الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة ٢٧٣]. هذا بيان لمصرف الإنفاق، كأن سائلًا يسأل إلى أين نصرف هذا الخير؟ لما قال: ﴿مَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ كأنه قيل: إلى أين نصرفه؟ فقال: ﴿للفقراء﴾ وعلى هذا فتكون للفقراء إما متعلقة بـ﴿تُنْفِقُوا﴾ أو بمحذوف، تقديره: الإنفاق أو الصدقات للفقراء، والفقراء جمع فقير، والفقير هو المعدِم؛ لأن أصل هذه الكلمة مأخوذة من الفقر الموافق للقفر في الاشتقاق الأكبر، في الاشتقاق الأكبر الذي يساوي في الحروف دون الترتيب، والقفر هو الشيء الخالي، الأرض الخالية وكما قال الشاعر: ؎وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرٍ ∗∗∗ وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ يقولون: إن الإنسان ما يأتي بهذا البيت سبع مرات إلا يغلط فيه، الكلام على إن القفر بمعنى الشيء الخالي، الفقير معناه الخالي ذات اليد، ويقرن بالمسكين أحيانا، فإذا قرن بالمسكين صار لكل منهما معنى، وصار الفقير من كان خالي ذات اليد، أو لا يجد من النفقة إلا أقل من النصف، والمسكين أحسن حالًا منه، لكن لا يجد جميع الكفاية، أما إذا انفرد أحدهما عن الآخر صار معناهما واحدا، فهو من الكلمات التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ يعني: خالي ذات اليد. ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة ٢٧٣] أي: منعوا في سبيل الله؛ لأن الاحصار بمعنى المنع، كقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ [البقرة ١٩٦] أي: منعتم عن إتمامهما، ﴿أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني: أحصروا في الجهاد، إما بالاستعداد له، وإما بما أصابهم من الجهاد من العيوب التي أقعدتهم عن العمل، المهم أنهم أحصروا في هذا الطريق، في سبيل الله. ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة ٢٧٣] يعني: لا يستطيعون سفرًا يبتغون به الرزق؛ لأنهم إما مشغولون بالجهاد، وإما عاجزون عن السفر لما أصابهم من الجراح أو الكسور أو نحو ذلك. ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة ٢٧٣] ﴿يَحْسِبُهُم﴾، وقراءة: ﴿يَحْسَبُهُمُ﴾ ففيها قراءتان، الجاهل الذي ليس عنده علم، أو الجاهل بأحوالهم؟ الثاني، الجاهل بأحوالهم؛ لأن جهل كل شيء بحسبه، الجاهل بأحوالهم الذي لا يعرفهم يحسبهم أغنياء، من أي شيء؟ قال: ﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ أي: بسبب تعففهم وعدم سؤالهم، ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾ لأنك إذا رأيتهم ظننتهم أغنياء مع أنهم فقراء، وهذا كقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الطَّوَّافَ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقُمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي يَتَعَفَّفُ لَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ»[[حديث متفق عليه؛ البخاري (١٤٧٩)، ومسلم (١٠٣٩ /١٠١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، هذا هو المسكين حقيقة، لكنك إذا رأيته تقول هذا غني، لا يظهر بمظهر الفقراء أبدًا لا في هيئته ولا في لباسه، وقوله: ﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ يعني: العفة عن ما في أيدي الناس، وكلمة التعفف قد يقول قائل: إن ظاهرها تكلف العفة؛ لأن تعفف ليست كعف، عف أي: صار عفيفًا، تعفف أي: تكلَّف العفة، هكذا قيل، ولكن الصواب خلاف ذلك، بل الصواب أن التاء هنا للمبالغة، وليست للتكلف والطلب، بل المعنى أنك تحسبهم أغنياء لكمال عفتهم فلا يسألون الناس. قال: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾، في الأول يقول: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾ والحسبان بحسب ظاهر الحال، وأما ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ فهو بمقتضى الفراسة والنظر والتدقيق، وكثير من الناس يكون عنده من الفراسة ودقة النظر ما يعرف به الأحوال الباطنة، فهؤلاء إذا رأيتهم عرفتهم بسيماهم، السيما بمعنى العلامة لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ»[[أخرجه مسلم (٢٤٧ / ٣٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».]] يعني: علامة ليست لغيركم،﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ أي: بعلامتهم، وأيش العلامة اللي فيهم؟ العلامة هي أن الإنسان إذا رآهم ظنهم أغنياء، وإذا دقق في حالهم تبين لهم أنهم فقراء لكنهم متعففون، وكم من إنسان يأتيك بمظهر الفقير المدقع، ثياب ممزقة، وشعر منفوش، ووجه كالح، وأنين، وطنين، وإذا أمعنت النظر فيه عرفت أنه غني، وكم من إنسان بالعكس يأتيك بزي الغني بهيئة الإنسان المنتصر على نفسه الذي لا يحتاج إلى أحد، لكن إذا دققت في حاله علمت أنه فقير، وهذا يعرفه مَنْ مَنَّ الله عليه بالفراسة، وكثير من الناس يعطيهم الله تعالى علما بالفراسة يعلمون أحوال الإنسان بملامح وجهه ونظراته وكذلك بعض عباراته، كما قال تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد ٣٠]. قال: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ الإلحاف هو الإلحاح في المسألة، الإلحاح في المسألة، قوله: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ هل النفي للقيد؟ ولَّا للقيد والمقيد؟ إن نظرنا إلى ظاهر اللفظ فإن النفي للقيد، يعني: لا يسألون الناس سؤال إلحاف، ولكن يسألونهم سؤال تلطف وحياء وخجل، إذا رده المسؤول مرة ما عاد إليه مرة أخرى، هذا مقتضى أيش؟ مقتضى ظاهر اللفظ، لكن مقتضى السياق وأن المقام مقام ثناء أن النفي نفي للقيد الذي هو الإلحاف والمقيد الذي هو السؤال، فهم لا يسألون الناس إلحافًا ولا غير إلحاف، بدليل قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ ولو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء، بل لظنهم فقراء بسبب سؤالهم، فعليه يكون النفي عن القيد وأيش؟ والمقيد، لكنه ذكر أعلى أنواع السؤال المذموم وهو الإلحاح؛ ولهذا تجد الإنسان إذا ألحَّ وإن كان فقيرًا يُثقِل عليك، وتَمل مسألته حتى ربما تأخذك العزة بالإثم ولا تعطيه مع علمك باستحقاقه؛ لأنه ألح، وتجد الإنسان الذي يظهر بمظهر الغني المتعفف تجدك ترق له وتعطيه أكثر مما تعطي السائل، هذه خمس صفات، قال: ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ هذه خمس، والسادسة: الفقراء، فهولاء هم المستحقون حقًّا للصدقة والإنفاق، وإذا تخلفت صفة من الصفات فالاستحقاق باق لكن ليس كما إذا تمت هذه الصفات الست. ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة ٢٧٣] هذه الجملة جملة شرطية ذُيِّلَت بها الآية المبينة لأهل الاستحقاق حثًّا على الإنفاق؛ لأنه إذا كان الله عليمًا بأي خير ننفقه فسيجازينا عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فتأمل ما في هذه الآيات من ظهور الحث على الإنفاق، وأن الإنفاق هذا كله مقيد بالخير، ومقيد بأهله الذين يستحقونه، ففي الآية بيان من يستحق الإنفاق الاستحقاق الكامل، وهم الفقراء الموصوفون بهذه الصفات الخمس؛ لأننا قلنا هم الفقراء الموصوفون بهذه الصفات الخمس التي ارتكزت على الفقر. * من فوائد الآية الكريمة: أن تشاغل الإنسان بعمل يعد من سبيل الله يبيح أن نعطيه وننفق عليه، فلو تشاغل القادر على الكسب بطلب العلم فإننا نعطيه حتى من الصدقة الواجبة ليتفرغ لطلب العلم، ولو تفرغ إنسان للجهاد في سبيل الله أعطيناه ولَّا لا؟ نعم، أعطيناه، ولو من الصدقة الواجبة. طيب، لو تفرغ الإنسان للعبادة فإنه لا يعطى إلا من الصدقة المستحبة، أما من الزكاة فلا يعطى، لأنه تفرغ لنفع قاصر لا يتعداه، وفرق بين النفع القاصر والنفع العام. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا ينبغي أن نعطي، بل لا يجوز أن نعطي من يستطيع التكسب؛ لقوله: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ فإنه علم منه أنهم إذا كانوا يستطيعون الضرب في الأرض والتكسب فإنهم لا يعطون، ولهذا لما جاء رجلان إلى الرسول ﷺ يسألانه الصدقة صَعَّد فيهما النظر وصوبه، ثم قال: «إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ»[[أخرجه أبو داود (١٦٣٣)، والنسائي في المجتبى (٢٥٩٨) من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار.]]، فإذا كان الإنسان يستطيع الضرب في الأرض والتجارة والتكسب فإنه لا يعطى؛ لأنه وإن كان فقيرًا بماله لكنه ليس فقيرًا بعمله. * ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة التعفف؛ لقوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾. ومنها: التنبيه على أنه ينبغي للإنسان أن يكون فطنًا، ذا حزم ودقة نظر؛ لأن الله وصف هذا الذي لا يعلم عن حال هؤلاء بأنه جاهل، فقال: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ فينبغي للإنسان أن يكون ذا فطنة وحزم ونظر في الأمور. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الأسباب؛ لقوله: ﴿مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ فإن من هنا للسببية، أي بسبب تعففهم يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء. * ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى الفراسة والفطنة؛ لقوله: ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ فإن السيما هي العلامة التي لا يطلع عليها إلا ذوي الفراسة، وكم من إنسان سليم القلب ليس عنده فراسة، ولا بعد نظر يخدع بأدنى سبب، وكم من إنسان عنده قوة فراسة وحزم ونظر في العواقب يحميه الله تعالى بفراسته عن أشياء كثيرة. * ومن فوائد الآية الكريمة: الثناء على من لا يسأل الناس؛ لقوله: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾، وقد كان من جملة ما بايع النبي ﷺ عليه أصحابه «أن لا يسألوا الناس شيئًا، حتى إن الرجل ليَسْقُطُ سوطُه من على بعيره فينزل ويأخذه، ولا يقول لأخيه: أعطني إياه »[[أخرجه مسلم (١٠٤٣ / ١٠٨) من حديث أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه.]]، كل هذا بعدا عن السؤال، والسؤال لغير ضرورة، سؤال المال لغير ضرورة محرم إلا إذا علمنا أن المسؤول يفرح بذلك ويسر، كما لو سأل الإنسان صديقًا له يعرف أنه يكون ممتنا بهذا السؤال فإن ذلك لا بأس به، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في اللحم الذي على البرمة قال: «هُوَ لِبَرِيرَةَ صَدَقَةٌ، وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ»[[حديث متفق عليه؛ البخاري (٥٠٩٧)، ومسلم (١٠٧٥ / ١٧١) من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ».]] فإذا علمت أن صاحبك يُسَرُّ بسؤالك الشيء ويفرح ولولا أنك سألته لأهداه إليك مثلًا، فلا بأس أن تسأل، ولكن ترك السؤال أسلم؛ لأنه من ذا الذي يتأكد بيقين أن صاحبه يحب أن يسأله؟ * ومن فوائد الآية الكريمة: عموم علم الله؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ وهذه عامة أي خير يكون فإن الله به عليم، ففيه بيان عموم علم الله، وأنه شامل لما يعمله الإنسان، ولما يفعله الله عز وجل بنفسه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب