الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٧ ] ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ أيْ: بِطاعَتِكَ وعِبادَتِكَ، وهُمُ المَذْكُورُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ﴾ [النساء: ٦٩] (p-٢٤)"غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ" قالَ الأصْفَهانِيُّ: وإنَّما ذَكَرَ تَعالى هَذِهِ الجُمْلَةَ لِأنَّ الكُفّارَ قَدْ شارَكُوا المُؤْمِنِينَ في إنْعامِ كَثِيرٍ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ بِالوَصْفِ أنَّ المُرادَ بِالدُّعاءِ لَيْسَ هو النِّعَمُ العامَّةُ، بَلْ ذَلِكَ نِعْمَةٌ خاصَّةٌ، ثُمَّ إنَّ المُرادَ بِالمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضّالِّينَ: كُلُّ مَن حادَ عَنْ جادَّةِ الإسْلامِ مِن أيِّ فِرْقَةٍ ونِحْلَةٍ، وتَعْيِينُ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ فِرْقَةً مِنهم مِن بابِ تَمْثِيلِ العامِّ بِأوْضَحِ أفْرادِهِ وأشْهَرِها، وهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِ ابْنِ أبِي حاتِمٍ: لا أعْلَمُ بَيْنَ المُفَسِّرِينَ اخْتِلافًا في أنَّ المَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ اليَهُودُ، والضّالِّينَ النَّصارى. (فَوائِدُ): الأُولى: يُسْتَحَبُّ لِمَن يَقْرَأُ الفاتِحَةَ أنْ يَقُولَ بَعْدَها: "آمِينَ"؛ ومَعْناهُ: اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ، أوْ كَذَلِكَ فَلْيَكُنْ، أوْ كَذَلِكَ فافْعَلْ: ولَيْسَ مِنَ القُرْآنِ. بِدَلِيلِ أنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ في المَصاحِفِ، والدَّلِيلُ عَلى اسْتِحْبابِ التَّأْمِينِ ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ عَنْ وائِلِ بْنِ حُجْرٍ قالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ فَقالَ: «آمِينَ»» مَدَّ بِها صَوْتَهُ. ولِأبِي داوُدَ: رَفَعَ بِها صَوْتَهُ. قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وفي البابِ عَنْ عَلِيٍّ وأبِي هُرَيْرَةَ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وغَيْرِهِمْ. وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا تَلا: غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ. قالَ: «آمِينَ» حَتّى يَسْمَعَ مَن يَلِيهِ مِنَ الصَّفِّ الأوَّلِ». رَواهُ أبُو داوُدَ. وفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««إذا أمَّنَ (p-٢٥)الإمامُ فَأمِّنُوا، فَإنَّهُ مَن وافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»» . وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أبِي مُوسى مَرْفُوعًا: ««إذا قالَ - يَعْنِي الإمامَ - ولا الضّالِّينَ فَقُولُوا: آمِينَ يُجِبْكُمُ اللَّهُ»» . الثّانِيَةُ: في ذِكْرِ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ العُلُومِ. اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ الكَرِيمَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ - وهي سَبْعُ آياتٍ – عَلى حَمْدِ اللَّهِ تَعالى وتَمْجِيدِهِ، والثَّناءِ عَلَيْهِ: بِذِكْرِ أسْمائِهِ الحُسْنى المُسْتَلْزِمَةِ لِصِفاتِهِ العُلْيا، وعَلى ذِكْرِ المَعادِ وهو يَوْمُ الدِّينِ، وعَلى إرْشادِ عَبِيدِهِ إلى سُؤالِهِ والتَّضَرُّعِ إلَيْهِ والتَّبَرُّؤِ مِن حَوْلِهِمْ وقُوَّتِهِمْ، وإلى إخْلاصِ العِبادَةِ لَهُ، وتَوْحِيدِهِ بِالأُلُوهِيَّةِ، تَبارَكَ وتَعالى، وتَنْزِيهِهِ أنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أوْ نَظِيرٌ أوْ مُماثِلٌ، وإلى سُؤالِهِمْ إيّاهُ الهِدايَةَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ -وهُوَ الدِّينُ القَوِيمُ- وتَثْبِيتُهم عَلَيْهِ حَتّى يُفْضِيَ بِهِمْ إلى جَنّاتِ النَّعِيمِ في جِوارِ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ. واشْتَمَلَتْ عَلى التَّرْغِيبِ في الأعْمالِ الصّالِحَةِ لِيَكُونُوا مَعَ أهْلِها يَوْمَ القِيامَةِ، والتَّحْذِيرِ مِن مَسالِكِ الباطِلِ لِئَلّا يُحْشَرُوا مَعَ سالِكِيها يَوْمَ القِيامَةِ، وهُمُ المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ والضّالُّونَ. قالَ العَلّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ في تَفْسِيرِهِ: الفاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى مُجْمَلِ ما في القُرْآنِ. وكُلُّ ما فِيهِ تَفْصِيلٌ لِلْأُصُولِ الَّتِي وُضِعَتْ فِيها، ولَسْتُ أعْنِي بِهَذا ما يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالإشارَةِ ودَلالَةِ الحُرُوفِ كَقَوْلِهِمْ: إنَّ أسْرارَ (p-٢٦)القُرْآنِ في الفاتِحَةِ، وأسْرارَ الفاتِحَةِ في البَسْمَلَةِ، وأسْرارَ البَسْمَلَةِ في الباءِ، وأسْرارَ الباءِ في نُقْطَتِها ! فَإنَّ هَذا لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ عَلَيْهِمُ الرِّضْوانُ، ولا هو مَعْقُولٌ في نَفْسِهِ، وإنَّما هو مِن مُخْتَرَعاتِ الغُلاةِ الَّذِينَ ذَهَبَ بِهِمُ الغُلُوُّ إلى إعْدامِ القُرْآنِ خاصَّتَهُ، وهي البَيانُ - قالَ - وبَيانُ ما أُرِيدُ: أنَّ ما نَزَلَ القُرْآنُ لِأجْلِهِ أُمُورٌ: أحَدُها التَّوْحِيدُ: لِأنَّ النّاسَ كانُوا كُلُّهم وثَنِيِّينَ - وإنْ كانَ بَعْضُهم يَدَّعِي التَّوْحِيدَ - . ثانِيها: وعْدُ مَن أخَذَ بِهِ، وتَبْشِيرُهُ بِحُسْنِ المَثُوبَةِ، ووَعِيدُ مَن لَمْ يَأْخُذْ بِهِ، وإنْذارُهُ بِسُوءِ العُقُوبَةِ، والوَعْدُ يَشْمَلُ ما لِلْأُمَّةِ وما لِلْأفْرادِ، فَيَعُمُّ نِعَمَ الدُّنْيا والآخِرَةِ وسَعادَتَهُما. والوَعِيدُ - كَذَلِكَ - يَشْمَلُ نِقَمَهُما وشَقاءَهُما، فَقَدْ وعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ: بِالِاسْتِخْلافِ في الأرْضِ، والعِزَّةِ، والسُّلْطانِ، والسِّيادَةِ. وأوْعَدَ المُخالِفِينَ: بِالخِزْيِ والشَّقاءِ في الدُّنْيا. كَما وعَدَ في الآخِرَةِ بِالجَنَّةِ والنَّعِيمِ وأوْعَدَ بِنارِ الجَحِيمِ. ثالِثُها: العِبادَةُ الَّتِي تُحْيِي التَّوْحِيدَ في القُلُوبِ وتُثَبِّتُهُ في النُّفُوسِ. رابِعُها: بَيانُ سَبِيلِ السَّعادَةِ وكَيْفِيَّةِ السَّيْرِ فِيهِ، المُوَصِّلِ إلى نِعَمِ الدُّنْيا والآخِرَةِ. خامِسُها: قَصَصُ مَن وقَفَ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ تَعالى، وأخَذَ بِأحْكامِ دِينِهِ، وأخْبارُ الَّذِينَ تَعَدَّوْا حُدُودَهُ ونَبَذُوا أحْكامَ دِينِهِ ظِهْرِيًّا لِأجْلِ الِاعْتِبارِ، واخْتِيارِ طَرِيقِ المُحْسِنِينَ. هَذِهِ هي الأُمُورُ الَّتِي احْتَوى عَلَيْها القُرْآنُ، وفِيها حَياةُ النّاسِ وسَعادَتُهُمُ الدُّنْيَوِيَّةُ والأُخْرَوِيَّةُ، والفاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْها إجْمالًا بِغَيْرِ ما شَكٍّ ولا رَيْبٍ. فَأمّا التَّوْحِيدُ فَفي قَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] لِأنَّهُ ناطِقٌ بِأنَّ كُلَّ حَمْدٍ وثَناءٍ يَصْدُرُ عَنْ نِعْمَةٍ ما فَهو لَهُ تَعالى، ولا يَصِحُّ ذَلِكَ إلّا إذا كانَ سُبْحانَهُ مَصْدَرَ كُلِّ نِعْمَةٍ في الكَوْنِ تَسْتَوْجِبُ الحَمْدَ، ومِنها نِعْمَةُ الخَلْقِ والإيجادِ والتَّرْبِيَةِ والتَّنْمِيَةِ، ولَمْ يَكْتَفِ بِاسْتِلْزامِ العِبارَةِ لِهَذا المَعْنى فَصَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ: "رَبِّ العالَمِينَ" . ولَفْظُ "رَبِّ" لَيْسَ مَعْناهُ المالِكَ والسَّيِّدَ فَقَطْ، بَلْ فِيهِ مَعْنى التَّرْبِيَةِ والإنْماءِ. وهو صَرِيحٌ بِأنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ يَراها الإنْسانُ في (p-٢٧)نَفْسِهِ وفي الآفاقِ مِنهُ عَزَّ وجَلَّ. فَلَيْسَ في الكَوْنِ مُتَصَرِّفٌ بِالإيجادِ والإشْقاءِ، والإسْعادِ سِواهُ. ثُمَّ إنَّ التَّوْحِيدَ أهَمُّ ما جاءَ لِأجْلِهِ الدِّينُ. ولِذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ في الفاتِحَةِ بِمُجَرَّدِ الإشارَةِ إلَيْهِ، بَلِ اسْتَكْمَلَهُ بِقَوْلِهِ: "إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ" فاجْتَثَّ بِذَلِكَ جُذُورَ الشِّرْكِ والوَثَنِيَّةِ الَّتِي كانَتْ فاشِيَةً في جَمِيعِ الأُمَمِ، وهي اتِّخاذُ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ تَعْتَقِدُ لَهُمُ السُّلْطَةُ الغَيْبِيَّةُ، يُدْعَوْنَ لِذَلِكَ مَن دُونِ اللَّهِ، ويُسْتَعانُ بِهِمْ عَلى قَضاءِ الحَوائِجِ في الدُّنْيا، ويَتَقَرَّبُ بِهِمْ إلى اللَّهِ زُلْفى، وجَمِيعُ ما في القُرْآنِ مِن آياتِ التَّوْحِيدِ ومُقارَعَةِ المُشْرِكِينَ هو تَفْصِيلٌ لِهَذا الإجْمالِ. "وأمّا الوَعْدُ والوَعِيدُ: فالأوَّلُ مِنهُما مَطْوِيٌّ في "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فَذِكْرُ الرَّحْمَةِ في أوَّلِ الكِتابِ، وهي الَّتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. وعْدٌ بِالإحْسانِ – لا سِيَّما وقَدْ كَرَّرَها مَرَّةً ثانِيَةً- تَنْبِيهًا لَنا عَلى أنَّ أمْرَهُ إيّانا بِتَوْحِيدِهِ وعِبادَتِهِ رَحْمَةٌ مِنهُ سُبْحانَهُ بِنا، لِأنَّهُ لِمَصْلَحَتِنا ومَنفَعَتِنا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] يَتَضَمَّنُ الوَعْدَ والوَعِيدَ مَعًا، لِأنَّ مَعْنى الدِّينِ الخُضُوعُ، أيْ: إنَّ لَهُ تَعالى في ذَلِكَ اليَوْمِ السُّلْطانَ المُطْلَقَ، والسِّيادَةَ الَّتِي لا نِزاعَ فِيها، لا حَقِيقَةَ ولا ادِّعاءَ؛ وإنَّ العالَمَ كُلَّهُ يَكُونُ فِيهِ خاضِعًا لِعَظَمَتِهِ -ظاهِرًا وباطِنًا - يَرْجُو رَحْمَتَهُ، ويَخْشى عَذابَهُ، وهَذا يَتَضَمَّنُ الوَعْدَ والوَعِيدَ، أوْ مَعْنى الدِّينِ الجَزاءُ وهو: إمّا ثَوابٌ لِلْمُحْسِنِ، وإمّا عِقابٌ لِلْمُسِيءِ، وذَلِكَ وعْدٌ ووَعِيدٌ، وزِدْ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ "الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ" وهو الَّذِي مَن سَلَكَهُ فازَ، ومَن تَنَكَّبَهُ هَلَكَ، وذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الوَعْدَ والوَعِيدَ. وأمّا العِبادَةُ، فَبَعْدَ أنْ ذُكِرَتْ في مَقامِ التَّوْحِيدِ بِقَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] أوْضَحَ مَعْناها بَعْضَ الإيضاحِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] أيْ: إنَّهُ قَدْ وضَعَ لَنا صِراطًا سَيُبَيِّنُهُ ويُحَدِّدُهُ. ويَكُونُ مَناطُ السَّعادَةِ في الِاسْتِقامَةِ عَلَيْهِ، والشَّقاءِ في الِانْحِرافِ عَنْهُ، وهَذِهِ الِاسْتِقامَةُ عَلَيْهِ هي رُوحُ العِبادَةِ، ويُشْبِهُ هَذا قَوْلَهُ تَعالى: (p-٢٨)﴿والعَصْرِ﴾ [العصر: ١] ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] ﴿إلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٣] فالتَّواصِي بِالحَقِّ والصَّبْرِ هو كَمالُ العِبادَةِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ. والفاتِحَةُ بِجُمْلَتِها تَنْفُخُ رُوحَ العِبادَةِ في المُتَدَبِّرِ لَها، ورُوحُ العِبادَةِ هي إشْرابُ القُلُوبِ خَشْيَةَ اللَّهِ، وهَيْبَتَهُ، والرَّجاءَ لِفَضْلِهِ، لا الأعْمالُ المَعْرُوفَةُ مِن فِعْلٍ وكَفٍّ وحَرَكاتِ اللِّسانِ والأعْضاءِ. فَقَدْ ذُكِرَتِ العِبادَةُ في الفاتِحَةِ قَبْلَ ذِكْرِ الصَّلاةِ وأحْكامِها، والصِّيامِ وأيّامِهِ، وكانَتْ هَذِهِ الرُّوحُ في المُسْلِمِينَ قَبْلَ أنْ يُكَلَّفُوا بِهَذِهِ الأعْمالِ البَدَنِيَّةِ، وقَبْلَ نُزُولِ أحْكامِها الَّتِي فُصِّلَتْ في القُرْآنِ تَفْصِيلًا ما؛ وإنَّما الحَرَكاتُ والأعْمالُ مِمّا يُتَوَسَّلُ بِهِ إلى حَقِيقَةِ العِبادَةِ، ومُخُّ العِبادَةِ الفِكْرُ والعِبْرَةُ؛ وأمّا الأخْبارُ والقِصَصُ فَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ تَصْرِيحٌ بِأنَّ هُنالِكَ قَوْمًا تَقَدَّمُوا، وقَدْ شَرَعَ اللَّهُ شَرائِعَ لِهِدايَتِهِمْ، وصائِحٌ يَصِيحُ: ألا فانْظُرُوا في الشُّؤُونِ العامَّةِ الَّتِي كانُوا عَلَيْها واعْتَبِرُوا بِها، كَما قالَ تَعالى لِنَبِيِّهِ يَدْعُوهُ إلى الِاقْتِداءِ بِمَن كانَ قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] حَيْثُ بَيَّنَ أنَّ القَصَصَ إنَّما هو لِلْعِظَةِ والِاعْتِبارِ. وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ تَصْرِيحٌ بِأنَّ مَن دُونِ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَرِيقانِ: فَرِيقٌ ضَلَّ عَنْ صِراطِ اللَّهِ، وفَرِيقٌ جاحِدُهُ، وعانَدَ مَن يَدْعُو إلَيْهِ، فَكانَ مَحْفُوفًا بِالغَضَبِ الإلَهِيِّ، والخِزْيِ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا. وباقِي القُرْآنِ يُفَصِّلُ لَنا في أخْبارِ الأُمَمِ هَذا الإجْمالَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي يُفِيدُ العِبْرَةَ، فَيَشْرَحُ حالَ الظّالِمِينَ الَّذِينَ قاوَمُوا الحَقَّ، وحالَ الَّذِينَ حافَظُوا عَلَيْهِ وصَبَرُوا عَلى ما أصابَهم في سَبِيلِهِ. فَتَبَيَّنَ مِن مَجْمُوعِ ما تَقَدَّمَ: أنَّ الفاتِحَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ إجْمالًا عَلى الأُصُولِ الَّتِي يُفَصِّلُها (p-٢٩)القُرْآنُ تَفْصِيلًا. فَكانَ إنْزالُها أوَّلًا مُوافِقًا لِسُنَّةِ اللَّهِ تَعالى في الإبْداعِ، وعَلى هَذا تَكُونُ الفاتِحَةُ جَدِيرَةً بِأنْ تُسَمّى "أُمَّ الكِتابِ" . الثّالِثَةُ: مِمّا صَحَّ في فَضْلِها مِنَ الأخْبارِ: ما رَواهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «كُنْتُ أُصَلِّي في المَسْجِدِ فَدَعانِي النَّبِيُّ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ. فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ أُصَلِّي. فَقالَ: «ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤]» ؟ - ثُمَّ قالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هي أعْظَمُ السُّوَرِ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ ؟» ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي، فَلَمّا أرادَ أنْ نَخْرُجَ، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ألَمْ تَقُلْ «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هي أعْظَمُ سُورَةٍ في القُرْآنِ» . قالَ: " الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، هي السَّبْعُ المَثانِي والقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»» . ورَوى الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ بِإسْنادٍ حَسَنٍ صَحِيحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، نَحْوَهُ، غَيْرَ أنَّ القِصَّةَ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وفي آخِرِهِ: ««والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أُنْزِلَ في التَّوْراةِ ولا في الإنْجِيلِ ولا في الزَّبُورِ ولا في الفُرْقانِ مِثْلُها، إنَّها السَّبْعُ المَثانِي»» . واسْتُدِلَّ بِهَذا الحَدِيثِ وأمْثالِهِ عَلى تَفاضُلِ بَعْضِ الآياتِ والسُّوَرِ عَلى بَعْضٍ، كَما هو المَحْكِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ العُلَماءِ مِنهم: إسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ، وأبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ وابْنُ الحَضّارِ مِنَ المالِكِيَّةِ، وذَلِكَ بَيِّنٌ واضِحٌ. ورَوى البُخارِيُّ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: «كُنّا في مَسِيرٍ لَنا فَنَزَلْنا، فَجاءَتْ جارِيَةٌ فَقالَتْ: إنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وإنَّ نَفَرَنا غَيَبٌ، (p-٣٠)فَهَلْ مِنكم واقٍ ؟ فَقامَ مَعَها رَجُلٌ ما كُنّا نَأْبِنُهُ بِرُقْيَةٍ. فَرَقاهُ، فَبَرَأ، فَأمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شاةً، وسَقانا لَبَنًا؛ فَلَمّا رَجَعَ قُلْنا لَهُ: أكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً، أوْ كُنْتَ تَرْقِي ؟ قالَ: لا، ما رَقَيْتُ إلّا بِأُمِّ الكِتابِ. قُلْنا: لا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتّى نَأْتِيَ، أوْ نَسْألَ، النَّبِيَّ ﷺ، فَلَمّا قَدِمْنا المَدِينَةَ، ذَكَرْناهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: «وما كانَ يُدْرِيهِ أنَّها رُقْيَةٌ ؟ اقْمِسُوا واضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ»» . وهَكَذا رَواهُ مُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ، وفي بَعْضِ رِواياتِ مُسْلِمٍ: أنَّ أبا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ هو الَّذِي رَقى ذَلِكَ السَّلِيمَ - يَعْنِي اللَّدِيغَ، يُسَمُّونَهُ بِذَلِكَ تَفاؤُلًا - . ورَوى مُسْلِمٌ والنَّسائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «بَيْنَما جِبْرِيلُ قاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ سَمِعَ نَقِيضًا مِن فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ: «هَذا بابٌ مِنَ السَّماءِ فُتِحَ اليَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلّا اليَوْمَ. فَنَزَلَ مِنهُ مَلَكٌ. فَقالَ: هَذا مَلَكٌ نَزَلَ إلى الأرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلّا اليَوْمَ. فَسَلَّمَ وقالَ: أبْشِرْ بِنُورَيْنِ قَدْ أُوتِيتَهُما، لَمْ يُؤْتَهُما نَبِيٌّ قَبْلَكَ؛ فاتِحَةُ الكِتابِ وخَواتِيمُ البَقَرَةِ، لَمْ تَقْرَأْ بِحَرْفٍ مِنهُما إلّا أُعْطِيتَهُ»» . ورَوى مُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ««مَن صَلّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيها بِأُمِّ القُرْآنِ فَهي خِداجٌ - ثَلاثًا - غَيْرُ تَمامٍ» فَقِيلَ لِأبِي هُرَيْرَةَ: إنّا نَكُونُ وراءَ الإمامِ. فَقالَ: اقْرَأْ بِها في نَفْسِكَ، فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «قالَ اللَّهُ تَعالى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَألَ، فَإذا قالَ العَبْدُ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] قالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: ٣] قالَ اللَّهُ تَعالى: أثْنى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] قالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وقالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي - فَإذا قالَ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] قالَ: هَذا بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَألَ، فَإذا قالَ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ قالَ: هَذا لِعَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَألَ»» . ويَكْفِي مِن شَرْحِ الفاتِحَةِ هَذا المِقْدارُ الجَلِيلُ، واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب