الباحث القرآني

ولَمّا أتَمَّ ذَلِكَ - سُبْحانَهُ -؛ وعُلِمَ مِنهُ أنَّ مَن أُرِيدَتْ سَعادَتُهُ يُؤْمِنُ؛ ولا بُدَّ؛ ومَن أُرِيدَتْ شَقاوَتُهُ لا يُؤْمِنُ أصْلًا؛ ومَن أقامَ ما أُنْزِلَ عَلَيْهِ سَعِدَ؛ ومَن كَفَرَ بِشَيْءٍ مِنهُ شَقِيَ؛ وكانَ ذَلِكَ رُبَّما فَتَرَ عَنِ الإبْلاغِ؛ قَرَنَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ﴾ [المائدة: ٤١]؛ قَوْلَهُ - حاثًّا عَلى الإبْلاغِ لِإسْعادِ مَن أُرِيدَ لِلسَّعادَةِ؛ وهُمُ الأُمَّةُ المُقْتَصِدَةُ مِنهُمْ؛ وإنْ كانُوا قَلِيلًا؛ وكَذا إبْلاغِ جَمِيعِ مَن عَداهم -: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ﴾؛ أيْ: الَّذِي مَوْضُوعُ أمْرِهِ البَلاغُ؛ ﴿بَلِّغْ﴾؛ أيْ: أوْصِلْ إلى مَن أُرْسِلْتَ إلَيْهِمْ؛ ﴿ما أُنْـزِلَ إلَيْكَ﴾؛ أيْ: كُلَّهُ؛ ﴿مِن رَبِّكَ﴾؛ أيْ: المُحْسِنِ إلَيْكَ بِإنْزالِهِ؛ غَيْرَ مُراقِبٍ أحَدًا؛ ولا خائِفٍ شَيْئًا؛ لِتَعْلَمَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ؛ ويُهْدى عَلى يَدِكَ مَن أرادَ اللَّهُ هِدايَتَهُ؛ فَيَكُونَ لَكَ مِثْلُ أجْرِهِ. ولَمّا كانَ إبْلاغُ ما يُخالِفُ الأهْواءَ مِنَ الشِّدَّةِ عَلى النُّفُوسِ بِمَكانٍ لا يَعْلَمُهُ إلّا ذَوُو الهِمَمِ العالِيَةِ؛ والأخْلاقِ الزّاكِيَةِ؛ كانَ المَقامُ شَدِيدَ الِاقْتِضاءِ لِتَأْكِيدِ الحَثِّ عَلى الإبْلاغِ؛ فَدَلَّ عَلى ذَلِكَ بِالِاعْتِراضِ بَيْنَ الحالِ؛ والعامِلِ فِيها؛ (p-٢٣٠)بِالتَّعْبِيرِ بِالفِعْلِ الدّالِّ عَلى داعِيَةٍ؛ هي الرَّدْعُ؛ بِأنْ قالَ: ﴿وإنْ لَمْ تَفْعَلْ﴾؛ أيْ: وإنْ لَمْ تُبَلِّغْ جَمِيعَ ذَلِكَ؛ أوْ إنْ لَمْ تَعْمَلْ بِهِ؛ ﴿فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾؛ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ ”ما“؛ تَقَعُ عَلى كُلِّ جُزْءٍ مِمّا أُنْزِلَ؛ فَلَوْ تُرِكَ مِنهُ حَرْفٌ واحِدٌ صَدَقَ نَفْيُ البَلاغِ لِما أنْزَلَ؛ ولِأنَّ بَعْضَها لَيْسَ بِأوْلى بِالإبْلاغِ مِن بَعْضٍ؛ فَمَن أغْفَلَ شَيْئًا مِنها فَكَأنَّهُ أغْفَلَ الكُلُّ؛ كَما أنَّ مَن لَمْ يُؤْمِن بِبَعْضِها لَمْ يُؤْمِن بِكُلِّها؛ لِإدْلاءِ كُلٍّ مِنها بِما يُدْلِيهِ الآخَرُ؛ فَكانَتْ لِذَلِكَ في حُكْمِ شَيْءٍ واحِدٍ؛ والمَعْنى: فَلَنُجازِيَنَّكَ؛ ولَكِنَّهُ كَنّى بِالسَّبَبِ عَنِ المُسَبِّبِ؛ إجْلالًا لَهُ ﷺ وإفادَةً لِأنَّ المُؤاخَذَةَ تَقَعُ عَلى الكُلِّ؛ لِأنَّهُ يَنْتَفِي بِانْتِفاءِ الجُزْءِ. ولَمّا تَقَدَّمَ أنَّهم يُسَعِّرُونَ الحُرُوبَ؛ ويَسْعَوْنَ في إيقاعِ أشَدِّ الكُرُوبِ؛ وكانَ ذَلِكَ - وإنْ وعَدَ - سُبْحانَهُ - بِإخْمادِهِ عِنْدَ إيقادِهِ - لا يَمْنَعُ مِن تَجْوِيزِ أنَّهُ لا يُخْمَدُ إلّا بَعْدَ قَتْلِ ناسٍ وجِراحِ آخَرِينَ؛ وكانَ كَأنَّهُ قِيلَ: إذا بَلَغَ ذَلِكَ وهو يُنَقِّصُ أدْيانَهم خِيفَ عَلَيْهِ؛ قالَ: ﴿واللَّهُ﴾؛ أيْ: بَلِّغْ أنْتَ والحالُ أنَّ الَّذِي أمَرَكَ بِذَلِكَ؛ وهو المَلِكُ الأعْلى؛ الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ؛ ﴿يَعْصِمُكَ﴾؛ أيْ: يَمْنَعُكَ مَنعًا تامًّا؛ ﴿مِنَ النّاسِ﴾؛ أيْ: مِن أنْ يَقْتُلُوكَ قَبْلَ إتْمامِ البَلاغِ؛ وظُهُورِ الدِّينِ؛ فَلا مانِعَ مِن إبْلاغِ شَيْءٍ مِنها لِأحَدٍ مِنَ النّاسِ؛ كائِنًا مَن كانَ. (p-٢٣١)ولَمّا آذَنَ ضَمانَ العِصْمَةِ بِالمُخالَفَةِ المُؤْذِنَةِ بِأنَّ فِيهِمْ مَن لا يَنْفَعُهُ البَلاغُ؛ فَهو لا يُؤْمِنُ؛ فَلا يَزالُ يَبْغِي الغَوائِلَ؛ أقَرَّ عَلى هَذا الفَهْمِ بِتَعْلِيلِ عَدَمِ الإيمانِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: الَّذِي لا أمْرَ لِغَيْرِهِ؛ ﴿لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾؛ أيْ: المَطْبُوعِ عَلى قُلُوبِهِمْ في عِلْمِ اللَّهِ؛ مُطابَقَةً لِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [المائدة: ٤١]؛ ويَهْدِي المُؤْمِنِينَ في عِلْمِهِ؛ المُشارَ إلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿ويَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ﴾ [المائدة: ٤٠]؛ والحاصِلُ أنَّهُ تَبَيَّنَ مِنَ الآيَةِ الإرْشادَ إلى أنَّ لِتَرْكِ البَلاغِ سَبَبَيْنِ؛ أحَدُهُما خَوْفُ فَواتِ النَّفْسِ؛ والآخَرُ خَوْفُ فَواتِ ثَمَرَةِ الدُّعاءِ؛ فَنَفْيُ الأوَّلِ بِضَمانِ العِصْمَةِ؛ والثّانِي بِخِتامِ الآيَةِ؛ أيْ: لَيْسَ عَلَيْكَ إلّا البَلاغُ؛ فَلا يَحْزُنْكَ مَن لا يُقْبِلُ؛ فَلَيْسَ إعْراضُهُ لِقُصُورٍ في إبْلاغِكَ؛ ولا حَظِّكَ؛ بَلْ لِقُصُورِ إدْراكِهِ وحَظِّهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ حَتَّمَ بِكُفْرِهِ؛ وخَتَمَ عَلى قَلْبِهِ؛ لِما عَلِمَ مِن فَسادِ طَبْعِهِ؛ واللَّهُ لا يَهْدِي مِثْلَهُ؛ وتَلْخِيصُهُ: بَلِّغْ؛ فَمَن أجابَكَ مِمَّنْ أُشِيرَ إلَيْهِ - فِيما سَلَفَ؛ مِن غَيْرِ الكَثِيرِ الَّذِينَ يَزِيدُهم ما أُنْزِلَ إلَيْكَ عَمًى عَلى عَماهُمْ؛ ومِنَ الأُمَّةِ المُقْتَصِدَةِ؛ وغَيْرِهِمْ - فَهو حَظُّهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ؛ ومَن أبى فَلا يَحْزُنْكَ أمْرُهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ هو الَّذِي أرادَ ضَلالَهُ؛ فالتَّقْدِيرُ: ”بَلِّغْ؛ فَلَيْسَ عَلَيْكَ إلّا البَلاغُ؛ وإلى اللَّهِ الهُدى والضَّلالُ؛ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ؛ ويَهْدِي القَوْمَ المُؤْمِنِينَ“؛ أوْ: ”فَإذا بَلَّغْتَ هَدى بِكَ رَبُّكَ مَن أرادَ إيمانَهُ؛ لِيَكْتُبَ لَكَ مِثْلَ أجْرِهِمْ؛ وأضَلَّ مَن شاءَ كُفْرانَهُ؛ ولا يَكُونُ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِن (p-٢٣٢)وِزْرِهِمْ؛ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ“؛ والمَعْنى - كَما تَقَدَّمَ -: يَعْصِمُكَ مِن أنْ يَنالُوكَ بِما يَمْنَعُكَ مِنَ الإبْلاغِ؛ حَتّى يَتِمَّ دِينُكَ؛ ويَظْهَرَ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ؛ كَما وعَدْتُكَ؛ وعَلى مِثْلِ هَذا دَلَّ كَلامُ إمامِنا الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ قالَ في الجُزْءِ الثّالِثِ مِن ”الأُمُّ“: ويُقالُ - واللَّهُ أعْلَمُ: إنَّ أوَّلَ ما أُنْزِلَ عَلَيْهِ ﷺ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: ١]؛ ثُمَّ أنْزَلَ عَلَيْهِ بَعْدَها ما لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِأنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ المُشْرِكِينَ؛ فَمَرَّتْ لِذَلِكَ مُدَّةٌ؛ ثُمَّ يُقالُ: أتاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَنِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - بِأنْ يُعْلِمَهم نُزُولَ الوَحْيِ عَلَيْهِ؛ ويَدْعُوَهم إلى الإيمانِ؛ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ وخافَ التَّكْذِيبَ؛ وأنْ يُتَناوَلَ؛ فَنَزَلَ عَلَيْهِ: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْـزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾؛ مِن قِبَلِهِمْ أنْ يَقْتُلُوكَ حَتّى تُبَلِّغَ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ؛ انْتَهى. ولَقَدْ وفّى - سُبْحانَهُ - بِما ضَمِنَ؛ ومَن أوْفى مِنهُ وعْدًا؛ وأصْدَقُ قِيلًا؟! فَلَمّا أتَمَّ الدِّينَ؛ وأرْغَمَ أُنُوفَ المُشْرِكِينَ؛ أنْفَذَ فِيهِ السُّمُّ الَّذِي تَناوَلَهُ بِخَيْبَرَ؛ قَبْلَ سِنِينَ؛ فَتَوَفّاهُ شَهِيدًا؛ كَما أحْياهُ سَعِيدًا؛ رَوى الشَّيْخانِ؛ البُخارِيُّ؛ في الهِبَةِ؛ ومُسْلِمٌ؛ في الطِّبِّ؛ وأبُو داوُدَ في الدِّياتِ؛ «عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - أنَّ امْرَأةً يَهُودِيَّةً أتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِشاةٍ مَسْمُومَةٍ؛ فَأكَلَ مِنها؛ فَجِيءَ بِها إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَألَها عَنْ ذَلِكَ؛ فَقالَتْ: أرَدْتُ لِأقْتُلَكَ؛ فَقالَ: ”ما كانَ اللَّهُ (p-٢٣٣)لِيُسَلِّطَكِ عَلى ذَلِكَ“ - أوْ قالَ: ”عَلَيَّ“ - فَقالُوا: ألا تَقْتُلُها؟ قالَ: ”لا“؛ فَما زِلْتُ أعْرِفُها في لَهَواتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛» قالَ أبُو داوُدَ: هي أُخْتُ مُرَحِّبٍ اليَهُودِيِّ؛ قالَ الحافِظُ عَبْدُ العَظِيمِ المُنْذِرِيُّ؛ في مُخْتَصَرِ سُنَنِ أبُو داوُدَ: وذَكَرَهُ غَيْرُهُ أنَّها بِنْتُ أخِي مُرَحِّبٍ؛ وأنَّ اسْمَها زَيْنَبُ بِنْتُ الحارِثِ؛ وذَكَرَ الزَّهْرِيُّ أنَّها أسْلَمَتْ؛ ولِأبِي داوُدَ؛ والدّارِمِيِّ - وهَذا لَفْظُهُ - عَنْ أبِي سَلَمَةَ - وهو ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ؛ ولا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ؛ فَأهْدَتْ لَهُ امْرَأةٌ مِن يَهُودِ خَيْبَرَ شاةً مَصْلِيَّةً؛ فَتَناوَلَ مِنها؛ وتَناوَلَ مِنها بِشْرُ بْنُ البَراءِ؛ ثُمَّ رَفَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ؛ ثُمَّ قالَ: ”إنَّ هَذِهِ تُخْبِرُنِي أنَّها مَسْمُومَةٌ“؛ فَماتَ بِشْرُ بْنُ البَراءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَأرْسَلَ إلَيْها النَّبِيُّ ﷺ فَقالَ: ”ما حَمَلَكِ عَلى ما صَنَعْتِ؟“؛ فَقالَتْ: إنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ شَيْءٌ؛ وإنْ كُنْتَ مَلِكًا أرَحْتُ النّاسَ مِنكَ؛ قالَ أبُو داوُدَ: فَأمَرَ بِها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقُتِلَتْ؛» زادَ الدّارِمِيُّ فَقالَ في مَرَضِهِ: «”ما زِلْتُ مِنَ الأكْلَةِ الَّتِي أكَلْتُ بِخَيْبَرَ؛ فَهَذا أوانُ انْقِطاعِ أبْهَرِي“؛» وهَذا مُرْسَلٌ؛ قالَ البَيْهَقِيُّ: ورَوَيْناهُ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو؛ (p-٢٣٤)عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ قالَ البَيْهَقِيُّ: ويُحْتَمَلُ أنَّهُ لَمْ يَقْتُلْها في الِابْتِداءِ؛ ثُمَّ لَمّا ماتَ بِشْرٌ أمَرَ بِقَتْلِها؛ وقِصَّةُ هَذِهِ الشّاةِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَواها البُخارِيُّ في الجِزْيَةِ؛ والمَغازِي؛ والطِّبِّ؛ والدّارِمِيُّ في أوَّلِ المُسْنَدِ؛ بِغَيْرِ هَذا السِّياقِ - كَما مَضى في ”البَقَرَةِ“؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وقالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]؛ وقَدْ مَضى في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فاعْفُ عَنْهم واصْفَحْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: ١٣]؛ شَيْءٌ مِنهُ؛ ولِأبِي داوُدَ والدّارِمِيِّ عَنِ ابْنِ شِهابٍ قالَ: «كانَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - يُحَدِّثُ أنَّ يَهُودِيَّةً مِن أهْلِ خَيْبَرَ سَمَّمَتْ شاةً مَصْلِيَّةً؛ ثُمَّ أهْدَتْها لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَأخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الذِّراعَ؛ فَأكَلَ مِنها؛ وأكَلَ رَهْطٌ مِن أصْحابِهِ مَعَهُ؛ ثُمَّ قالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”ارْفَعُوا أيْدِيَكُمْ“؛ وأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى اليَهُودِيَّةِ؛ فَدَعاها؛ فَقالَ لَها: ”أسَمَّمْتِ هَذِهِ الشّاةَ؟“؛ قالَتِ اليَهُودِيَّةُ: مَن أخْبَرَكَ؟ قالَ: ”أخْبَرَتْنِي هَذِهِ في يَدِي - لِلذِّراعِ“؛ قالَتْ: نَعَمْ؛ قالَ: ”فَما أرَدْتِ؟“؛ قالَتْ: قُلْتُ: إنْ كانَ نَبِيًّا فَلَنْ يَضُرَّهُ؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنا مِنهُ؛ فَعَفا عَنْها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ ولَمْ يُعاقِبْها؛ وتُوُفِّيَ بَعْضُ أصْحابِهِ الَّذِينَ أكَلُوا مِنَ الشّاةِ؛ واحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى كاهِلِهِ مِن أجْلِ الَّذِي أكَلَ مِنَ الشّاةِ؛ حَجَمَهُ أبُو هِنْدٍ (p-٢٣٥)بِالقَرْنِ والشَّفْرَةِ؛» وهو مَوْلًى لِبَنِي بَياضَةَ؛ مِنَ الأنْصارِ؛ قالَ الدّارِمِيُّ وهو مِن بَنِي ثُمامَةَ - وهم حَيٌّ مِنَ الأنْصارِ -؛ قالَ المُنْذِرِيُّ: وهَذا مُنْقَطِعٌ؛ الزُّهْرِيُّ لَمْ يَسْمَعْ مِن جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ وفي غَزْوَةِ ”خَيْبَرَ“؛ مِن تَهْذِيبِ السِّيرَةِ لِابْنِ هِشامٍ: ”فَلَمّا اطْمَأنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الحارِثَةِ؛ امْرَأةُ سَلامِ بْنِ مِشْكَمٍ؛ شاةً مَصْلِيَّةً؛ وقَدْ سَألَتْ: أيُّ عُضْوٍ مِنَ الشّاةِ أحَبُّ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ فَقِيلَ لَها: الذِّراعُ؛ فَأكْثَرَتْ فِيها مِنَ السُّمِّ؛ ثُمَّ سَمَّمَتْ سائِرَ الشّاةِ؛ ثُمَّ جاءَتْ بِها؛ فَلَمّا وضَعَتْها بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَناوَلَ الذِّراعَ؛ فَلاكَ مِنها مُضْغَةً؛ فَلَمْ يَسُغْها؛ ومَعَهُ بِشْرُ بْنُ البَراءِ بْنِ مَعْرُورٍ؛ قَدْ أخَذَ مِنها كَما أخَذَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؛ فَأمّا بِشْرٌ فَأساغَها؛ وأمّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَفَظَها؛ ثُمَّ قالَ:“إنَّ هَذا العَظْمَ لَيُخْبِرُنِي أنَّهُ مَسْمُومٌ”؛ ثُمَّ دَعاها فاعْتَرَفَتْ؛ فَقالَ:“ما حَمَلَكِ عَلى ذَلِكَ؟”؛ قالَتْ: بُلِّغْتُ مِن قَوْمِي ما لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ؛ فَقُلْتُ: إنْ كانَ مَلِكًا اسْتَرَحْتُ مِنهُ؛ وإنْ كانَ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ؛ فَتَجاوَزَ عَنْها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ وماتَ بِشْرٌ مِن أكْلَتِهِ الَّتِي أكَلَ؛ وذَكَرَ مُوسى بْنُ عُقْبَةَ أنَّ بِشْرًا - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - لَمْ يَسُغْ لُقْمَتَهُ حَتّى أساغَ النَّبِيُّ ﷺ لُقْمَتَهُ؛ وقالَ بَعْدَ (p-٢٣٦)أنْ أخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: والَّذِي أكْرَمَكَ؛ لَقَدْ وجَدْتُ ذَلِكَ في أكْلَتِي الَّتِي أكَلْتُ؛ فَما مَنَعَنِي أنْ ألْفِظَها إلّا أنِّي أعْظَمْتُ أنْ أُنَغِّصَكَ طَعامَكَ؛ فَلَمّا أسَغْتَ ما في فِيكَ لَمْ أكُنْ لِأرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِكَ. ونَقَلْتُ مِن خَطِّ شَيْخِنا؛ حافِظِ عَصْرِهِ؛ أبِي الفَضْلِ أحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ الكِنانِيِّ الشّافِعِيِّ؛ ما نَصُّهُ: وأخْرَجَ الحافِظُ أبُو بَكْرٍ؛ أحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الخالِقِ البَزّارُ؛ في مُسْنَدِهِ المَشْهُورِ؛ وأبُو القاسِمِ سُلَيْمانُ بْنُ أحْمَدَ بْنِ أيُّوبَ الطَّبَرانِيُّ؛ في مُعْجَمِهِ الكَبِيرِ؛ مِن حَدِيثِ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ - قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا يَأْكُلُ مِن هَدِيَّةٍ حَتّى يَأْمُرَ صاحِبَها أنْ يَأْكُلَ مِنها؛ لِلشّاةِ الَّتِي أُهْدِيَتْ لَهُ بِخَيْبَرَ؛» قالَ شَيْخُنا الحافِظُ أبُو الحَسَنِ الهَيْثَمِيُّ: رِجالُهُ ثِقاتٌ؛ قُلْتُ: وذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقٍ؛ في السِّيرَةِ الكُبْرى؛ وكَذَلِكَ الواقِدِيُّ؛ في المَغازِي؛ انْتَهى؛ وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: وحَدَّثَنِي مَرْوانُ بْنُ عُثْمانَ بْنِ أبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلّى قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ قالَ في مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ؛ ودَخَلَتْ عَلَيْهِ أُمُّ بِشْرٍ؛ بِنْتُ البَراءِ بْنِ مَعْرُورٍ تَعُودُهُ:“يا أُمَّ بِشْرٍ؛ إنَّ هَذا الأوانَ وجَدْتُ انْقِطاعَ أبْهَرِي مِنَ الأكْلَةِ الَّتِي أكَلْتُ مَعَ أخِيكِ بِخَيْبَرَ ”؛» قالَ: فَإنْ كانَ المُسْلِمُونَ لَيَرَوْنَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ماتَ شَهِيدًا مَعَ ما أكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ؛ ولِابْنِ ماجَةَ؛ في الطِّبِّ؛ «عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالَتْ: لا يَزالُ؛ يُصِيبُكَ في كُلِّ عامٍ وجَعٌ مِنَ الشّاةِ المَسْمُومَةِ الَّتِي أكَلْتَ؛ قالَ:“ما أصابَنِي (p-٢٣٧)شَيْءٌ مِنها إلّا وهو مَكْتُوبٌ عَلَيَّ وآدَمُ في طِينَتِهِ”؛» ولِلْبُخارِيِّ؛ في آخِرِ المَغازِي؛ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَقُولُ في مَرَضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ: «“يا عائِشَةُ؛ ما أزالُ أجِدُ ألَمَ الطَّعامِ الَّذِي أكَلْتُ بِخَيْبَرَ؛ فَهَذا أوانُ وجَدْتُ انْقِطاعَ أبْهَرِي مِن ذَلِكَ السُّمِّ”؛» قالَ ابْنُ فارِسٍ؛ في المُجْمَلِ: الأبْهَرُ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنُ الصُّلْبِ؛ والقَلْبُ مُتَّصِلٌ بِهِ؛ وهو قَوْلُهُ ﷺ: «“هَذا أوانُ قَطَعَتْ أبْهَرِي”؛» وعِبارَةُ المُحْكَمِ: عِرْقٌ في الظَّهْرِ؛ يُقالُ: هو الوَرِيدُ في العُنُقِ؛ وبَعْضُهم يَجْعَلُهُ عِرْقًا مُسْتَبْطِنَ الصُّلْبِ؛ وقالَ ثابِتُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ؛ في كِتابِ“خَلْقُ الإنْسانِ”: وفي الصُّلْبِ الوَتِينُ؛ وهو عِرْقٌ أبْيَضُ غَلِيظٌ؛ كَأنَّهُ قَصَبَةٌ؛ وفي الصُّلْبِ الأبْهَرُ والأبْيَضُ؛ وهُما عِرْقانِ؛ وقالَ الزُّبَيْدِيُّ؛ في مُخْتَصَرِ العَيْنِ: والأبْهَرانِ عِرْقانِ مُكْتَنِفا الصُّلْبِ؛ وقِيلَ: هُما الأكْحَلانِ؛ وقالَ الفَيْرُوزْآبادِيُّ في قامُوسِهِ: والأبْهَرُ: الظَّهْرُ؛ وعِرْقٌ فِيهِ؛ ووَرِيدُ العُنُقِ؛ والأكْحَلُ؛ والكُلْيَةُ؛ والوَتِينُ: عِرْقٌ في القَلْبِ؛ إذا انْقَطَعَ ماتَ صاحِبُهُ؛ وقالَ ابْنُ الفُراتِ؛ في الوَفاةِ؛ مِنَ السِّيرَةِ؛ مِن تارِيخِهِ: قالَ الحَرْبِيُّ: العِرْقُ في الظَّهْرِ يُسَمّى الأبْهَرَ؛ وفي اليَدِ الأكْحَلَ؛ وفي العُنُقِ الوَرِيدَ؛ وفي الفَخْذِ النَّسا؛ وفي السّاقِ الأبْجَلَ؛ وفي العَيْنِ الشَّأْنَ؛ (p-٢٣٨)وهُوَ عِرْقٌ واحِدٌ؛ كُلُّهُ يُسَمّى الجَدْوَلَ؛ وقالَ ابْنُ كَيْسانَ أيْضًا: هو الوَتِينُ في القَلْبِ؛ والصّافِنُ. وقالَ الإمامُ أبُو غالِبِ بْنُ التَّيّانِيِّ الأنْدَلُسِيُّ؛ في كِتابِهِ“المَوْعِبُ”: إسْماعِيلُ أبُو حاتِمٍ: الأبْهَرُ عِرْقٌ في الظَّهْرِ؛ وقالَ: هو الوَرِيدُ في العُنُقِ؛ ثُمَّ يُقالُ: والأبْهَرُ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنُ المَتْنِ؛ الأصْمَعِيُّ: وفي الصُّلْبِ الأبْهَرُ؛ وهو عِرْقٌ؛ صاحِبُ العَيْنِ: الأبْهَرانِ: الأكْحَلانِ؛ ويُقالُ: هُما عِرْقانِ مُكْتَنِفا الصُّلْبِ مِن جانِبَيْهِ؛ وقالَ ﷺ: «“ما زالَتْ أكْلَةُ خَيْبَرَ تَعادُّنِي كُلَّ عامٍ؛ فالآنَ حِينُ قَطَعَتْ أبْهَرِي"؛» يَعْنِي عِرْقِي؛ ويُقالُ: الأبْهَرُ عِرْقٌ مُسْتَبْطِنُ الصُّلْبِ؛ وإذا انْقَطَعَ فَلا حَياةَ بَعْدَهُ؛ وهَذا اللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَواهُ البُخارِيُّ؛ والطَّبَرانِيُّ؛ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -؛ ومَعْنى تَعادُّنِي: تُناظِرُنِي؛ وتُخالِفُنِي؛ ومِنَ العَدِيدِ بِمَعْنى النِّدِّ الَّذِي هو المِثْلُ؛ المُضادُّ والمُنافِرُ؛ أيْ: إنِّي كُلَّما زِدْتُ في جِسْمِي صِحَّةً؛ نَقَصَتْهُ بِما لَها مِنَ الضُّرِّ والأذى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب