الباحث القرآني
القول في تأويل قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ .
وقوله ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ، إبانةٌ عن الصراط المستقيم، أيُّ الصراط هو؟ إذْ كان كلّ طريق من طرُق الحق صراطًا مستقيمًا. فقيل لمحمد ﷺ: قُلْ يا محمد: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، بطاعتك وعبادتك، من مَلائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين.
وذلك نظير ما قال ربنا جلّ ثناؤه في تنزيله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [سورة النساء: ٦٦-٦٩] .
قال أبو جعفر: فالذي أمِر محمدٌ ﷺ وأمّتُه أن يسألوا ربَّهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وَصف الله جلّ ثناؤه صفتَه. وذلك الطريق، هو طريق الذي وَصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله، ووعد من سَلكه فاستقام فيه طائعًا لله ولرسوله ﷺ، أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد.
وبنحو ما قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس وغيره.
١٨٨ - حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمَارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "صراطَ الذين أنعمت عليهم" يقول: طَريقَ من أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبَدُوك [[الخبر ١٨٨ - ضعف هذا الإسناد مفصل في: ١٣٧. وهذا الخبر نقله ابن كثير ١: ٥٢. وانظر أيضًا: ١٧٩.]] .
١٨٩ - حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر عن ربيع: "صراط الذين أنعمتَ عليهم"، قال: النبيّون [[الأثر ١٨٩ - ربيع: هو ابن أنس البكري. وسبق شرح هذا الإسناد إليه: ١٦٤. والأثر نقله ابن كثير ١: ٥٣، والسيوطي ١: ١٦.]] .
١٩٠ - حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: "أنعمت عليهم " قال: المؤمنين [[الخبر ١٩٠ - هذا كالخبر ١٨٣ منقطع بين ابن جريج وابن عباس. وقد نقله ابن كثير ١: ٥٣، والسيوطي ١: ١٦، ولكن وقع فيه "ابن حميد" بدل "ابن جرير".]] .
١٩١- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: قال وكيع: "أنعمت عليهم"، المسلمين [[الأثر ١٩١ - وهذا نقله ابن كثير أيضًا ١: ٥٣.]] .
١٩٢- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله " صراط الذين أنعمت عليهم "، قال: النبيّ ﷺ ومن معه [[الأثر ١٩٢ - مضى هذا الإسناد: ١٨٥. وأما نص الأثر، فهو عند ابن كثير ١: ٥٣. وقال بعد هذه الروايات: "والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل". يعني الخبر ١٨٨.]] .
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليلٌ واضح على أنّ طاعة الله جَلّ ثناؤه لا ينالها المُطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول: "صراط الذين أنعمت عليهم"، فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم؟
فإن قال قائل: وأين تمام هذا الخبر؟ وقد علمتَ أنّ قول القائل لآخر: "أنعمت عليك"، مقتضٍ الخبرَ عمَّا أنعمَ به عليه، فأين ذلك الخبرُ في قوله: "صراط الذين أنعمت عليهم"؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم؟
قيل له: قد قدّمنا البيان -فيما مضى من كتابنا هذا- عن إجراء العرب في منطقها ببعضٍ من بعض، إذا كان البعضُ الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيًا منه. فقوله: "صراط الذين أنعمتَ عليهم" من ذلك. لأن أمرَ الله جل ثناؤه عبادَه بمسألته المعونةَ، وطلبهم منه الهدايةَ للصراط المستقيم، لما كان متقدّمًا قولَه: "صراطَ الذين أنعمت عليهم"، الذي هو إبانةٌ عن الصراط المستقيم وإبدالٌ منه -كان معلومًا أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمَرنا بمسألته الهدايةَ لطريقهم، هو المنهاجُ القويمُ والصراطُ المستقيم، الذي قد قدّمنا البيان عن تأويله آنفًا، فكان ظاهرُ ما ظهر من ذلك - مع قرب تجاور الكلمتين- مغنيًا عن تكراره.
كما قال نابغة بني ذبيان:
كأَنَّك مِنْ جِمالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بشَنِّ [[ديوانه: ٥٨، سيبويه ١: ٣٧٥، مجاز القرآن: ١٠١ الخزانة ٢: ٣١٤، وهذا الشعر يقوله النابغة لعيينة بن حصن الفزاري. بنو أقيش: هم بنو أقيش بن عبيد. وقيل: فخذ من أشجع. وقيل: حي من اليمن في إبلهم نفار شديد. وقيل: هم حي من الجن يزعمون. وقعقع حرك شيئا يابسا فتسمع له صوت. والشن: القربة البالية. يصف عيينة بالجبن والخور وشدة الفزع، كأنه جمل شديد النفار، إذا سمع صوت شن يقعقع به]]
يريد: كأنك من جمال بني أقيش، جملٌ يُقعقع خلف رجليه بشنّ، فاكتفى بما ظهر من ذكر "الجمال" الدال على المحذوف، من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب:
تَرَى أَرْباقَهُمْ مُتَقَلِّدِيها ... إِذا صَدِئَ الحديدُ عَلَى الكُمَاةِ [[ديوانه: ١٣١ والنقائض: ٧٧٣، ويأتي في تفسير آية سورة الشعراء: ٤ (١٩: ٣٨ بولاق) ، وهو هناك "على الكتاب"، وهو خطأ. يهجو جريرا وقومه بني كليب بن يربوع. الأرباق: جمع ربق، والربق جمع ربقة: وهو الحبل تشد به الغنم الصغار لئلا ترضع. وتقالد السيف: وضع نجاده على منكبه. والكماة، جمع كمى: وهو البطل الشديد البأس. يصف بني كليب بأنهم رعاء أخساء بخلاء، لا هم لهم إلا رعية الغنم، والأبطال في الحرب يصلون حرها الأيام الطوال حتى يصدأ حديد الدروع على أبدانهم من العرق.]]
يريد: متقلديها هم، فحذف "هم "، إذ كان الظاهرُ من قوله أرباقَهُم، دالا عليها.
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. فكذلك ذلك في قوله: "صراط الذين أنعمت عليهم".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ .
قال أبو جعفر: والقرَأةُ مجمعةٌ على قراءة " غير " بجر الراء منها [[في المطبوعة "والقراء مجمعة"، والقَرَأَة: جمع قارئ. انظر ما مضى: ٥١ في التعليق، و ٦٤ تعليق: ٤ و: ١٠٩ تعليق: ١.]] . والخفضُ يأتيها من وجهين:
أحدهما: أن يكون "غير" صفة لِ"الذين" ونعتًا لهم فتخفضها. إذ كان " الذين " خفضًا، وهي لهم نعتٌ وصفةٌ. وإنما جاز أن يكون " غير " نعتًا لِـ " الذين "، و " الذين " معرفة و"غير" نكرة، لأن " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء التي هي أماراتٌ بين الناس، مثل: زيد وعمرو، وما أشبه ذلك [[يعني بقوله: "المعرفة المؤقتة" المعرفة المحددة، وهو العلم الشخصي الذي يعين مسماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد. فقولك "زيد" يعين تعيينًا مطلقًا أو محددًا. والمعرف بالألف واللام إنما يعين مسماه ما دامت فيه "ال"، فإذا فارقته فارقه التعيين. وانظر معاني الفراء ١: ٧.]] ؛ وإنما هي كالنكرات المجهولات، مثل: الرجل والبعير، وما أشبه ذلك. فلما كان " الذين " كذلك صفتُها، وكانت "غير" مضافةً إلى مجهول من الأسماء، نظيرَ " الذين "، في أنه معرفة غير موقتة، كما " الذين " معرفة غير مؤقتة - جاز من أجل ذلك أن يكون "غير المغضوب عليهم" نعتًا لِ "الذين أنعمت عليهم" كما يقال: " لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل"، يراد: لا أجلس إلا إلى مَن يعلم، لا إلى مَن يجهل.
ولو كان "الذين أنعمت عليهم" مَعرفة موقتة. كان غير جائز أن يكون "غير المغضوب عليهم" لها نعتًا. وذلك أنه خطأ في كلام العرب - إذا وصفت معرفة مؤقَّتة بنكرة- أن تُلْزِم نَعتها النكرةَ إعرابَ المعرفة المنعوت بها، إلا على نية تكرير ما أعربَ المنعوتَ بها. خطأ في كلامهم أن يقال: "مررت بعبد الله غير العالم"، فتخفض " غير "، إلا على نية تكرير الباء التي أعرَبتْ عبد الله. فكان معنى ذلك لو قيل كذلك: مَرَرتُ بعبد الله، مررت بغيرِ العالم. فهذا أحد وجهي الخفض في: "غير المغضوب عليهم".
والوجهُ الآخر من وجهي الخفض فيها: أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة المؤقتة. وإذا وُجِّه إلى ذلك، كانت "غير" مخفوضةً بنية تكرير "الصراط" الذي خُفِض "الذين" عليها، فكأنك قلت: صراطَ الذين أنعمت عليهم، صراطَ غير المغضوب عليهم.
وهذان التأويلان في "غير المغضوب عليهم"، وإن اختلفا باختلاف مُعرِبَيْهما، فإنهما يتقارب معناهما. من أجل أنَّ من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق، فقد سلم من غضب رَبه ونجا من الضلال في دينه.
فسواءٌ - إذ كان سَبب قوله: "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم" غيرَ جائزٍ أن يرتاب، مع سماعه ذلك من تاليه، في أن الذين أنْعم الله عليهم بالهداية للصِّراط غيرُ غاضب ربُّهم عليهم، مع النعمة التي قد عظمت مِنَّته بها عليهم في دينهم؛ ولا أن يكونوا ضُلالا وقد هداهم الحقَّ ربُّهم. إذْ كان مستحيلا في فِطَرِهم اجتماعُ الرضَى من الله جلّ ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة، واجتماعُ الهدى والضلال له في وقت واحد - أوُصِف [[سياق العبارة: "سواء. . . أوصف القوم. . . أم لم يوصفوا"، وما بين هذين فصل طويل كدأب أبي جعفر في بيانه.]] القوم؛ معَ وَصْف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم، وإنعامه عَليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم، بأنهم غيرُ مغضوب عليهم ولا هم ضَالُّون؛ أم لم يوصفوا بذلك. لأن الصِّفة الظاهرة التي وُصفوا بها، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك، وإن لم يصرِّح وصفَهُم به.
هذا، إذا وجَّهنا " غير " إلى أنها مخفوضة على نية تكرير "الصراطِ" الخافضِ "الذين"، ولم نجعل "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" من صفة "الذين أنعمت عليهم"، بل إذا حملناهم غيرَهم. وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَمًا عليهما في أدْيانهم.
فأمّا إذا وجهنا "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" إلى أنها من نَعت، "الذين أنعمت عليهم". فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال، إذْ كان الصريحُ من معناه قد أغنى عن الدليل.
وقد يجوز نصب " غير " في "غير المغضوب عليهم"، وإن كنتُ للقراءة بها كارهًا لشذوذها عن قراءة القُرّاء. وإنَّ ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرًا مستفيضًا، فرأيٌ للحق مخالف. وعن سبيل الله وسبيل رسوله ﷺ وسبيل المسلمين مُتجانفٌ. وإن كان له - لو كانت جائزًا القراءةُ به [[في المطبوعة: "لو كانت القراءة جائزة به "، بدلوه ليوافق عبارتهم، دون عبارة الطبري]] - في الصواب مخرجٌ.
وتأويل وجه صوابه إذا نصبتَ: أن يوجَّه إلى أن يكون صفةً للهاء والميم اللتين في " عليهم " العائدة على " الذين ". لأنها وإن كانت مخفوضة بِ " على "، فهي في محل نصب يقوله: " أنعمت ". فكأن تأويل الكلام -إذا نصبت " غير " التي مع " المغضوب عليهم"-: صراطَ الذين هَدَيتهم إنعامًا منك عليهم، غيرَ مغَضوبٍ عليهم، أي لا مغضوبًا عليهم ولا ضالين. فيكون النصب في ذلك حينئذ، كالنصب في " غير " في قولك: مررت بعبد الله غيرَ الكريم ولا الرشيدِ، فتقطع "غيرَ الكريم" من "عبد الله"، إذْ كان "عبدُ الله" معرفة مؤقتة، و"غير الكريم" نكرة مجهولة.
وقد كان بعضُ نحويِّي البصريين يزعم أنّ قراءة مَنْ نصب " غير " في "غير المغضوب عليهم"، على وَجه استثناءِ "غير المغضوب عليهم" من معاني صفة "الذين أنعمت عليهم"، كأنه كان يرى أنّ معنى الذين قرأوا ذلك نصبًا: اهدنا الصراط المستقيم، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم، إلا المغضوبَ عَليهم -الذين لم تُنعم عليهم في أديانهم ولم تَهْدهم للحق- فلا تجعلنا منهم. كما قال نابغة بني ذبيان:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلالا أُسَائِلُها ... عَيَّت جَوابًا، ومَا بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ [[ديوانه: ٢٣، ويأتي في تفسير آية البقرة: ٣٥ (١: ١٨٦ بولاق) ، وآية النساء: ١١٤ (٥: ١٧٨) ، وآية يونس: ٩٨ (١١: ١١٧) وآية سورة الليل: ٢٠ (٣٠: ١٤٦) . يقال: لقيته أصيلالا وأصيلانًا، إذا لقيته بالعشي. وذلك أن الأصيل هو العشي، وجمعه أُصُل (بضمتين) وأصلان (بضم فسكون) ، ثم صغروا الجمع فقالوا: أصيلان، ثم أبدلوا من النون لامًا. فعلوا ذلك اقتدارا على عربيتهم، ولكثرة استعمالهم له حتى قل من يجهل أصله ومعناه. وعى في منطقه: عجز عن الكلام.]] إلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُهُا ... والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ [[أواري جمع آري (مشدد الياء) : وهو محبس الدابة ومأواها ومربطها، من قولهم: تأرى بالمكان أقام وتحبس. ولأيا: بعد جهد ومشقة وإبطاء. والنؤى: حفرة حول الخباء تعلى جوانبها بالتراب، فتحجز الماء لا يدخل الخباء، والمظلومة: يعني أرضًا مروا بها في برية فتحوضوا حوضًا سقوا فيه إبلهم، وليس بموضع تحويض لبعدها عن مواطئ السابلة. فلذلك سماها مظلومة، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. والجلد: الأرض الصلبة، يعني أنها لا تنبت شيئًا فلا يرعاها أحد.]]
والأواريُّ معلومٌ أنها ليست من عِدَاد "أحد" في شيء. فكذلك عنده، استثنى "غير المغضوب عليهم" من "الذين أنعمت عليهم"، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء.
وأما نحِويُّو الكوفيين، فأنكروا هذا التأويل واستخفُّوه [[في المطبوعة: "واستخطئوه"، واستخفوه: رأوه خفيفا لا وزن له.]] ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة، لكان خطأ أن يقال: "ولا الضالين".
لأن " لا " نفي وجحد، ولا يعطف بجحد إلا على جحد. وقالوا: لم نجد في شيء من كلام العرب استثناءً يُعطف عليه بجحد، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء، وبالجحد على الجحد، فيقولون في الاستثناء: قام القومُ إلا أخاك وإلا أباك.
وفي الجحد: ما قام أخوك ولا أبوك. وأما: قام القومُ إلا أباك ولا أخاك. فلم نجده في كلام العرب. قالوا: فلما كان ذلك معدومًا في كلام العرب، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزولُه، علمنا -إذ كان قولُه"ولا الضالين" معطوفًا على قوله"غير المغضوب عليهم" -أن " غير " بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء، وأن تأويل من وجَّهها إلى الاستثناء خطأ.
فهذه أوجه تأويل "غير المغضوب عليهم"، باختلاف أوجه إعراب ذلك.
وإنما اعترضْنا بما اعترضنا في ذلك من بَيان وُجوه إعرابه- وإن كان قصدُنا في هذا الكتاب الكشفَ عن تأويل آي القرآن- لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله. فاضطرّتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويله وُجوه تأويله، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته.
والصَّوابُ من القول في تأويله وقراءته عندنا، القول الأول، وهو قراءةُ ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ بخفض الراء من " غير ". بتأويل أنها صفة لِ "الذين أنعمت عليهم" ونعتٌ لهم -لما قد قدمنا من البيان- إن شئتَ، وإن شئت فبتأويلِ تكرار " صراط ". كلُّ ذلك صوابٌ حَسنٌ.
فإن قال لنا قائل: فمنْ هؤلاء المغضوبُ عليهم، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم؟
قيل: هم الذين وصفهم الله جَلّ ثناؤه في تنزيله فقال: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [سورة المائدة: ٦٠] . فأعلمنا جلّ ذكره ثَمَّة [[بدلوها في المطبوعة إلى "بمنه"؛ وثم وثمة (بفتح الثاء) : إشارة للبعيد بمنزلة "هنا" للقريب.]] ، ما أحَلَّ بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه. ثم علمنا، منّهً منه علينا، وجه السبيل إلى النجاة من أن يَحِلَّ بنا مثل الذي حَلّ بهم من المَثُلات، ورأفة منه بنا [[المثلات جمع مثلة (بفتح فضم ففتح) : وهي العقوبة والتنكيل.]] .
فإن قيل: وما الدليلُ على أنهم أولاء الذين وصفَهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت؟ قيل:
١٩٣ - حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم، قال: قال لي رسول الله ﷺ: المغضوبُ عليهم، اليهود [[الحديث ١٩٣ - هذا إسناد صحيح، وسيأتي بعض هذا الحديث أيضًا بهذا الإسناد ٢٠٧. وتخريجه سيأتي في ١٩٥.]] .
١٩٤- حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عباد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله ﷺ: إنّ المغضوبَ عليهم اليهود [[الحديث ١٩٤ - وهذا إسناد صحيح أيضًا. عباد بن حبيش، بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة ولآخره شين معجمة، الكوفي، ذكره ابن حبان في الثقات، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٧٨. وبعض الحديث سيأتي أيضًا ٢٠٨ بهذا الإسناد.]] .
١٩٥- حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرِّي بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي ﷺ عن قول الله جلّ وعزّ "غير المغضوب عليهم" قال: هم اليهود [[الحديث ١٩٥ - وهذا إسناد صحيح أيضًا. مري بن قطري الكوفي: ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير ٤ / ٢ / ٥٧، وقال: "سمع عدي بن حاتم، روى عنه سماك بن حرب، يعد في الكوفيين". و "مري": بضم الميم وتشديد الراء المكسورة مع تشديد الياء. و "قطري" بفتح القاف والطاء وبعد الراء ياء مشددة. وبعضه سيأتي أيضًا بالإسناد نفسه ٢٠٩.
وهذا الحديث عن عدي بن حاتم: أصله قصة مطولة في إسلامه. فرواه -بطوله- أحمد في المسند ٤: ٣٧٨ - ٣٧٩ عن محمد بن جعفر عن شعبة، بالإسناد السابق ١٩٤. . ورواه الترمذي ٤: ٦٧ من طريق عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عباد بن حبيش عن عدي. وقال: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب. وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عباد بن حبيش عن عدي بن حاتم عن النبي ﷺ - الحديث بطوله". وروى بعضه الطيالسي في مسنده: ١٠٤٠ عن عمرو بن ثابت "عمن سمع عدي بن حاتم". وقد تبين لنا من روايات الطبري هنا أن سماك بن حرب سمعه من عباد بن حبيش ومن مري بن قطري، كلاهما عن عدي، وأن سماك بن حرب لم ينفرد بروايته أيضًا، إذ رواه إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي. وأن لم يعرفه الترمذي إلا من حديث سماك - لا ينفي أن يعرفه غيره من وجه آخر. وذكره ابن كثير ١: ٥٤ من رواية أحمد في المسند، وأشار إلى رواية الترمذي، وإلى روايات الطبري هنا، ثم قال: "وقد روى حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها ". وذكره الحافظ في الإصابة، في ترجمة عدي ٢: ٢٢٩ من رواية أحمد والترمذي. وذكر السيوطي منه ١: ١٦ تفسير الحرفين، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه. وكذلك صنع الشوكاني ١: ١٥.]] .
١٩٦ - حدثنا حُميد بن مَسْعَدة السّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل، قال: حدثنا الجُرَيْري، عن عبد الله بن شَقِيق: أنّ رُجلا أتى رسول الله ﷺ وهو محاصرٌ واديَ القُرَى، فقال: مَنْ هؤلاء الذين تحاصرُ يا رسول الله؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم، اليهود [[الحديث ١٩٦ - حميد بن مسعدة السامي، شيخ الطبري: هو "السامي" بالسين المهملة، نص على ذلك الحافظ ابن حجر في التقريب. وهو نسبة إلى "سامة بن لؤي بن غالب". ووقع في نسخ الطبري -هنا وفيما يأتي ٢١٠- "الشامي" بالمعجمة، وهو تصحيف. و "الجريري"، بضم الجيم: هو سعيد بن إياس البصري. و "عبد الله بن شقيق العقيلي"، بضم العين وفتح القاف: تابعي كبير ثقة. وهذا الإسناد مرسل، لقول عبد الله بن شقيق: "أن رجلا". وسيأتي مرسلا أيضًا ١٩٧، ١٩٩ ولكنه سيأتي موصولا ١٩٨.]] .
١٩٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلَّية، عن سعيد الجُرَيْري، عن عروة، عن عبد الله بن شَقيق: أن رجلا أتى رسول الله ﷺ، فذكر نحوه.
١٩٨- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العقيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شَقيق: أنه أخبره من سمع النبي ﷺ -وهو بوادي القُرَى، وهو عَلى فَرسه، وسأله رجل من بني القَين فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ - قال: المغضوبُ عليهم. وأشار إلى اليهود [[الحديث ١٩٨ - بديل، بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة: هو ابن ميسرة العقيلي، وهو تابعي ثقة. وهذه الرواية متصلة بإسناد صحيح. لأن عبد الله بن شقيق صرح فيها بانه أخبره "من سمع النبي ﷺ "، وجهالة الصحابي لا تضر، كما هو معروف. والوصل بذكر الصحابي المبهم - زيادة من الثقة، فهي مقبولة.
وقد ذكر ابن كثير ١: ٥٤ - ٥٥ هذه الرواية الموصولة، ثم أشار إلى الروايات الثلاث المرسلة، ثم قال: " ووقع في رواية عروة تسمية: عبد الله بن عمرو، فالله أعلم". ولكنه لم يذكر من خرج رواية عروة التي يشير إليها. ثم قال ابن كثير: "وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر، قال: سألت رسول الله ﷺ عن المغضوب عليهم، قال: اليهود، قلت: الضالين؟ قال: النصارى". وأشار الحافظ في الفتح ٨: ١٢٢ إلى رواية ابن مردويه هذه عن أبي ذر "بإسناد حسن". وذكر أيضًا أن رواية عبد الله بن شقيق الموصولة " أنه أخبره من سمع النبي ﷺ" - رواها أحمد. وهذه الروايات أيضًا عند السيوطي ١: ١٦، والشوكاني ١: ١٤ - ١٥. وسيأتي تفسير (الضالين) بهذه الأسانيد ٢١٠، ٢١١، ٢١٢، ٢١٣. وسيأتي في ٢١١ بيان من عروة الذي في الإسناد ١٩٧.]] .
١٩٩- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الحَذَّاء، عن عبد الله بن شقيق، أنّ رجلا سأل النبي ﷺ، فذكر نحوه
٢٠٠ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "غير المغضوب عليهم"، يعني اليهودَ الذين غَضب الله عليهم [[الأثر ٢٠٠ - أثر الضحاك عن ابن عباس لم يخرجوه. وسيأتي باقيه ٢١٥.]] .
٢٠١- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن طلحة، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس -وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: "غير المغضوب عليهم"، هم اليهود [[الخبر ٢٠١ - ابن كثير ١: ٥٥، والدر المنثور ١: ١٦، والشوكاني ١: ١٥. وسيأتي باقيه: ٢١٧.]] .
٢٠٢- حدثنا ابن حميد الرازي، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، قال: "غير المغضوب عليهم"، قال: هم اليهود.
٢٠٣- حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر، عن ربيع: "غير المغضوب عليهم"، قال: اليهود.
٢٠٤- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: "غير المغضوب عليهم" قال: اليهود.
٢٠٥- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: "غير المغضوب عليهم"، اليهود.
٢٠٦- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني ابن زيد، عن أبيه، قال: "المغضوب عليهم"، اليهود [[الآثار ٢٠٢ - ٢٠٦: في ابن كثير، والدر المنثور، الشوكاني، كالذي مضى. وسيأتي باقيها: ٢١٤، ٢١٦، ٢١٨، ٢١٩، ٢٢٠.]] .
قال أبو جعفر: واختُلِف في صفة الغضب من الله جلّ ذكره:
فقال بعضهم: غضبُ الله على من غضب عليه من خلقه، إحلالُ عقوبته بمن غَضبَ عليه، إمّا في دنياه، وإمّا في آخرته، كما وصف به نفسه جلّ ذكره في كتابه فقال: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [سورة الزخرف: ٥٥] .
وكما قال: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) [سورة المائدة: ٦٠] .
وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذم منه لهم ولأفعالهم، وشتم لهم منه بالقول.
وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم، كالذي يعرف من معاني الغضب، غير أنه -وإن كان كذلك من جهة الإثبات [[الإثبات: مذهب أهل السنة في إثبات الصفات لله تعالى كما وصف نفسه، وإثبات القدر بلا تأويل، خلافا لأهل القدر، وهم نفاته، وللجهمية والمعطلة للصفات.]] - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم.
لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها [[بعد هذا الموضع من نسخة دار الكتب المصرية رقم: ١٠٠ تفسير، ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
-على الأصل المنقول منه-
سمعت وأحمد ومحمد والحسن بني عبد الله بن أحمد الفرغاني في يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان سنة ست وأربعين وثلثمائة. ومحمد بن محمد الطوسي".]] .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿وَلا الضَّالِّينَ﴾ .
قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن " لا " مع " الضالين " أدخلت تتميما للكلام، والمعنى إلغاؤها، يستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج: فِي بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ [[ديوانه: ١٦، ومعاني القرآن للفراء ١: ٨، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٢٥ والخزانة ٢: ٩٥، وأمالي الشجري ٢: ٢٣١، والأضداد لابن الأنباري: ١٨٦. والقائل بأنها زائدة من البصريين هو أبو عبيدة.]]
ويتأوله بمعنى: في بئر حور سرى، أي في بئر هلكة، وأن " لا " بمعنى الإلغاء والصلة. ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم:
فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لا تَسْخَرَا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمْطَ الْقَفَنْدَرَا [[نسبه شارح القاموس عن الصاغاني لأبي النجم وقال: روايته: "إذا رأت ذا الشيبة القفندرا"
وضبطوا "الشمط" بفتح الميم، أي الشيب، وجائز أن يكون أبو النجم قاله "الشمط" بكسر الميم على أنه فرح، طرح ألف "أشمط"، كما فعلوا في أشعث وشعث. وأحدب وحدب، وأتعس وتعس، وأحول وحول، في الصفات المشبهة من العيوب الظاهرة والحلي. وانظر الفائق للزمخشري ٢: ٣٢٦ فقد عدد ألفاظًا غيرها. وكأن الصاغاني أبى من رواية "الشمط" بفتحتين، لأن القفندر: هو الصغير الرأس القبيح المنظر.
والبيت برواية البري في مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٢٦، والأضداد لابن الأنباري: ١٨٥، واللسان (قفندر) ، ثم انظر أمالي الشجري ٢: ٢٣١، وغيرها.]]
وهو يريد: فما ألوم البيض أن تسخر وبقول الأحوص:
وَيَلْحَيْنَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ لا أُحِبَّه ... وَللَّهْوُ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ [[الكامل ١: ٤٩، والأضداد لابن الأنباري: ١٨٦، ولحاه يلحاه لحيًا: عذله ولامه.]]
يريد: وَيلحينني في اللهو أن أحبه، وبقوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ﴾ [سورة الأعراف: ١٢] ، يريد أن تسجد. وحُكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول " غير " التي " مع "المغضوب عليهم "، أنها بمعنى " سوى [[هو أبو عبيدة كما أسلفنا في أول هذه الفقرة. وأشار إليه الفراء في معاني القرآن: ٨ بقوله: "وقد قال بعض من لا يعرف العربية. . . "، وكذلك فعل الطبري من قبل في مواضع. وانظر اللسان (غير) .]] . فكأنّ معنى الكلام كانَ عنده: اهدنا الصراط المستقيمَ، صراط الذين أنعمتَ عليهم، الذين همُ سوى المغضوب والضالين.
وكان بعضُ نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله [[يعني الفراء الكوفي في كتابه معاني القرآن: ٨، أو غيره من كتبه.]] ، ويزعمُ أن " غير " التي " مع المغضوب عليهم "، لو كانت بمعنى سوى، لكان خطأ أن يعطف عليها بـ " لا "، إذْ كانت " لا " لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها. كما كان خطأ قول القائل: "عندي سِوَى أخيك ولا أبيك"، لأن سِوَى ليست من حروف النفي والجحود. ويقول: لما كان ذلك خطأ في كلام العرب، وكان القرآن بأفصحِ اللغات من لغات العرب، كان معلومًا أن الذي زَعمه القائل: أن "غير" مع "المغضوب عليهم" بمعنى: سوى المغضوب عليهم، خطأ. إذ كان قد كرّ عليه الكلامَ بـ " لا ". وكان يزعم أن " غير " هنالك إنما هي بمعنى الجحد. إذْ كان صحيحًا في كلام العرب، وفاشيًا ظاهرًا في منطقها توجيه " غير " إلى معنى النفي ومستعملا فيهم: "أخوك غير مُحسِن ولا مُجْمِل"، يراد بذلك أخوك لا محسن، ولا مجمل، ويَستنكرُ أن تأتي " لا " بمعنى الحذف في الكلام مُبتدأً، ولمَّا يتقدمها جحد. ويقول: لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مُبتدأ، قبل دلالة تدلّ ذلك من جحد سابق، لصحَّ قول قائل قال: "أردْتُ أن لا أكرم أخاك"، بمعنى: أردت أن أكرم أخاك. وكان يقول: ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك، دلالةٌ واضحة على أنَّ " لا " تأتي مبتدأة بمعنى الحذف، ولَمَّا يتقدَّمها جحد. وكان يتأوّل في " لا " التي في بيت العجاج، الذي ذكرنا أن البصْريّ استشهد به، بقوله: إنها جَحْدٌ صحيح، وأنّ معنى البيت: سَرَى في بئر لا تُحيرُ عليه خيرًا، ولا يتبيَّن له فيها أثرُ عملٍ، وهو لا يشعُر بذلك ولا يدري به [[عبارة الفراء في معاني القرآن: "كأنك قلت: إلى غير رشد توجه وما درى".]] . من قولهم: "طحنت الطَّاحنة فما أحارت شيئًا"، أي لم يتبيَّن لها أثرُ عملٍ. ويقول في سائر الأبيات الأخر، أعني مثل بَيت أبي النجم:
فما ألُوم البيضَ أن لا تسخَرَا
إنما جاز أن تكون " لا " بمعنى الحذف، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام، فكان الكلام الآخر مُواصِلا للأول، كما قال الشاعر:
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمُ ... وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ [[الشعر لجرير يهجو الأخطل، ديوانه ٢٦٣، ونقائض جرير والأخطل: ١٧٤، وأضداد ابن الأنباري: ١٨٦، ثم تفسير آية سورة البقرة: ١٥٨.]]
فجازَ ذلك، إذْ كان قد تقدَّم الجحدُ في أوّل الكلام.
قال أبو جعفر: وهذا القولُ الآخر أولى بالصواب من الأول، إذ كان غيرَ موجودٍ في كلام العرب ابتداءُ الكلام من غير جحد تقدَّمه بـ " لا " التي معناها الحذف، ولا جائزٍ العطفُ بها على " سوى "، ولا على حرف الاستثناء. وإنما لِـ " غير " في كلام العرب معان ثلاثة: أحدها الاستثناء، والآخر الجحد، والثالث سوى. فإذا ثبت خطأ " لا " أن يكون بمعنى الإلغاء مُبتدأ [[في المخطوطة: "فإذا ثبت خط أن لا يكون بمعنى الإلغاء" غير منقوطة، ولم يحسن طابعو المطبوعة قراءتها فجعلوها: "فإذا بطل حظ لا أن تكون بمعنى الإلغاء". وقد صححنا ما في المخطوطة من تقديم "لا" على "يكون".]] ، وفسدَ أن يكون عطفًا على " غير " التي مع " المغضوب عليهم "، لو كانت بمعنى " إلا " التي هي استثناء، ولم يَجز أيضًا أن يكون عطفًا عليها لو كانت بمعنى " سوى "، وكانت " لا " موجودة عطفًا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قَبلها -صحَّ [[جواب قوله "فإذا ثبت خطأ. . . ".]] وثبت أن لا وجهَ لـ " غير "، التي مع " المغضوب عليهم "، يجوز توجيهها إليه على صحَّة إلا بمعنى الجحد والنفي، وأن لا وَجه لقوله: " ولا الضالين "، إلا العطف على " غير المغضوب عليهم ".
فتأويلُ الكلام إذًا - إذْ كان صحيحًا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا- اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، لا المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن قال لنا قائل: ومَن هؤلاء الضَّالُّون الذين أمرنا اللهُ بالاستعاذة بالله أن يَسْلُكَ بنا سبيلهم، أو نَضِلَّ ضلالهم؟
قيل: هم الذين وصَفهم الله في تنزيله فقال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [سورة المائدة: ٧٧] .
فإن قال: وما برهانك على أنهم أولاء؟
قيل:
٢٠٧- حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشَّعبي، عن عدي بن أبي حاتم، قال: قال رسول الله ﷺ: "ولا الضالين" قال: النصارى [[هذه الأحاديث والأخبار والآثار ٢٠٧ - ٢٢٠، في تفسير (الضالين) ، سبقت أوائلها في تفسير (المغضوب عليهم) ، مع تخريجها، في الأرقام ١٩٣ - ٢٠٦، مع شيء من التقديم والتأخير.]] .
٢٠٨- حدثنا محمد بن المثنى، أنبأنا محمد بن جعفر، أنبأنا شعبة، عن سِمَاك، قال: سمعت عبّاد بن حُبيش يحدث، عن عدي بن حاتم، قال: قالَ لي رسول الله ﷺ: "إن الضَّالين: النَّصارى ".
٢٠٩ - حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مُصْعَب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مُرّيّ بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت النبي ﷺ عن قول الله: "ولا الضالين"، قال: النصارى هم الضالون.
٢١٠- حدثنا حُميد بن مَسعدة السَّامي، قال: حدثنا بشر بن المفضَّل، قال: حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله ﷺ وهو محاصرٌ واديَ القُرَى قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضّالون: النصارى.
٢١١ - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابنُ عُلَيَّة، عن سعيد الجُرَيري، عن عروة، يعني ابن عبد الله بن قيس، عن عبد الله بن شقيق، عن رسول الله ﷺ بنحوه [[الحديث ٢١١ - سبق هذا الإسناد ١٩٧ ولم ينسب فيه "عروة" هذا، وفي التعليق على الحديث ١٩٨ إشارة ابن كثير إلى رواية "عروة"، ولم يذكر نسبه أيضًا. وقد بين الطبري هنا أنه "عروة بن عبد الله بن قيس". وأنا أرجح أن كلمة "قيس" محرفة من الناسخين عن كلمة "قشير".
فإني لم أجد في التراجم قط من يسمى "عروة بن عبد الله بن قيس"، ويبعد جدا أن لا يذكروه، وهو يروي عن رجل من كبار التابعين. والذي في هذه الطبقة، هو "عروة بن عبد الله بن قشير أبو مهل الكوفي"، مترجم في التهذيب ٧: ١٨٦، والتاريخ الكبير للبخاري ٤ / ١ / ٣٤، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٣٩٧، والثقات لابن حبان: ٥٧٤، والكنى للدولابي ٢: ١٣٥. وذكر الأخيران قولا آخر في اسم جده، أنه "بشير". و "أبو مهل": بفتح الميم والهاء، كما ذكره الذهبي في المشتبه: ٥٠٨.]] .
٢١٢ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بُدَيْل العُقَيلي، قال: أخبرني عبد الله بن شقيق، أنه أخبره من سَمع النبي ﷺ وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القَين، فقال: يا رسولَ الله، من هؤلاء؟ - قال: هؤلاء الضَّالون "، يعني النصارى.
٢١٣ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، أن رجلا سأل النبي ﷺ، وهو محاصرٌ وادي القُرى وهو على فرس: من هؤلاء؟ قال: الضالّون. يعني النصارى.
٢١٤- حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: "ولا الضالين" قال: النصارى.
٢١٥- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة، قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "ولا الضالين" قال: وَغير طريقِ النَّصارى الذين أضلَّهم الله بِفرْيَتهمْ عليه. قال: يقول: فألهِمنا دينك الحق، وهو لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، حتى لا تغضَبَ علينا كما غضبتَ على اليهود، ولا تضلَّنا كما أضللتَ النصارى فتعذّبنا بما تعذِّبهم به. يقول امنعْنا من ذلك برفْقِك ورَحمتك وقدرتك.
٢١٦- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الضالين النصارى.
٢١٧- حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: "ولا الضالين"، هم النصارى.
٢١٨- حدثني أحمد بن حازم الغِفاري، قال: أخبرنا عُبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع: "ولا الضالين"، النصارى.
٢١٩- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: "ولا الضالين"، النصارى.
٢٢٠- حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه. قال: الضالين، النصارى.
* * *
قال أبو جعفر: فكلّ حائدٍ عن قَصْد السبيل، وسالكٍ غيرَ المنهج القويم، فضَالٌّ عند العرب، لإضلاله وَجهَ الطريق. فلذلك سمى الله جل ذكره النصارَى ضُلالا لخطئهم في الحقِّ مَنهجَ السبيل، وأخذهم من الدِّين في غير الطريق المستقيم.
فإن قال قائل: أوَ ليس ذلك أيضًا من صفة اليهود؟
قيل: بلى!
فإن قال: كيف خَصّ النصارَى بهذه الصفة، وَخصّ اليهودَ بما وصفَهم به من أنهم مغضوب عليهم؟
قيل: كلا الفريقين ضُلال مغضوبٌ عليهم، غيرَ أن الله جلّ ثناؤه وَسم كل فريق منهم من صِفَته لعباده بما يعرفونه به، إذا ذكرهُ لهم أو أخبرهم عنه. ولم يسمِّ واحدًا من الفريقين إلا بما هو له صفةٌ على حقيقته، وإن كان له من صفاتِ الذمّ زياداتٌ عليه.
فيظنُّ بعض أهل الغباء من القدريّة أن في وصف الله جلّ ثناؤه النصارى بالضّلال، بقوله: "ولا الضالين"، وإضافته الضَّلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضلَّلون، كالذي وَصف به اليهود أنهم المغضوبُ عليهم -دلالةً على صحة ما قاله إخوانُه من جهلة القدرية، جهلا منه بسَعَة كلام العرب وتصاريف وُجوهه.
ولو كان الأمر على ما ظَنّه الغبي الذي وصفنا شأنه، لوجب أن يكونَ شأنُ كلِّ موصوفٍ بصفةٍ أو مضافٍ إليه فعلٌ، لا يجوزُ أن يكون فيه سببٌ لغيره، وأنْ يكون كلُّ ما كان فيه من ذلك لغيره سببٌ، فالحقُّ فيه أن يكون مضافًا إلى مُسبِّبه، ولو وَجب ذلك، لوجبَ أن يكون خطأ قولُ القائل: " تحركت الشجرةُ "، إذْ حرَّكتها الرياح؛ و " اضطربت الأرض "، إذْ حرَّكتها الزلزلة، وما أشبهَ ذلك من الكلام الذي يطولُ بإحصائه الكتاب.
وفي قول الله جلّ ثناؤه: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [سورة يونس: ٢٢]-بإضافته الجريَ إلى الفلك، وإن كان جريها بإجراء غيرِها إيَّاها- ما دلّ على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله: "ولا الضالين"، وادّعائه أنّ في نسبة الله جلّ ثناؤه الضلالةَ إلى من نَسبها إليه من النصارى، تصحيحًا لما ادَّعى المنكرون: أن يكون لله جلّ ثناؤه في أفعال خلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم، مع إبانة الله عزّ ذكره نصًّا في آيٍ كثيرة من تنزيله، أنه المضلُّ الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [سورة الجاثية: ٢٣] . فأنبأ جلّ ذكره أنه المضلّ الهادي دون غيره.
ولكنّ القرآن نزلَ بلسان العرب، على ما قدَّمنا البيان عنه في أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وُجد منه -وإن كان مسبِّبُه غيرَ الذي وُجِد منه- أحيانًا، وأحيانًا إلى مسبِّبه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه. فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبًا، ويُوجِده الله جلّ ثناؤه عَيْنًا مُنْشَأةً؟ بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى مكتسبِه؛ كسبًا له، بالقوة منه عليه، والاختيار منه له -وَإلى الله جلّ ثناؤه، بإيجاد عينِه وإنشائها تدبيرًا. ﴿مسألة يَسأل عنها أهل الإلحاد الطَّاعنون في القرآن﴾
إن سألَنا منهم سائل فقال: إنك قد قدَّمتَ في أول كتابك هذا في وصْف البيان: بأنّ أعلاه درجة وأشرفَه مرتبة، أبلغُه في الإبانة عن حاجة المُبين به عن نفسه، وأبينُه عن مُراد قائله، وأقربُه من فهم سامعه. وقلتَ، مع ذلك: إنّ أوْلى البيان بأن يكون كذلك، كلامُ الله جل ثناؤه، لِفَضْله على سائر الكلام وبارتفاع دَرَجته على أعلى درجات البيان [[انظر ما مضى: ٩ - ١١.]] ، فما الوجه -إذ كان الأمر على ما وصفت- في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان، وذلك قوله: ﴿مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين﴾ ، إذْ كان لا شك أنّ من عَرف: مَلك يوم الدين، فقد عَرَفه بأسمائه الحسنى وصفاته المُثْلى. وأنّ من كان لله مطيعًا، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه مُتَّبع، وعن سبيل من غَضِب عليه وضَلَّ مُنْعَدِل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية، من الحكمة التي لم تَحْوِها الآيتان اللتان ذكرنا؟
قيل له: إنّ الله تعالى ذكرُه جَمع لنبينا محمد ﷺ ولأمته -بما أنزل إليه من كتابه- معانيَ لم يجمعْهُنّ بكتاب أنزله إلى نبيّ قبله، ولا لأمَّة من الأمم قبلهم. وذلك أنّ كُلّ كتاب أنزله جلّ ذكرُه على نبيّ من أنبيائه قبله، فإنما أنزل ببعض المعاني التي يحوي جميعَها كتابُه الذي أنزله إلى نبينا محمد ﷺ. كالتَّوراة التي هي مواعظ وتفصيل، والزَّبُور الذي هو تحميد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير -لا مُعجزةَ في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق. والكتابُ الذي أنزل على نبيِّنا محمد ﷺ، يحوي معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيرًا من المعاني التي سائرُ الكتب غيرِه منها خالٍ.
وقد قدَّمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب [[انظر ما مضى: ٧١]] .
ومن أشرفِ تلك المعاني التي فَضَل بها كتابُنا سائرَ الكتب قبله، نظْمُه العجيبُ ورصْفُه الغريب [[في المطبوعة "ووصفه". ورصف الشيء ضم بعضه إلى بعض ونظمه حتى يكون مستويا محكما منضدا.]] وتأليفُه البديع؛ الذي عجزتْ عن نظم مثْلِ أصغرِ سورة منه الخطباء، وكلَّت عن وَصْف شكل بعضه البلغاء، وتحيَّرت في تأليفه الشُّعراء، وتبلَّدت -قصورًا عن أن تأتيَ بمثله- لديه أفهامُ الفُهماء، فلم يجدوا له إلا التسليمَ والإقرار بأنه من عند الواحد القهار. مع ما يحوي، مَع ذلك، من المعاني التي هي ترغيب وترهيب، وأمرٌ وزجرٌ، وقَصَص وجَدَل ومَثَل، وما أشبهَ ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء.
فمهما يكن فيه من إطالة، على نحو مَا في أمِّ القرآن [[في المخطوطة: "آية القرآن" غير منقوطة.]] ، فلِما وصفتُ قبلُ من أن الله جل ذكره أرادَ أن يجمعَ - برَصْفه العجيب ونظْمِه الغريب، المنعدِلِ عن أوزان الأشعار، وسجْع الكُهَّان وخطب الخطباء ورَسائل البلغاء، العاجز عن رَصْف مثله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العباد - الدلالةَ [["الدلالة" مفعول "أن يجمع. . . "، ثم عطف عليها بعد، ما سننبه له.]] على نبوة نبينا محمد ﷺ؛ وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه، تنبيهَ [[هذه جميعًا معطوفة على قوله "الدلالة"، كما ذكرنا آنفًا.]] العباد على عَظمته وسلطانه وقدرته وعِظم مَملكته، ليذكرُوه بآلائه، ويحمدوه على نعمائه، فيستحقوا به منه المزيدَ، ويستوجبوا عليه الثوابَ الجزيل؛ وبما فيه من نَعْتِ من أنعم عليه بمعرفته، وتفضَّل عليه بتوفيقه لطاعته، تعريفَ [[هذه جميعًا معطوفة على قوله "الدلالة"، كما ذكرنا آنفًا.]] عباده أن كل ما بهم من نعمة، في دينهم ودنياهم، فمنه، ليصرفوا رَغبتهم إليه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دُون ما سواهُ من الآلهة والأنداد، وبما فيه من ذكره ما أحلّ بمن عَصَاه منْ مَثُلاته، وأنزل بمن خالف أمره من عقوباته -ترهيبَ [[هذه جميعًا معطوفة على قوله "الدلالة"، كما ذكرنا آنفًا.]] عباده عن ركوب معاصيه، والتعرُّضِ لما لا قِبَل لهم به من سَخَطه، فيسلكَ بهم في النكال والنَّقِمات سبيلَ من ركب ذلك من الهُلاك.
فذلك وَجْه إطالة البيان في سورة أم القرآن، وفيما كان نظيرًا لها من سائر سور الفرقان. وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة.
* * *
٢٢١- حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي السائب مولى زُهْرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: إذا قال العبد: "الحمد لله ربّ العالمين"، قال الله: "حمدني عبدي". وإذا قال: "الرحمن الرحيم"، قال: "أثنى عليّ عبدي". وإذا قال: "مالكِ يوم الدين"، قال: "مجَّدني عبدي. فهذا لي". وإذا قَال: "إيّاك نَعبُد وإيّاكَ نستعين" إلى أن يختم السورة، قال: "فذاكَ لهُ [[الحديث ٢٢١ - المحاربي: هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد، وهو ثقة، أخرج له الجماعة.
محمد بن إسحاق: هو ابن يسار، صاحب السيرة، ثقة معروف، تكلم فيه بعضهم بغير حجة وبغير وجه. العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة -بضم الحاء وفتح الراء-: تابعي ثقة. أبو السائب مولى زهرة: تابعي ثقة، قال ابن عبد البر: "أجمعوا على أنه ثقة مقبول النقل". والحديث رواه الطبري بعد هذا موقوفًا بإسنادين. وسنذكر تخريجه في آخرهما: ٢٢٣.]] .
٢٢٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي السائب، عن أبي هريرة، قال: إذا قال العبد: "الحمد لله"، فذكر نحوه، ولم يرفعه [[الحديث ٢٢٢ - عبدة: هو ابن سليمان الكلابي، من شيوخ أحمد وإسحاق، قال أحمد: "ثقة ثقة وزيادة، مع صلاح في بدنه".]] .
٢٢٣ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الوليد بن كثير، قال: حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحُرَقَة، عن أبي السائب، عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ، مثله [[الحديث ٢٢٣ - أبو أسامة: هو حماد بن أسامة. الوليد بن كثير المخزومي: ثقة ثبت أخرج له الجماعة.
وهذا الحديث -بإسناديه الموقوفين- مرفوع حكمًا، وإن كان في هاتين الروايتين موقوفًا لفظًا. فإن هذا مما لا يعلم بالرأي، ولا يدخل فيه مناط الاجتهاد.
ثم إن الرفع زيادة من الثقة، وهي مقبولة. وفوق هذا كله، فإنه لم ينفرد برفعه راويه في الإسناد الأول، وهو المحاربي، بل ورد بأسانيد أخر مرفوعًا.
وهو قطعة من حديث طويل، رواه مالك في الموطأ: ٨٤ - ٨٥ عن العلاء بن عبد الرحمن، بهذا الإسناد مرفوعًا. وكفى بمالك حجة في التوثق من رفعه لفظا فوق رفعه حكمًا. وكذلك رواه مسلم ١: ١٦٦ (٤: ١٠١ - ١٠٤ من شرح النووي) ، من طريق مالك، ومن طريق سفيان بن عيينة، ومن طريق ابن جريج، ومن طريق أبي أويس -كلهم عن العلاء عن أبي السائب، به مرفوعًا. وزاد أبو أويس عن العلاء قال: "سمعت من أبي ومن أبي السائب، وكانا جليسي أبي هريرة. . . "، فذكره مرفوعا.
ونسبه السيوطي ١: ٦ لسفيان بن عيينة في تفسيره، وأبي عبيدة في فضائله، وابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن الأربعة، وابن حبان، وغيرهم. وذكر ابن كثير ١: ٢٤ - ٢٥ بعض طرقه مفصلة.]] .
٢٢٤- حدثني صالح بن مسمار المروزي، قال: حدثنا زيد بن الحُبَاب، قال: حدثنا عَنْبسة بن سعيد، عن مُطَرِّف بن طَرِيف، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله ﷺ: قال الله عز وجلّ: "قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نِصْفين، وله ما سَأل". فإذا قال العبد: "الحمدُ لله ربّ العالمين" قال الله: "حمدَني عَبدي"، وإذا قال: "الرحمن الرحيم"، قال: "أثنى عليّ عَبدي"، وإذا قال: "مالكِ يَومِ الدين" قال: "مجَّدني عَبدي" قال: "هذا لي، وما بقي" [[الحديث ٢٢٤ - هذا إسناد جيد صحيح. صالح بن مسمار السلمي المروزي: ثقة، روى عنه مسلم في صحيحه، وقال أبو حاتم: "صدوق"، كما في كتاب ابنه ٢ / ١ / ٤١٥، وذكره ابن حبان في الثقات. عنبسة بن سعيد الضريس الرازي قاضي الري: ثقة، وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو داود وغيرهم، وصرح البخاري في الكبير ٤ / ١ / ٣٥ بأنه يروي عن مطرف. و "الضريس": بضم الضاد المعجمة وآخره سين مهملة، كما ضبطه الحافظ في التقريب. مطرف بن طريف: ثقة ثبت، أخرج له الجماعة. سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: ثقة لا يختلف فيه، كما قال ابن عبد البر، وهو من شيوخ مالك. وروايته عن جابر متصلة، لأنه يروي عن أبيه "إسحاق بن كعب" يوم الحرة سنة ٦٣، وقد عاش جابر بعدها أكثر من عشر سنين.
والحديث ذكره السيوطي ١: ٦ ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما. وذكره ابن كثير ١: ٢٥ عن هذا الموضع من الطبري - ووقع في إسناده غلط مطبعي - وقال: "وهذا غريب من هذا الوجه" ّ ولعله يريد أنه لم يروه أحد من حديث جابر إلا بهذا الإسناد. وليس من ذلك باس، وقد ثبت معناه من حديث أبي هريرة، فهو شاهد قوي لصحته.]] . "آخرُ تفسيرِ سُورَةِ فَاتِحةُ الكتابِ".
{"ayah":"صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ غَیۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق