا في إعْرابِ ﴿إلْحافًا﴾ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ، وأنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ (يَسْألُونَ) فَكَأنَّهُ قالَ: لا يُلْحِفُونَ، وأنْ يَكُونَ مَصْدَرًا في مَوْضِعِ الحالِ تَقْدِيرُهُ: لا يَسْألُونَ مُلْحِفِينَ. ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ تَقَدَّمَ: ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَلِأنْفُسِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٢] ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٢] ولَيْسَ عَلى سَبِيلِ التَّكْرارِ، والتَّأْكِيدِ، بَلْ كُلٌّ مِنهُما مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ قَيْدِ الآخَرِ، فالأوَّلُ: ذَكَرَ أنَّ الخَيْرَ الَّذِي يَعْمَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ إنَّما هو لِنَفْسِهِ، وأنَّهُ عائِدٌ إلَيْهِ جَزاؤُهُ، والثّانِي: ذَكَرَ أنَّ ذَلِكَ الجَزاءَ النّاشِيءَ عَنِ الخَيْرِ يُوَفّاهُ كامِلًا مِن غَيْرِ نَقْصٍ ولا بَخْسٍ، والثّالِثُ: ذَكَرَ أنَّهُ تَعالى عَلِيمٌ بِما يُنْفِقُهُ الإنْسانُ مِنَ الخَيْرِ، ومِقْدارِهِ، وكَيْفِيَّةِ جِهاتِهِ المُؤْثِرَةِ في تُرَتِّبِ الثَّوابِ، فَأتى بِالوَصْفِ المُطَّلِعِ عَلى ذَلِكَ وهو: العِلْمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب