الباحث القرآني

ثُمَّ أكَّدَ سُبْحانَهُ وتَعالى الإخْبارَ بِأنَّ ذَلِكَ لَنْ يَكُونَ إلّا بِإنْعامِهِ مُنَبِّهًا بِهَذا التَّأْكِيدِ الَّذِي أفادَهُ الإبْدالُ عَلى عَظَمَةِ هَذا الطَّرِيقِ فَقالَ: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ فَأشارَ إلى [ أنَّ ] الِاعْتِصامَ بِهِ في اتِّباعِ رُسُلِهِ، ولَمّا كانَ سُبْحانَهُ عامَّ النِّعْمَةِ لِكُلِّ مَوْجُودٍ عَدُوًّا كانَ أوْ ولِيًّا، وكانَ حَذْفُ المُنْعِمِ بِهِ لِإرادَةِ التَّعْمِيمِ مِن بابِ تَقْلِيلِ اللَّفْظِ لِتَكْثِيرِ المَعْنى فَكانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ مَحَطَّ السُّؤالِ بَعْضُ أهْلِ النِّعْمَةِ وهم أهْلُ الخُصُوصِيَّةِ. يَعْنِي لَوْ قِيلَ: اتَّبِعْ طَرِيقَ أهْلِ مِصْرَ مَثَلًا لا أهْلِ دِمَشْقَ، عُلِمَ أنَّ المَنفِيَّ غَيْرُ داخِلٍ في الأوَّلِ لِأنَّ شَرْطَهُ أنْ يَتْبَعاهُ مُتَعاطِفاهُ كَما صَرَّحُوا بِهِ، بِخِلافِ ما لَوْ قِيلَ: اتَّبِعْ طَرِيقَ أهْلِ مِصْرَ غَيْرِ الظَّلَمَةِ، فَإنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ الظَّلَمَةَ مِنهم، فَأُرِيدَ هُنا التَّعْرِيفُ بِأنَّ النِّعْمَةَ عامَّةٌ ولَوْ لَمْ تَكُنْ إلّا بِالإيجادِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ السُّلُوكَ لا بُدَّ وأنْ يُصادِفَ طَرِيقَ بَعْضِهِمْ وهم مُنْعَمٌ عَلَيْهِمْ فَلا يُفِيدُ السُّؤالُ حِينَئِذٍ، فَعُرِفَ أنَّ المَسْؤُولَ إنَّما (p-٤٠)هُوَ طَرِيقُ أهْلِ النِّعْمَةِ بِصِفَةِ الرَّحِيمِيَّةِ تَشَوَّقَتِ النُّفُوسُ إلى مَعْرِفَتِهِمْ فَمَيَّزَهم بِبَيانِ أضْدادِهِمْ تَحْذِيرًا مِنهم، فَعُرِفَ أنَّهم قِسْمانِ: قِسْمٌ أُرِيدَ لِلشَّقاوَةِ فَعانَدَ في إخْلالِهِ بِالعَمَلِ فاسْتَوْجَبَ الغَضَبَ، وقِسْمٌ لَمْ يُرَدْ لِلسَّعادَةِ فَضَلَّ مِن جِهَةِ إخْلالِهِ بِالعِلْمِ فَصارَ إلى العَطَبِ فَقالَ مُخَوِّفًا بَعْدَ التَّرْجِيَةِ لِيُكَمِّلَ الإيمانَ بِالرَّجاءِ والخَوْفِ مُعَرِّفًا بِأنَّ النِّعْمَةَ عامَّةٌ والمُرادُ مِنها ما يَخُصُّ أهْلَ الكَرامَةِ: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ أيِ الَّذِينَ تُعامِلُهم مُعامَلَةَ الغَضْبانِ لِمَن وقَعَ عَلَيْهِ غَضَبُهُ، وتَعَرَّفَتْ ”غَيْر“ لِتَكُونَ صِفَةً لِلَّذِينَ بِإضافَتِها إلى الضِّدِّ فَكانَ مِثْلَ: ( الحَرَكَةُ غَيْرُ السُّكُونِ )، ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مِن ”غَيْرِ“ النَّفْيَ لِأنَّ السِّياقَ لَهُ وإنَّما عَبَّرَ بِها دُونَ أداةِ اسْتِثْناءٍ دَلالَةً (p-٤١)عَلى بِناءِ الكَلامِ بادِئَ بَدْءٍ عَلى إخْراجِ المُتَلَبِّسِ بِالصِّفَةِ وصَوْنًا لِلْكَلامِ عَنْ إفْهامِ أنَّ ما يُعَدُّ أقَلَّ ودُونَ لا ﴿ولا الضّالِّينَ﴾ فَعُلِمَ مِقْدارُ النِّعْمَةِ عَلى القِسْمِ الأوَّلِ وأنَّهُ لا نَجاةَ إلّا بِاتِّباعِهِمْ وأنَّ مَن حادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ عامِدًا أوْ مُخْطِئًا شَقِيٌّ لِيُشَمِّرَ أُولُو الجِدِّ عَنْ ساقِ العَزْمِ وساعِدِ الجُهْدِ في اقْتِفاءِ آثارِهِمْ لِلْفَوْزِ بِحُسْنِ جِوارِهِمْ في سَيْرِهِمْ وقَرارِهِمْ. قالَ الحَرالِّيُّ: ﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ الَّذِينَ ظَهَرَ مِنهُمُ المُراغَمَةُ وتَعَمُّدُ (p-٤٢)المُخالَفَةِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ الغَضَبَ مِنَ الأعْلى والبُغْضَ مِنَ الأدْنى. و﴿الضّالِّينَ﴾ الَّذِينَ وُجِّهُوا وِجْهَةَ هُدًى فَزاغُوا عَنْها مِن غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِذَلِكَ. ”آمِينَ“ كَلِمَةُ عَزْمٍ مِنَ الأمْنِ، مَدْلُولُها أنَّ المَدْعُوَّ مَأْمُونٌ مِنهُ أنْ يَرُدَّ مَن دَعاهُ لِأنَّهُ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ ولا يَمْنَعُهُ وهي لا تَصْلُحُ إلّا لِلَّهِ لِأنَّ ما دُونَهُ لا يَنْفَكُّ عَنْ عَجْزٍ أوْ مَنعٍ. [ انْتَهى ] . وهو صَوْتٌ سُمِّيَ بِهِ الفِعْلُ الَّذِي هو ”اسْتَجِبْ“، وقَدِ انْعَطَفَ المُنْتَهى عَلى المُبْتَدَإ بِمُراقَبَةِ القِسْمِ الأوَّلِ اسْمَ اللَّهِ فَحازُوا ثَمَرَةَ الرَّحْمَةِ وخالَفَ هَذانِ القِسْمانِ فَكانُوا مِن حِزْبِ الشَّيْطانِ فَأخَذَتْهُمُ النِّقْمَةُ، وعُلِمَ أنَّ نَظْمَ القُرْآنِ عَلى ما هو عَلَيْهِ مُعْجِزٌ، ومِن ثَمَّ اشْتُرِطَ (p-٤٣)فِي الفاتِحَةِ في الصَّلاةِ لِكَوْنِها واجِبَةً في التَّرْتِيبِ، فَلَوْ قَدَّمَ فِيها أوْ أخَّرَ لَمْ تَصِحَّ الصَّلاةُ [ وكَذا لَوْ أدْرَجَ فِيها ما لَيْسَ مِنها لِلْإخْلالِ بِالنَّظْمِ. ] قالَ الأصْبِهانِيُّ: فَإنَّ القُرْآنَ مُعْجِزٌ والرُّكْنُ الأبْيَنُ الإعْجازِ يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ والتَّرْتِيبِ. انْتَهى. والحاصِلُ أنَّهُ لَمّا رَفَعَتْ تِلْكَ الصِّفاتُ العَلِيَّةُ لِمُخاطِبِها الحُجُبَ وكَشَفَتْ لَهُ بِسُمُوِّ مَجْدِها وعُلُوِّ جَدِّها [ وشَرَفِ حَمْدِها ] جَلائِلَ السَّتْرِ وأشْرَقَتْ بِهِ رِياضُ الكَرَمِ ونَشَرَتْ لَهُ لَطائِفُ عَواطِفِها بُسُطَ البِرِّ والنِّعَمِ ثُمَّ اخْتَرَقَتْ بِهِ مَهامِهَ العَظَمَةِ والكِبْرِياءِ وطَوَتْ في تَيْسِيرِها لَهُ مَفاوِزَ الجَبَرُوتِ والعِزِّ وأوْمَضَتْ لَهُ بِوارِقَ (p-٤٤)النِّقَمِ مِن ذَلِكَ الجَنابِ الأشَمِّ وصَلَ إلى مَقامِ الفَناءِ عَنِ الفانِي وتَمَكَّنَ في رُتْبَةِ شُهُودِ البَقاءِ لِلْباقِي فَبادَرَ الخُضُوعَ لَهُ مُعْرِضًا عَنِ السِّوى حاكِمًا عَلى الأغْيارِ بِما لَها مِن ذَواتِها [ مِنَ ] العَدَمِ والثَّوى فَقالَ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] وفي تِلْكَ الحالِ تَحَقَّقَ العَجْزُ عَنْ تَوْفِيَةِ ذَلِكَ المَقامِ ما لَهُ مِنَ الحَقِّ فَقالَ: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] فَكَشَفَ لَهُ الشُّهُودُ في حَضَراتِ المَعْبُودِ عَنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ ومَنازِلَ سامِيَةٍ بَعِيدَةٍ ورَأى أحْوالًا جَمَّةً وأوْدِيَةً مُدْلَهِمَّةً وبِحارًا مُغْرِقَةً وأنْوارًا هادِيَةً وأُخْرى مُحْرِقَةً، ورَأى لِكُلٍّ أهْلًا قَدْ أُسْلِكُوا فَجاءَ تارَةً حَزْنًا وأُخْرى سَهْلًا، وعُلِمَ أنْ لا نَجاةَ إلّا بِهِدايَتِهِ ولا عِصْمَةَ بِغَيْرِ عِنايَتِهِ ولا سَعادَةَ إلّا بِرَحْمَتِهِ ولا سَلامَةَ لِغَيْرِ أهْلِ نِعْمَتِهِ؛ فَلَمّا أشْرَقَ واسْتَنارَ (p-٤٥)وعُرِّفَ مَواقِعَ الأسْرارِ [ بِالأقْدارِ ] كَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: ماذا تَطْلُبُ [ وفي ] أيِّ مَذْهَبٍ تَذْهَبُ ؟ فَقالَ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] ولَمّا طَلَبَ أشْرَفَ طَرِيقٍ سَألَ أحْسَنَ رَفِيقٍ فَقالَ: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ولَمّا كانَتِ النِّعْمَةُ قَدْ تَخُصُّ الدُّنْيَوِيَّةَ عَيَّنَها واسْتَعاذَ مِن أُولَئِكَ الَّذِينَ شاهَدَهم في التِّيهِ سائِرِينَ وعَنِ القَصْدِ عائِرِينَ حائِرِينَ أوْ جائِرِينَ فَقالَ: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ وقَدْ أُشِيرَ في أُمِّ الكِتابِ - كَما قالَ العَلّامَةُ سَعْدُ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ عُمَرَ التَّفْتازانِيُّ الشّافِعِيُّ - إلى جَمِيعِ النِّعَمِ فَإنَّها تَرْجِعُ إلى إيجادٍ وإبْقاءٍ أوَّلًا و[ إلى ] إيجادٍ وإبْقاءٍ ثانِيًا في دارِ الفَناءِ والبَقاءِ، أمّا الإيجادُ الأوَّلُ فَبِقَوْلِهِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] فَإنَّ الإخْراجَ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ أعْظَمُ تَرْبِيَةٍ، وأمّا الإبْقاءُ الأوَّلُ فَبِقَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ٣] أيِ المُنْعِمِ بِجَلائِلِ النِّعَمِ ودَقائِقِها الَّتِي بِها البَقاءُ، وأمّا الإيجادُ الثّانِي فَبِقَوْلِهِ: ﴿مالِكِ (p-٤٦)يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] وهو ظاهِرٌ، وأمّا الإبْقاءُ الثّانِي فَبِقَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] إلى آخِرِها، فَإنَّ مَنافِعَ ذَلِكَ تَعُودُ إلى الآخِرَةِ. ثُمَّ جاءَ التَّصْدِيرُ بِالحَمْدِ بَعْدَ الفاتِحَةِ في أرْبَعِ سُوَرٍ أُشِيرُ في [ كُلِّ ] سُورَةٍ مِنها إلى نِعْمَةٍ مِن هَذِهِ النِّعَمِ عَلى تَرْتِيبِها. انْتَهى، وسَيَأْتِي في أوَّلِ [ كُلِّ ] سُورَةٍ مِنَ الأرْبَعِ ما يَتَعَلَّقُ بِها مِن بَقِيَّةِ كَلامِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وهَذا يَرْجِعُ إلى أصْلِ مَدْلُولِ الحَمْدِ فَإنَّ مادَّتَهُ بِكُلِّ تَرْتِيبٍ تَدُورُ عَلى بُلُوغِ الغايَةِ ويَلْزَمُ مِنهُ الِاتِّساعُ والإحاطَةُ والِاسْتِدارَةُ فَيَلْزَمُها مُطَأْطَأةُ الرَّأْسِ وقَدْ يَلْزَمُ الغايَةَ الرِّضا فَيَلْزَمُهُ الشُّكْرُ وسَيُبَيَّنُ ويُنَزَّلُ عَلى الجُزْئِيّاتِ في سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ في أوَّلِ سَبَأٍ تَحْقِيقُ ما قالَهُ [ النّاسُ ] فِيهِ وفي النِّسْبَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشُّكْرِ فَقَدْ بانَ سِرُّ الِافْتِتاحِ مِن حَيْثُ تَصْدِيرُها بِالحَمْدِ جُزْئِيًّا فَكُلِّيًّا الَّذِي كَلُّ أمْرٍ ذِي بالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ فَهو أجْذَمُ؛ وتَعْقُبُهُ بِمَدْحِ المَحْمُودِ بِما ذُكِرَ مِن (p-٤٧)أسْمائِهِ الحُسْنى مَعَ اشْتِمالِها عَلى جُمْلَةِ مَعانِي القُرْآنِ مِنَ الحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ والأحْكامِ العَمَلِيَّةِ فَهي أُمُّ القُرْآنِ لِأنَّها [ لَهُ ] عُنْوانٌ وهو كُلُّهُ لِما تَضَمَّنَتْهُ عَلى قِصَرِها بَسْطٌ وتِبْيانٌ. قالَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيُّ في مِفْتاحِ البابِ المُقْفَلِ لِفَهْمِ القُرْآنِ المُنَزَّلِ في آخِرِ البابِ التّاسِعِ مِنهُ: ولْنُنْهِ هَذِهِ الأبْوابَ بِذِكْرِ القُرْآنِ ومُحْتَواهُ عَلى الكُتُبِ وجَمْعِهِ وقِراءَتِهِ وبَيانِهِ وتَنْزِيلِهِ وإنْزالِهِ وحَكِيمِهِ ومُبِينِهِ ومَجِيدِهِ وكَرِيمِهِ وعَظِيمِهِ ومَرْجِعِهِ إلى السَّبْعِ المَثانِي والقُرْآنِ العَظِيمِ أُمِّ القُرْآنِ ومُحْتَواها عَلَيْهِ، فَنَذْكُرُ جَمِيعَ ذَلِكَ في البابِ العاشِرِ. البابُ العاشِرُ في مَحَلِّ أُمِّ القُرْآنِ مِنَ القُرْآنِ ووَجْهِ مُحْتَوى القُرْآنِ عَلى جَمِيعِ الكُتُبِ والصُّحُفِ المُتَضَمِّنَةِ لِجَمِيعِ الأدْيانِ. اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ جَمَعَ نَبَأهُ العَظِيمَ كُلَّهُ عَنْ شَأْنِهِ العَظِيمِ في السَّبْعِ المَثانِي أُمِّ القُرْآنِ وأُمِّ الكِتابِ وكَنْزِها تَحْتَ عَرْشِهِ لِيُظْهِرَها في الخَتْمِ عِنْدَ تَمامِ أمْرِ الخَلْقِ وظُهُورِ بادِئِ الحَمْدِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ لِأنَّهُ تَعالى يَخْتِمُ بِما بِهِ بَدَأ ولَمْ يُظْهِرْها قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ ظُهُورَها (p-٤٨)يَذْهَبُ وهَلَ الخَلْقِ ويَمْحُو كُفْرَهم ولا [ يَتِمُّ ] بِناءُ القُرْآنِ إلّا مَعَ قائِمٍ بِمَشْهُودِ بَيانِ الفِعْلِ لِيَتِمَّ الأمْرُ مَسْمَعًا ومَرْأًى وذَلِكَ لِمَن يَكُونُ مِن خَلْقِهِ كُلُّ خَلْقٍ لِيُبَيِّنَ بِهِ ما مِن أمْرِهِ كُلُّ أمْرٍ، ثُمَّ فِيما بَيْنَ بَدْءِ الأمْرِ المَكْنُونِ وخاتَمِ الخَلْقِ الكامِلِ تَدَرُّجُ تَنَشُّؤِ الخَلْقِ وبُدُوِّ الأمْرِ عَلى حَسَبِ ذَلِكَ الأمْرِ صُحُفًا فَصُحُفًا وكِتابًا فَكِتابًا، فالصُّحُفُ لِما يَتَبَدَّلُ سَرِيعًا، والكِتابُ لِما يَثْبُتُ ويَدُومُ أمَدًا، والألْواحُ لِما يُقِيمُ وقْتًا. فَفِي التَّوْراةِ أحْكامُ اللَّهِ عَلى عِبادِهِ في الدُّنْيا بِالحُدُودِ والمَصائِبِ والضَّرّاءِ والبَأْساءِ، وفي القُرْآنِ مِنها ما شاءَ اللَّهُ وما يُظْهِرُهُ الفِقْهُ مِنَ الحُدُودِ، ومَعارِفِ الصُّوفِيَّةِ مِن مُؤاخَذَةِ المَصائِبِ؛ وفي الإنْجِيلِ أُصُولُ تِلْكَ الأحْكامِ والإعْلامُ بِأنَّ المَقْصُودَ بِها لَيْسَتْ هي بَلْ ما وراءَها مِن أمْرِ المَلَكُوتِ، وفي القُرْآنِ مِنها ما شاءَ اللَّهُ مِمّا يُظْهِرُهُ العِلْمُ والحِكْمَةُ المَلَكُوتِيَّةُ، وفي الزَّبُورِ تَطْرِيبُ الخَلْقِ وجْدًا وهم عَنْ أنْفُسِهِمْ إلى رَبِّهِمْ، وفي القُرْآنِ مِنهُ ما شاءَ اللَّهُ مِمّا تُظْهِرُهُ المَوْعِظَةُ الحَسَنَةُ، ثُمَّ أنْهى (p-٤٩)الأمْرَ والخَلْقَ مِن جَمِيعِ وُجُوهِهِ، فَصارَ قُرْآنًا جامِعًا لِلْكُلِّ مُتَمِّمًا لِلنِّعْمَةِ مُكَمِّلًا لِلدِّينِ ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] الآيَةَ، بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ. وإنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهى. ووَجْهُ فَوْتِ أُمِّ القُرْآنِ [ لِلْقُرْآنِ ] أنَّ القُرْآنَ مَقْصُودُ تَنْزِيلِهِ التَّفْصِيلُ والجَوامِعُ، فِيهِ نُجُومٌ مَبْثُوثَةٌ غَيْرُ مُنْتَظِمَةٍ، واحِدَةٌ إثْرَ واحِدَةٍ، والجَوامِعُ في أُمِّ القُرْآنِ مُنْتَظِمَةٌ واحِدَةٌ بَعْدَ واحِدَةٍ إلى تَمامِ السَّبْعِ عَلى وفاءٍ لا مَزِيدَ فِيهِ ولا نَقْصَ عَنْهُ؛ أظْهَرَ تَعالى بِما لَهُ سُورَةٌ صُورَةَ تَجَلِّيهِ مِن بَدْءِ المُلْكِ إلى خَتْمِ الحَمْدِ، وبِما لِعَبْدِهِ مُصَوَّرَةَ تَأدِّيهِ مِن بَراءَتِهِ مِنَ الضَّلالِ إلى هُدى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، ﴿ووَجَدَكَ ضالا فَهَدى﴾ [الضحى: ٧] وبِما بَيْنَهُ وبَيْنَهُ قِيامَ ذاتِ الأمْرِ والخَلْقِ فَكانَ ذَلِكَ هو القُرْآنَ (p-٥٠)العَظِيمَ الجامِعَ لِما حَواهُ القُرْآنُ المُطْلَقُ الذِّكْرِ بِما فِيهِ مِن ذَلِكَ تَفْصِيلًا مِن مُبِينِهِ وهو ما عُويِنَتْ آيَةٌ مَسْمُوعَةٌ، ومِن مَجِيدِهِ وهو ما جُرِّبَتْ أحْكامُهُ مِن بَيْنِ عاجِلِ ما شَهِدَ وآجِلِ ما عَلِمَ، يَعْلَمُ ما شَهِدَ فَكانَ مَعْلُومًا بِالتَّجْرِبَةِ المُتَيَقَّنَةِ بِما تَواتَرَ مِنَ القَصَصِ الماضِي وما شَهِدَ لَهُ مِنَ الأثَرِ الحاضِرِ وما يَتَجَدَّدُ مَعَ الأوْقاتِ مِن أمْثالِهِ وأشْباهِهِ، ومِن كَرِيمِهِ وهو ما ظَهَرَتْ فِيهِ أفانِينُ إنْعامِهِ فِيما دَقَّ وجَلَّ وخَفِيَ وبَدا، ومِن حَكِيمِهِ وهو ما ظَهَرَ في الحِكْمَةِ المَشْهُورَةِ تَقاضِيهِ وانْتِظامِ مَكْتُوبِ خَلْقِهِ عَلى حَسَبِ تَنْزِيلِ أمْرِهِ؛ وما كانَ مِنهُ بِتَدْرِيجٍ وتَقْرِيبٍ لِلْأفْهامِ فَفاءَتْ مِن حالٍ إلى حالٍ وحُكْمٍ إلى حُكْمٍ كانَ تَنْزِيلًا، وما أهْوى بِهِ مِن عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ كانَ إنْزالًا، وهو إنْزالٌ حَيْثُ لا وسائِطَ وتَنْزِيلٌ حَيْثُ الوَسائِطُ؛ وبَيانُهُ حَيْثُ الإمامُ العامِلُ بِهِ مُظْهِرُهُ في أفْعالِهِ وأخْلاقِهِ كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ، وقُرْآنُهُ تَلْفِيقُ تِلاوَتِهِ عَلى حَسَبِ ما تَتَقاضاهُ النَّوازِلُ. (p-٥١)آخَرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ ﴿واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨١] قالَ ﷺ في مَضْمُونِ «قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧] ”اجْعَلُوها بَيْنَ آيَةِ الدَّيْنِ والآيَةِ الَّتِي قَبْلَها“»، [ لِأنَّهُ ] رُبَّما تَقَدَّمَ كِيانُ الآيَةِ وتَأخَّرَ في النَّظْمِ قُرْآنُها عَلى ما تَقَدَّمَ عَلَيْها، آيَةُ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْواجَكَ﴾ [الأحزاب: ٥٠] الآيَةُ مُتَأخِّرَةُ الكِيانِ مُتَقَدِّمَةُ القُرْآنِ عَلى آيَةِ ﴿لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِن بَعْدُ﴾ [الأحزاب: ٥٢] فَقَدْ يَتَطابَقُ قُرْآنُ الأمْرِ وتَطْوِيرُ الخَلْقِ وقَدْ لا يَتَطابَقُ واللَّهُ يَتَوَلّى إقامَتَهُما؛ وأمّا الجَمْعُ فَفي قَلْبِهِ نِسْبَةُ جَوامِعِهِ السَّبْعِ في أُمِّ القُرْآنِ إلى القُرْآنِ بِمَنزِلَةِ نِسْبَةِ جَمْعِهِ في قَلْبِهِ لَمْحًا واحِدًا إلى أُمِّ القُرْآنِ ﴿وما أمْرُنا إلا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ﴾ [القمر: ٥٠] فَهو جَمْعٌ في قَلْبِهِ، وقُرْآنٌ عَلى لِسانِهِ، (p-٥٢)وبَيانٌ في أخْلاقِهِ وأفْعالِهِ، وجُمْلَةٌ في صَدْرِهِ، وتَنْزِيلٌ في تِلاوَتِهِ، ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُـزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢] قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾ [الفرقان: ٣٢] أيْ كَذَلِكَ أنْزَلْناهُ، إلّا ما هو مِنكَ بِمَنزِلَةِ سَماءِ الدُّنْيا مِنَ الكَوْنِ ﴿إنّا أنْـزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ﴾ [الدخان: ٣] أيْ إلى سَماءِ الدُّنْيا ﴿ونَـزَّلْناهُ تَنْـزِيلا﴾ [الإسراء: ١٠٦] وعَلى لِسانِهِ في أمَدِ أيّامِ النُّبُوَّةِ، وقالَ في تَفْسِيرِهِ: القُرْآنُ باطِنٌ وظاهِرُهُ مُحَمَّدٌ ﷺ، قالَتْ عائِشَةُ رِضَيَ اللَّهُ عَنْها: «كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ»، فَمُحَمَّدٌ ﷺ صُورَةُ باطِنِ سُورَةِ القُرْآنِ، فالقُرْآنُ باطِنُهُ وهو ظاهِرُهُ ﴿نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ [الشعراء: ١٩٣] ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٤] وقالَ في تَفْسِيرِ الفاتِحَةِ: وكانَتْ سُورَةُ الفاتِحَةِ أُمًّا لِلْقُرْآنِ، لِأنَّ القُرْآنَ جَمِيعَهُ مُفَصَّلٌ مِن مُجْمَلِها، فالآياتُ الثَّلاثُ الأُوَلُ شامِلَةٌ لِكُلِّ مَعْنًى تَضَمَّنَتْهُ الأسْماءُ الحُسْنى والصِّفاتُ العُلى، فَكُلُّ ما في القُرْآنِ مِن ذَلِكَ فَهو مُفَصَّلٌ مِن جَوامِعِها، والآياتُ الثَّلاثُ الأُخَرُ مِن قَوْلِهِ (p-٥٣)﴿اهْدِنا﴾ [الفاتحة: ٦] شامِلَةٌ لِكُلِّ ما يُحِيطُ بِأمْرِ الخَلْقِ في الوُصُولِ إلى اللَّهِ والتَّحَيُّزِ إلى رَحْمَةِ اللَّهِ والِانْقِطاعِ دُونَ ذَلِكَ، فَكُلُّ ما في القُرْآنِ مِنهُ فَمِن تَفْصِيلِ جَوامِعِ هَذِهِ، وكُلُّ ما يَكُونُ وُصْلَةً بَيْنَ ذَلِكَ مِمّا ظاهِرُهُنَّ هَذِهِ مِنَ الخَلْقِ، ومَبْدَؤُهُ، وقِيامُهُ مِنَ الحَقِّ فَمُفَصَّلٌ مِن آيَةِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] انْتَهى. ومِن أنْفَعِ الأُمُورِ في ذَوْقِ هَذا المَشْرَبِ اسْتِجْلاءُ الحَدِيثِ القُدُسِيِّ الَّذِي رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ وأصْحابُ السُّنَنِ الأرْبَعَةُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ (p-٥٤)رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”«قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ولِعَبْدِي ما سَألَ، فَإذا قالَ العَبْدُ:“ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] ”قالَ اللَّهُ تَعالى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ:“ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ٣] ”قالَ اللَّهُ: أثْنى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ:“ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] ”قالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ:“ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] ”قالَ: هَذا بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَألَ، وإذا قالَ:“ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ " قالَ: هَذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَألَ»، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب