الباحث القرآني
ثم بيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، فانقسم الخلق إذن ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية:
مُنعَمٌ عليه بحصولها، واستمرار حظّه من النعم بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها.
وضالٌّ لم يُعطَ هذه الهداية ولم يُوفَّق لها.
ومغضوب عليه عرفَها ولم يُوفَّق للعمل بموجبها.
فالأول المنعم عليه قائم بالهدى ودين الحق علمًا وعملًا، والضالّ منسلخٌ عنه علمًا وعملًا، والمغضوب عليه عارفٌ به علمًا، منسلخ منه عملًا، والله الموفق للصواب.
* (فائدة)
وَأما المُنعم عَلَيْهِم فهم الَّذين من الله عَلَيْهِم بِمَعْرِفَة الحق علما وبالانقياد إلَيْهِ وإيثاره على ما سواهُ عملا وهَؤُلاء هم الَّذين على سَبِيل النجاة ومن سواهُم على سَبِيل الهَلاك ولِهَذا أمرنا الله سُبْحانَهُ أن نقُول كل يَوْم ولَيْلَة عدَّة مَرّات ﴿اهدنا الصِّراط المُسْتَقيم صِراط الَّذين أنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم ولا الضّالّين﴾
فَإن العَبْد مُضْطَر كل الِاضْطِرار إلى أن يكون عارِفًا بِما يَنْفَعهُ في معاشه ومعاده وأن يكون مؤثرا مرِيدا لما يَنْفَعهُ مجتنبا لما يضرّهُ فبمجموع هذَيْن يكون قد هدي إلى الصِّراط المُسْتَقيم فَإن فاتَهُ معرفَة ذَلِك سلك سَبِيل الضّالّين وإن فاتَهُ قَصده واتباعه سلك سَبِيل المغضوب عَلَيْهِم وبِهَذا يعرف قدر هَذا الدُّعاء العَظِيم وشدَّة الحاجة إلَيْهِ وتوقف سَعادَة الدُّنْيا والآخِرَة عَلَيْهِ
والعَبْد مفتقر إلى الهِدايَة في كل لَحْظَة ونَفس في جَمِيع ما يَأْتِيهِ ويذره فَإنَّهُ بَين أُمُور لا يَنْفَكّ عَنْها
أحدها أُمُور قد أتاها على غير وجه الهِدايَة جهلا فَهو مُحْتاج إلى أن يطْلب الهِدايَة إلى الحق فِيها
أو يكون عارِفًا بالهداية فِيها فَأتاها على غير وجهها عمدا فَهو مُحْتاج إلى التَّوْبَة مِنها
أو أُمُور لم يعرف وجه الهِدايَة فِيها علما ولا عملا ففاتته الهِدايَة إلى علمها ومعرفتها وإلى قَصدها وإرادتها وعملها
أو أُمُور قد هدي إلَيْها من وجه دون وجه فَهو مُحْتاج إلى تَمام الهِدايَة فِيها
أو أُمُور قد هدي إلى أصْلها دون تفاصيلها فَهو مُحْتاج إلى هِدايَة التَّفْصِيل
أو طَرِيق قد هدي أليها وهو مُحْتاج إلى هِدايَة أُخْرى فِيها فالهداية إلى الطَّرِيق شَيْء والهِدايَة في نفس الطَّرِيق شَيْء آخر ألا ترى أن الرجل يعرف أن طَرِيق البَلَد الفُلانِيّ هو طَرِيق كَذا وكَذا ولَكِن لا يحسن أن يسلكه فَإن سلوكه يحْتاج إلى هِدايَة خاصَّة في نفس السلوك كالسير في وقت كَذا دون وقت كَذا وأخذ الماء في مفازة كَذا مِقْدار كَذا والنُّزُول في مَوضِع كَذا دون كَذا فَهَذِهِ هِدايَة في نفس السّير قد يهملها من هو عارِف بِأن الطَّرِيق هي هَذِه فَيهْلك ويَنْقَطِع عَن المَقْصُود.
وَكَذَلِكَ أيْضا ثمَّ أُمُور هو مُحْتاج إلى أن يحصل لَهُ فِيها من الهِدايَة في المُسْتَقْبل مثل ما حصل لَهُ في الماضِي
وَأُمُور هو خال عَن اعْتِقاد حق أو باطِل فِيها فَهو مُحْتاج إلى هِدايَة الصَّواب فِيها
وَأُمُور يعْتَقد أنه فِيها على هدى وهو على ضَلالَة ولا يشْعر فَهو مُحْتاج إلى انْتِقاله عَن ذَلِك الِاعْتِقاد بهداية من الله
وَأُمُور قد فعلها على وجه الهِدايَة وهو مُحْتاج إلى أن يهدي غَيره إلَيْها ويرشده وينصحه فإهماله
ذَلِك يفوت عَلَيْهِ من الهِدايَة بِحَسبِهِ كَما أن هدايته للْغَيْر وتعليمه ونصحه يفتح لَهُ باب الهِدايَة فَإن الجَزاء من جنس العَمَل فَكلما هدى غَيره وعلمه هداه الله وعلمه فَيصير هاديا مهديا كَما في دُعاء النَّبِي ﷺ الَّذِي رَواهُ التِّرْمِذِيّ وغَيره اللَّهُمَّ زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين غير ضالِّينَ ولا مضلين سلما لأوليائك حَربًا لأعدائك نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من خالفك
وَقد أثنى الله سُبْحانَهُ على عباده المُؤمنِينَ الَّذين يسألونه أن يجعلهم أئِمَّة يهتدى بهم فَقالَ تَعالى في صِفات عباده ﴿والَّذين يَقُولُونَ رَبنا هَب لنا من أزواجنا وذُرِّيّاتنا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إمامًا﴾
قالَ ابْن عَبّاس يهتدى بِنا في الخَيْر.
وَقالَ أبُو صالح يقْتَدى بهدانا.
وَقالَ مَكْحُول أئِمَّة في التَّقْوى يَقْتَدِي بِنا المتقون.
* (فصل)
المَوْضِعُ السّابِعُ: مِن مَعْرِفَةِ نَفْسِ المَسْئُولِ، وهو الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ
وَلا تَكُونُ الطَّرِيقُ صِراطًا حَتّى تَتَضَمَّنَ خَمْسَةَ أُمُورٍ: الِاسْتِقامَةَ، والإيصالَ إلى المَقْصُودِ، والقُرْبَ، وسَعَتَهُ لِلْمارِّينَ عَلَيْهِ، وتَعَيُّنَهُ طَرِيقًا لِلْمَقْصُودِ، ولا يَخْفى تَضَمُّنُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ لِهَذِهِ الأُمُورِ الخَمْسَةِ.
فَوَصْفُهُ بِالِاسْتِقامَةِ يَتَضَمَّنُ قُرْبَهُ، لِأنَّ الخَطَّ المُسْتَقِيمَ هو أقْرَبُ خَطٍّ فاصِلٍ بَيْنَ نُقْطَتَيْنِ، وكُلَّما تَعَوَّجَ طالَ وبَعُدَ، واسْتِقامَتُهُ تَتَضَمَّنُ إيصالَهُ إلى المَقْصُودِ، ونَصْبُهُ لِجَمِيعِ مَن يَمُرُّ عَلَيْهِ يَسْتَلْزِمُ سَعَتَهُ، وإضافَتُهُ إلى المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ ووَصْفُهُ بِمُخالَفَةِ صِراطِ أهْلِ الغَضَبِ والضَّلالِ يَسْتَلْزِمُ تَعَيُّنَهُ طَرِيقًا.
والصِّراطُ تارَةً يُضافُ إلى اللَّهِ، إذْ هو الَّذِي شَرَعَهُ ونَصَبَهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا﴾ [الأنعام: ١٥٣] وقَولِهِ ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ﴾ [الشورى: ٥٢] وتارَةً يُضافُ إلى العِبادِ كَما في الفاتِحَةِ، لِكَوْنِهِمْ أهْلَ سُلُوكِهِ، وهو المَنسُوبُ لَهُمْ، وهُمُ المارُّونَ عَلَيْهِ.
(المَوْضِعُ الثّامِنُ: مِن ذِكْرِ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وتَمْيِيزِهِمْ عَنْ طائِفَتَيِ الغَضَبِ والضَّلالِ)
فانْقَسَمَ النّاسُ بِحَسَبِ مَعْرِفَةِ الحَقِّ والعَمَلِ بِهِ إلى هَذِهِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ، لِأنَّ العَبْدَ إمّا أنْ يَكُونَ عالِمًا بِالحَقِّ، وإمّا جاهِلًا بِهِ، والعالِمُ بِالحَقِّ إمّا أنْ يَكُونَ عامِلًا بِمُوجَبِهِ أوْ مُخالِفًا لَهُ، فَهَذِهِ أقْسامُ المُكَلَّفِينَ لا يَخْرُجُونَ عَنْها ألْبَتَّةَ، فالعالِمُ بِالحَقِّ العامِلُ بِهِ هو المُنْعَمُ عَلَيْهِ، وهو الَّذِي زَكّى نَفْسَهُ بِالعِلْمِ النّافِعِ والعَمَلِ الصّالِحِ، وهو المُفْلِحُ ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ [الشمس: ٩] والعالِمُ بِهِ المُتَّبِعُ هَواهُ هو المَغْضُوبُ عَلَيْهِ، والجاهِلُ بِالحَقِّ هو الضّالُّ، والمَغْضُوبُ عَلَيْهِ ضالٌّ عَنْ هِدايَةِ العَمَلِ، والضّالُّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ لِضَلالِهِ عَنِ العِلْمِ المُوجِبِ لِلْعَمَلِ، فَكُلٌّ مِنهُما ضالٌّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، ولَكِنَّ تارِكَ العَمَلِ بِالحَقِّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ أوْلى بِوَصْفِ الغَضَبِ وأحَقُّ بِهِ، ومِن هُنا كانَ اليَهُودُ أحَقَّ بِهِ، وهو مُتَغَلِّظٌ في حَقِّهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى في حَقِّهِمْ ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم أنْ يَكْفُرُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ﴾ [البقرة: ٩٠] وقالَ تَعالى ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ وعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكانًا وأضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٦٠] والجاهِلُ بِالحَقِّ أحَقُّ بِاسْمِ الضَّلالِ، ومِن هُنا وُصِفَتِ النَّصارى بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكم غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأضَلُّوا كَثِيرًا وضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٧٧] فالأُولى في سِياقِ الخِطابِ مَعَ اليَهُودِ، والثّانِيَةُ في سِياقِهِ مَعَ النَّصارى، وفي التِّرْمِذِيِّ وصَحِيحِ ابْنِ حَبّانَ مِن حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «اليَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، والنَّصارى ضالُّونَ».
فَفِي ذِكْرِ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وهم مَن عَرَفَ الحَقَّ واتَّبَعَهُ والمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وهم مَن عَرَفَهُ واتَّبَعَ هَواهُ والضّالِّينَ وهم مَن جَهِلَهُ ما يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ، لِأنَّ انْقِسامَ النّاسِ إلى ذَلِكَ هو الواقِعُ المَشْهُودُ، وهَذِهِ القِسْمَةُ إنَّما أوْجَبَها ثُبُوتُ الرِّسالَةِ.
وَأضافَ النِّعْمَةَ إلَيْهِ، وحَذَفَ فاعِلَ الغَضَبِ لِوُجُوهٍ:
مِنها: أنَّ النِّعْمَةَ هي الخَيْرُ والفَضْلُ، والغَضَبَ مِن بابِ الِانْتِقامِ والعَدْلِ، والرَّحْمَةَ تَغْلِبُ الغَضَبَ، فَأضافَ إلى نَفْسِهِ أكْمَلَ الأمْرَيْنِ، وأسْبَقَهُما وأقْواهُما، وهَذِهِ طَرِيقَةُ القُرْآنِ في إسْنادِ الخَيْراتِ والنِّعَمِ إلَيْهِ، وحَذْفِ الفاعِلِ في مُقابَلَتِهِما، كَقَوْلِ مُؤْمِنِي الجِنِّ ﴿وَأنّا لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا﴾ [الجن: ١٠] ومِنهُ قَوْلُ الخَضِرِ في شَأْنِ الجِدارِ واليَتِيمَيْنِ ﴿فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهُما﴾ [الكهف: ٨٢] وقالَ في خَرْقِ السَّفِينَةِ ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ [الكهف: ٧٩] ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢] وتَأمَّلْ قَوْلَهُ تَعالى ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] وقَوْلَهُ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ﴾ [المائدة: ٣] وقَوْلَهُ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] ثُمَّ قالَ ﴿وَأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤].
وَفِي تَخْصِيصِهِ لِأهْلِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ بِالنِّعْمَةِ ما دَلَّ عَلى أنَّ النِّعْمَةَ المُطْلَقَةَ هي المُوجِبَةُ لِلْفَلاحِ الدّائِمِ، وأمّا مُطْلَقُ النِّعْمَةِ فَعَلى المُؤْمِنِ والكافِرِ، فَكُلُّ الخَلْقِ في نِعْمَةٍ، وهَذا فَصْلُ النِّزاعِ في مَسْألَةِ: هَلْ لِلَّهِ عَلى الكافِرِ مِن نِعْمَةٍ أمْ لا؟
فالنِّعْمَةُ المُطْلَقَةُ لِأهْلِ الإيمانِ، ومُطْلَقُ النِّعْمَةِ تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ والكافِرِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إنَّ الإنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ﴾ [إبراهيم: ٣٤].
والنِّعْمَةُ مِن جِنْسِ الإحْسانِ، بَلْ هي الإحْسانُ، والرَّبُّ تَعالى إحْسانُهُ عَلى البَرِّ والفاجِرِ، والمُؤْمِنِ والكافِرِ.
وَأمّا الإحْسانُ المُطْلَقُ فَلِلَّذِينِ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هو المُنْفَرِدُ بِالنِّعَمِ ﴿وَما بِكم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: ٥٣] فَأُضِيفَ إلَيْهِ ما هو مُنْفَرِدٌ بِهِ، وإنْ أُضِيفَ إلى غَيْرِهِ فَلِكَوْنِهِ طَرِيقًا ومَجْرًى لِلنِّعْمَةِ، وأمّا الغَضَبُ عَلى أعْدائِهِ فَلا يَخْتَصُّ بِهِ تَعالى، بَلْ مَلائِكَتُهُ وأنْبِياؤُهُ ورُسُلُهُ وأوْلِياؤُهُ يَغْضَبُونَ لِغَضَبِهِ، فَكانَ في لَفْظَةِ " ﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٧] " بِمُوافَقَةِ أوْلِيائِهِ لَهُ مِنَ الدِّلالَةِ عَلى تَفَرُّدِهِ بِالإنْعامِ، وأنَّ النِّعْمَةَ المُطْلَقَةَ مِنهُ وحْدَهُ، هو المُنْفَرِدُ بِها ما لَيْسَ في لَفْظَةِ " المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ ".
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ في حَذْفِ فاعِلِ الغَضَبِ مِنَ الإشْعارِ بِإهانَةِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِ، وتَحْقِيرِهِ وتَصْغِيرِ شَأْنِهِ ما لَيْسَ في ذِكْرِ فاعِلِ النِّعْمَةِ مِن إكْرامِ المُنْعَمِ عَلَيْهِ والإشادَةِ بِذِكْرِهِ، ورَفْعِ قَدْرِهِ ما لَيْسَ في حَذْفِهِ، فَإذا رَأيْتَ مَن قَدْ أكْرَمَهُ مَلِكٌ وشَرَّفَهُ ورَفَعَ قَدْرَهُ، فَقُلْتَ: هَذا الَّذِي أكْرَمَهُ السُّلْطانُ، وخَلَعَ عَلَيْهِ وأعْطاهُ ما تَمَنّاهُ، كانَ أبْلَغَ في الثَّناءِ والتَّعْظِيمِ مِن قَوْلِكَ: هَذا الَّذِي أُكْرِمَ وخُلِعَ عَلَيْهِ وشُرِّفَ وأُعْطِيَ.
وَتَأمَّلْ سِرًّا بَدِيعًا في ذِكْرِ السَّبَبِ والجَزاءِ لِلطَّوائِفِ الثَّلاثَةِ بِأوْجَزِ لَفْظٍ وأخْصَرِهِ، فَإنَّ الإنْعامَ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ إنْعامَهُ بِالهِدايَةِ الَّتِي هي العِلْمُ النّافِعُ والعَمَلُ الصّالِحُ، وهي الهُدى ودِينُ الحَقِّ، ويَتَضَمَّنُ كَمالَ الإنْعامِ بِحُسْنِ الثَّوابِ والجَزاءِ، فَهَذا تَمامُ النِّعْمَةِ، ولَفْظُ " ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: ٧] " يَتَضَمَّنُ الأمْرَيْنِ.
وَذِكْرُ غَضَبِهِ عَلى المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ أيْضًا أمْرَيْنِ: الجَزاءُ بِالغَضَبِ الَّذِي مُوجَبُهُ غايَةُ العَذابِ والهَوانِ، والسَّبَبُ الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهِ غَضَبَهُ سُبْحانَهُ، فَإنَّهُ أرْحَمُ وأرْأفُ مِن أنْ يَغْضَبَ بِلا جِنايَةٍ مِنهم ولا ضَلالٍ، فَكَأنَّ الغَضَبَ عَلَيْهِمْ مُسْتَلْزِمٌ لِضَلالِهِمْ، وذِكْرُ الضّالِّينَ مُسْتَلْزِمٌ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ وعِقابِهِ لَهُمْ، فَإنَّ مَن ضَلَّ اسْتَحَقَّ العُقُوبَةَ الَّتِي هي مُوجَبُ ضَلالِهِ وغَضَبِ اللَّهُ عَلَيْهِ.
فاسْتَلْزَمَ وصْفَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الطَّوائِفِ الثَّلاثِ لِلسَّبَبِ والجَزاءِ أبْيَنَ اسْتِلْزامٍ، واقْتَضاهُ أكْمَلَ اقْتِضاءٍ في غايَةِ الإيجازِ والبَيانِ والفَصاحَةِ، مَعَ ذِكْرِ الفاعِلِ في أهْلِ السَّعادَةِ، وحَذْفِهِ في أهْلِ الغَضَبِ، وإسْنادِ الفِعْلِ إلى السَّبَبِ في أهْلِ الضَّلالِ.
وَتَأمَّلِ المُقابَلَةَ بَيْنَ الهِدايَةِ والنِّعْمَةِ، والغَضَبِ والضَّلالِ، فَذِكْرُ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضّالِّينَ في مُقابَلَةِ المُهْتَدِينَ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، وهَذا كَثِيرٌ في القُرْآنِ، يَقْرِنُ بَيْنَ الضَّلالِ والشَّقاءِ، وبَيْنَ الهُدى والفَلاحِ، فالثّانِي كَقَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] وقَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وهم مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢] والأوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ [القمر: ٤٧] وقَوْلِهِ ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة: ٧] وقَدْ جَمَعَ سُبْحانَهُ بَيْنَ الأُمُورِ الأرْبَعَةِ في قَوْلِهِ ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ [طه: ١٢٣] فَهَذا الهُدى والسَّعادَةُ، ثُمَّ قالَ ﴿وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ [طه: ١٢٤] فَذَكَرَ الضَّلالَ والشَّقاءَ.
فالهُدى والسَّعادَةُ مُتَلازِمانِ، والضَّلالُ والشَّقاءُ مُتَلازِمانِ.
* [فَصْلٌ: ذَكَرَ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ مُفْرَدًا مُعَرَّفًا تَعْرِيفَيْنِ: تَعْرِيفًا بِاللّامِ، وتَعْرِيفًا بِالإضافَةِ]
وَذَكَرَ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ مُفْرَدًا مُعَرَّفًا تَعْرِيفَيْنِ: تَعْرِيفًا بِاللّامِ، وتَعْرِيفًا بِالإضافَةِ، وذَلِكَ يُفِيدُ تَعَيُّنَهُ واخْتِصاصَهُ، وأنَّهُ صِراطٌ واحِدٌ، وأمّا طُرُقُ أهْلِ الغَضَبِ والضَّلالِ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يَجْمَعُها ويُفْرِدُها، كَقَوْلِهِ ﴿وَأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣] فَوَحَّدَ لَفْظَ الصِّراطِ وسَبِيلِهِ، وجَمَعَ السُّبُلَ المُخالِفَةَ لَهُ،
«وَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ خَطَّ لَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا، وقالَ: هَذا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وعَنْ يَسارِهِ، وقالَ: هَذِهِ سُبُلٌ، عَلى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطانٌ يَدْعُو إلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وَأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكم وصّاكم بِهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣]» وهَذا لِأنَّ الطَّرِيقَ المُوَّصِلَ إلى اللَّهِ واحِدٌ، وهو ما بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وأنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، لا يَصِلُ إلَيْهِ أحَدٌ إلّا مِن هَذِهِ الطَّرِيقِ، ولَوْ أتى النّاسُ مِن كُلِّ طَرِيقٍ، واسْتَفْتَحُوا مِن كُلِّ بابٍ، فالطُّرُقُ عَلَيْهِمْ مَسْدُودَةٌ، والأبْوابُ عَلَيْهِمْ مُغَلَّقَةٌ إلّا مِن هَذا الطَّرِيقِ الواحِدِ، فَإنَّهُ مُتَّصِلٌ بِاللَّهِ، مُوَصِّلٌ إلى اللَّهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿هَذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الحجر: ٤١] قالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ صِراطٌ إلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، وهَذا يَحْتَمِلُ أمْرَيْنِ: أنْ يَكُونَ أرادَ بِهِ أنَّهُ مِن بابِ إقامَةِ الأدَواتِ بَعْضِها مَقامَ بَعْضٍ، فَقامَتْ أداةُ " عَلى " مَقامَ " إلى "، والثّانِي: أنَّهُ أرادَ التَّفْسِيرَ عَلى المَعْنى، وهو الأشْبَهُ بِطَرِيقِ السَّلَفِ، أيْ صِراطٌ مُوَّصِلٌ إلَيَّ، وقالَ مُجاهِدٌ: الحَقُّ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ، وعَلَيْهِ طَرِيقُهُ، لا يُعَرَّجُ عَلى شَيْءٍ، وهَذا مِثْلُ قَوْلِ الحَسَنِ وأبْيَنُ مِنهُ، وهو مِن أصَحِّ ما قِيلَ في الآيَةِ، وقِيلَ: عَلَيَّ فِيهِ لِلْوُجُوبِ، أيْ عَلَيَّ بَيانُهُ وتَعْرِيفُهُ والدِّلالَةُ عَلَيْهِ، والقَوْلانِ نَظِيرُ القَوْلَيْنِ في آيَةِ النَّحْلِ، وهي ﴿وَعَلى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾ [النحل: ٩] والصَّحِيحُ فِيها كالصَّحِيحِ في آيَةِ الحِجْرِ: أنَّ السَّبِيلَ القاصِدَ وهو المُسْتَقِيمُ المُعْتَدِلُ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ، ويُوَصِّلُ إلَيْهِ، قالَ طُفَيْلٌ الغَنَوِيُّ:
؎مَضَوْا سَلَفًا قَصْدُ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ ∗∗∗ وصَرْفُ المَنايا بِالرِّجالِ تُشَقْلَبُ
أيْ مَمَرُّنا عَلَيْهِمْ، وإلَيْهِمْ وُصُولُنا، وقالَ الآخَرُ:
؎فَهُنَّ المَنايا أيُّ وادٍ سَلَكْتُهُ ∗∗∗ عَلَيْها طَرِيقِي أوْ عَلَيَّ طَرِيقُها
فَإنْ قِيلَ: لَوْ أُرِيدَ هَذا المَعْنى لَكانَ الألْيَقُ بِهِ أداةَ إلى الَّتِي هي لِلِانْتِهاءِ، لا أداةَ عَلى الَّتِي هي لِلْوُجُوبِ، ألا تَرى أنَّهُ لَمّا أرادَ الوُصُولَ قالَ ﴿إنَّ إلَيْنا إيابَهم ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٥] وقالَ ﴿إلَيْنا مَرْجِعُهُمْ﴾ [يونس: ٧٠] وقالَ ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٨] وقالَ لَمّا أرادَ الوُجُوبَ ﴿ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾ [الغاشية: ٢٦] وقالَ ﴿إنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧] وقالَ ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ [هود: ٦] ونَظائِرُ ذَلِكَ.
قِيلَ: في أداةِ عَلى سِرٌّ لَطِيفٌ، وهو الإشْعارُ بِكَوْنِ السّالِكِ عَلى هَذا الصِّراطِ عَلى هُدًى، وهو حَقٌّ، كَما قالَ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] وقالَ لِرَسُولِهِ ﷺ ﴿فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ [النمل: ٧٩] واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ هو الحَقُّ، وصِراطُهُ حقٌّ، ودِينُهُ حَقٌ، فَمَنِ اسْتَقامَ عَلى صِراطِهِ فَهو عَلى الحَقِّ والهُدى، فَكانَ في أداةِ " عَلى " عَلى هَذا المَعْنى ما لَيْسَ في أداةِ إلى فَتَأمَّلْهُ، فَإنَّهُ سِرٌّ بَدِيعٌ.
فَإنْ قُلْتَ: فَما الفائِدَةُ في ذِكْرِ عَلى في ذَلِكَ أيْضًا؟ وكَيْفَ يَكُونُ المُؤْمِنُ مُسْتَعْلِيًا عَلى الحَقِّ، وعَلى الهُدى؟
قُلْتُ: لِما فِيهِ مِنِ اسْتِعْلائِهِ وعُلُوِّهِ بِالحَقِّ والهُدى، مَعَ ثَباتِهِ عَلَيْهِ، واسْتِقامَتِهِ إلَيْهِ، فَكانَ في الإتْيانِ بِأداةِ " عَلى " ما يَدُلُّ عَلى عُلُوِّهِ وثُبُوتِهِ واسْتِقامَتِهِ، وهَذا بِخِلافِ الضَّلالِ والرَّيْبِ، فَإنَّهُ يُؤْتى فِيهِ بِأداةِ " في " الدّالَّةِ عَلى انْغِماسِ صاحِبِهِ، وانْقِماعِهِ وتَدَسُّسِهِ فِيهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ [التوبة: ٤٥] وقَوْلِهِ ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وبُكْمٌ في الظُّلُماتِ﴾ [الأنعام: ٣٩] وقَوْلِهِ ﴿فَذَرْهم في غَمْرَتِهِمْ حَتّى حِينٍ﴾ [المؤمنون: ٥٤] وقَوْلِهِ ﴿وَإنَّهم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾ [هود: ١١٠].
وَتَأمَّلْ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وَإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤] فَإنَّ طَرِيقَ الحَقِّ تَأْخُذُ عُلُوًّا صاعِدَةً بِصاحِبِها إلى العَلِيِّ الكَبِيرِ، وطَرِيقَ الضَّلالِ تَأْخُذُ سُفْلًا، هاوِيَةً بِسالِكِها في أسْفَلِ سافِلِينَ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ هَذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الحجر: ٤١] قَوْلٌ ثالِثٌ، وهو قَوْلُ الكِسائِيِّ إنَّهُ عَلى التَّهْدِيدِ والوَعِيدِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ [الفجر: ١٤] كَما قالَ: تَقُولُ طَرِيقُكَ عَلَيَّ، ومَمَرُّكَ عَلَيَّ، لِمَن تُرِيدُ إعْلامَهُ بِأنَّهُ غَيْرُ فائِتٍ لَكَ، ولا مُعْجِزٍ، والسِّياقُ يَأْبى هَذا، ولا يُناسِبُهُ لِمَن تَأمَّلَهُ، فَإنَّهُ قالَهُ مُجِيبًا لِإبْلِيسَ الَّذِي قالَ ﴿لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [ص: ٨٢] فَإنَّهُ لا سَبِيلَ لِي إلى إغْوائِهِمْ، ولا طَرِيقَ لِي عَلَيْهِمْ.
فَقَرَّرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ أتَمَّ التَّقْرِيرِ، وأخْبَرَ أنَّ الإخْلاصَ صِراطٌ عَلَيْهِ مُسْتَقِيمٌ، فَلا سُلْطانَ لَكَ عَلى عِبادِي الَّذِينَ هم عَلى هَذا الصِّراطِ، لِأنَّهُ صِراطٌ عَلَيَّ، ولا سَبِيلَ لِإبْلِيسَ إلى هَذا الصِّراطِ، ولا الحَوْمِ حَوْلَ ساحَتِهِ، فَإنَّهُ مَحْرُوسٌ مَحْفُوظٌ بِاللَّهِ، فَلا يَصِلُ عَدُوُّ اللَّهِ إلى أهْلِهِ.
فَلْيَتَأمَّلِ العارِفُ هَذا المَوْضِعَ حَقَّ التَّأمُّلِ، ولْيَنْظُرْ إلى هَذا المَعْنى، ويُوازِنْ بَيْنَهُ وبَيْنَ القَوْلَيْنِ الآخَرَيْنِ، أيُّهُما ألْيَقُ بِالآيَتَيْنِ، وأقْرَبُ إلى مَقْصُودِ القُرْآنِ وأقْوالِ السَّلَفِ؟
وَأمّا تَشْبِيهُ الكِسائِيِّ لَهُ بِقَوْلِهِ ﴿إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ﴾ [الفجر: ١٤] فَلا يَخْفى الفَرْقُ بَيْنَهُما سِياقًا ودِلالَةً، فَتَأمَّلْهُ، ولا يُقالُ في التَّهْدِيدِ: هَذا طَرِيقٌ مُسْتَقِيمٌ عَلَيَّ، لِمَن لا يَسْلُكُهُ، ولَيْسَتْ سَبِيلُ المُهَدَّدِ مُسْتَقِيمَةً، فَهو غَيْرُ مُهَدَّدٍ بِصِراطِ اللَّهِ المُسْتَقِيمِ، وسَبِيلُهُ الَّتِي هو عَلَيْها لَيْسَتْ مُسْتَقِيمَةً عَلى اللَّهِ، فَلا يَسْتَقِيمُ هَذا القَوْلُ ألْبَتَّةَ.
وَأمّا مَن فَسَّرَهُ بِالوُجُوبِ، أيْ عَلَيَّ بَيانُ اسْتِقامَتِهِ والدِّلالَةُ عَلَيْهِ، فالمَعْنى صَحِيحٌ، لَكِنْ في كَوْنِهِ هو المُرادَ بِالآيَةِ نَظَرٌ، لِأنَّهُ حَذْفٌ في غَيْرِ مَوْضِعِ الدِّلالَةِ، ولَمْ يُؤَلَّفِ الحَذْفُ المَذْكُورُ لِيَكُونَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ إذا حُذِفَ، بِخِلافِ عامِلِ الظَّرْفِ إذا وقَعَ صِفَةً فَإنَّهُ حَذْفٌ مَأْلُوفٌ مَعْرُوفٌ، حَتّى إنَّهُ لا يُذْكَرُ ألْبَتَّةَ، فَإذا قُلْتَ: لَهُ دِرْهَمٌ عَلَيَّ، كانَ الحَذْفُ مَعْرُوفًا مَأْلُوفًا، فَلَوْ أرَدْتَ: عَلَيَّ نَقْدُهُ، أوْ عَلَيَّ وزْنُهُ وحِفْظُهُ، ونَحْوَ ذَلِكَ وحَذَفْتَ لَمْ يَسُغْ، وهو نَظِيرُ: عَلَيَّ بَيانُهُ المُقَدَّرِ في الآيَةِ، مَعَ أنَّ الَّذِي قالَهُ السَّلَفُ ألْيَقُ بِالسِّياقِ، وأجَلُّ المَعْنَيَيْنِ وأكْبَرُهُما.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ تَقِيَّ الدِّينِ أحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: وهُما نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى وإنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ والأُولى﴾ [الليل: ١٢] قالَ: فَهَذِهِ ثَلاثَةُ مَواضِعَ في القُرْآنِ في هَذا المَعْنى.
قُلْتُ: وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ لَمْ يَذْكُرْ في سُورَةِ " ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١] " إلّا مَعْنى الوُجُوبِ، أيْ عَلَيْنا بَيانُ الهُدى مِنَ الضَّلالِ، ومِنهم مَن لَمْ يَذْكُرْ في سُورَةِ النَّحْلِ إلّا هَذا المَعْنى كالبَغَوِيِّ، وذَكَرَ في الحِجْرِ الأقْوالَ الثَّلاثَةَ، وذَكَرَ الواحِدِيُّ في بَسِيطِهِ المَعْنَيَيْنِ في سُورَةِ النَّحْلِ، واخْتارَ شَيْخُنا قَوْلَ مُجاهِدٍ والحَسَنِ في السُّوَرِ الثَّلاثِ.
* [فَصْلٌ الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ هو صِراطُ اللَّهِ]
والصِّراطُ المُسْتَقِيمُ: هو صِراطُ اللَّهِ، وهو يُخْبِرُ أنَّ الصِّراطَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ كَما ذَكَرْنا، ويُخْبِرُ أنَّهُ سُبْحانَهُ عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وهَذا في مَوْضِعَيْنِ مِنَ القُرْآنِ: في هُودٍ، والنَّحْلِ، قالَ في هُودٍ ﴿ما مِن دابَّةٍ إلّا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] وقالَ في النَّحْلِ ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وهو كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هو ومَن يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ٧٦]
فَهَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْأصْنامِ الَّتِي لا تَسْمَعُ، ولا تَنْطِقُ ولا تَعْقِلُ، وهي كَلٌّ عَلى عابِدِها، يَحْتاجُ الصَّنَمُ إلى أنْ يَحْمِلَهُ عابِدُهُ، ويَضَعَهُ ويُقِيمَهُ ويَخْدِمَهُ، فَكَيْفَ يُسَوُّونَهُ في العادَةِ بِاللَّهِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والتَّوْحِيدِ؟ وهو قادِرٌ مُتَكَلِّمٌ، غَنِيٌّ، وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ، فَقَوْلُهُ صِدْقٌ ورُشْدٌ ونُصْحٌ وهُدًى، وفِعْلُهُ حِكْمَةٌ وعَدْلٌ ورَحْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ، هَذا أصَحُّ الأقْوالِ في الآيَةِ، وهو الَّذِي لَمْ يَذْكُرْ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ غَيْرَهُ، ومَن ذَكَرَ غَيْرَهُ قَدَّمَهُ عَلى الأقْوالِ، ثُمَّ حَكاها بَعْدَهُ كَما فَعَلَ البَغْوِيُّ، فَإنَّهُ جَزَمَ بِهِ، وجَعَلَهُ تَفْسِيرَ الآيَةِ، ثُمَّ قالَ: وقالَ الكَلْبِيُّ: يَدُلُّكم عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
قُلْتُ: ودِلالَتُهُ لَنا عَلى الصِّراطِ هي مِن مُوجَبِ كَوْنِهِ سُبْحانَهُ عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، فَإنَّ دِلالَتَهُ بِفِعْلِهِ وقَوْلِهِ، وهو عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ في أفْعالِهِ وأقْوالِهِ، فَلا يُناقِضُ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّهُ سُبْحانَهُ عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ.
قالَ: وقِيلَ: هو رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ، وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
قُلْتُ: وهَذا حَقٌّ لا يُناقِضُ القَوْلَ الأوَّلَ، فالَلَّهُ عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، ورَسُولُهُ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ لا يَأْمُرُ ولا يَفْعَلُ إلّا مُقْتَضاهُ ومُوجَبَهُ، وعَلى هَذا يَكُونُ المَثَلُ مَضْرُوبًا لِإمامِ الكُفّارِ وهادِيهِمْ، وهو الصَّنَمُ الَّذِي هو أبْكَمُ، لا يَقْدِرُ عَلى هُدًى ولا خَيْرٍ، ولِإمامِ الأبْرارِ، وهو رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الَّذِي يَأْمُرُ بِالعَدْلِ، وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ: يَكُونُ مَضْرُوبًا لِمَعْبُودِ الكُفّارِ ومَعْبُودِ الأبْرارِ، والقَوْلانِ مُتَلازِمانِ، فَبَعْضُهم ذَكَرَ هَذا، وبَعْضُهم ذَكَرَ هَذا، وكِلاهُما مُرادٌ مِنَ الآيَةِ، قالَ، وقِيلَ: كِلاهُما لِلْمُؤْمِنِ والكافِرِ، يَرْوِيهِ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقالَ عَطاءٌ: الأبْكَمُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، ومَن يَأْمُرُ بِالعَدْلِ: حَمْزَةُ وعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ، وعُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ.
قُلْتُ: والآيَةُ تَحْتَمِلُهُ، ولا يُناقِضُ القَوْلَيْنِ قَبْلَهُ، فَإنَّ اللَّهَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ورَسُولَهُ وأتِّباعَ رَسُولِهِ، وضِدُّ ذَلِكَ: مَعْبُودُ الكُفّارِ وهادِيهِمْ، والكافِرُ التّابِعُ والمَتْبُوعُ والمَعْبُودُ، فَيَكُونُ بَعْضُ السَّلَفِ ذَكَرَ أعْلى الأنْواعِ، وبَعْضُهم ذَكَرَ الهادِيَ، وبَعْضُهم ذَكَرَ المُسْتَجِيبَ القابِلَ، وتَكُونُ الآيَةُ مُتَناوِلَةً لِذَلِكَ كُلِّهِ، ولِذَلِكَ نَظائِرُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ.
وَأمّا آيَةُ هُودٍ: فَصَرِيحَةٌ لا تَحْتَمِلُ إلّا مَعْنًى واحِدًا، وهو أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، وهو سُبْحانُهُ أحَقُّ مَن كانَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَإنَّ أقْوالَهُ كُلَّها صِدْقٌ ورُشْدٌ وهُدًى وعَدْلٌ وحِكْمَةٌ ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلًا﴾ [الأنعام: ١١٥] وأفْعالُهُ كُلُّها مَصالِحُ وحِكَمٌ، ورَحْمَةٌ وعَدْلٌ وخَيْرٌ، فالشَّرُّ لا يَدْخُلُ في أفْعالِ مَن هو عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، أوْ أقْوالِهِ، وإنَّما يَدْخُلُ في أفْعالِ مَن خَرَجَ عَنْهُ وفي أقْوالِهِ.
وَفِي دُعائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ، والشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ» ولا يُلْتَفَتُ إلى تَفْسِيرِ مَن فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: والشَّرُّ لا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْكَ، أوْ لا يَصْعَدُ إلَيْكَ، فَإنَّ المَعْنى أجَلُّ مِن ذَلِكَ، وأكْبَرُ وأعْظَمُ قَدْرًا، فَإنَّ مَن أسْماؤُهُ كُلُّها حُسْنى، وأوْصافُهُ كُلُّها كَمالٌ، وأفْعالُهُ كُلُّها كَمالٌ، وأقْوالُهُ كُلُّها صِدْقٌ وعَدْلٌ يَسْتَحِيلُ دُخُولُ الشَّرِّ في أسْمائِهِ أوْ أوْصافِهِ، أوْ أفْعالِهِ أوْ أقْوالِهِ، فَطابِقْ بَيْنَ هَذا المَعْنى وبَيْنَ قَوْلِهِ ﴿إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] وتَأمَّلْ كَيْفَ ذَكَرَ هَذا عَقِيبَ قَوْلِهِ ﴿إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكُمْ﴾ [هود: ٥٦] أيْ هو رَبِّي، فَلا يُسَّلِمُنِي ولا يُضَيِّعُنِي، وهو رَبُّكم فَلا يُسَلِّطُكم عَلَيَّ ولا يُمَكِّنُكم مِنِّي، فَإنَّ نَواصِيَكم بِيَدِهِ، لا تَفْعَلُونَ شَيْئًا بِدُونِ مَشِيئَتِهِ، فَإنَّ ناصِيَةَ كُلِّ دابَّةٍ بِيَدِهِ، لا يُمْكِنُها أنْ تَتَحَرَّكَ إلّا بِإذْنِهِ، فَهو المُتَصَرِّفُ فِيها، ومَعَ هَذا فَهو في تَصَرُّفِهِ فِيها وتَحْرِيكِهِ لَها، ونُفُوذِ قَضائِهِ وقَدَرِهِ فِيها عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، لا يَفْعَلُ ما يَفْعَلُ مِن ذَلِكَ إلّا بِحِكْمَةٍ وعَدْلٍ ومَصْلَحَةٍ، ولَوْ سَلَّطَكم عَلَيَّ فَلَهُ مِنَ الحِكْمَةِ في ذَلِكَ ما لَهُ الحَمْدُ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ تَسْلِيطُ مَن هو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، لا يَظْلِمُ ولا يَفْعَلُ شَيْئًا عَبَثًا بِغَيْرِ حِكْمَةٍ.
فَهَكَذا تَكُونُ المَعْرِفَةُ بِاللَّهِ، لا مَعْرِفَةَ القَدَرِيَّةِ المَجُوسِيَّةِ، والقَدَرِيَّةِ الجَبْرِيَّةِ، نُفاةِ الحُكْمِ والمَصالِحِ والتَّعْلِيلِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ سُبْحانَهُ.
* [فَصْلٌ: رَفِيقُ طالِبِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ هُمُ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ]
وَلَمّا كانَ طالِبُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ طالِبَ أمْرٍ أكْثَرُ النّاسِ ناكِبُونَ عَنْهُ، مُرِيدًا لِسُلُوكِ طَرِيقٍ مُرافِقُهُ فِيها في غايَةِ القِلَّةِ والعِزَّةِ، والنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلى وحْشَةِ التَّفَرُّدِ، وعَلى الأُنْسِ بِالرَّفِيقِ، نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلى الرَّفِيقِ في هَذِهِ الطَّرِيقِ، وأنَّهم هُمُ الَّذِينَ ﴿أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: ٦٩] فَأضافَ الصِّراطَ إلى الرَّفِيقِ السّالِكِينَ لَهُ، وهُمُ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لِيَزُولَ عَنِ الطّالِبِ لِلْهِدايَةِ وسُلُوكِ الصِّراطِ وحْشَةُ تَفَرُّدِهِ عَنْ أهْلِ زَمانِهِ وبَنِي جِنْسِهِ، ولِيَعْلَمَ أنَّ رَفِيقَهُ في هَذا الصِّراطِ هُمُ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلا يَكْتَرِثُ بِمُخالَفَةِ النّاكِبِينَ عَنْهُ لَهُ، فَإنَّهم هُمُ الَأقَلُّونَ قَدْرًا،
وَإنْ كانُوا الأكْثَرِينَ عَدَدًا، كَما قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الحَقِّ، ولا تَسْتَوْحِشْ لِقِلَّةِ السّالِكِينَ، وإيّاكَ وطَرِيقَ الباطِلِ، ولا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهالِكِينَ "، وكُلَّما اسْتَوْحَشْتَ في تَفَرُّدِكَ فانْظُرْ إلى الرَّفِيقِ السّابِقِ، واحْرِصْ عَلى اللَّحاقِ بِهِمْ، وغُضَّ الطَّرْفَ عَمَّنْ سِواهُمْ، فَإنَّهم لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وإذا صاحُوا بِكَ في طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلا تَلْتَفِتْ إلَيْهِمْ، فَإنَّكَ مَتى التَفَتَّ إلَيْهِمْ أخَذُوكَ وعاقُوكَ.
وَقَدْ ضَرَبْتُ لِذَلِكَ مَثَلَيْنِ، فَلْيَكُونا مِنكَ عَلى بالٍ:
المَثَلُ الأوَّلُ: رَجُلٌ خَرَجَ مِن بَيْتِهِ إلى الصَّلاةِ، لا يُرِيدُ غَيْرَها، فَعَرَضَ لَهُ في طَرِيقِهِ شَيْطانٌ مِن شَياطِينِ الإنْسِ، فَألْقى عَلَيْهِ كَلامًا يُؤْذِيهِ، فَوَقَفَ ورَدَّ عَلَيْهِ، وتَماسَكا، فَرُبَّما كانَ شَيْطانُ الإنْسِ أقْوى مِنهُ، فَقَهَرَهُ، ومَنَعَهُ عَنِ الوُصُولِ إلى المَسْجِدِ، حَتّى فاتَتْهُ الصَّلاةُ، ورُبَّما كانَ الرَّجُلُ أقْوى مِن شَيْطانِ الإنْسِ، ولَكِنِ اشْتَغَلَ بِمُهاوَشَتِهِ عَنِ الصَّفِّ الأوَّلِ، وكَمالِ إدْراكِ الجَماعَةِ، فَإنِ التَفَتَ إلَيْهِ أطْمَعَهُ في نَفْسِهِ، ورُبَّما فَتَرَتْ عَزِيمَتُهُ، فَإنْ كانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ وعِلْمٌ زادَ في السَّعْيِ والجَمْزِ بِقَدْرِ التِفاتِهِ أوْ أكْثَرَ، فَإنْ أعْرَضَ عَنْهُ واشْتَغَلَ لِما هو بِصَدَدِهِ، وخافَ فَوْتَ الصَّلاةِ أوِ الوَقْتِ لَمْ يَبْلُغْ عَدُوُّهُ مِنهُ ما شاءَ.
المَثَلُ الثّانِي: الظَّبْيُ أشَدُّ سَعْيًا مِنَ الكَلْبِ، ولَكِنَّهُ إذا أحَسَّ بِهِ التَفَتَ إلَيْهِ فَيَضْعُفُ سَعْيُهُ، فَيُدْرِكُهُ الكَلْبُ فَيَأْخُذُهُ.
والقَصْدُ: أنَّ في ذِكْرِ هَذا الرَّفِيقِ ما يُزِيلُ وحْشَةَ التَّفَرُّدِ، ويَحُثُّ عَلى السَّيْرِ والتَّشْمِيرِ لِلَّحاقِ بِهِمْ.
وَهَذِهِ إحْدى الفَوائِدِ في دُعاءِ القُنُوتِ " «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَن هَدَيْتَ» " أيْ أدْخِلْنِي في هَذِهِ الزُّمْرَةِ، واجْعَلْنِي رَفِيقًا لَهم ومَعَهم.
والفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَوَسُّلٌ إلى اللَّهِ بِنِعَمِهِ وإحْسانِهِ إلى مَن أنْعَمَ عَلَيْهِ بِالهِدايَةِ أيْ قَدْ أنْعَمْتَ بِالهِدايَةِ عَلى مَن هَدَيْتَ، وكانَ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنكَ، فاجْعَلْ لِي نَصِيبًا مِن هَذِهِ النِّعْمَةِ، واجْعَلْنِي واحِدًا مِن هَؤُلاءِ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ، فَهو تَوَسُّلٌ إلى اللَّهِ بِإحْسانِهِ.
والفائِدَةُ الثّالِثَةُ: كَما يَقُولُ السّائِلُ لِلْكَرِيمِ: تَصَدَّقْ عَلَيَّ في جُمْلَةِ مَن تَصَدَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وعَلِّمْنِي في جُمْلَةِ مَن عَلَّمْتَهُ، وأحْسِنْ إلَيَّ في جُمْلَةِ مَن شَمِلْتَهُ بِإحْسانِكَ.
* [فصل: صِحَّةُ الفَهْمِ نِعْمَةٌ]
صِحَّةُ الفَهْمِ وحُسْنُ القَصْدِ مِن أعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلى عَبْدِهِ، بَلْ ما أُعْطِيَ عَبْدٌ عَطاءً بَعْدَ الإسْلامِ أفْضَلُ ولا أجَلُّ مِنهُما، بَلْ هُما ساقا الإسْلامِ، وقِيامُهُ عَلَيْهِما، وبِهِما يَأْمَنُ العَبْدُ طَرِيقَ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ فَسَدَ قَصْدُهم وطَرِيقُ الضّالِّينَ الَّذِينَ فَسَدَتْ فُهُومُهُمْ، ويَصِيرُ مِن المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ حَسُنَتْ أفْهامُهم وقُصُودُهُمْ، وهم أهْلُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ الَّذِينَ أُمِرْنا أنْ نَسْألَ اللَّهَ أنْ يَهْدِيَنا صِراطَهم في كُلِّ صَلاةٍ، وصِحَّةُ الفَهْمِ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ في قَلْبِ العَبْدِ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ والفاسِدِ، والحَقِّ والباطِلِ، والهُدى والضَّلالِ، والغَيِّ والرَّشادِ، ويَمُدُّهُ حُسْنَ القَصْدِ، وتَحَرِّي الحَقَّ، وتَقْوى الرَّبِّ في السِّرِّ والعَلانِيَةِ، ويَقْطَعُ مادَّتُهُ اتِّباعَ الهَوى، وإيثارَ الدُّنْيا، وطَلَبَ مَحْمَدَةِ الخَلْقِ، وتَرْكَ التَّقْوى.
* [فَصْلٌ: في بَيانِ تَضَمُّنِ الفاتحة لِلرَّدِّ عَلى الرّافِضَةِ]
وَذَلِكَ مِن قَوْلِهِ ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ إلى آخِرِها.
وَوَجْهُ تَضَمُّنِهِ إبْطالَ قَوْلِهِمْ: أنَّهُ سُبْحانَهُ قَسَّمَ النّاسَ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: مُنْعَمٌ عَلَيْهِمْ وهم أهْلُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، الَّذِينَ عَرَفُوا الحَقَّ واتَّبَعُوهُ، ومَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ
وَهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوا الحَقَّ ورَفَضُوهُ، وضالُّونَ وهُمُ الَّذِينَ جَهِلُوهُ فَأخْطَئُوهُ.
فَكُلُّ مَن كانَ أعْرَفَ لِلْحَقِّ، وأتْبَعَ لَهُ كانَ أوْلى بِالصِّراطِ المُسْتَقِيمِ.
وَلا رَيْبَ أنَّ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ورَضِيَ اللَّهُ عَنْهم هم أوْلى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ الرَّوافِضِ، فَإنَّهُ مِنَ المُحالِ أنْ يَكُونَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ورَضِيَ اللَّهُ عَنْهم جَهِلُوا الحَقَّ وعَرَفَهُ الرَّوافِضُ، أوْ رَفَضُوهُ وتَمَسَّكَ بِهِ الرَّوافِضُ.
ثُمَّ إنّا رَأيْنا آثارَ الفَرِيقَيْنِ تَدُلُّ عَلى أهْلِ الحَقِّ مِنهُما، فَرَأيْنا أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَتَحُوا بِلادَ الكُفْرِ، وقَلَبُوها بِلادَ إسْلامٍ، وفَتَحُوا القُلُوبَ بِالقُرْآنِ والعِلْمِ والهُدى، فَآثارُهم تَدُلُّ عَلى أنَّهم هم أهْلُ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، ورَأيْنا الرّافِضَةَ بِالعَكْسِ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، فَإنَّهُ قَطٌّ ما قامَ لِلْمُسْلِمِينَ عَدُوٌّ مِن غَيْرِهِمْ إلّا كانُوا أعْوانَهم عَلى الإسْلامِ، وكَمْ جَرُّوا عَلى الإسْلامِ وأهْلِهِ مِن بَلِيَّةٍ؟ وهَلْ عاثَتْ سُيُوفُ المُشْرِكِينَ عُبّادِ الأصْنامِ مِن عَسْكَرِ هُولاكُو وذَوِيهِ مِنَ التَّتارِ إلّا مِن تَحْتِ رُءُوسِهِمْ؟ وهَلْ عُطِّلَتِ المَساجِدُ، وحُرِّقَتِ المَصاحِفُ، وقُتِلَ سَرَواتُ المُسْلِمِينَ وعُلَماؤُهم وعُبّادُهم وخَلِيفَتُهُمْ، إلّا بِسَبَبِهِمْ ومِن جَرّائِهِمْ؟ ومُظاهَرَتُهم لِلْمُشْرِكِينَ والنَّصارى مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الخاصَّةِ والعامَّةِ، وآثارُهم في الدِّينِ مَعْلُومَةٌ.
فَأيُّ الفَرِيقَيْنِ أحَقُّ بِالصِّراطِ المُسْتَقِيمِ؟ وأيُّهم أحَقُّ بِالغَضَبِ والضَّلالِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ ولِهَذا فَسَّرَ السَّلَفُ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ وأهْلَهُ: بِأبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، وأصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ورَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وهو كَما فَسَّرُوهُ، فَإنَّهُ صِراطُهُمُ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ، وهو عَيْنُ صِراطِ نَبِيِّهِمْ، وهُمُ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وغَضِبَ عَلى أعْدائِهِمْ، وحُكِمَ لِأعْدائِهِمْ بِالضَّلالِ، وقالَ أبُو العالِيَةِ رَفِيعٌ الرِّياحِيُّ والحَسَنُ البَصْرِيُّ، وهُما مِن أجَلِّ التّابِعِينَ
" الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وصاحِباهُ "
وَقالَ أبُو العالِيَةِ أيْضًا في قَوْلِهِ " ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ هم آلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ "
وَهَذا حَقٌّ، فَإنَّ آلَهُ وأبا بَكْرٍ وعُمَرَ عَلى طَرِيقٍ واحِدَةٍ، ولا خِلافَ بَيْنَهُمْ، ومُوالاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وثَناؤُهم عَلَيْهِما، ومُحارَبَةُ مَن حارَبا، ومُسالَمَةُ مَن سالَما مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الأُمَّةِ خاصِّها وعامِّها، وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ.
وَلا رَيْبَ أنَّ المُنْعَمَ عَلَيْهِمْ هم أتْباعُهُ، والمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمُ الخارِجُونَ عَنِ اتِّباعِهِ، وأتْبَعُ الأُمَّةِ لَهُ وأطْوَعَهم أصْحابُهُ وأهْلُ بَيْتِهِ، وأتْبَعُ الصَّحابَةِ لَهُ السَّمْعُ والبَصَرُ، أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ، وأشَدُّ الأُمَّةِ مُخالَفَةً لَهُ هُمُ الرّافِضَةُ، فَخِلافُهم لَهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ فِرَقِ الأُمَّةِ، ولِهَذا يُبْغِضُونَ السُّنَّةَ وأهْلَها، ويُعادُونَها ويُعادُونَ أهْلَها، فَهم أعْداءُ سُنَّتِهِ ﷺ، وأهْلِ بَيْتِهِ وأتْباعُهُ مِن بَنِيهِمْ أكْمَلُ مِيراثًا؟ بَلْ هم ورَثَتُهُ حَقًّا.
فَقَدْ تَبَيَّنَ أنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ طَرِيقُ أصْحابِهِ وأتْباعِهِ، وطَرِيقُ أهْلِ الغَضَبِ والضَّلالِ طَرِيقُ الرّافِضَةِ.
وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ بِعَيْنِها يُرَدُّ عَلى الخَوارِجِ، فَإنَّ مُعاداتَهُمُ الصَّحابَةَ مَعْرُوفَةٌ.
* (فصل نفيس)
حكى الأستاذ أبو القاسم الرماني رواية عن يونس: أنه حكى الإعمال في ﴿لكنْ﴾ مع تخفيفها وكان يستغرب هذه الرواية.
واعلم أن ﴿لكنْ﴾ لا تكون حرف عطف مع دخول الواو عليها لأنه لا يجتمع حرفان من حروف العطف فمتى رأيت حرفا من حروف العطف مع الواو فالواو هي العاطفة دونه، فمن ذلك (إما) إذا قلت: إما زيد وإما عمرو، وكذلك (لا) إذا قلت: ما قام زيد ولا عمرو ودخلت ﴿لا﴾ لتوكيد النفي ولئلا يتوهم أن الواو جامعة وأنك نفيت قيامهما في وقت واحد ولا تكون ﴿لا﴾ عاطفة إلا بعد إيجاب وشرط آخر وهو أن يكون الكلام قبلها يتضمن بمفهوم الخطاب نفي الفعل عما بعدها كقولك: جاءني رجل لا امرأة، ورجل عالم لا رجل جاهل.
ولو قلت مررت برجل لا زيد. لم يجز وكذلك: مررت برجل لا عاقل. لأنه ليس في مفهوم الكلام ما ينفي الفعل عن الثاني وهي لا تدخل إلا لتوكيد نفي فإن أردت ذلك المعنى جئت بلفظ (غير) فتقول مررت برجل غير زيد ورجل غير عالم.
ولا تقول برجل غير امرأة، ولا بطويل غير قصير لأن في مفهوم الخطاب ما يغنيك عن مفهوم النفي الذي في غير، وذلك المعنى الذي دل عليه المفهوم حتى قلت بطويل لا قصير.
وأما إذا كانا اسمين معرفين نحو مررت بزيد لا عمرو فجائز هنا دخول غير لجمود الاسم العلم فإنه ليس له مفهوم خطاب عند الأصوليين بخلاف الأسماء المشتقة وما جرى مجراها كرجل فإنه بمنزلة قولك ذَكَر.
ولذلك دل بمفهومه على انتقال الخبر عن المرأة ويجوز أيضا مررت بزيد لا عمرو لأنه اسم مخصوص بشخص وكأنه حين خصصته بالذكر نفيت المرور عن عمرو ثم أكدت ذلك النفي بـ لا وأما الكلام المنفي فلا يعطف عليه بـ لا لأن نفيك الفعل عن زيد إذا قلت ما قام زيد لا يفهم منه نفيه عن عمرو فيؤكد بـ لا.
فإن قلت أكد بها النفي المتقدم قيل لك وأي شيء يكون حينئذ إعراب عمرو وهو اسم مفرد ولم يدخل عليه عاطف يعطف على ما قبله فهذا لا يجوز إلا أن تجعله مبتدأ وتأتي بخبر فتقول ما قام زيد ولا عمرو وهو القائم.
أما إن أردت تشريكهما في النفي فلا بد من الواو إما وحدها وإما مع ﴿لا﴾ فلا تكون الواو عاطفة ومعها ﴿لا﴾
وأما قوله: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ فإن معنى النفي موجود في غير.
فإن قيل: فهلا قال: ﴿لا المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾؟
قيل في ذكر غير بيان للفضلة للذين أنعم عليهم وتحصيله لنفي صفة الضلال والغضب عنهم وأنهم الذين أنعم عليهم بالنبوة والهدى دون غيرهم ولو قال لا المغضوب عليهم ولا الضالين لم يكن في ذلك إلا تأكيد نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما تقول هذا غلام زيد لا عمرو أكدت نفي الإضافة عن عمرو بخلاف قولك هذا غلام الفقيه غير الفاسق ولا الخبيث وكأنك جمعت بين إضافة الغلام إلى الفقيه دون غيره وهي نفي الصفة المذمومة عن الفقيه فافهمه.
فإن قيل: وأي شيء أكدت ﴿لا﴾ حتى أدخلت عليها الواو وقد قلت إنها لا تؤكد المنفي المتقدم وإنما تؤكد نصبا يدل عليه اختصاص الفعل الواجب بوصف ما كقولك جاءني رجل عالم لا جاهل؟
فالجواب أنك حين قلت ما جاءني زيد لم يدل الكلام على نفي المجيء عن عمرو كما تقدم فلما عطفت بالواو دل الكلام على انتفاء الفعل عن عمرو كما انتفى عن الأول لقيام الواو مقام تكرار حرف النفي فدخلت ﴿لا﴾ لتوكيد النفي عن الثاني.
(فائدة بديعة)
قوله تعالى: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾
فيها عشرون مسألة:
أحدها: ما فائدة البدل في الدعاء والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان والبدل القصد به بيان الاسم الأول
الثانية: ما فائدة تعريف ﴿الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ باللام وهلا أخبر عنه بمجرد اللفظ دونها كما قال: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؟
الثالثة: ما معنى ﴿الصِّراطَ﴾ ومن أي شيء اشتقاقه ولم جاء على وزن فعال ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن الكريم بهذا اللفظ، وفي سورة الأحقاف ذكر بلفظ الطريق فقال: ﴿يَهْدِي إلى الحَقِّ وإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؟
الرابعة: ما الحكمة في إضافته إلى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ بهذا اللفظ ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول صراط النبيين والصديقين فلم عدل إلى لفظ المبهم دون المفسر؟
الخامسة: ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ الذي مع صلتها دون أن يقال المنعم عليهم وهو أخصر كما قال: ﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ وما الفرق؟
السادسة: لم فرق بين المنعم عليهم والمغضوب عليهم فقال في أهل النعمة الذين أنعمت وفي أهل الغضب المغضوب بحذف الفاعل؟
السابعة: لم قال: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ فعدى الفعل بنفسه ولم يعده بـ ﴿إلى﴾ كما قال تعالى: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقال تعالى: ﴿واجْتَبَيْناهم وهَدَيْناهم إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؟ الثامنة: أن قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ يقتضي أن نعمته مختصة بالأولين دون المغضوب عليهم ولا الضالين وهذا حجة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر فهل هذا استدلال صحيح أم لا؟
التاسعة: أن يقال لم وصفهم بلفظ غير وهلا قال تعالى لا المغضوب عليهم كما قال والضالين وهذا كما تقول مررت بزيد لا عمرو وبالعاقل لا الأحمق؟
العاشرة: كيف جرت غير صفة على الموصوف وهي لا تتعرف بالإضافة وليس المحل محل عطف بيان إذ بابه الإعلام ولا محل لذلك إذ المقصود في باب البدل هو الثاني والأول توطئة وفي باب الصفات المقصود الأول والثاني بيان وهذا شأن هذا الموضع فإن المقصود ذكر المنعم عليهم ووصفهم بمغايرتهم معنى الغضب والضلال؟
الحادية عشرة: إذا ثبت ذلك في البدل فالصراط المستقيم مقصود الإخبار عنه بذلك وليس في نية الطرح فكيف جاء صراط الذين أنعمت عليهم بدلا منه وما فائدة البدل هنا؟
الثانية عشرة: أنه قد ثبت في الحديث الذي رواه الترمذي والإمام أحمد وابن أبي حاتم: "تفسير المغضوب عليهم بأنهم اليهود والنصارى بأنهم الضالون" حسن فما وجه هذا التقسيم والاختصاص وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه؟ الثالثة عشرة: لم قدم المغضوب عليهم في اللفظ على الضالين؟
الرابعة عشرة: لم أتى في أهل الغضب بصيغة مفعول المأخوذة من فعل ولم يأت في أهل الضلال بذلك فيقال المضلين بل أتى فيهم بصيغة فاعل المأخوذة من فعل؟
الخامسة عشرة: ما فائدة العطف بـ ﴿لا﴾ هنا ولو قيل: المغضوب عليهم والضالين لم يختل الكلام وكان أوجز؟
السادسة عشرة: إذ قد عطف بها فيأتي العطف بها مع الواو للمنفى نحو ما قام زيد ولا عمرو وكقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ ولا عَلى المَرْضى ولا عَلى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَلا عَلى الَّذِينَ إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ﴾ وأما بدون الواو فبابها الإيجاب نحو مررت بزيد لا عمرو؟
السابعة عشرة: هل الهداية هنا هداية التعريف والبيان أو هداية التوفيق والإلهام؟
الثامنة عشرة: كل مؤمن مأمور بهذا الدعاء أمرا لازما لا يقوم غيره مقامه ولا بد منه وهذا إنما نسأله في الصلاة بعد هدايته فما وجه السؤال لأمر حاصل وكيف يطلب تحصيل الحاصل؟
التاسعة عشرة: ما فائدة الإتيان بضمير الجمع في (اهدنا) والداعي يسأل ربه لنفسه في الصلاة وخارجها ولا يليق به ضمير الجمع ولهذا يقول: "رب اغفر لي وارحمني وتب عليَّ"؟
العشرون: ما حقيقة ﴿الصراط المستقيم﴾ الذي يتصوره العبد وقت سؤاله؟
فهذه أربع مسائل حقها أن تقدم أولا ولكن جر الكلام إليها بعد ترتيب المسائل الست عشرة.
الجواب بعون الله وتعليمه: أنه لا علم لأحد من عباده إلا ما علمه ولا قوة له إلا بإعانته.
(فائدة البدل في الدعاء)
لقد وردت الآية في معرض التعليم للعباد والدعاء حق الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به إذ الدعاء مخ العبادة والمخ لا يكون إلا في عظم والعظم في لحم ودم فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء وجب أن يكون الطلب ممزوجا بالثناء فمن ثم جاء لفظ الطلب للهداية والرغبة فيها مشوبا بالخير تصريحا من الداعي بمعتقده وتوسلا منه بذلك الاعتقاد الصحيح إلى ربه فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده أن صراط الحق هو الصراط المستقيم وأنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته فإذا قال: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا والداعي يجب عليهم اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه فلذلك أبدل وبين لهم ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبار بفائدتين جليلتين إحداهما فائدة الخبر والفائدة الثانية فائدة لازم الخبر فأما فائدة الخبر فهي الإخبار عنه بالاستقامة وأنه الصراط المستقيم الذي نصبه لأهل نعمته وكرامته.
وأما فائدة لازم الخبر فإقرار الداعي بذلك وتصديقه وتوسله بهذا الإقرار إلى ربه فهذه أربع فوائد الدعاء بالهداية إليه والخبر عنه بذلك والإقرار والتصديق لشأنه والتوسل إلى المدعو إليه بهذا التصديق وفيه فائدة خامسة وهي أن الداعي إنما أمر بذلك لحاجته إليه وأن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبير ما يطلب وتصور معناه فذكر له من أوصافه ما إذا تصور في خلده وقام بقلبه كان أشد طلبا له وأعظم رغبة فيه وأحرص على دوام الطلب والسؤال له فتأمل هذه النكت البديعة.
* (فصل)
وأما المسألة الثانية وهي تعريف (الصراط) باللام.
اعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره ألا ترى أن قولك جالس فقيها أو عالما ليس كقولك جالس الفقيه أو العالم ولا قولك أكلت طيبا كقولك أكلت الطيب ألا ترى إلى قوله ﷺ: "أنت الحق ووعدك الحق
وقولك الحق" ثم قال: ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق " رواه البخاري ومسلم فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه فإذا عرفت هذا فلو قال اهدنا صراطا مستقيما لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراط ما مستقيم على الإطلاق وليس المراد ذلك بل المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله تعالى لأهل نعمته وجعله طريقا إلى رضوانه وجنته وهو دينه الذي لا دين له سواه فالمطلوب أمر معين في الخارج والذهن لا شيء مطلق منكر واللام هنا للعهد العلمي الذهني وهو أنه طلب الهداية إلى سر معهود قد قام في القلوب معرفته والتصديق به وتميزه عن سائر طرق الضلال فلم يكن بد من التعريف.
فإن قيل: لم جاء منكرا في قوله لنبيه ﷺ: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿واجْتَبَيْناهم وهَدَيْناهم إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿قُلْ إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؟
فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد وهو أنها ليست في مقام الدعاء والطلب وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم وهداية رسوله إليه ولم يكن للمخاطبين عهد به ولم يكن معروفا لهم فلم يجئ معرفا بلام العهد المشيرة إلى معروف في ذهن المخاطب قائم في خلده ولا تقدمه في اللفظ معهود تكون اللام معروفة إليه وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين أعني أن يكون لها معهود ذهني أو ذكر لفظي وإذ لا واحد منهما في هذه المواضع فالتنكير هو الأصل وهذا بخلاف قوله اهدنا الصراط المستقيم فإنه لما تقرر عند المخاطبين أن لله صراطا مستقيما هدي إليه أنبياءه ورسله وكان المخاطب سبحانه المسئول من هدايته عالما به دخلت اللام عليه فقال: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ وقال السهيلي: إن قوله تعالى: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ نزلت في صلح الحديبية وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه وكان الله تعالى عما يقولون ورسوله ﷺ أعلم فأنزل الله على رسوله ﷺ هذه الآية فلم يرد صراطا مستقيما
في الدين وإنما أراد صراطا في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم ولو قال في هذا الموطن إلى الصراط المستقيم لجعل للكفر وللضلال حظا من الإستقامة إذ الألف واللام تنبيء أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصلة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر أو ما قرب به في الوهم ولا يكون أحق به إلا أن يكون في الآخر طرف منه وغير خاف ما في هذين الجوابين من الضعف والوهن
أما قوله أن المراد بقوله: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾
في الحرب والمكيدة فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتن الله به على رسول ﷺ وأخبر النبي ﷺ أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا وما فيها ومتى سمى الله الحرب والمكيدة صراطا مستقيما وهل فسر هذه الآية أحد من السلف أو الخلف بذلك؟ بل الصراط المستقيم ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمره أن يخبر بأن الله تعالى هداه إليه في قوله: ﴿قُلْ إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ثم فسره بقوله تعالى: ﴿دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ونصب (دينا) هنا على البدل من الجار والمجرور أي هداني دينا قيما أفتراه يمكنه هاهنا أن يقول إن الحرب والمكيدة فهذا جواب فاسد جدا.
وتأمل: ما جمع الله سبحانه لرسوله في آية الفتح من أنواع العطايا وذلك خمسة أشياء أحدها: الفتح المبين
والثاني: مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر
والثالث: هدايته الصراط المستقيم
والرابع: إتمام نعمته عليه
والخامس: إعطاء النصر العزيز، وجمع سبحانه له بين الهدى والنصر لأن هذين الأصلين بهما كمال السعادة والفلاح فإن الهدى هو العلم بالله تعالى ودينه والعمل بمرضاته وطاعته فهو العلم النافع والعمل الصالح والنصر والقدرة التامة على تنفيذ دينه فالحجة والبيان والسيف والسنان فهو النصر بالحجة واليد وقهر القلوب المخالفين له بالحجة وقهر أبدانهم باليد وهو سبحانه كثيرا ما يجمع بين هذين الأصلين إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ﴾
في موضعين في سورة براءة وفي سورة الصف وقال تعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ فهذا الهدى
ثم قال: ﴿وَأنْزَلْنا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ فهذا النصر فذكر الكتاب الهادي والحديد الناصر
وقال تعالى: ﴿ألم اللَّهُ لا إلَهَ إلاّ هو الحَيُّ القَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وأنْزَلَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وأنْزَلَ الفُرْقانَ﴾ فذكر إنزال الكتاب الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحق والباطل وسر اقتران النصر بالهدى أن كلا منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقانا كما قال تعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وما أنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ﴾
فذكر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان وهو يوم بدر وهو اليوم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم ومن هذا قوله تعالى: ﴿ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين﴾ فالفرقان نصره له على فرعون وقومه والضياء والذكر التوراة هذا هو معنى الآية ولم يصب من قال: إن الواو زائدة وإن ضياء منصوب على الحال كما بينا فساده في "الأمالي المكية" فبين أن آية الفتح تضمنت الأصلين الهدى والنصر وأنه لا يصح فيها غير ذلك ألبتة.
وأما جوابه الثاني عن قوله: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ بأنه لو عرف لجعل للكفر والضلال حظا من الاستقامة فما أدري من أين جاء له هذا الفهم مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع رحمه الله تعالى وما هي إلا كبوة جواد ونبوة صارم أفترى قوله تعالى: ﴿وَآتَيْناهُما الكِتابَ المُسْتَبِينَ وهَدَيْناهُما الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ يفهم منه أن لغيره حظا من الاستقامة وما ثم غيره إلا طرق الضلال وإنما الصراط المستقيم واحد وهو ما هدى الله تعالى إليه أنبياءه ورسله أجمعين وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال إنه يفهم منه أن لغيره حظا من الاستقامة؟
بل يقال تعريفه ينبئ أن لا يكون لغيره حظ من الاستقامة فإن فإن التعريف في قوة الحصر فكأنه قيل الذي لا صراط مستقيم سواه وفهم هذا الاختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة فتأمله. هنا وفي نظائره.
* (فصل)
وأما المسألة الثالثة: وهي اشتقاق الصراط
فالمشهور أنه من صرطت الشيء أصرطه إذا بلعته بلعا سهلا فسمي الطريق صراطا لأنه يسترط المارة فيه والصراط ما جمع خمسة أوصاف أن يكون طريقا مستقيما سهلا مسلوكا واسعا موصلا إلى المقصود فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطا ولا الصعب المشتق ولا المسدود غير الموصول ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال جرير:
؎أمير المؤمنين على صراط ∗∗∗ إذا أعوج الموارد مستقيم
وبنوا الصراط على زنة فعال لأنه مشتمل على سالكه اشتمال الحلق على الشيء المسروط وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء والغطاء والفراش والكتاب إلى سائر الباب يأتي لثلاثة معان أحدها: المصدر كالقتال والضراب والثاني: المفعول نحو الكتاب والبناء والغراس والثالث: أنه يقصد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها كالخمار والغطاء والسداد لما يخمر به ويغطى ويسد به فهذا آلة محضة والمفعول هو الشيء المخمر والمغطى والمسدود ومن هذا القسم الثالث إله بمعنى مألوه وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم: ﴿إنّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الحَقِّ وإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وتعبيرهم عنه هاهنا بالطريق فيه نكتة بديعة وهي أنهم قدموا قبله ذكر موسى وأن الكتاب الذي سمعوه مصدقا لما بين يديه من كتاب موسى وغيره فكان فيه كالنبأ عن رسول الله ﷺ في قوله لقومه: ﴿ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ أي لم أكن أول رسول بعث إلى أهل الأرض بل قد تقدمت رسل من الله إلى الأمم وإنما بعثت مصدقا لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان فقال مؤمنوا الجن: ﴿إنّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الحَقِّ وإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي إلى سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله وإنه ليس بدع كما قال في أول السورة نفسها فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ الطريق لأنه فعيل بمعنى مفعول أي مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه فذكر الطريق هاهنا إذا أولى لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين أتباعه والله أعلم ثم رأيت هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي فوافق فيه الخاطر الخاطر.
* (فصل)
وأما المسألة الرابعة: وهي إضافته إلى الموصول المبهم دون أن يقول صراط النبيين والمرسلين
ففيه ثلاث فوائد: إحداها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا فإن استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط فبه صاروا من أهل النعمة وهذا كما يعلق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد لما فيه من الإنعام باستحقاق ما علق عليها من الحكم بها وهذا كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً فَلَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ وهذا الباب مطرد فالإتيان بالاسم موصولا على هذا المعنى من ذكر الاسم الخاص الفائدة الثانية: إشارة إلى أن نفي التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هدى إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه فالسائل مستشعر سؤاله الهداية وطلب الإنعام من الله عليه والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه والثاني يتضمن الطلب والإرادة وأن تكون منه الفائدة الثالثة: أن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة أن المسئول الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا أجل مطلوب وأعظم مسئول ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيرا وقرنه بأنفاسه فإنه لم يدع شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضا متكررا في اليوم والليلة لا يقوم غيره مقامه ومن ثم يعلم تعين الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها.
* (فصل)
وأما المسألة الخامسة وهي أنه قال: ﴿الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ولم يقل المنعم عليهم كما قال المغضوب عليهم فجوابها وجواب المسألة السادسة واحد وفيه فوائد عديدة إحداها أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبني الفعل معها للمفعول فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال: ﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ وقال في الإحسان ﴿الذين أنعمت عليهم﴾ ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء إلى ذكر المرض قال وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وقال فهو يشفين ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: ﴿وَأنّا لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا﴾ فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة: ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ فأضاف العيب إلى نفسه وقال في الغلامين: ﴿فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما﴾ ومنه قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ فحذف الفاعل وبناه للمفعول وقال: ﴿وَأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا﴾ لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل ومنه: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ﴾ وقوله: ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم ألاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ إلى آخرها ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكم وبَناتُكم وأخَواتُكُمْ﴾ إلى آخرها ثم قال: ﴿وَأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ وتأمل قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ﴾
الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر وكان في قوله: ﴿أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكم واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ﴾
الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال أنعمت عليهم أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه وهذا حقيقة العبودية واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم فحذف فاعل الغضب وقال المغضوب عليهم لما كان للمؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإن لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى فإن قولك: الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضربوا فتأمل ذلك فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدم.
* (فصل)
المسألة السابعة: وهي تعدية الفعل هنا بنفسه دون حرف (إلى)
فجوابها أن فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة وبحرف إلى تارة وباللام تارة والثلاثة في القرآن فمن المعدى بنفسه هذه الآية وقوله: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ ومن المعدى بـ إلى قوله: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وقوله تعالى: ﴿قُلْ إنَّنِي هَدانِي رَبِّي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ومن المعدى باللام قوله في قول أهل الجنة: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا﴾ وقوله تعالى: ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ والفروق لهذه المواضع تدق جدا عن أفهام العلماء ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق وهي أن الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن لا يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق نحو: رغبت عنه ورغبت فيه وعدلت إليه وعدلت عنه وملت إليه وعنه وسعيت إليه وسعيت به وأن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق نحو قصدت إليه وقصدت له وهديته إلى كذا وهديته لكذا وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن وهذا نحو قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ﴾ فإنهم يضمنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها فيكون في ذلك دليل على الفعلين أحدهما: بالتصريح به والثاني: بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الاختصار وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها ومنه قوله في السحاب شربن بماء البحر حتى روين ثم ترفعن وصعدن وهذا أحسن من أن يقال يشرب منها فإنه لا دلالة فيه على الري وأن يقال يروى بها لأنه لا يدل على الشرب بصريحه بل باللزوم فإذا قال يشرب بها دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء فتأمله.
ومن هذا قوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ﴾ وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضمن معنى يهم فيه بكذا وهو أبلغ من الإرادة فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه.
ويكفي المثالان المذكوران فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي بـ إلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الاختصاص والتعيين فإذا قلت هديته لكذا فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعرف والبيان والإلهام فالقائل إذا قال: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ هو طالب من الله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجردا معدي بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها ولو عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف فتأمله: فإنه من دقائق اللغة وأسرارها.
* (فصل)
وأما المسألة الثامنة: وهي أنه خص أهل السعادة بالهداية دون غيرهم
فهذه مسألة اختلف الناس فيها وطال الحجاج من الطرفين وهي أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا؟
فمن ناف محتج بهذه وبقوله: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾
فخص هؤلاء بالإنعام فدل على أن غيرهم غير منعم عليه، وبقوله لعباده المؤمنين ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ وبأن الإنعام ينافي الانتقام والعقوبة، فأي نعمة على من خلق للعذاب الأبدي؟
ومن مثبت محتج بقوله ﴿وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ وقوله لليهود: ﴿يا بَنِي إسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ وهذا خطاب لهم في حال كفرهم، وبقوله في سورة النحل التي عدد فيها نعمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكم لَعَلَّكم تُسْلِمُونَ (٨١) فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وأكْثَرُهُمُ الكافِرُونَ (٨٣)﴾
وهذا نص صريح لا يحتمل صرفا.
واحتجوا بأن البر والفاجر والمؤمن والكافر كلهم يعيش في نعمة الله، وكل أحد مقر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته، وهذا معلوم بالاضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابر وجحد حق الله تعالى وكفر بنعمته.
وفصل الخطاب في المسألة أن النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم، ومطلق النعمة عام للخليقة كلهم برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فالنعمة المطلقة التامة هي المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم، فهذه غير مشتركة.
ومطلق النعمة عام مشترك فإذا أراد النافي سلب النعمة المطلقة للكافر أخطأ، وإن أراد إثبات مطلق النعمة أصاب.
وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع ويتبين أن كل واحد من الفريقين معه خطأ وصواب والله الموفق للصواب.
وأما قوله تعالى: ﴿يا بَنِي إسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم، ولهذا يعددها واحدة واحدة بأن أنجاهم من آل فرعون، وأن فرق بهم البحر، وأن وعد موسى أربعين ليلة، فضلوا بعده، ثم تاب عليهم وعفا عنهم، وبأن ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، إلى غير ذلك من نعمه التي يعددها عليهم، وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم فأمرهم أن يذكروها ليدعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله، والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته وكانت نعمته على آبائهم نعمة منه عليهم تستدعي منهم شكرا، فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي وتكذيبكم له ومعاداتكم إياه، وهذا لا يدل على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم والله أعلم.
* (فصل)
المسألة التاسعة: وهي أنه قال ﴿غير المغضوب﴾ ولم يقل لا المغضوب عليهم
فيقال لا ريب أن "لا" يعطف بها بعد الإيجاب كما تقول جاءني زيد لا عمرو وجاءني العالم لا الجاهل وأما غير فهي تابع لما قبلها وهي صفة ليس إلا كما سيأتي وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف فتقول لو أخرج الكلام مخرج العطف وقيل: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ لا المغضوب عليهم لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما هو مقتضى العطف فإنك إذا قلت: جاءني العالم لا الجاهل لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم وأما الإتيان بلفظ غير فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين أحدهما أنهم منعم عليهم والثاني: أنهم غير مغضوب عليهم فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم فإنه يتضمن صفتين ثبوتية وهي كونهم منعما عليهم وصفة سلبية وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب وأنهم مغايرون لأهله ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت صفة على المنعم عليهم ولم تكن صفة منصوبة على الاستثناء لأنه يزول منها معنى الوصفية المقصود وفيها فائدة أخرى وهي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام فكأنه قيل لهم المنعم عليهم غيركم لا أنتم وقيل: للمسلمين المغضوب عليهم غيركم لا أنتم فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة فتأمله.
وتأمل كيف قال المغضوب عليهم ولا الضالين ولم يقل اليهود والنصارى مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريدا لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم ولم يكونوا منهم بسبيل لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضال فتبارك من أودع كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد.
* (فصل)
وأما المسألة العاشرة: وهي جريان ﴿غير﴾ صفة على المعرفة وهي لا تتعرف بالإضافة
ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن غير هنا بدل لا صفة وبدل النكرة من
المعرفة جائز وهذا فاسد من وجوه ثلاثة
أحدها أن باب البدل المقصود فيه الثاني والأول توطئة له ومهاد أمامه وهو المقصود بالذكر فقوله تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ المقصود هو أهل الاستطاعة خاصة وذكر الناس قبلهم توطئة وقولك أعجبني زيد علمه إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرت صاحبه توطئة لذكره وكذا قوله ﴿يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه﴾ المقصود إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر وهذا ظاهر جدا في بدل البعض وبدل الاشتمال ويراعى في بدل الكل من الكل ولهذا سمي بدلا إيذانا بأنه المقصود فقوله: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ﴾ المقصود: لنسفعا بالناصية الكاذبة الخاطئة وذكر المبدل منه توطئة لها وإذا عرف هذا فالمقصود هنا ذكر المنعم عليهم وإضافة الصراط إليهم ومن تمام هذا المقصود وتكميله الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم فجاء ذكر غير المغضوب مكملا لهذا المعنى ومتمما ومحققا لأن أصحاب الصراط المسئول هدايته هم أهل النعمة فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقق وفائدته فائدة الوصف المبين للموصوف المكمل له وهذا واضح الوجه الثاني أن البدل يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتثنيته ولهذا كان في تقدير تكرار العامل وهو المقصود بالذكر كما تقدم فهو الأول بعينه ذاتا ووصفا وإنما ذكر بوصف آخر مقصود بالذكر كقوله: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ولهذا يحسن الاقتصار عليه دون الأول ولا يكون مخلا بالكلام ألا ترى أنك لو قلت في غير القرآن لله حج البيت على من استطاع إليه السبيل لكان كاملا مستقيما لا خلل فيه ولو قلت في دعائك رب اهدني صراط من أنعمت عليه من عبادك لكان مستقيما وإذا كان كذلك فلو قدر الاقتصار على غير وما في حيزها لاختل الكلام وذهب معظم المقصود منه إذ المقصود إضافة الصراط إلى الذين أنعم الله عليهم لا إضافته إلى غير المغضوب عليهم بل أتى بلفظ غير زيادة في وصفهم والثناء عليهم فتأمله.
الوجه الثالث: أن غير لا يعقل ورودها بدلا وإنما ترد استثناء أو صفة أو حالا وسر ذلك أنها لم توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها ولهذا قلما يقال جاءني غير زيد ومررت بغير عمرو والبدل لا بدل أن يكون مستقلا بنفسه كما تبين أنه المقصود ونكتة الفرق أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلت الأول سلما ومرقاة إليه فهو موضع قصدك ومحط إرادتك وفي باب الصفة بخلاف ذلك إنما أنت قاصد الموصوف موضح له بصفته فجعل هذه النكتة معيارا على باب البدل والوصف ثم زن بها غير المغضوب عليهم هل يصح أن يكون بدلا أو وصفا الجواب الثاني أن غير هاهنا صح جريانه صفة على المعرفة لأنها موصولة والموصول مبهم غير معين ففيه رائحة من النكرة لإبهامه فإنه غير دال على معين فصلح وصفه بـ غير لقربه من النكرة وهذا جواب صاحب الكشاف.
فإن قلت: كيف صح أن يقع (غير) صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف قلت: الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه فهو كقوله:
؎ولقد أمر على اللئيم يسبني ∗∗∗ فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
ومعنى قوله: لا توقيت فيه أي لا تعيين لواحد من واحد كما تعين المعرفة بل هو مطلق في الجنس فجرى مجرى النكرة واستشهاده بالبيت معناه أن الفعل نكرة وهو يسبني وقد أوقعه صفة للئيم المعرفة باللام لكونه غير معين فهو في قوة النكرة فجاز أن ينعت بالنكرة وكأنه قال على لئيم يسبني وهذا استدلال ضعيف فإن قوله: يسبني حال منه لا وصف والعامل فيه فعل المرور المعني أمر على اللئيم سابا لي أي أمر عليه في هذه الحال فأتجاوزه ولا أحتفل بسبه الجواب الثالث: وهو الصحيح أن غير هاهنا قد تعرفت بالإضافة فأن المانع لها من تعريفها شدة إبهامها أو عمومها في كل مغاير للمذكور فلا يحصل بها تعيين ولهذا تجري صفة على النكرة فتقول رجل غيرك يقول كذا ويفعل كذا فتجري صفة للنكرة مع إضافتها إلى المعرفة ومعلوم أن هذا الإبهام يزول لوقوعها بين متضادين يذكر أحدهما ثم تضيفها إلى الثاني فيتعين بالإضافة ويزول الإبهام الذي يمنع تعريفها بالإضافة كما قال:
؎نحن بنو عمرو الهجان الأزهر ∗∗∗ النسب المعروف غير المنكر
أفلا تراه أجرى غير المنكر صفة على النسب كما أجرى عليه المعرف لأنهما صفتان معينتان فلا إبهام في غير لأن مقابلها المعروف وهو معرفة وضده المنكر متميز متعين كتعين المعرف أعني تعين الجنس وهكذا قوله صراط الذين أنعمت عليهم فالمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم فإذا كان الأول معرفة كانت غير معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم فاكتسب منه التعريف وينبغي أن تتفطن هاهنا لنكتة لطيفة في غير تكشف لك حقيقة أمرها ف أين تكون معرفة وأين تكون نكرة وهي أن غيرا هي نفس ما تكون تابعة له وضد ما هي مضافة إليه فهي واقعة على متبوعها وقوع الاسم المرادف على مرادفه فإن المعرف هو تفسير غير المنكر والمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم هذا حقيقة اللفظة فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة وإن أضيفت كما إذا قلت رجل غيرك فعل كذا وكذا وإذا كان متبوعها معرفة لم تكن إلا معرفة كما إذا قيل المحسن غير المسيء محبوب معظم عند الناس والبر غير الفاجر مهيب والعادل غير الظالم مجاب الدعوة فهذا لا تكون فيه غير إلا معرفة ومن ادعى فيها التنكير هنا غلط وقال ما لا دليل عليه إذ لا إبهام فيها بحال فتأمله.
فإن قلت: عدم تعريفها بالإضافة له سبب آخر وهي أنها بمعنى مغاير اسم فاعل من غاير كمثل بمعنى مماثل وشبه بمعنى مشابه وأسماء الفاعلين لا تعرف بالإضافة وكذا ما ناب عنها قلت اسم الفاعل إنما لا يتعرف بالإضافة إذا أضيف إلى معموله لأن الإضافة في تقدير الانفصال نحو هذا ضارب زيد غدا وليست غير بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في المفعول حتى يقال الإضافة في تقدير الانفصال بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات ألا ترى أن قولك غيرك بمنزلة قولك سواك ولا فرق بينهما والله أعلم.
* (فصل)
وأما المسألة الحادية عشرة: وهي ما فائدة إخراج الكلام في قوله: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ مخرج البدل مع أن الأول في نية الطرح؟
فالجواب: أن قولهم الأول في البدل في نية الطرح كلام لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه بل البدل نوعان نوع يكون الأول فيه في نية الطرح وهو بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال لأن المقصود هو الثاني لا الأول وقد تقدم ونوع لا ينوي فيه طرح الأول وهو بدل الكل من الكل بل يكون الثاني بمنزلة التذكير والتوكيد وتقوية النسبة مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه من الفائدة المتجددة الزائدة على الأول فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار بحصول وصف المبدل للمبدل منه فإنه لما قال: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ فكأن الذهن طلب المعرفة ما إذا كان هذا الصراط مختصا بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله فقال: ﴿صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وهذا كما إذا دللت رجلا على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها فأنت تقول هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك ثم تزيد ذلك عنده توكيدا وتقوية فتقول وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدرا زائدا على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسي والمتابعة فإذا ذكر لها من تتأسى به في سلوكها أنست واقتحمتها فتأمله.
* (فصل)
وأما المسألة الثانية عشرة: وهي ما وجه تفسير ﴿المغضوب عليهم﴾ باليهود و ﴿الضالين﴾ بالنصارى مع تلازم وصفي الغضب والضلال؟
فالجواب أن يقال هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع أما اليهود فقال تعالى في حقهم: ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم أنْ يَكْفُرُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ وفي تكرار هذا الغضب هنا أقوال أحدها: أنه غضب متكرر في مقابلة تكرر كفرهم برسول ﷺ الله والبغي عليه ومحاربته فاستحقوا بكفرهم غضبا وبالبغي والصد عنه غضبا آخر ونظيره قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهم عَذابًا فَوْقَ العَذابِ﴾ فالعذاب الأول بكفرهم والعذاب الذي زادهم إياه بصدهم الناس عن سبيله القول الثاني: أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح القول الثالث: أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح والغضب الثاني بكفرهم بمحمد ﷺ والصحيح في الآية أن التكرار هنا ليس المراد به التثنية التي تشفع الواحد بل المراد غضب بعد غضب بحسب تكرر كفرهم وإفسادهم وقتلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح وبمحمد ﷺ ومعاداتهم لرسل الله إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبا على حدته وهذا كما في قوله: ﴿فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ أي كرة بعد كرة لا مرتين فقط وقصد التعدد في قوله: ﴿فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ﴾ أظهر ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة وتحريفهم وتبديلهم يستدعي غضبا وتكذيبهم الأنبياء يستدعي غضبا آخر وقتلهم إياهم يستدعي غضبا آخر وتكذبيهم المسيح وطلبهم قتله ورميهم أمه بالبهتان العظيم يستدعي غضبا وتكذبيهم النبي ﷺ يستدعي غضبا ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبا وصدهم من أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبا فهم الأمة الغضبية أعاذنا الله من غضبه فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر وكانوا أحق بهذا الاسم والوصف من النصارى وقال تعالى في شأنهم: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وجَعَلَ مِنهُمُ القِرَدَةَ والخَنازِيرَ وعَبَدَ الطّاغُوتَ﴾ فهذا غضب مشفوع باللعنة والمسخ وهو أشد ما يكون من الغضب وقال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تَرى كَثِيرًا مِنهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهم أنْفُسُهم أنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفي العَذابِ هم خالِدُونَ﴾ وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى: ﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكم غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وأضَلُّوا كَثِيرًا وضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ فهذا خطاب للنصارى لأنه في سياق خطابه معهم بقوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ﴾ فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولا ثم أضلوا كثيرا وهم أتباعهم فهذا قبل مبعث النبي محمد ﷺ حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم فلما بعث النبي ﷺ ازدادوا ضلالا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به فتضاعف الضلال في حقهم هذا قول طائفة منهم الزمخشري وغيره وهو ضعيف فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع فوصفهم بثلاث صفات إحداها أنهم قد ضلوا من قبلهم والثانية: أضلوا أتباعهم والثالثة: أنهم ضلوا عن سواء السبيل فهذه صفات لأسلافهم الذين نهي هؤلاء عن اتباع أهوائهم فلا يصح أن يكون وصفا للموجودين في زمن النبي ﷺ لأنهم هم المنهيون أنفسهم لا المنهي عنهم فتأمله.
وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالا بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالا فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده ويعبد من لا ينبغي أن يعبده وقد يصيب مقصودا حقا لكن يضل في طريق طلبة والسبيل الموصلة إليه فالأول ضلال في الغاية والثاني ضلال في الوسيلة ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه وزعموا أن إلههم بشر يأكل ويشرب ويبكي وأنه قتل وصلب وصفع فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به وضلوا عن السبيل الموصلة إليه فلا اهتدوا إلى المطلوب ولا إلى الطريق الموصل إليه ودعوا أتباعهم إلى ذلك فضلوا عن الحق وعن طريقه وأضلوا كثيرا فكانوا أدخل في الضلال من اليهود فوصفوا بأخص الوصفين والذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق فإنهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله ﷺ كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غير عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالا محضا وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوبا عليهم ضالين ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق والبغي يمنعه من إرادته كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفا وبيانا وإرشادا وإلهاما وتوفيقا وإعانة فيعلمه ويعرفه ثم يجعله مريدا له قاصدا لاتباعه فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال كان السلف يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وهذا كما قالوا فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم وتلبيس الحق بالباطل فهذا شبهه باليهود ظاهر وأما من فسد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله ﷺ وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الإتحاد فشبهه بالنصارى ظاهر فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشبهين غاية البعد ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب.
* [فصل: تقديم ﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ والضالين﴾]
وأما المسألة الثالثة عشرة: وهو تقديم (المغضوب عليهم) على (الضالين) فلوجوه:
أحدها أنهم متقدمون عليهم بالزمان الثاني أنهم كانوا هم الذين يلون النبي ﷺ من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة والنصارى كانت ديارهم نائية عنه ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور الثالث أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم الرابع وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الازدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين فقولك الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك منعم عليه وضال فصل اسم المفعول في المغضوب واسم الفاعل في الضال.
* (فصل)
وأما المسألة الرابعة عشرة: وهي أنه أتى في أهل الغضب باسم المفعول وفي (الضالين) باسم الفاعل
فجوابهما ظاهر فإن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوب عليهم.
وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضلال واكتسبوه ولهذا استحقوا العقوبة عليه، ولا يليق أن يقال ولا المضلين مبنيا للمفعول لما في رائحته من إقامة عذرهم وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم بل فعل فيهم ولا حجة في هذا للقدرية فإنا نقول إنهم هم الذين ضلوا وإن كان الله أضلهم بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلا إلا على جهة المجاز لا الحقيقة فتضمنت الآية الرد عليهم كما تضمن قوله اهدنا الصراط المستقيم الرد على القدرية ففي الآية إبطال قول الطائفتين والشهادة لأهل الحق أنهم هم المصيبون وهم المثبتون للقدر توحيدا وخلقا والقدرة لإضافة أفعال العباد إليهم عملا وكسبا وهو متعلق الأمر والعمل كما أن الأول متعلق الخلق والقدرة فاقتضت الآية إثبات الشرع والقدر والمعاد والنبوة فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه فالمنعم عليهم رسله وأتباعهم ليس إلا وهدى أتباعهم إنما يكون على أيديهم فاقتضى إثبات النبوة بأقرب طريق وأبينهما وأدلها على عموم الحاجة وشدة الضرورة إليها وأنه لا سبيل للعبد أن يكون من المنعم عليهم إلا بهداية الله له ولا تنال هذه الهداية إلا على أيدي الرسل وأن هذه الهداية لها ثمرة وهي النعمة التامة المطلقة في دار النعيم ولخلافها ثمرة وهي الغضب المقتضي للشفاء الأبدي فتأمل كيف اشتملت هذه الآية مع وجازتها واختصارها على أهم مطالب الدين وأجلها والله الهادي إلى سواء السبيل وهو أعلم.
* (فصل)
وأما المسألة الخامسة عشرة: وهي ما فائدة زيادة (لا) بين المعطوف والمعطوف عليه
ففي ذلك أربع فوائد:
أحدها: أن ذكرها تأكيد للنفي الذي تضمنه غير فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف عليها بـ (لا) مع الواو فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين أو غير المغضوب عليهم وغير الضالين.
الفائدة الثانية: أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كل نوع بمفرده فلو لم يذكر لا وقيل: غير المغضوب عليهم والضالين أوهم أن المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين لا ما غاير كل نوع بمفرده فإذا قيل ولا الضالين كان صريحا في أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيد وعمرو فإنما نفيت القيام عنهما ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده.
الفائدة الثالثة: رفع توهم أن الضالين وصف للمغضوب عليهم وأنهما صنف واحد وصفوا بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى: ﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هم في صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ والَّذِينَ هم عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ إلى آخرها فإن هذه صفات المؤمنين ومثل قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾ ونظائره فلما دخلت (لا) علم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر وكانت لا أولى بهذا المعنى من (غير) لوجوه:
أحدها: أنها أقل حروفا
الثاني: التفادي من تكرار اللفظ
الثالث: الثقل الحاصل بالنطق بـ (غير) مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة ولا ريب أنه ثقيل على اللسان
الرابع: أن (لا) إنما يعطف بها بعد النفي فالإتيان بها مؤذن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم كما نفى عنهم الضلال و (غير) وإن أفهمت هذا فلا أدخل في النفي منها وقد عرف بهذا جواب المسألة السادسة عشرة وهي أن (لا) إنما يعطف بها في النفي.
* (فصل)
وأما المسألة السابعة عشرة: وهي أن الهداية هنا من أي أنواع الهدايات؟
فاعلم أن أنواع الهداية أربعة:
أحدها الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى: ﴿قالَ رَبُّنا الَّذِي أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره وأعطى كل عضو شكله وهيئته وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال وهذه هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره وهداية الجمال المسخر لما خلق له فله هداية تليق به كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها وكذلك كل عضو له هداية تليق به فهدى الرجلين للمشي واليدين للبطش والعمل واللسان للكلام والأذن للاستماع والعين لكشف المرئيات وكل عضو لما خلق له وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج والتناسل وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه مراتب هدايته سبحانه لا يحصيها إلا هو فتبارك الله رب العالمين.
وهدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومن الأبنية ثم تسلك سبل ربها مذللة لها لا تستعصي عليها ثم تأوي إلى بيوتها وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والائتمام به أين توجه بها ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة البناء ومن تأمل بعض هدايته المثبوتة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر وأول وهلة وأحسن طريق وأخصرها وأبعدها من كل شبهة فإنه لم يهمل هذه الحيوانات سدى ولم يتركها معطلة بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها كيف يليق به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه مهملا وسدى معطلا لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته بل يتركه معطلا لا يأمره ولا ينهاه ولا يثبه ولا يعاقبه وهل هذا إلا مناف لحكمته ونسبته له مما لا يليق بجلاله ولهذا أنكر ذلك على من زعمه ونزه نفسه عنه وبين أنه يستحيل نسبة ذلك إليه وأنه يتعالى عنه فقال تعالى: ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ﴾ فنزه نفسه عن هذا الحسبان فدل على أنه مستقر بطلانه في الفطر السليمة والعقول المستقيمة وهذا أحد ما يدل على إثبات المعاد بالعقل وأنه مما تظاهر عليه العقل والشرع وكما هو أصح الطريقين في ذلك ومن فهم هذا فهم سر اقتران قوله تعالى: ﴿وَما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلاّ أُمَمٌ أمْثالُكم ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ بقوله تعالى: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة وأن من لم يهمل أمر كل دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه بل جعلها أمما وهداها إلى غاياتها ومصالحها وكيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحكم فهذه أحد أنواع الهداية وأعمها.
النوع الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام فإنها سبب وشرط لا موجب ولهذا ينبغي الهدى معها كقوله تعالى: ﴿وَأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا ومنها قوله: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للاهتداء فلا يتخلف عنها وهي المذكورة في قوله: ﴿يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ وفي قوله: ﴿إنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهم فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلُّ﴾
وفي قول النبي ﷺ: "من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له "
رواه مسلم وأحمد والبيهقي.
وفي قوله تعالى: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ﴾ فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: ﴿وَإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
النوع الرابع: غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهم بِإيمانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهارُ في جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾
وقال أهل الجنة فيها: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا﴾ وقال تعالى عن أهل النار: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهم وما كانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾
إذا عرف هذا فالهداية المسئولة في قوله: ﴿الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة خاصة فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام طلب التعريف والبيان والتوفيق.
فإن قيل: كيف يطلب التعريف والبيان وهو حاصل له وكذلك الإلهام والتوفيق؟
قلنا: لقد أجيب عنها بأن المراد التثبيت ودوام الهداية.
واعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد ستة أمور هو محتاج إليها حاجة لا غنى له عنها الأمر الأول معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبا للرب تعالى مرضيا له فيؤثره وكونه مغضوبا له مسخوطا عليه فيجتنبه فإن نقص من هذا العلم والمعرفة شيء نقص من الهداية التامة بحسبه الأمر الثاني: أن يكون مريد الجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازما عليه ومريدا لترك جميع ما نهى الله عازما على تركه بعد خطوره بالبال مفصلا وعازما على تركه من حيث الجملة مجملا فإن نقص من إرادته لذلك شيء نقص من الهدى التام بحسب ما نقص من الإرادة الأمر الثالث أن يكون قائما به فعلا وتركا فإن نقص من فعله شيء نقص من هداه بحسبه فهذه ثلاثة هي أصول في الهداية ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها
أحدها: أمور هدي إليها جملة ولم يهتد إلى تفاصيلها فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها
الثاني: أمرو هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها لتكمل له هدايتها
الثالث: الأمور التي هدي إليها تفصيلا من جميع وجوهها فهو محتاج إلى الاستمرار إلى الهداية والدوام عليها فهذه أصول تتعلق بما يعزم على فعله وتركه الأمر السابع يتعلق بالماضي وهو أمور وقعت منه على غير جهة الاستقامة فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها وإذا كان كذلك فإنما يقال كيف يسأل الهداية وهي موجودة له ثم يجاب عن ذلك بأن المراد التثبيت والدوام عليها إذا كانت هذه المراتب حاصلة له بالفعل فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال تثبيت ودوام فأما إذا كان ما يجهله أضعاف ما يعلمه وما لا يريده من رشده أكثر مما يريده ولا سبيل له إلى فعله إلا بأن يخلق الله فاعليه فيه فالمسئول هو أصل الهداية على الدوام تعليما وتوفيقا وخلقا للإرادة فيه وإقدارا له وخلقا للفاعلية وتثبيتا له على ذلك فعلم أنه ليس أعظم ضرورة منه إلى سؤال الهداية أصلها وتفصيلها علما وعملا والتثبيت عليها والدوام إلى الممات وسر ذلك أن العبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه ويذره أصلا وتفصيلا وتثبيتا ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم وأن يثبت قلوبنا على دينه.
* (فصل)
أما المسألة التاسعة عشرة: وهي الإتيان بالضمير في قوله: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ﴾ ضمير جمع
فقد قال بعض الناس في جوابه: إن كل عضو من أعضاء العبد وكل حاسة ظاهرة وباطنة مفتقرة إلى هداية خاصة به فأتى بصيغة الجمع تنزيلا لكل عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه وعرضت هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فاستضعفه جدا وهو كما قال: "فإن الإنسان اسم للجملة لا لكل جزء من أجزائه وعضو من أعضائه" والقائل إذا قال: "اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني" سائل من الله ما يحصل لجملته ظاهره وباطنه فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألة تخصه يفرد لها لفظه فالصواب أن يقال هذا مطابق لقوله: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته فأتى به بصيغة ضمير الجمع أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك فيكون هذا أحسن وأعظم موقعا عند الملك من أن يقول أنا عبدك ومملوكك ولهذا لو قال أنا وحدي مملوكك استدعى مقته فإذا قال أنا وكل من في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك كان أعظم وأفخم لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدا وأنا واحد منهم وكلنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بك وطلب الهداية منك فقد تضمن ذلك من الثناء على الرب بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الإفراد فتأمله.
وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو: ﴿رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنا عَذابَ النّارِ﴾ ونحو دعاء آخر البقرة وآخر آل عمران وأولها وهو أكثر أدعية القرآن الكريم.
* (فصل)
المسألة العشرون: وهي ما هو (الصراط المستقيم)؟
فنذكر فيه قولا وجيزا فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصه لعباده على ألسن رسله وجعله موصلا لعباده إليه ولا طريق لهم إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة إلا هذا وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحدا في عبوديته ولا يشرك برسوله أحدا في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول وهذا معنى قول بعض العارفين: "إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبته وحسن معاملته" وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأي شيء فسر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته الأول يحصل بالتحقيق بشهادة أن لا إله إلا الله والثاني يحصل بالتحقيق بشهادة أن محمدا رسول الله وهذا هو الهادي ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل له وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها وهي معنى قول من قال علوم وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مشكاة النبوة ومعنى قول من قال: متابعة رسول الله ﷺ ظاهرا وباطنا علما وعملا ومعنى قول من قال: الإقرار لله بالوحدانية والاستقامة على أمره وأما ما عدا هذا من الأقوال كقول من قال: الصلوات الخمس وقول من قال: حب أبي بكر وعمر وقول من قال: هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع لا تفسير مطابق له بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم.
والله أعلم.
[الجَهْرِ بِـ (آمِينَ) في الصَّلاةِ]
تَرْكُ السُّنَّةِ المُحْكَمَةِ الصَّحِيحَةِ في الجَهْرِ بِآمِينَ في الصَّلاةِ كَقَوْلِهِ في الصَّحِيحَيْنِ: «إذا أمَّنَ الإمامُ فَأمِّنُوا فَإنَّهُ مَن وافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»
وَلَوْلا جَهْرُهُ بِالتَّأْمِينِ لَما أمْكَنَ المَأْمُومُ أنْ يُؤَمِّنَ مَعَهُ ويُوافِقَهُ في التَّأْمِينِ.
وَأصْرَحُ مِن هَذا حَدِيثُ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ حُجْرٌ بْنِ عَنْبَسٍ عَنْ وائِلِ بْنِ حُجْرٌ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا قالَ ولا الضّالِّينَ قالَ آمِينَ، ورَفَعَ بِها صَوْتَهُ».
وَفِي لَفْظٍ: «وَطَوَّلَ بِها»
رَواهُ التِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ، وإسْنادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَدْ خالَفَ شُعْبَةُ سُفْيانَ في هَذا الحَدِيثِ فَقالَ: «وَخَفَضَ بِها صَوْتَهُ»
وَحُكْمُ أئِمَّةِ الحَدِيثِ وحُفّاظِهِ في هَذا لِسُفْيانَ فَقالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْماعِيلَ يَقُولُ: حَدِيثُ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ في هَذا البابِ أصَحُّ مِن حَدِيثِ شُعْبَةَ، أخْطَأ شُعْبَةُ في هَذا الحَدِيثِ في مَواضِعَ، فَقالَ: " عَنْ حُجْرٌ أبِي العَنْبَسِ "
وَإنَّما كُنْيَتُهُ أبُو السَّكَنِ، وزادَ فِيهِ عَلْقَمَةُ بْنُ وائِلٍ، وإنَّما هو حُجْرٌ بْنُ عَنْبَسٍ عَنْ وائِلِ بْنِ حُجْرٌ، لَيْسَ فِيهِ عَلْقَمَةُ، وقالَ: «وَخَفَضَ بِها صَوْتَهُ»
والصَّحِيحُ أنَّهُ جَهَرَ بِها.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: وسَألْت أبا زُرْعَةَ عَنْ حَدِيثِ سُفْيانَ وشُعْبَةَ هَذا، فَقالَ: حَدِيثُ سُفْيانَ أصَحُّ مِن حَدِيثِ شُعْبَةَ، وقَدْ رَوى العَلاءُ بْنُ صالِحٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ نَحْوَ رِوايَةِ سُفْيانَ، وقالَ الدّارَقُطْنِيُّ: كَذا قالَ شُعْبَةُ: «وَأخْفى بِها صَوْتَهُ» ويُقالُ: إنّهُ وهَمَ فِيهِ؛ لِأنَّ سُفْيانَ الثَّوْرِيَّ ومُحَمَّدَ بْنَ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وغَيْرَهُما رَوَوْهُ عَنْ سَلَمَةَ فَقالُوا: «وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِآمِينَ»
وَهُوَ الصَّوابُ.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ: لا أعْلَمُ اخْتِلافًا بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ بِالحَدِيثِ أنَّ سُفْيانَ وشُعْبَةَ إذا اخْتَلَفا فالقَوْلُ قَوْلُ سُفْيانَ، وقالَ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ: لَيْسَ أحَدٌ أحَبَّ إلَيَّ مِن شُعْبَةَ، ولا يَعْدِلُهُ عِنْدِي أحَدٌ، وإذا خالَفَهُ سُفْيانُ أخَذْت بِقَوْلِ سُفْيانَ، وقالَ شُعْبَةُ: سُفْيانُ أحْفَظُ مِنِّي؛ فَهَذا تَرْجِيحٌ لِرِوايَةِ سُفْيانَ، وتَرْجِيحٌ ثانٍ: وهو مُتابَعَةُ العَلاءِ بْنِ صالِحٍ ومُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ لَهُ، وتَرْجِيحٌ ثالِثٌ: وهو أنَّ أبا الوَلِيدِ الطَّيالِسِيَّ - وحَسْبُك بِهِ رَواهُ عَنْ شُعْبَةَ بِوِفاقِ الثَّوْرِيِّ في مَتْنِهِ، فَقَدْ اخْتُلِفَ عَلى شُعْبَةَ كَما تَرى.
قالَ البَيْهَقِيُّ: فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَنَبَّهَ لِذَلِكَ فَعادَ إلى الصَّوابِ في مَتْنِهِ، وتَرَكَ ذِكْرَ ذَلِكَ عَلْقَمَةُ في إسْنادِهِ، وتَرْجِيحٌ رابِعٌ: وهو أنَّ الرِّوايَتَيْنِ لَوْ تَقاوَمَتا لَكانَتْ رِوايَةُ الرَّفْعِ مُتَضَمِّنَةً لِزِيادَةٍ وكانَتْ أوْلى بِالقَبُولِ، وتَرْجِيحٌ خامِسٌ: وهو مُوافَقَتُها وتَفْسِيرُها لِحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ: «وَإذا أمَّنَ الإمامُ فَأمِّنُوا، فَإنَّ الإمامَ يَقُولُ آمِينَ والمَلائِكَةُ تَقُولُ: آمِينَ، فَمَن وافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ». وتَرْجِيحٌ سادِسٌ: وهو ما رَواهُ الحاكِمُ بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا فَرَغَ مِن قِراءَةِ أُمِّ القُرْآنِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِآمِينَ» ولِأبِي داوُد بِمَعْناهُ، وزادَ بَيانًا فَقالَ: «قالَ آمِينَ حَتّى يَسْمَعَ مَن يَلِيه مِن الصَّفِّ الأوَّلِ» وفي رِوايَةٍ عَنْهُ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا قالَ: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ قالَ: آمِينَ يَرْفَعُ بِها صَوْتَهُ، ويَأْمُرُ بِذَلِكَ».
وَذَكَرَ البَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهِهِ قالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: آمِينَ إذا قَرَأ: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾»
وَعَنْهُ أيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ: كانَ إذا قَرَأ ولا الضّالِّينَ رَفَعَ صَوْتَهُ بِآمِينَ»
وَعِنْدَ أبِي داوُد عَنْ «بِلالٍ أنَّهُ قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: لا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ».
قالَ الرَّبِيعُ: سُئِلَ الشّافِعِيُّ عَنْ الإمامِ: هَلْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِآمِينَ؟ قالَ: نَعَمْ، ويَرْفَعُ بِها مَن خَلْفَهُ أصْواتَهُمْ، فَقُلْت: وما الحُجَّةُ؟ فَقالَ: أنْبَأنا مالِكٌ، وذَكَرَ حَدِيثَ أبِي هُرَيْرَةَ المُتَّفَقَ عَلى صِحَّتِهِ، ثُمَّ قالَ: فَفي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «إذا أمَّنَ الإمامُ فَأمِّنُوا» دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ أمَرَ الإمامَ أنْ يَجْهَرَ بِآمِينَ؛ لِأنَّ مَن خَلْفَهُ لا يَعْرِفُونَ وقْتَ تَأْمِينِهِ إلّا بِأنْ يَسْمَعَ تَأْمِينَهُ، ثُمَّ بَيَّنَهُ ابْنُ شِهابٍ فَقالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: آمِينَ»، فَقُلْت لِلشّافِعِيِّ: فَإنّا نَكْرَهُ لِلْإمامِ أنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِآمِينَ، فَقالَ: هَذا خِلافُ ما رَوى صاحِبُنا وصاحِبُكم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنا وعِنْدَهم عِلْمٌ إلّا هَذا الحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْناهُ عَنْ مالِكٍ فَيَنْبَغِي أنْ يَسْتَدِلَّ بِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَجْهَرُ بِآمِينَ، وأنَّهُ أمَرَ الإمامَ أنْ يَجْهَرَ بِها، فَكَيْفَ ولَمْ يَزَلْ أهْلُ العِلْمِ عَلَيْهِ؟ ورَوى وائِلُ بْنُ حُجْرٌ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ: كانَ يَقُولُ آمِينَ يَرْفَعُ بِها صَوْتَهُ» ويَحْكِي مَدَّهُ إيّاها.
وَكانَ أبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ لِلْإمامِ: لا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ، وكانَ يُؤَذِّنُ لَهُ، أنْبَأنا مُسْلِمُ بْنُ خالِدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطاءٍ: كُنْت أسْمَعُ الأئِمَّةَ ابْنَ الزُّبَيْرِ ومَن بَعْدَهُ يَقُولُونَ: آمِينَ ومَن خَلَفَهم آمِينَ، حَتّى إنّ لِلْمَسْجِدِ لَلُجَّةً.
وَقَوْلُهُ: «كانَ أبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ لِلْإمامِ لا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ» يُرِيدُ ما ذَكَرَهُ البَيْهَقِيُّ بِإسْنادِهِ عَنْ أبِي رافِعٍ أنَّ أبا هُرَيْرَةَ كانَ يُؤَذِّنُ لِمَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ، فاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أنْ لا يَسْبِقَهُ بِالضّالِّينَ، حَتّى يَعْلَمَ أنَّهُ قَدْ وصَلَ إلى الصَّفِّ، فَكانَ مَرْوانُ إذا قالَ: ﴿وَلا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: (آمِينَ) يَمُدُّ بِها صَوْتَهُ، وقالَ: إذا وافَقَ تَأْمِينُ أهْلِ الأرْضِ تَأْمِينَ أهْلِ السَّماءِ غُفِرَ لَهم. وقالَ عَطاءٌ: أدْرَكْت مِائَتَيْنِ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في هَذا المَسْجِدِ إذا قالَ الإمامُ: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] سَمِعْت لَهم رَجَّةً بِآمِينَ. فَرُدَّ هَذا كُلُّهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا قُرِئَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأنْصِتُوا﴾ [الأعراف: ٢٠٤] واَلَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ هو الَّذِي رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّأْمِينِ، واَلَّذِينَ أُمِرُوا بِها رَفَعُوا بِهِ أصْواتَهُمْ، ولا مُعارَضَةَ بَيْنَ الآيَةِ والسُّنَّةِ بِوَجْهٍ ما.
((الجزء الثاني))
{"ayah":"صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ غَیۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق