الباحث القرآني

﴿لِلْفُقَراءِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَنْساقُ إلَيْهِ الكَلامُ ولِهَذا، حُذِفَ أيِ اِعْمَدُوا لِلْفُقَراءِ أوِ اِجْعَلُوا ما تُنْفِقُونَهُ لِلْفُقَراءِ أوْ صَدَقاتِكم لِلْفُقَراءِ، والجُمْلَةُ اِسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّؤالِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الجارُّ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿، وما تُنْفِقُوا﴾ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ اِعْتِراضٌ، أيْ وما تُنْفِقُوا لِلْفُقَراءِ. ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيْ حَبَسَهُمُ الجِهادُ أوِ العَمَلُ في مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى يُوَفَّ إلَيْكم ولا يَخْفى بُعْدُهُ ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ﴾ لِاشْتِغالِهِمْ بِذَلِكَ ﴿ضَرْبًا في الأرْضِ﴾ أيْ مَشْيًا فِيها وذَهابًا لِلتَّكَسُّبِ والتِّجارَةِ وهم أهْلُ الصِّفَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، قالَ اِبْنُ عَبّاسٍ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: وكانُوا نَحْوًا مِن ثَلاثِمِائَةٍ ويَزِيدُونَ ويَنْقُصُونَ مِن فُقَراءِ المُهاجِرِينَ يَسْكُنُونَ سَقِيفَةَ المَسْجِدِ يَسْتَغْرِقُونَ أوْقاتَهم بِالتَّعَلُّمِ والجِهادِ وكانُوا يَخْرُجُونَ في كُلِّ سِرِّيَّةٍ يَبْعَثُها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ هم قَوْمٌ أصابَتْهُمُ الجِراحاتُ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى فَصارُوا زَمْنى فَجَعَلَ لَهم في أمْوالِ المُسْلِمِينَ (p-47)حَقًّا؛ ولَعَلَّ المَقْصُودَ في الرِّوايَتَيْنِ بَيانُ بَعْضِ أفْرادِ هَذا المَفْهُومِ ودُخُولُهُ فِيهِ إذْ ذاكَ دُخُولًا أوَّلِيًّا لا الحَصْرُ إذْ هَذا الحُكْمُ باقٍ إلى يَوْمِ الدِّينِ. ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ أيْ يَظُنُّهم ﴿الجاهِلُ﴾ الَّذِي لا خِبْرَةَ لَهُ بِحالِهِمْ ﴿أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ أيْ مِن أجْلِ تَعَفُّفِهِمْ عَلى المَسْألَةِ فَمِن لِلتَّعْلِيلِ وأتى بِها لِفَقْدِ شَرْطٍ مِن شُرُوطِ النَّصْبِ وهو اِتِّحادُ الفاعِلِ، وقِيلَ: لِابْتِداءِ الغايَةِ والمَعْنى إنَّ حُسْبانَ الجاهِلِ غِناهم نَشَأ مِن تَعَفُّفِهِمْ، والتَّعَفُّفُ تَرْكُ الشَّيْءِ والإعْراضُ عَنْهُ مَعَ القُدْرَةِ عَلى تَعاطِيهِ، ومَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ اِخْتِصارًا كَما أشَرْنا إلَيْهِ، وحالُ هَذِهِ الجُمْلَةِ كَحالِ سابِقَتِها. ﴿تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ أيْ تَعْرِفُ فَقْرَهم واضْطِرارَهم بِالعَلامَةِ الظّاهِرَةِ عَلَيْهِمْ كالتَّخَشُّعِ والجُهْدِ ورَثاثَةِ الحالِ. أخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ عَنْ فَضالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قالَ: ««كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا صَلّى بِالنّاسِ تَخِرُّ رِجالٌ مِن قِيامِهِمْ في صَلاتِهِمْ لِما بِهِمْ مِنَ الخَصاصَةِ وهم أهْلُ الصِّفَةِ حَتّى يَقُولَ الأعْرابُ إنَّ هَؤُلاءِ مَجانِينُ»». وأخْرَجَ هو أيْضًا عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: «كانَ مِن أهْلِ الصِّفَةِ سَبْعُونَ رَجُلًا لَيْسَ لِواحِدٍ مِنهم رِداءٌ» والخِطابَ لِلرَّسُولِ ﷺ أوْ لِكُلِّ مَن لَهُ حَظٌّ مِنَ الخِطابِ مُبالَغَةً في بَيانِ وُضُوحِ فَقْرِهِمْ، ووَزْنُ سِيَّما عِفَّلا لِأنَّها مِنَ الوَسْمِ بِمَعْنى السِّمَةُ نُقِلَتِ الفاءُ إلى مَوْضِعِ العَيْنِ وقُلِبَتْ ياءً لِوُقُوعِها بَعْدَ كَسْرَةٍ. ﴿لا يَسْألُونَ النّاسَ إلْحافًا﴾ أيْ إلْحاحًا وهو أنْ يُلازِمَ المَسْؤُولَ حَتّى يُعْطِيَهُ مِن قَوْلِهِمْ ألْحَفَنِي مِن فَضْلِ لِحافِهِ أيْ أعْطانِي مِن فَضْلِ ما عِنْدَهُ، وقِيلَ: سُمِّيَ الإلْحاحُ بِذَلِكَ لِأنَّهُ يُغَطِّي القَلْبَ كَما يُغَطِّي اللِّحافُ مَن تَحْتَهُ، ونَصْبُهُ عَلى المَصْدَرِ فَإنَّهُ كَنَوْعٍ مِنَ السُّؤالِ أوْ عَلى الحالِ أيْ مُلْحِفِينَ، والمَعْنى أنَّهم لا يَسْألُونَ أصْلًا وهو المَرْوِيُّ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ وأكْثَرُ أرْبابِ المَعانِي، وعَلَيْهِ يَكُونُ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا لِأمْرَيْنِ عَلى حَدِّ قَوْلِ الأعْشى: ؎لا يَغْمِزُ السّاقُ مِن أيْنَ ومِن وصَبٍ ولا يَغَصُّ عَلى شُرْسُوفَةِ الصِّغَرِ واعْتُرِضَ بِأنَّ هَذا إنَّما يَحْسُنُ إذا كانَ القَيْدُ لازِمًا لِلْمُقَيَّدِ أوْ كاللّازِمِ حَتّى يَلْزَمَ مِن نَفْيِهِ بِطَرِيقٍ بُرْهانِيٍّ وما هُنا لَيْسَ كَذَلِكَ إذِ الإلْحافُ لَيْسَ لازِمًا لِلسُّؤالِ ولا كَلازِمِهِ، وأُجِيبَ بِأنَّ هَذا مُسَلَّمٌ إنْ لَمْ يَكُنْ في الكَلامِ ما يَقْتَضِيهِ وهو كَذَلِكَ هُنا لِأنَّ التَّعَفُّفَ حَتّى يَظُنُّوا أغْنِياءَ يَقْتَضِي عَدَمَ السُّؤالِ رَأْسًا، وأيْضًا ﴿تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ مُؤَيِّدٌ لِذَلِكَ إذْ لَوْ سَألُوا لَعَرَفُوا بِالسُّؤالِ واسْتَغْنى عَنِ العِرْفانِ بِالسِّيما، وقِيلَ: المُرادُ إنَّهم لا يَسْألُونَ وإنْ سَألُوا عَنْ ضَرُورَةٍ لَمْ يُلِحُّوا، ومِنَ النّاسِ مِن جَعَلَ المَنصُوبَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِلنَّفْيِ أيْ يَتْرُكُونَ السُّؤالَ إلْحاحًا أيْ مُلِحِّينَ في التَّرْكِ وهو كَما تَرى. ﴿وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [ 273 ] فَيُجازِيكم بِهِ وهو تَرْغِيبٌ في الإنْفاقِ لا سِيَّما عَلى هَؤُلاءِ، أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ واللُّقْمَةُ واللُّقْمَتانِ إنَّما المِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، واقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ ﴿لا يَسْألُونَ النّاسَ إلْحافًا﴾» وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ مُراعاةٌ لِلْفَواصِلِ أوْ إيماءٌ لِلْمُبالَغَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب