الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْأَلُونَ النّاسَ إلْحافًا وما تُنْفِقُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ۝﴾ [البقرة: ٢٧٣]. في الآيةِ: الصدقةُ على المحصورِ في سبيلِ اللهِ، الذي تسبَّب إسلامُهُ في عجزِهِ عن التصرُّفِ ولو لم يكن في غَزْوِ قتالٍ، لأنّه حُصِرَ لأجلِ إيمانِهِ، وهو أوْلى مِنِ ابنِ السبيلِ الذي انقطَعَتْ به السبُلُ لأجلِ رزقِ دنياهُ، ويدخُلُ في هذا مِن بابِ أوْلى فكاكُ الأسيرِ بالمالِ، حتّى يتمكَّنَ مِن الخروجِ إلى المسلِمِينَ. دفعُ الزكاةِ للأسِيرِ: والأسيرُ أحَقُّ بالزكاةِ مِن الفقيرِ ومقدَّمٌ عليه، لأنّ الأسيرَ يُخشى على نفسِهِ ودِينِهِ، والفقيرُ يُخشى على نفسِهِ فقطْ، ولذا قال ﷺ: (فُكُّوا العانِيَ، وأَطْعِمُوا الجائِعَ، وعُودُوا المَرِيضَ)، رواهُ البخاريُّ[[أخرجه البخاري (٣٠٤٦) (٤/٦٨).]]. حكمُ فَكاكِ الأسيرِ: وفَكاكُ المرأةِ الأسيرةِ أوجَبُ مِن الرجلِ، لأنّ الرجلَ يُخشى على دِينِهِ ونفسِه، والمرأةَ يُخشى على دينِها ونفسِها وعِرْضِها، وكُلَّما عَظُمَ الأثرُ على الأسيرِ في نفسِهِ وعلى مَن خَلْفَه، ففَكاكُهُ أوجَبُ وأعظَمُ. وإذا وجَبَ القِتالُ لِفَكِّ الأَسْرى، فبَذْلُ المالِ لذلك أوْلى مِن بَذْلِ الدمِ، وقد روى أشهَبُ وابنُ نافعٍ، عَن مالكٍ، أنّه سُئِلَ: أواجِبٌ على المسلِمِينَ افتداءُ مَن أُسِرَ منهم؟ قال: نَعَمْ، أليسَ واجب عليهم أن يُقاتِلوا حتّى يَستنقِذوهُم؟ فكيف لا يَفْدُونَهُمْ بأموالِهِمْ؟! وقال أحمدُ: يُفادَوْنَ بالرؤوسِ، وأمّا بالمالِ، فلا أعرِفُهُ[[«الأوسط» لابن المنذر (٦/٢٥٠)، و«شرح صحيح البخاري» لابن بطال (٥/٢١٠).]]. ولعلَّ مرادَ أحمدَ: أنّ النبيَّ ﷺ كان يُفادِي الأَسرى بالأَسرى، لا بالمالِ، لأنّ هذا أقوى لشَوكةِ المسلِمِينَ وهَيْبَتِهم، وألاَّ يُستَضْعَفُوا ويُهانُوا، فالنفوسُ أعظَمُ منزِلةً مِن الأموالِ عند أهلِها، والرأسُ بالرأسِ مكافَأَةٌ بالمثلِ، لا يَظهَرُ في ذلك استضعافٌ لأحدٍ، وأمّا المالُ، فيَظهَرُ فيه الضعفُ، مع القولِ بجوازِ دَفْعِه، بل بوجوبِهِ إن تعذَّرَتِ الرؤوسُ والقُوَّةُ، ولم يُرِدْ أحمدُ ألاَّ يُفَكَّ الأسيرُ بالمالِ. ويُروى عن عُمَرَ: أنّ فَكاكَ الأسيرِ يكونُ مِن بيتِ المالِ. والحقُّ: أنّ فَكاكَ الأسيرِ أوْلى مِن جميعِ الأصنافِ الثمانيةِ مِن بيتِ المالِ وأموالِ المسلمينَ. والآيةُ نزَلَتْ في المهاجِرِينَ الذين جاؤُوا مِن مَكَّةَ إلى المدينةِ، فحَبَسَتْهُمْ هِجْرَتُهم عن حُرِّيَّةِ الضَّرْبِ في الأرضِ والرزقِ، لتربُّصِ المشرِكِينَ بهم وبَحْثِهم عنهم، فلا يستطيعونَ رَعْيًا في ماشيةٍ خارجَ المدينةِ، ولا سَفَرًا للشامِ أو اليَمَنِ للتجارةِ، خوفًا مِن تربُّصِ قريشٍ بِهم، وقطعِهِمْ لطريقِهِمْ أو تبيِيتِهِمْ، فقد كان لقُرَيْشٍ أعْيُنٌ بِالمدينةِ. روى ابنُ جريرٍ، عنِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، في قولِه: ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: مهاجِرِي قُرَيْشٍ بالمدينةِ مع النبيِّ ﷺ، أمَرَ بالصَّدَقةِ عليهم[[«تفسير الطبري» (٥/٢٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٤٠).]]. وبهذا قال أبو جعفرٍ والسُّدِّيُّ وغيرُهما[[«تفسير الطبري» (٥/٢٣).]]. ويدخُلُ في هذا مَن حبَسَ نفسَهُ في سبيلِ اللهِ ينتظِرُ الغَزْوَ ودعوى النفيرِ، فمنَعَهُ تربُّصُهُ وحَبْسُهُ لنفسِهِ مِن التجارةِ والزراعةِ، وقد روى ابنُ جريرٍ، عن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ، في قولِه: ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، قال: حَصَرُوا أنفُسَهُمْ في سبيلِ اللهِ للغَزْوِ[[«تفسير الطبري» (٥/٢٤)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٤٠).]]. وفي الآيةِ: أنّ الأصلَ في غيرِ المحصورِ والمنتظِرِ: العملُ وأكلُهُ مِن كسبِ يدِهِ، وبَذْلُهُ للأسبابِ، فالآيةُ جعَلَتْ حَصْرَهُمْ لأنفسِهِمْ في سبيلِ اللهِ سببًا للصَّدَقةِ عليهم، ولو حصَرَ نفسَهُ مِن غيرِ سببٍ عجزًا وتواكُلًا، لا يُعطى مِن الزكاةِ، كي يعمَلَ ويتكسَّبَ، حتّى لا يُعانَ على نفسِهِ فيتَّكِلَ، ويُستثنى مِن هذا: مَن لدَيْهِ قُدْرةٌ في بَدَنِه، وحِرْصٌ في نفسِه، لكنَّه لم يَجِدْ عمَلًا يتكسَّبُ به، فهذا محرومٌ مِن الكَسْبِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿والَّذِينَ فِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ۝لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ ۝﴾ [المعارج: ٢٤ ـ ٢٥]، وهو المحارَفُ يُعطى مِن الزكاةِ، ويأتي الكلامُ عليه في موضِعِهِ بإذنِ اللهِ. استحبابُ تفقُّدِ حالِ المحتاجِ: وقولُه تعالى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْأَلُونَ النّاسَ إلْحافًا﴾: في الآيةِ: مشروعيَّةُ تتبُّعِ حالِ الفقيرِ ممَّن لا يُظهِرُ فَقْرَهُ، ومدحُ المتعفِّفينَ الذين لا يتعرَّضونَ لسؤالِ الناسِ، وفضلُ الإحسانِ إليهم، وفيها جوازُ الأخذِ بالسِّيما الظاهرةِ عندَ دفعِ الزكاةِ. والسِّيما هي التخشُّعُ، كما قاله مجاهِدٌ وغيرُهُ[[«تفسير الطبري» (٥/٢٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٤١).]]. وقيلَ: تَعرِفُ في وجوهِهِمُ الجَهْدَ مِن الحاجةِ، كما قالَهُ الربيعُ، وبمعناهُ قال السُّدِّيُّ وغيرُه[[«تفسير الطبري» (٥/٢٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٥٤١).]]. وقال ابنُ زَيْدٍ: «هي رَثاثةُ الثِّيابِ»[[«تفسير الطبري» (٥/٢٩).]]. وهذه الأوصافُ وأمثالُها ليست قطعيَّةً، فقد تظهَرُ البَذاذةُ والرَّثاثةُ مِن غنيٍّ، ويظهَرُ تكلُّفُ اليسارِ مِن فقيرٍ، فلا حرَجَ مِن الأخذِ بالسِّيما والظاهرِ عندَ الفقرِ، وأمّا إذا أظهَرَ رجلٌ الغِنى، وأَبدى فقرًا وسأَلَ الناسَ، فيُعطى لسؤالِهِ ويصدَّقُ في قولِهِ، لقولِهِ تعالى: ﴿والَّذِينَ فِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ۝لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ ۝﴾ [المعارج: ٢٤ ـ ٢٥]، وكما أُعطِيَ الفقيرُ لظاهرِ رَثاثَتِهِ مِن غيرِ أن يتكلَّمَ وقد يُشارِكُهُ في ظاهرِهِ الغنيُّ، فكذلك الفقيرُ الذي يُظهِرُ يسارًا، الذي يُشارِكُهُ الغنيُّ في ظاهرِهِ ويُخالِفُهُ في قولِه، فهذا يسْأَلُ، وهذا لا يَسْأَلُ، وظهورُ الفقرِ قولًا أصدَقُ مِن ظهورِهِ صورةً وحالًا، ولكنْ يُذكَّرُ مَن يَظهَرُ منه القوةُ واليَسارُ أنّه يظهَرُ منك قُوَّةٌ ويَسارٌ، وهذهِ الزَّكاةُ لا تجوزُ لمثلِ ظاهرِ حالِكَ، وإنْ أخَذَها يُعطاها، فيُوكَلُ إلى نفسِهِ، ما لم يشتهِرْ كذبُهُ وتربُّصُهُ بأموالِ الفقراءِ وهو غنيٌّ. وكان النبيُّ ﷺ يُعطي مَن ظاهِرُهُ القُوَّةُ، ويذكِّرُهُ ويخوِّفُهُ مِن أخذِها بغيرِ حقٍّ، كما في «المسنَدِ»، وعندَ أبي داودَ والنَّسائيِّ، عن عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيارِ، أنّ رجلَيْنِ حدَّثاهُ أنّهما أتَيا رسولَ اللهِ ﷺ يَسْأَلانِهِ مِن الصَّدَقةِ، فقَلَّبَ فِيهِما البَصَرَ ـ وقال محمَّدٌ: بصَرَهُ ـ فرآهما جَلْدَيْنِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (إنْ شِئْتُما أعْطَيْتُكُما، ولا حَظَّ فِيها لِغَنِيٍّ، ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ) [[أخرجه أحمد (١٧٩٧٢) (٤/٢٢٤)، وأبو داود (١٦٣٣) (٢/١١٨)، والنسائي (٢٥٩٨) (٥/٩٩).]]. وفيهِ: أنّ القادرَ على الكسبِ، الواجدَ للعملِ: لا تحلُّ له الزكاةُ، لأنّها تُعِينُهُ على العَجْزِ والقعودِ. وربَّما يكونُ الفقيرُ المحتاجُ المتعفِّفُ غيرَ مُلِحٍّ، ويُلِحُّ الغنيُّ في طلبِ حاجتِهِ، ولذا قالَ تعالى: ﴿لا يَسْأَلُونَ النّاسَ إلْحافًا﴾، أي: كدًّا وإلحاحًا. والصدقةُ أخفُّ مِن الزكاةِ، لأنّ الصَّدَقةَ يجوزُ دفعُها للأغنياءِ بلا خلافٍ، نقلَ الإجماعَ النوويُّ وغيرُهُ، والأفضلُ: تَرْكُها للمحتاجِينَ والمُعْوِزِينَ. الصدقةُ على الأقاربِ: والصدقةُ على الأقاربِ أفضَلُ مِن الأبعَدِينَ، لأنّها صَدَقةٌ وصِلَةٌ، والهَدِيَّةُ على الأقرَبِينَ أفضَلُ مِن الصدقةِ على الأبعَدِينَ، لأثرِ هَدِيَّةِ القريبِ عليه في جَلْبِ فضائلَ عظيمةٍ كصِلَةِ الرَّحِمِ، وشَدِّ الأَزْرِ به عندَ الحاجةِ إليه في حقٍّ، وأثرُ الهديَّةِ في القريبِ أدوَمُ مِن أثرِ الصدقةِ في البعيدِ، لِما في «الصحيحَيْنِ»، أنّ مَيْمُونةَ بنتَ الحارثِ رضي الله عنها أخبَرَتْهُ: أنّها أعتَقَتْ ولِيدَةً ولم تَسْتَأْذِنِ النبيَّ ﷺ، فلمّا كان يَوْمُها الذي يَدُورُ عليها فيه قالت: أشَعَرْتَ يا رسولَ اللهِ أنِّي أعتَقْتُ ولِيدَتي؟ قال: (أوَ فَعَلْتِ؟)، قالتْ: نَعَمْ، قال: (أما إنَّكِ لَوْ أعْطَيْتِها أخْوالَكِ، كانَ أعْظَمَ لأَجْرِكِ) [[أخرجه البخاري (٢٥٩٢) (٣/١٥٩)، ومسلم (٩٩٩) (٢/٦٩٤).]]. وتتفاضَلُ الصَّدَقةُ والهديَّةُ والزَّكاةُ بعِظَمِ أثَرِها المتعدِّي على الدافِعِ والقابِضِ، والأصلُ: أنّ الزكاةَ أعظَمُ، لأنّها فريضةٌ، والفريضةُ أعظَمُ مِن النافلةِ، ومَن يأبى أخذَ الصدقةِ والزكاةِ تعفُّفًا مع حاجتِهِ إليها، أو مَن تحرُمُ عليه الزكاةُ، كآلِ بيتِ النبيِّ ﷺ ـ: فالهديَّةُ له هنا أعظَمُ مِن الزكاةِ والصدقةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب