﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ یَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ٦٧ قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَیۡءٍ حَتَّىٰ تُقِیمُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰاۖ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ٦٨﴾ [المائدة ٦٧-٦٨]
﴿يا أيُّها الرَّسُولُ﴾ إلى الثَّقَلَيْنِ كافَّةً، وهو نِداءُ تَشْرِيفٍ؛ لِأنَّ الرِّسالَةَ مِنَّةُ اللَّهِ تَعالى العُظْمى، وكَرامَتُهُ الكُبْرى، وفي هَذا العُنْوانِ إيذانٌ أيْضًا بِما يُوجِبُ الإتْيانَ بِما أُمِرَ بِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِن تَبْلِيغِ ما أُوحِيَ إلَيْهِ.
﴿بَلِّغْ﴾ أيْ أوْصِلِ الخَلْقَ
﴿ما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ أيْ: جَمِيعَ ما أُنْزِلَ كائِنًا ما كانَ
﴿مِن رَبِّكَ﴾ أيْ: مالِكِ أمْرِكَ ومُبَلِّغِكَ إلى كَمالِكَ اللّائِقِ بِكَ، وفِيهِ عِدَةٌ ضِمْنِيَّةٌ بِحِفْظِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ – وكِلاءَتِهِ، أيْ: بَلِّغْهُ غَيْرَ مُراقَبٍ في ذَلِكَ أحَدًا، ولا خائِفٍ أنْ يَنالَكَ مَكْرُوهٌ أبَدًا
﴿وإنْ لَمْ تَفْعَلْ﴾ أيْ ما أُمِرْتَ بِهِ مِن تَبْلِيغِ الجَمِيعِ
﴿فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾ أيْ فَما أدَّيْتَ شَيْئًا مِن رِسالَتِهِ؛ لِما أنَّ بَعْضَها لَيْسَ أوْلى بِالأداءِ مِن بَعْضٍ، فَإذا لَمْ تُؤَدِّ بَعْضَها فَكَأنَّكَ أغْفَلْتَ أداءَها جَمِيعًا، كَما أنَّ مَن لَمْ يُؤْمِن بِبَعْضِها كانَ كَمَن لَمْ يُؤْمِن بِكُلِّها لِإدْلاءِ كُلٍّ مِنها بِما يُدْلِيهِ غَيْرُها، وكَوْنِها لِذَلِكَ في حُكْمِ شَيْءٍ واحِدٍ، والشَّيْءُ الواحِدُ لا يَكُونُ مُبَلَّغًا غَيْرَ مُبَلَّغٍ مُؤْمَنًا بِهِ غَيْرَ مُؤْمَنٍ بِهِ، ولِأنَّ كِتْمانَ بَعْضِها يُضَيِّعُ ما أُدِّيَ مِنها - كَتَرْكِ بَعْضِ أرْكانِ الصَّلاةِ - فَإنَّ غَرَضَ الدَّعْوَةِ يُنْتَقَضُ بِهِ، واعْتُرِضَ القَوْلُ بِنَفْيِ أوْلَوِيَّةِ بَعْضِها مِن بَعْضٍ بِالأداءِ بِأنَّ الأوْلَوِيَّةَ ثابِتَةٌ بِاعْتِبارِ الوُجُوبِ قَطْعًا وظَنًّا، وجَلاءً وخَفاءً، أصْلًا وفَرْعًا، وأجابَ في الكَشْفِ بِأنَّهُ نَفى الأوْلَوِيَّةَ نَظَرًا إلى أصْلِ الوُجُوبِ، وأيْضًا إنَّ ذَلِكَ راجِعٌ إلى المُبَلَّغِ والكَلامِ في التَّبْلِيغِ، وهو غَيْرُ مُخْتَلَفِ الوُجُوبِ؛ لِأنَّهُ شَيْءٌ واحِدٌ نَظَرًا إلى ذاتِهِ، ثُمَّ كِتْمانُ البَعْضِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ إلى أنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّبْلِيغِ، بَلْ إلى ما في المُبَلَّغِ مِنَ المَصْلَحَةِ، فَكَأنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ هَذا الأمْرَ أصْلًا، فَلَمْ يُبَلِّغْ، وإنْ أعْلَمَ النّاسَ لَمْ يَنْفَعْهُ؛ لِأنَّهُ مُخْبِرٌ إذْ ذاكَ لا مُبَلِّغٌ، ونُوقِشَ في التَّعْلِيلِ الثّانِي بِأنَّ الصَّلاةَ اعْتَبَرَها الشّارِعُ أمْرًا واحِدًا بِخِلافِ التَّبْلِيغِ، وهي مُناقَشَةٌ غَيْرُ وارِدَةٍ؛ لِأنَّهُ تَعالى ألْزَمَهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - تَبْلِيغَ الجَمِيعِ، فَقَدْ جَعَلَها كالصَّلاةِ بِلا رَيْبٍ.
ومِمّا ذَكَرْنا في تَفْسِيرِ الشَّرْطِيَّةِ يُعْلَمُ أنَّ لا اتِّحادَ بَيْنَ الشَّرْطِ والجَزاءِ، ومَنِ ادَّعاهُ بِناءً عَلى أنَّ المَآلَ إنْ لَمْ تُبَلِّغِ الرِّسالَةَ لَمْ تُبَلِّغِ الرِّسالَةَ جَعَلَهُ نَظِيرَ:
أنا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي.
حَيْثُ جُعِلَ فِيهِ الخَبَرُ عَيْنَ المُبْتَدَأِ بِلا مَزِيدٍ في اللَّفْظِ، وشِعْرِي شِعْرِي المَشْهُورُ بَلاغَتُهُ، والمُسْتَفِيضُ فَصاحَتُهُ، ولَكِنَّهُ أخَبَرَ بِالسُّكُوتِ عَنْ هَذِهِ الصِّفاتِ الَّتِي بِها تَحْصُلُ الفائِدَةُ أنَّها مِن لَوازِمِ شِعْرِهِ في أفْهامِ النّاسِ السّامِعِينَ لِاشْتِهارِهِ بِها، وأنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ ذِكْرِها لِشُهْرَتِها وذِياعِها، وكَذَلِكَ - كَما قالَ ابْنُ المُنِيرِ: - أُرِيدَ في الآيَةِ؛ لِأنَّ عَدَمَ تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ أمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ النّاسِ، مُسْتَقِرٌّ في الأفْهامِ أنَّهُ عَظِيمٌ شَنِيعٌ يُنْعى عَلى مُرْتَكِبِهِ، ألا تَرى أنَّ عَدَمَ نَشْرِ العِلْمِ مِنَ العالِمِ أمْرٌ فَظِيعٌ؟! فَكَيْفَ كِتْمانُ الرِّسالَةِ مِنَ الرَّسُولِ؟! فاسْتُغْنِيَ عَنْ ذِكْرِ الزِّياداتِ الَّتِي يَتَفاوَتُ بِها الشَّرْطُ والجَزاءُ لِلُصُوقِها بِالجَزاءِ في الأفْهامِ، وأنَّ كُلَّ مَن سَمِعَ عَدَمَ تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ فَهِمَ ما وراءَهُ مِنَ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ، وحُسِّنَ هَذا الأُسْلُوبُ في الكِتابِ العَزِيزِ بِذِكْرِ الشَّرْطِ عامًّا، حَيْثُ قالَ سُبْحانَهُ: (
﴿وإنْ لَمْ تَفْعَلْ﴾ ) ولَمْ يَقِلْ: وإنْ لَمْ تُبَلِّغِ الرِّسالَةَ فَما بَلَّغْتَ الرِّسالَةَ لِيَتَغايَرا لَفْظًا وإنِ اتَّحَدا مَعْنًى، وهَذا أحْسَنُ رَوْنَقًا وأظْهَرُ طَلاوَةً مِن تَكْرارِ اللَّفْظِ الواحِدِ في الشَّرْطِ والجَزاءِ، وهَذِهِ الذُّرْوَةُ انْحَطَّ عَنْها أبُو النَّجْمِ بِذِكْرِ المُبْتَدَأِ بِلَفْظِ الخَبَرِ، وحُقَّ لَهُ أنْ تَتَضاءَلَ فَصاحَتُهُ عِنْدَ فَصاحَةِ المُعْجِزِ، فَلا مَعابَ عَلَيْهِ في ذَلِكَ.
وقِيلَ: إنَّ المُرادَ: فَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَلَكَ ما يُوجِبُهُ كِتْمانُ الوَحْيِ كُلِّهِ فَوُضِعَ السَّبَبُ مَوْضِعَ المُسَبَّبِ، ويُعَضِّدُهُ ما أخْرَجَهُ إسْحاقُ بْنُ راهُويَهْ في مُسْنَدِهِ، مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وأخْرَجَهُ أبُو الشَّيْخِ، وابْنُ حِبّانَ في تَفْسِيرِهِ مِن مُرْسَلِ الحَسَنِ، أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ:
««بَعَثَنِي اللَّهُ تَعالى بِالرِّسالَةِ فَضِقْتُ بِها ذَرْعًا، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسالاتِي عَذَّبْتُكَ، وضَمِنَ لِي العِصْمَةَ فَقَوِيتُ»».
وقِيلَ: إنَّ المُرادَ: إنْ تَرَكْتَ تَبْلِيغَ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ حُكِمَ عَلَيْكَ بِأنَّكَ لَمْ تُبَلِّغْ أصْلًا، وقِيلَ - ولَيْتَهُ ما قِيلَ – المُرادُ بِما أُنْزِلَ القُرْآنُ، وبِما في الجَوابِ بَقِيَّةُ المُعْجِزاتِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا مِنَ الوَحْيِ، ونُسِبَ إلى الشِّيعَةِ أنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - كَتَمَ البَعْضَ تَقِيَّةً.
وعَنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ أنَّ المُرادَ تَبْلِيغُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصالِحُ العِبادِ مِنَ الأحْكامِ، وقُصِدَ بِإنْزالِهِ اطِّلاعُهم عَلَيْهِ، وأمّا ما خُصَّ بِهِ مِنَ الغَيْبِ ولَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَصالِحُ أُمَّتِهِ فَلَهُ - بَلْ عَلَيْهِ – كِتْمانُهُ، ورَوى السُّلَمِيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿فَأوْحى إلى عَبْدِهِ ما أوْحى﴾ قالَ: أوْحى بِلا واسِطَةٍ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَهُ سِرًّا إلى قَلْبِهِ، ولا يَعْلَمُ بِهِ أحَدٌ سِواهُ إلّا في العُقْبى حِينَ يُعْطِيهِ الشَّفاعَةَ لِأُمَّتِهِ، وقالَ الواسِطِيُّ: ألْقى إلى عَبْدِهِ ما ألْقى، ولَمْ يُظْهِرْ ما الَّذِي أوْحى؛ لِأنَّهُ خَصَّهُ سُبْحانَهُ بِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وما كانَ مَخْصُوصًا بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - كانَ مَسْتُورًا، وما بَعَثَهُ اللَّهُ تَعالى بِهِ إلى الخَلْقِ كانَ ظاهِرًا، قالَ الطِّيبِيُّ: وإلى هَذا يُنْظَرُ مَعْنى ما رُوِّينا في صَحِيحِ البُخارِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - قالَ:
««حَفِظْتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وِعاءَيْنِ: فَأمّا أحَدَهُما فَبَثَثْتُهُ، وأمّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ مِنِّي هَذا البُلْعُومُ»»، أرادَ عُنُقَهُ وأصْلُ مَعْناهُ مَجْرى الطَّعامِ، وبِذَلِكَ فَسَّرَهُ البُخارِيُّ، ويُسَمُّونَ ذَلِكَ عِلْمَ الأسْرارِ الإلَهِيَّةِ وعِلْمَ الحَقِيقَةِ، وإلى ذَلِكَ أشارَ رَئِيسُ العارِفِينَ عَلِيٌّ زَيْنُ العابِدِينَ حَيْثُ قالَ:
إنِّي لَأكْتُمُ مِن عِلْمِي جَواهِرَهُ ∗∗∗ كَيْلا يَرى الحَقَّ ذُو جَهْلٍ فَيَفْتَتِنا
وقَدْ تَقَدَّمَ في هَذا أبُو حَسَنٍ ∗∗∗ إلى الحُسَيْنِ وأوْصى قَبْلَهُ الحَسَنا
فَرُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أبُوحُ بِهِ ∗∗∗ لَقِيلَ لى: أنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الوَثَنا
ولاسْتَحَلَّ رِجالٌ مُسْلِمُونَ دَمِي ∗∗∗ يَرَوْنَ أقْبَحَ ما يَأْتُونَهُ حَسَنًا
ومِن ذَلِكَ عِلْمُ وِحْدَةِ الوُجُودِ، وقَدْ نَصُّوا عَلى أنَّهُ طَوْرُ ما وراءِ طَوْرِ العَقْلِ، وقالُوا: إنَّهُ مِمّا تَعْلَمُهُ الرُّوحُ بِدُونِ واسِطَةِ العَقْلِ، ومِن هُنا قالُوا بِالعِلْمِ الباطِنِ عَلى مَعْنى أنَّهُ باطِنٌ بِالنِّسْبَةِ إلى أرْبابِ الأفْكارِ وذَوِي العُقُولِ المُنْغَمِسِينَ في أوْحالِ العَوائِقِ والعَلائِقِ، لا المُتَجَرِّدِينَ العارِجِينَ إلى حَضائِرِ القُدْسِ، ورِياضِ الأنْوارِ.
وقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الوَهّابِ الشَّعْرانِيُّ - رَوَّحَ اللَّهُ تَعالى رُوحَهُ - في كِتابِهِ الدُّرَرِ المَنثُورَةِ في بَيانِ زُبَدِ العُلُومِ المَشْهُورَةِ ما نَصُّهُ: وأمّا زُبْدَةُ عِلْمِ التَّصَوُّفِ الَّذِي وضَعَ القَوْمُ فِيهِ رَسائِلَهم فَهو نَتِيجَةُ العَمَلِ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ، فَمَن عَمِلَ بِما عَلِمَ تَكَلَّمَ كَما تَكَلَّمُوا، وصارَ جَمِيعُ ما قالُوهُ بَعْضَ ما عِنْدَهُ؛ لِأنَّهُ كُلَّما تَرَقّى العَبْدُ في بابِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعالى دَقَّ كَلامُهُ عَلى الأفْهامِ، حَتّى قالَ بَعْضُهم لِشَيْخِهِ: إنَّ كَلامَ أخِي فُلانٍ يَدِقُّ عَلى فَهْمِي! فَقالَ: لِأنَّ لَكَ قَمِيصَيْنِ ولَهُ قَمِيصٌ واحِدٌ، فَهو أعْلى مَرْتَبَةً مِنكَ، وهَذا هو الَّذِي دَعا الفُقَهاءَ ونَحْوَهم مِن أهْلِ الحِجابِ إلى تَسْمِيَةِ عِلْمِ الصُّوفِيَّةِ بِعِلْمِ الباطِنِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِباطِنٍ؛ إذِ الباطِنُ إنَّما هو عِلْمُ اللَّهِ تَعالى، وأمّا جَمِيعُ ما عَلَّمَهُ الخَلْقَ عَلى اخْتِلافِ طَبَقاتِهِمْ فَهو مِن عِلْمِ الظّاهِرِ؛ لِأنَّهُ ظَهَرَ لِلْخَلْقِ، فاعْلَمْ ذَلِكَ، انْتَهى.
وقَدْ فَهِمَ بَعْضُهم كَوْنَ المُرادِ تَبْلِيغَ الأحْكامِ وما يَتَعَلَّقُ بِها مِنَ المَصالِحِ دُونَ ما يَشْمَلُ عِلْمَ الأسْرارِ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( ما أنْزَلْنا إلَيْكَ ) دُونَ: ما تَعَرَّفْنا بِهِ إلَيْكَ، وذَكَرَ أنَّ عِلْمَ الأسْرارِ لَمْ يَكُنْ مُنَزَّلًا بِالوَحْيِ بَلْ بِطَرِيقِ الإلْهامِ والمُكاشَفَةِ، وقِيلَ: يُفْهَمُ ذَلِكَ مِن لَفْظِ الرِّسالَةِ؛ فَإنَّ الرِّسالَةَ ما يُرْسَلُ إلى الغَيْرِ.
وقَدْ أطالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ - قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهُمُ - الكَلامَ في هَذا المَقامِ، والتَّحْقِيقُ عِنْدِي أنَّ ما عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِنَ الأسْرارِ الإلَهِيَّةِ وغَيْرِها مِنَ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ المُنَزَّلُ، فَقَدْ قالَ سُبْحانَهُ:
﴿ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ وقالَ تَعالى:
﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ وقالَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فِيما أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ:
««سَتَكُونُ فِتَنٌ، قِيلَ: وما المَخْرَجُ مِنها؟ قالَ: كِتابُ اللَّهِ تَعالى، فِيهِ نَبَأُ ما قَبْلَكُمْ، وخَبَرُ ما بَعْدَكُمْ، وحُكْمُ ما فِيكم»».
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ:
«أُنْزِلَ في هَذا القُرْآنِ كُلُّ عِلْمٍ، وبُيِّنَ لَنا فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ، ولَكِنْ عِلْمُنا يَقْصُرُ عَمّا بُيِّنَ لَنا في القُرْآنِ» .
وقالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: جَمِيعُ ما حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَهو مِمّا فَهِمَهُ مِنَ القُرْآنِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما رَواهُ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -:
««إنِّي لا أُحِلُّ إلّا ما أحَلَّ اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ، ولا أُحَرِّمُ إلّا ما حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ»».
وقالَ المُرْسِي: جَمَعَ القُرْآنُ عُلُومَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، بِحَيْثُ لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمًا حَقِيقَةً إلّا المُتَكَلِّمُ بِهِ، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - خَلا ما اسْتَأْثَرَ بِهِ سُبْحانَهُ، ثُمَّ ورِثَ عَنْهُ مُعْظَمَ ذَلِكَ ساداتُ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم – وأعْلامُهُمْ، مِثْلُ الخُلَفاءِ الأرْبَعَةِ، ومِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - حَتّى قالَ: لَوْ ضاعَ لِي عِقالُ بَعِيرٍ لَوَجَدْتُهُ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ ورِثَ عَنْهُ التّابِعُونَ بِإحْسانٍ، ثُمَّ تَقاصَرَتِ الهِمَمُ، وفَتَرَتِ العَزائِمُ، وتَضاءَلَ أهْلُ العِلْمِ، وضَعُفُوا عَنْ حَمْلِ ما حَمَلَهُ الصَّحابَةُ والتّابِعُونَ مِن عُلُومِهِ وسائِرِ فُنُونِهِ، فَنَوَّعُوا عُلُومَهُ، وقامَتْ كُلُّ طائِفَةٍ بِفَنٍّ مِن فُنُونِهِ.
وقالَ بَعْضُهُمْ: ما مِن شَيْءٍ إلّا يُمْكِنُ اسْتِخْراجُهُ مِنَ القُرْآنِ لِمَن فَهَّمَهُ اللَّهُ تَعالى، حَتّى إنَّ البَعْضَ اسْتَنْبَطَ عُمُرَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ثَلاثًا وسِتِّينَ سَنَةً مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ في سُورَةِ المُنافِقِينَ:
﴿ولَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذا جاءَ أجَلُها﴾ فَإنَّها رَأْسُ ثَلاثٍ وسِتِّينَ سُورَةً، وعَقَّبَها بِالتَّغابُنِ لِيَظْهَرَ التَّغابُنُ في فَقْدِهِ بِنَفْسِ ذَلِكَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وهَذا مِمّا لا يَكادُ يَنْتَطِحُ فِيهِ كَبْشانِ، فَإذا ثَبَتَ أنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ في القُرْآنِ كانَ تَبْلِيغُ القُرْآنِ تَبْلِيغًا لَهُ، غايَةُ ما في البابِ أنَّ التَّوْقِيفَ عَلى تَفْصِيلِ ذَلِكَ سِرًّا سِرًّا، وحُكْمًا حُكْمًا لَمْ يَثْبُتْ بِصَرِيحِ العِبارَةِ لِكُلِّ أحَدٍ، وكَمْ مِن سِرٍّ وحُكْمٍ نَبَّهَتْ عَلَيْهِما الإشارَةُ، ولَمْ تُبَيِّنْهُما العِبارَةُ، ومَن زَعَمَ أنَّ هُناكَ أسْرارًا خارِجَةً عَنْ كِتابِ اللَّهِ تَعالى تَلَقّاها الصُّوفِيَّةُ مِن رَبِّهِمْ بِأيِّ وجْهٍ كانَ فَقَدْ أعْظَمَ الفِرْيَةَ، وجاءَ بِالضَّلالِ ابْنِ السَّبَهْلَلِ بِلا مِرْيَةٍ.
وقَوْلُ بَعْضِهِمْ: أخَذْتُمْ عِلْمَكم مَيِّتًا عَنْ مَيِّتٍ، ونَحْنُ أخَذْناهُ عَنِ الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ لا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ الزَّعْمِ؛ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الأخْذُ مِنَ القُرْآنِ بِواسِطَةِ فَهْمٍ قُدْسِيٍّ، أعْطاهُ اللَّهُ تَعالى لِذَلِكَ الآخِذِ، ويُؤَيِّدُ هَذا ما صَحَّ
«عَنْ أبِي جُحَيْفَةَ قالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ -: «هَلْ عِنْدَكم كِتابٌ خَصَّكم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ؟ قالَ: لا، إلّا كِتابٌ اللَّهِ تَعالى، أوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أوْ ما في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ - وكانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِقَبْضَةِ سَيْفِهِ - قالَ: قُلْتُ: وما في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قالَ: العَقْلُ، وفِكاكُ الأسِيرِ، ولا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكافِرٍ»».
ويُفْهَمُ مِنهُ - كَما قالَ القَسْطَلّانِيُّ - جَوازُ اسْتِخْراجِ العالِمِ مِنَ القُرْآنِ بِفَهْمِهِ ما لَمْ يَكُنْ مَنقُولًا عَنِ المُفَسِّرِينَ إذا وافَقَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ، وما عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ - عَلى ما أقُولُ - كُلُّهُ مِن هَذا القَبِيلِ، إلّا أنَّ بَعْضَ كَلِماتِهِمْ مُخالِفٌ ظاهِرُها لِما جاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الغَرّاءُ، لَكِنَّها مَبْنِيَّةٌ عَلى اصْطِلاحاتٍ فِيما بَيْنَهم إذا عُلِمَ المُرادُ مِنها يَرْتَفِعُ الغُبارُ، وكَوْنُهم مُلامِينَ عَلى تِلْكَ الِاصْطِلاحاتِ - لِقَوْلِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، كَما في صَحِيحِ البُخارِيِّ:
««حَدِّثُوا النّاسَ بِما يَعْرِفُونَ أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ تَعالى ورَسُولُهُ، صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ»» - أوْ غَيْرَ مُلامِينَ لِوُجُودِ داعٍ لَهم إلى ذَلِكَ عَلى ما يَقْتَضِيهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِهِمْ بَحْثٌ آخَرُ لَسْنا بِصَدَدِهِ.
وقَرِيبٌ مِن خَبَرِ أبِي جُحَيْفَةَ ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ عَنْتَرَةَ قالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - فَجاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: إنَّ ناسًا يَأْتُونا فَيُخْبِرُونا أنَّ عِنْدَكم شَيْئًا لَمْ يُبْدِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – لِلنّاسِ! فَقالَ: ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ:
﴿يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ واللَّهِ ما ورَّثَنا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - سَوْداءَ في بَيْضاءَ.
وحَمْلُ وِعاءِ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - الَّذِي لَمْ يَبُثَّهُ عَلى عِلْمِ الأسْرارِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ؛ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أخْبارُ الفِتَنِ وأشْراطِ السّاعَةِ، وما أخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِن فَسادِ الدِّينِ عَلى أيْدِي أغُلَيْمَةٍ مِن سُفَهاءِ قُرَيْشٍ، وقَدْ كانَ أبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - يَقُولُ:
«لَوْ شِئْتُ أنَّ أُسَمِّيَهم بِأسْمائِهِمْ لَفَعَلْتُ».
أوِ المُرادُ الأحادِيثُ الَّتِي فِيها تَعْيِينُ أسْماءِ أُمَراءِ الجَوْرِ وأحْوالِهِمْ وذَمِّهِمْ، وقَدْ كانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - يُكَنِّي عَنْ بَعْضِ ذَلِكَ ولا يُصَرِّحُ؛ خَوْفًا عَلى نَفْسِهِ مِنهُمْ، بِقَوْلِهِ:
«أعُوذُ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ مِن رَأْسِ السِّتِّينَ وإمارَةِ الصِّبْيانِ» يُشِيرُ إلى خِلافَةِ يَزِيدَ الطَّرِيدِ - لَعَنَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى رَغْمِ أنْفِ أوْلِيائِهِ - لِأنَّها كانَتْ سَنَةَ سِتِّينَ مِنَ الهِجْرَةِ، واسْتَجابَ اللَّهُ تَعالى دُعاءَ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - فَماتَ قَبْلَها بِسَنَةٍ.
وأيْضًا قالَ القَسْطَلّانِيُّ: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما وسِعَ أبا هُرَيْرَةَ كِتْمانُهُ مَعَ ما أخْرَجَ عَنْهُ البُخارِيُّ أنَّهُ قالَ:
«إنَّ النّاسَ يَقُولُونَ: أكْثَرَ أبُو هُرَيْرَةَ الحَدِيثَ، ولَوْلا آيَتانِ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى ما حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ والهُدى﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿الرَّحِيمُ﴾» إلى آخِرِ ما قالَ، فَإنَّ ما تَلاهُ دالٌّ عَلى ذَمِّ كِتْمانِ العِلْمِ، لا سِيَّما العِلْمُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عِلْمَ الأسْرارِ، فَإنَّ الكَثِيرَ مِنهم يَدِّعِي أنَّهُ لُبُّ ثَمَرَةِ العِلْمِ، وأيْضًا إنَّ أبا هُرَيْرَةَ نَفى بَثَّ ذَلِكَ الوِعاءِ عَلى العُمُومِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ، فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِهِ لِذَلِكَ؟! وأبُو هُرَيْرَةَ لَمْ يَكْشِفْ مَسْتُورَهُ فِيما أعْلَمُ، فَمِن أيْنَ عُلِمَ أنَّ الَّذِي عَلِمَهُ هو هَذا؟! ومَنِ ادَّعى فَعَلَيْهِ البَيانُ، ودُونَهُ قَطْعُ الأعْناقِ.
فالِاسْتِدْلالُ بِالخَبَرِ لِطَرِيقِ القَوْمِ فِيهِ ما فِيهِ، ومِثْلُهُ ما رُوِيَ عَنْ زَيْنِ العابِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ – نَعَمْ، لِلْقَوْمِ مُتَمَسَّكٌ غَيْرُ هَذا مُبِينٌ في مَوْضِعِهِ، لَكِنْ لا يُسَلَّمُ لِأحَدٍ كائِنًا مَن كانَ أنَّ ما هم عَلَيْهِ مِمّا خَلا عَنْهُ كِتابُ اللَّهِ تَعالى الجَلِيلُ، أوْ أنَّهُ أمْرٌ وراءَ الشَّرِيعَةِ، ومَن بَرْهَنَ عَلى ذَلِكَ بِزَعْمِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا، فَقَدْ قالَ الشَّعْرانِيُّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - في الأجْوِبَةِ المَرْضِيَّةِ عَنِ الفُقَهاءِ والصُّوفِيَّةِ: سَمِعْتُ سَيِّدِي عَلِيًّا المَرْصِفِيَّ يَقُولُ: لا يَكْمُلُ الرَّجُلُ في مَقامِ المَعْرِفَةِ والعِلْمِ حَتّى يَرى الحَقِيقَةَ مُؤَيِّدَةً لِلشَّرِيعَةِ، وأنَّ التَّصَوُّفَ لَيْسَ بِأمْرٍ زائِدٍ عَلى السُّنَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وإنَّما هو عَيْنُها.
وسَمِعْتُ سَيِّدِي عَلِيًّا الخَوّاصَ يَقُولُ مِرارًا: مَن ظَنَّ أنَّ الحَقِيقَةَ تَخالِفُ الشَّرِيعَةِ أوْ عَكْسَهُ فَقَدْ جَهِلَ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ شَرِيعَةٌ تُخالِفُ حَقِيقَةً أبَدًا، حَتّى قالُوا: شَرِيعَةٌ بِلا حَقِيقَةٍ عاطِلَةٌ، وحَقِيقَةٌ بِلا شَرِيعَةٍ باطِلَةٌ، خِلافُ ما عَلَيْهِ القاصِرُونَ مِنَ الفُقَهاءِ والفُقَراءِ، وقَدْ يَسْتَنِدُ مَن زَعَمَ المُخالَفَةَ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والشَّرِيعَةِ إلى قِصَّةِ الخَضِرِ مَعَ مُوسى - عَلَيْهِما السَّلامُ - وسَيَأْتِي - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - تَحْقِيقُ ذَلِكَ عَلى وجْهٍ لا يَسْتَطِيعُ المُخالِفُ مَعَهُ عَلى فَتْحِ شَفَةٍ.
ومِمّا نَقَلْنا عَنِ القَسْطَلّانِيِّ في خَبَرِ أبِي جُحَيْفَةَ يُعْلَمُ الجَوابُ عَمّا قِيلَ في الِاعْتِراضِ عَلى الصُّوفِيَّةِ، مِن أنَّ ما عِنْدَهم إنْ كانَ مُوافِقًا لِلْكِتابِ والسُّنَّةِ فَهُما بَيْنَ أيْدِينا، وإنْ كانَ مُخالِفًا لَهُما فَهو رَدٌّ عَلَيْهِمْ، وما بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ.
والجَوابُ بِاخْتِيارِ الشِّقِّ الأوَّلِ وكَوْنِ الكِتابِ والسُّنَّةِ بَيْنَ أيْدِينا لا يَسْتَدْعِي عَدَمَ إمْكانِ اسْتِنْباطِ شَيْءٍ مِنهُما بَعْدُ، ولا يَقْتَضِي انْحِصارَ ما فِيهِما فِيما عَلِمَهُ العُلَماءُ قَبْلُ، فَيَجُوزُ أنْ يُعْطِي اللَّهُ تَعالى لِبَعْضِ خَواصِّ عِبادِهِ فَهْمًا يُدْرِكُ بِهِ مِنهُما ما لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ والفُقَهاءِ المُجْتَهِدِينَ في الدِّينِ، وكَمْ تَرَكَ الأوَّلُ لِلْآخِرِ، وحَيْثُ سُلِّمَ لِلْأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ مَثَلًا اجْتِهادُهم واسْتِنْباطُهم مِنَ الآياتِ والأحادِيثِ مَعَ مُخالَفَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَما المانِعُ مِن أنْ يُسَلَّمَ لِلْقَوْمِ ما فُتِحَ لَهم مِن مَعانِي كِتابِ اللَّهِ تَعالى وسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وإنْ خالَفَ ما عَلَيْهِ بَعْضُ الأئِمَّةِ لَكِنْ لَمْ يُخالِفْ ما انْعَقَدَ عَلَيْهِ الإجْماعُ الصَّرِيحُ مِنَ الأُمَّةِ المَعْصُومَةِ؟! وأرى التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ مَعَ ثُبُوتِ عِلْمِ كُلٍّ في القَبُولِ والرَّدِّ تَحَكُّمًا بَحْتًا، كَما لا يَخْفى عَلى المُنْصِفِ.
وزَعَمَتِ الشِّيعَةُ أنَّ المُرادَ بِـ( ما أُنْزِلَ إلَيْكَ ) خِلافَةُ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - فَقَدْ رَوَوْا بِأسانِيدِهِمْ، عَنْ أبِي جَعْفَرٍ، وأبِي عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما -
«أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلى نَبِيِّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنْ يَسْتَخْلِفَ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - فَكانَ يَخافُ أنَّ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلى جَماعَةٍ مِن أصْحابِهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ؛ تَشْجِيعًا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِما أمَرَهُ بِأدائِهِ».
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - قالَ:
«نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - حَيْثُ أمَرَ سُبْحانَهُ أنْ يُخْبِرَ النّاسَ بِوِلايَتِهِ، فَتَخَوَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنْ يَقُولُوا: حابى ابْنَ عَمِّهِ، وأنْ يَطْعَنُوا في ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ، فَقامَ بِوِلايَتِهِ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ، وأخَذَ بِيَدِهِ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُ»».
وأخْرَجَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ في الدُّرِّ المَنثُورِ، عَنْ أبِي حاتِمٍ، وابْنِ مَرْدُويَهْ، وابْنِ عَساكِرَ، راوِينَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ:
««نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ»».
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُويَهْ،
«عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «كُنّا نَقْرَأُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ - إنَّ عَلِيًّا ولِيُّ المُؤْمِنِينَ - وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ»».
وخَبَرُ الغَدِيرِ عُمْدَةُ أدِلَّتِهِمْ عَلى خِلافَةِ الأمِيرِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - وقَدْ زادُوا فِيهِ - إتْمامًا لِغَرَضِهِمْ - زِياداتٍ مُنْكَرَةً، ووَضَعُوا في خِلالَهِ كَلِماتٍ مُزَوَّرَةً، ونَظَمُوا في ذَلِكَ الأشْعارَ، وطَعَنُوا عَلى الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - بِزَعْمِهِمْ أنَّهم خالَفُوا نَصَّ النَّبِيِّ المُخْتارِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقالَ إسْماعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الحِمْيَرِيُّ - عامَلَهُ اللَّهُ تَعالى بِعَدْلِهِ - مِن قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ:
عَجِبْتُ مِن قَوْمٍ أتَوْا أحَمَدا ∗∗∗ بِخُطَّةٍ لَيْسَ لَها مَوْضِعُ
قالُوا لَهُ: لَوْ شِئْتَ أعْلَمْتَنا ∗∗∗ إلى مَنِ الغايَةُ والمَفْزَعُ
إذا تُوُفِّيتَ وفارَقْتَنا ∗∗∗ وفِيهِمْ في المُلْكِ مَن يَطْمَعُ
فَقالَ: لَوْ أعْلَمْتُكم مَفْزَعًا ∗∗∗ كُنْتُمْ عَسَيْتُمْ فِيهِ أنْ تَصْنَعُوا
كَصُنْعِ أهْلِ العِجْلِ إذْ فارَقُوا ∗∗∗ هارُونَ فالتَّرْكُ لَهُ أوْرَعُ
ثُمَّ أتَتْهُ بَعْدَهُ عَزْمَةٌ ∗∗∗ مِن رَبِّهِ لَيْسَ لَها مَدْفَعُ
أبْلِغْ وإلّا لَمْ تَكُنْ مُبَلِّغا ∗∗∗ واللَّهُ مِنهم عاصِمٌ يَمْنَعُ
فَعِنْدَها قامَ النَّبِيُّ الَّذِي ∗∗∗ كانَ بِما يَأْمُرُهُ يَصْدَعُ
يَخْطُبُ مَأْمُورًا وفي كَفِّهِ ∗∗∗ كَفُّ عَلِيٍّ نُورُها يَلْمَعُ
رافِعَها أكْرِمْ بِكَفِّ الَّذِي ∗∗∗ يَرْفَعُ والكَفِّ الَّتِي تُرْفَعُ
مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذا لَهُ ∗∗∗ مَوْلًى فَلَمْ يَرْضَوْا ولَمْ يَقْنَعُوا لَهُ
وظَلَّ قَوْمٌ غاظَهم قَوْلُهُ ∗∗∗ كَأنَّما آنافُهم تُجْدَعُ
حَتّى إذا وارَوْهُ في لَحْدِهِ ∗∗∗ وانْصَرَفُوا عَنْ دِينِهِ ضَيَّعُوا
ما قالَ بِالأمْسِ وأوْصى بِهِ ∗∗∗ واشْتَرَوُا الضُّرَّ بِما يَنْفَعُ
وقَطَّعُوا أرْحامَهم بَعْدَهُ ∗∗∗ فَسَوْفَ يُجْزَوْنَ بِما قَطَّعُوا
وأزْمَعُوا مَكْرًا بِمَوْلاهُمُ ∗∗∗ تَبًّا لِما كانُوا بِهِ أزْمَعُوا
لا هم عَلَيْهِ يَرِدُوا حَوْضَهُ ∗∗∗ غَدًا ولا هو لَهم يَشْفَعُ
إلى آخَرِ ما قالَ، غَفَرَ اللَّهُ تَعالى لَهُ عَثْرَتَهُ وأقالَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ أخْبارَ الغَدِيرِ الَّتِي فِيها الأمْرُ بِالِاسْتِخْلافِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ، ولا مُسَلَّمَةٌ لَدَيْهِمْ أصْلًا، ولْنُبَيِّنْ ما وقَعَ هُناكَ أتَمَّ تَبْيِينٍ ولْنُوَضِّحِ الغَثَّ مِنهُ والسَّمِينَ، ثُمَّ نَعُودُ عَلى اسْتِدْلالِ الشِّيعَةِ بِالإبْطالِ، ومِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ الِاسْتِمْدادُ، وعَلَيْهِ الِاتِّكالُ.
فَنَقُولُ: إنِ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - خَطَبَ في مَكانٍ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ - عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِن حَجَّةِ الوَداعِ - قَرِيبٍ مِنَ الجُحْفَةِ يُقالُ لَهُ: غَدِيرُ خُمٍّ، فَبَيَّنَ فِيها فَضْلَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - وبَراءَةَ عِرْضِهِ مِمّا كانَ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ مَن كانَ مَعَهُ بِأرْضِ اليَمَنِ بِسَبَبِ ما كانَ صَدَرَ مِنَ المَعْدَلَةِ الَّتِي ظَنَّها بَعْضُهم جَوْرًا وتَضْيِيقًا وبُخْلًا، والحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - في ذَلِكَ، وكانَتْ يَوْمَ الأحَدِ ثامِنَ عَشَرَ ذِي الحِجَّةِ تَحْتَ شَجَرَةٍ هُناكَ.
فَرَوى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ، عَنْ يَحْيى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ قالَ:
««لَمّا أقْبَلَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - مِنَ اليَمَنِ لِيَلْقى رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِمَكَّةَ تَعَجَّلَ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - واسْتَخْلَفَ عَلى جُنْدِهِ الَّذِينَ مَعَهُ رَجُلًا مِن أصْحابِهِ، فَعَمَدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَكَسا كُلَّ رَجُلٍ حُلَّةً مِنَ البَزِّ الَّذِي كانَ مَعَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - فَلَمّا دَنا جَيْشُهُ خَرَجَ لِيَلْقاهُمْ، فَإذا عَلَيْهِمُ الحُلَلُ، قالَ: ويْلَكَ! ما هَذا؟ قالَ: كَسَوْتُ القَوْمَ لِيَتَجَمَّلُوا بِهِ إذا قَدِمُوا في النّاسِ، قالَ: ويْلَكَ! انْتَزِعْ قَبْلَ أنْ نَنْتَهِيَ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: فانْتَزَعَ الحُلَلَ مِنَ النّاسِ، فَرَدَّها في البَزِّ، وأظْهَرَ الجَيْشُ شَكَواهُ لِما صَنَعَ بِهِمْ»».
وأخْرَجَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ - وكانَتْ عِنْدَ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - عَنْ أبِي سَعِيدٍ قالَ:
««اشْتَكى النّاسُ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - فَقامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فِينا خَطِيبًا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أيُّها النّاسُ لا تَشْكُوا عَلِيًّا؛ فَواللَّهِ إنَّهُ لَأخْشَنُ في ذاتِ اللَّهِ تَعالى أوْ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى»» ورَواهُ الإمامُ أحْمَدُ.
ورَوى - أيْضًا - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما -
«عَنْ بُرَيْدَةَ الأسْلَمِيِّ قالَ: غَزَوْتُ مَعَ عَلِيٍّ اليَمَنَ، فَرَأيْتُ مِنهُ جَفْوَةً، فَلَمّا قَدِمْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ذَكَرْتُ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - فَرَأيْتُ وجْهَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قَدْ تَغَيَّرَ، فَقالَ: «بُرَيْدَةُ ! ألَسْتُ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ»؟ قُلْتُ: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ:
«مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ»» وكَذا رَواهُ النَّسائِيُّ بِإسْنادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ رِجالُهُ كُلُّهم ثِقاتٌ، ورُوِيَ بِإسْنادٍ آخَرَ تَفَرَّدَ بِهِ.
وقالَ الذَّهَبِيُّ: إنَّهُ صَحِيحٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ قالَ:
««لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مِن حَجَّةِ الوَداعِ، ونَزَلَ غَدِيرَ خُمٍّ أمَرَ بِدَوْحاتٍ فَغُمِّمْنَ، ثُمَّ قالَ: كَأنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأجَبْتُ، أنّى قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتابَ اللَّهِ تَعالى وعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، فانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِما، فَإنَّهُما لَمْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ، اللَّهُ تَعالى مَوْلايَ، وأنا ولِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ أخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - فَقالَ: مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذا ولِيُّهُ، اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُ»» فَما كانَ في الدَّوْحاتِ أحَدٌ إلّا رَآهُ بِعَيْنِهِ وسَمِعَهُ بِأُذُنَيْهِ.
ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، وأبِي هارُونَ العُبَيْدِيِّ، ومُوسى بْنِ عُثْمانَ، عَنِ البَراءِ قالَ:
««كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في حَجَّةِ الوَداعِ، فَلَمّا أتَيْنا عَلى غَدِيرِ خُمٍّ كُسِحَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - تَحْتَ شَجَرَتَيْنِ، ونُودِيَ في النّاسِ: الصَّلاةُ جامِعَةٌ، ودَعا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - وأخَذَ بِيَدِهِ وأقامَهُ عَنْ يَمِينِهِ فَقالَ: ألَسْتُ أوْلى بِكُلٍّ امْرِئٍ مِن نَفْسِهِ؟ قالُوا: بَلى، قالَ: فَإنَّ هَذا مَوْلى مَن أنا مَوْلاهُ، اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُ، فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ فَقالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: هَنِيئًا لَكَ! أصْبَحْتَ وأمْسَيْتَ مَوْلى كُلِّ مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ»» وهَذا ضَعِيفٌ، فَقَدْ نَصُّوا أنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ، وأبا هارُونَ، ومُوسى ضُعَفاءُ، لا يُعْتَمَدُ عَلى رِوايَتِهِمْ، وفي السَّنَدِ أيْضًا أبُو إسْحاقَ وهو شِيعِيٌّ مَرْدُودُ الرِّوايَةِ.
ورَوى ضِمْرَةُ بِإسْنادِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ:
«لَمّا أخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - يَدَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - قالَ: «مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ» فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى:
﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ ثُمَّ قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: وهُوَ يَوْمُ غَدِيرِ خُمٍّ، ومَن صامَ يَوْمَ ثَمانِيَ عَشْرَةَ مِن ذِي الحِجَّةِ كَتَبَ اللَّهُ تَعالى لَهُ صِيامَ سِتِّينَ شَهْرًا،» وهو حَدِيثٌ مُنْكَرًا جِدًّا، ونُصَّ في البِدايَةِ والنِّهايَةِ عَلى أنَّهُ مَوْضُوعٌ.
وقَدِ اعْتَنى بِحَدِيثِ الغَدِيرِ أبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَجَمَعَ فِيهِ مُجَلَّدَيْنِ، أوْرَدَ فِيهِما سائِرَ طُرُقِهِ وألْفاظِهِ، وساقَ الغَثَّ والسَّمِينَ، والصَّحِيحَ والسَّقِيمَ، عَلى ما جَرَتْ بِهِ عادَةُ كَثِيرٍ مِنَ المُحَدِّثِينَ؛ فَإنَّهم يُورِدُونَ ما وقَعَ لَهم في البابِ مِن غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ صَحِيحٍ وضَعِيفٍ، وكَذَلِكَ الحافِظُ الكَبِيرُ أبُو القاسِمِ ابْنُ عَساكِرَ أوْرَدَ أحادِيثَ كَثِيرَةً في هَذِهِ الخُطْبَةِ، والمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِيها ما أشَرْنا إلَيْهِ ونَحْوُهُ مِمّا لَيْسَ فِيهِ خَبَرُ الِاسْتِخْلافِ، كَما يَزْعُمُهُ الشِّيعَةُ.
وعَنِ الذَّهَبِيِّ أنَّ:
««مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ»» مُتَواتِرٌ، يُتَيَقَّنُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قالَهُ، وأمّا:
««اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ»» فَزِيادَةٌ قَوِيَّةُ الإسْنادِ، وأمّا:
«صِيامُ ثَمانِيَ عَشْرَةَ ذِي الحِجَّةِ» فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، ولا واللَّهِ نَزَلَتْ تِلْكَ الآيَةُ إلّا يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ غَدِيرِ خُمٍّ بِأيّامٍ.
والشَّيْخانِ لَمْ يَرْوِيا خَبَرَ الغَدِيرِ في صَحِيحَيْهِما لِعَدَمِ وِجْدانِهِما لَهُ عَلى شَرْطِهِما، وزَعَمَتِ الشِّيعَةُ أنَّ ذَلِكَ لِقُصُورٍ وعَصَبِيَّةٍ فِيهِما، وحاشاهُما مِن ذَلِكَ.
ووَجْهُ اسْتِدْلالِ الشِّيعَةِ بِخَبَرِ:
««مَن كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ»» أنَّ المَوْلى بِمَعْنى الأوْلى بِالتَّصَرُّفِ، وأوْلَوِيَّةُ التَّصَرُّفِ عَيْنُ الإمامَةِ، ولا يَخْفى أنَّ أوَّلَ الغَلَطِ في هَذا الِاسْتِدْلالِ جَعْلُهُمُ المَوْلى بِمَعْنى الأوْلى، وقَدْ أنْكَرَ ذَلِكَ أهْلُ العَرَبِيَّةِ قاطِبَةً، بَلْ قالُوا: لَمْ يَجِئْ مَفْعَلٌ بِمَعْنى أفْعَلَ أصْلًا، ولِمَ يُجَوِّزْ ذَلِكَ إلّا أبُو زَيْدٍ اللُّغَوِيُّ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِ أبِي عُبَيْدَةَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿هِيَ مَوْلاكُمْ﴾ أيْ أوْلى بِكم.
ورُدَّ بِأنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ صِحَّةُ: ( فُلانٌ مَوْلًى مِن فُلانٍ ) كَما يَصِحُّ: ( فُلانٌ أوْلى مِن فُلانٍ ) واللّازِمُ باطِلٌ إجْماعًا، فالمَلْزُومُ مِثْلُهُ، وتَفْسِيرُ أبِي عُبَيْدَةَ بَيانٌ لِحاصِلِ المَعْنى، يَعْنِي: النّارُ مَقَرُّكم ومَصِيرُكُمْ، والمَوْضِعُ اللّائِقُ بِكُمْ، ولَيْسَ نَصًّا في أنَّ لَفْظَ المَوْلى ثَمَّةَ بِمَعْنى الأوْلى.
والثّانِي: أنا لَوْ سَلَّمْنا أنَّ المَوْلى بِمَعْنى الأوْلى لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ صِلَتَهُ بِالتَّصَرُّفِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أوْلى بِالمَحَبَّةِ، وأوْلى بِالتَّعْظِيمِ، ونَحْوُ ذَلِكَ، وكَمْ جاءَ الأوْلى في كَلامٍ لا يَصِحُّ مَعَهُ تَقْدِيرُ التَّصَرُّفِ، كَقَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنَّ أوْلى النّاسِ بِإبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهَذا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا﴾ .
عَلى أنَّ لَنا قَرِينَتَيْنِ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الوِلايَةِ - مِن لَفْظِ المَوْلى أوِ الأوْلى - المَحَبَّةُ:
إحْداهُما ما رُوِّينا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ في شَكْوى الَّذِينَ كانُوا مَعَ الأمِيرِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - في اليَمَنِ كَبُرَيْدٍ الأسْلَمِيِّ، وخالِدِ بْنِ الوَلِيدِ وغَيْرِهِما ولَمْ يَمْنَعْ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - الشّاكِّينَ بِخُصُوصِهِمْ؛ مُبالَغَةً في طَلَبِ مُوالاتِهِ، وتَلَطُّفًا في الدَّعْوَةِ إلَيْها، كَما هو الغالِبُ في شَأْنِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في مِثْلِ ذَلِكَ، ولِلتَّلَطُّفِ المَذْكُورِ افْتَتَحَ الخُطْبَةَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ:
««ألَسْتُ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ»»؟
وثانِيهُما: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عَلى ما في بَعْضِ الرِّواياتِ -:
««اللَّهُمَّ والِ مَن والاهُ وعادِ مَن عاداهُ»» فَإنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ مِنَ المَوْلى المُتَصَرِّفُ في الأُمُورِ أوِ الأوْلى بِالتَّصَرُّفِ، لَقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: اللَّهُمَّ والِ مَن كانَ في تَصَرُّفِهِ وعادِ مَن لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَحَيْثُ ذَكَرَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - المَحَبَّةَ والعَداوَةَ فَقَدْ نَبَّهَ عَلى أنَّ المَقْصُودَ إيجابُ مَحَبَّتِهِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - والتَّحْذِيرُ عَنْ عَداوَتِهِ وبُغْضِهِ، لا التَّصَرُّفُ وعَدَمُهُ، ولَوْ كانَ المُرادُ الخِلافَةُ لَصَرَّحَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِها.
ويَدُلُّ لِذَلِكَ ما رَواهُ أبُو نُعَيْمٍ، عَنِ الحَسَنِ المُثَنّى بْنِ الحَسَنِ السِّبْطِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّهم سَألُوهُ عَنْ هَذا الخَبَرِ هَلْ هو نَصٌّ عَلى خِلافَةِ الأمِيرِ، كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ؟ فَقالَ: لَوْ كانَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أرادَ خِلافَتَهُ لَقالَ: أيُّها النّاسُ هَذا ولِيُّ أمْرِي، والقائِمُ عَلَيْكم بَعْدِي، فاسْمَعُوا وأطِيعُوا، ثُمَّ قالَ الحَسَنُ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ - سُبْحانَهُ - أنَّ اللَّهَ تَعالى ورَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – لَوْ آثَرا عَلِيًّا لِأجْلِ هَذا الأمْرِ ولَمْ يُقْدِمْ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - عَلَيْهِ لَكانَ أعْظَمَ النّاسِ خَطَأً.
وأيْضًا رُبَّما يُسْتَدَلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالوِلايَةِ المَحَبَّةُ بِأنَّهُ لَمْ يَقَعِ التَّقْيِيدُ بِلَفْظِ ( بَعْدِي ) والظّاهِرُ حِينَئِذٍ اجْتِماعُ الوِلايَتَيْنِ في زَمانٍ واحِدٍ، ولا يُتَصَوَّرُ الِاجْتِماعُ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ المُرادُ أوْلَوِيَّةَ التَّصَرُّفِ بِخِلافِ ما إذا كانَ المُرادُ المَحَبَّةَ.
وتَمَسَّكَ الشِّيعَةُ في إثْباتِ أنَّ المُرادَ بِالمَوْلى الأوْلى بِالتَّصَرُّفِ بِاللَّفْظِ الواقِعِ في صَدْرِ الخَبَرِ عَلى إحْدى الرِّواياتِ، وهو قَوْلُهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -:
««ألَسْتُ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ»»؟ ونَحْنُ نَقُولُ: المُرادُ مِن هَذا أيْضًا الأوْلى بِالمَحَبَّةِ، يَعْنِي ألَسْتُ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ بِالمَحَبَّةِ؟ بَلْ قَدْ يُقالُ: الأوْلى ها هُنا مُشْتَقٌّ مِنَ الوِلايَةِ بِمَعْنى المَحَبَّةِ، والمَعْنى: ألَسْتُ أحَبَّ إلى المُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ؟ لِيَحْصُلَ تَلاؤُمُ أجْزاءِ الكَلامِ، ويَحْسُنَ الِانْتِظامُ، ويَكُونَ حاصِلُ المَعْنى هَكَذا: يا مَعْشَرَ المُؤْمِنِينَ إنَّكم تُحِبُّونِي أكْثَرَ مِن أنْفُسِكُمْ، فَمَن يُحِبَّنِي يُحِبَّ عَلِيًّا، اللَّهُمَّ أحِبَّ مَن أحَبَّهُ وعادِ مَن عاداهُ.
ويُرْشَدُ إلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِالأوْلى - في تِلْكَ الجُمْلَةِ - الأوْلى بِالتَّصَرُّفِ أنَّها مَأْخُوذَةٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى:
﴿النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهم وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ﴾ وهو مَسُوقٌ لِنَفْيِ نَسَبِ الأدْعِياءِ مِمَّنْ يَتَبَنَّوْنَهُمْ، وبَيانُهُ أنَّ زَيْدَ بْنَ حارِثَةَ لا يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: إنَّهُ ابْنُ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِأنَّ نِسْبَةَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - إلى جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ كالأبِ الشَّفِيقِ، بَلْ أزْيَدُ، وأزْواجُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ – أُمَّهاتُهُمْ، والأقْرِباءُ في النَّسَبِ أحَقُّ وأوْلى مِن غَيْرِهِمْ، وإنْ كانَتِ الشَّفَقَةُ والتَّعْظِيمُ لِلْأجانِبِ أزِيدَ، لَكِنْ مَدارُ النَّسَبِ عَلى القَرابَةِ وهي مَفْقُودَةٌ في الأدْعِياءِ، لا عَلى الشَّفَقَةِ والتَّعْظِيمِ، وهَذا ما في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، أيْ في حُكْمِهِ، ولا دَخْلَ لِمَعْنى الأوْلى بِالتَّصَرُّفِ في المَقْصُودِ أصْلًا، فالمُرادُ - فِيما نَحْنُ فِيهِ - هو المَعْنى الَّذِي أُرِيدَ في المَأْخُوذِ مِنهُ، ولَوْ فَرَضْنا كَوْنَ الأوْلى في صَدْرِ الخَبَرِ بِمَعْنى الأوْلى بِالتَّصَرُّفِ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَنْبِيهِ المُخاطَبِينَ بِذَلِكَ الخِطابِ؛ لِيَتَوَجَّهُوا إلى سَماعِ كَلامِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - كَمالَ التَّوَجُّهِ، ويَلْتَفِتُوا إلَيْهِ غايَةَ الِالتِفاتِ، فَيُقَرَّرُ ما فِيهِ مِنَ الإرْشادِ أتَمَّ تَقَرُّرٍ، وذَلِكَ كَما يَقُولُ الرَّجُلُ لِأبْنائِهِ في مَقامِ الوَعْظِ والنَّصِيحَةِ: ألَسْتُ أباكُمْ؟ وإذا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ يَأْمُرُهم بِما قَصَدَهُ مِنهُمْ؛ لِيَقْبَلُوا بِحُكْمِ الأُبُوَّةِ والنُّبُوَّةِ ويَعْمَلُوا عَلى طِبْقِهِما.
فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في هَذا المَقامِ:
««ألَسْتُ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ»» مِثْلُ: ألَسْتُ رَسُولَ اللَّهِ تَعالى إلَيْكُمْ؟ أوْ: ألَسْتُ نَبِيَّكُمْ؟ ولا يُمْكِنُ إجْراءُ مِثْلِ ذَلِكَ فِيما بَعْدَهُ؛ تَحْصِيلًا لِلْمُناسَبَةِ.
ومِنَ الشِّيعَةِ مَن أوْرَدَ دَلِيلًا عَلى نَفْيِ مَعْنى المَحَبَّةِ، وهو أنَّ مَحَبَّةَ الأمِيرِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - أمْرٌ ثابِتٌ في ضِمْنِ آيَةِ
﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ فَلَوْ أفادَ هَذا الحَدِيثُ ذَلِكَ المَعْنى أيْضًا كانَ لَغْوًا، ولا يَخْفى فَسادُهُ، ومَنشَؤُهُ أنَّ المُسْتَدِلَّ لَمْ يَفْهَمْ أنَّ إيجابَ مَحَبَّةِ أحَدٍ في ضِمْنِ العُمُومِ شَيْءٌ، وإيجابَ مَحَبَّتِهِ بِالخُصُوصِ شَيْءٌ آخَرُ، والفَرْقُ بَيْنَهُما مِثْلُ الشَّمْسِ ظاهِرٌ، ومِمّا يَزِيدُ ذَلِكَ ظُهُورًا أنَّهُ لَوْ آمَنَ شَخْصٌ بِجَمِيعِ أنْبِياءِ اللَّهِ تَعالى ورُسُلِهِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِخُصُوصِهِ بِالذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ إيمانُهُ مُعْتَبَرًا، وأيْضًا لَوْ فَرَضْنا اتِّحادَ مَضْمُونِ الآيَةِ والخَبَرِ لا يَلْزَمُ اللَّغْوُ، بَلْ غايَةُ ما يَلْزَمُ التَّقْرِيرُ والتَّأْكِيدُ، وذَلِكَ وظِيفَةُ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقَدْ كانَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - كَثِيرًا ما يُؤَكِّدُ مَضامِينَ القُرْآنِ ويُقَرِّرُها، بَلِ القُرْآنُ نَفْسُهُ قَدْ تَكَرَّرَتْ فِيهِ المَضامِينُ لِذَلِكَ، ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ: إنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّغْوِ - والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى - وأيْضًا التَّنْصِيصُ عَلى إمامَةِ الأمِيرِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - تَكَرَّرَ مِرارًا عِنْدَ الشِّيعَةِ، فَيَلْزَمُ - عَلى تَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ - القَوْلُ اللُّغَوِيُّ، ويُجَلُّ كَلامُ الشّارِعِ عَنْهُ، ثُمَّ إنَّ ما أشارَ إلَيْهِ الحِمْيَرِيُّ في قَصِيدَتِهِ - الَّتِي أسْرَفَ فِيها - مِن أنَّ الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - بِهَذِهِ الهَيْئَةِ الِاجْتِماعِيَّةِ جاءُوا النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وطَلَبُوا مِنهُ تَعْيِينَ الإمامَ بَعْدَهُ مِمّا لَمْ يَذْكُرْهُ المُؤَرِّخُونَ وأهْلُ السِّيَرِ مِنَ الفَرِيقَيْنِ - فِيما أعْلَمُ - بَلْ هو مَحْضُ زُورٍ وبُهْتانٍ، نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعالى مِنهُ.
ومَن وقَفَ عَلى تِلْكَ القَصِيدَةِ الشَّنِيعَةِ بِأسْرِها وما يَرْوِيهِ الشِّيعَةُ فِيها - وكانَ لَهُ أدْنى خِبْرَةٍ - رَأى العَجَبَ العُجابَ، وتَحَقَّقَ أنَّ قَعاقِعَ القَوْمِ كَصَرِيرِ بابٍ، أوْ كَطَنِينِ ذُبابٍ، ثُمَّ إنَّ الأخْبارَ الوارِدَةَ مِن طَرِيقِ أهْلِ السُّنَّةِ الدّالَّةَ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - عَلى تَقْدِيرِ صِحَّتِها وكَوْنِها بِمَرْتَبَةٍ يُسْتَدَلُّ بِها - لَيْسَ فِيها أكْثَرُ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى فَضْلِهِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - وأنَّهُ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ بِالمَعْنى الَّذِي قَرَّرْناهُ، ونَحْنُ لا نُنْكِرُ ذَلِكَ، ومَلْعُونٌ مَن يُنْكِرُهُ، وكَذا ما أخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدُويَهْ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - لَيْسَ فِيهِ أكْثَرُ مِن ذَلِكَ، والتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - بِالذِّكْرِ لِما قَدَّمْناهُ.
وقالَ بَعْضُ أصْحابِنا عَلى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ: إنَّ الآيَةَ عَلى خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وكَذا خَبَرِ الغَدِيرِ - عَلى الرِّوايَةِ المَشْهُورَةِ - عَلى تَقْدِيرِ دَلالَتِهِما عَلى أنَّ المُرادَ الأوْلى بِالتَّصَرُّفِ لا بُدَّ أنْ يُقَيَّدا بِما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ في المَآلِ، وحِينَئِذٍ فَمَرْحَبًا بِالوِفاقِ؛ لِأنَّ أهْلَ السُّنَّةِ قائِلُونَ بِذَلِكَ حِينَ إمامَتِهِ، ووَجْهُ تَخْصِيصِ الأمِيرِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - حِينَئِذٍ بِالذِّكْرِ ما عَلِمَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالوَحْيِ مِن وُقُوعِ الفَسادِ والبَغْيِ في زَمَنِ خِلافَتِهِ، وإنْكارِ بَعْضِ النّاسِ لِإمامَتِهِ الحَقَّةِ، وكَوْنُ ذَلِكَ بَعْدَ الوَفاةِ مِن غَيْرِ فَصْلٍ مِمّا لا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
والخَبَرُ المُصَدَّرُ بِـ( كَأنِّي قَدْ دُعِيتُ فَأجَبْتُ» لَيْسَ نَصًّا في المَقْصُودِ كَما لا يَخْفى، ومِمّا يُبْعِدُ دَعْوى الشِّيعَةِ مِن أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في خُصُوصِ خِلافَةِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - وأنَّ المَوْصُولَ فِيها خاصٌّ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ فَإنَّ النّاسَ فِيهِ - وإنْ كانَ عامًّا - إلّا أنَّ المُرادَ بِهِمُ الكُفّارُ، ويَهْدِيكَ إلَيْهِ،
﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ فَإنَّهُ في مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِعِصْمَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وفِيهِ إقامَةُ الظّاهِرِ مَقامَ المُضْمَرِ، أيْ: لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَهْدِيهِمْ إلى أُمْنِيَتِهِمْ فِيكَ، ومَتى كانَ المُرادُ بِهِمُ الكُفّارَ بَعْدَ إرادَةِ الخِلافَةِ؟! بَلْ لَوْ قِيلَ: لَمْ تَصِحَّ لَمْ يَبْعُدْ؛ لِأنَّ التَّخَوُّفَ الَّذِي تَزْعُمُهُ الشِّيعَةُ مِنهُ، صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وحاشاهُ - في تَبْلِيغِ أمْرِ الخِلافَةِ إنَّما هو مِنَ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - حَيْثُ أنَّ فِيهِمْ - مَعاذَ اللَّهِ تَعالى - مَن يَطْمَعُ فِيها لِنَفْسِهِ، ومَتى رَأى حِرْمانَهُ مِنها لَمْ يَبْعُدْ مِنهُ قَصْدُ الإضْرارِ بِرَسُولِ اللَّهِ، صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والتِزامُ القَوْلِ - والعِياذُ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ - بِكُفْرِ مَن عَرَّضُوا بِنِسْبَةِ الطَّمَعِ في الخِلافَةِ إلَيْهِ مِمّا يَلْزَمُهُ مَحاذِيرُ كُلِّيَّةٌ، أهْوَنُها تَفْسِيقُ الأمِيرِ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - وهو هُوَ، أوْ نِسْبَةُ الجُبْنِ إلَيْهِ، وهو أسَدُ اللَّهِ تَعالى الغالِبُ، أوِ الحَكَمُ عَلَيْهِ بِالتَّقِيَّةِ، وهو الَّذِي لا تَأْخُذُهُ في اللَّهِ تَعالى لَوْمَةُ لائِمٍ، ولا يَخْشى إلّا اللَّهَ سُبْحانَهُ، أوْ نِسْبَةُ فِعْلِ الرَّسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بَلِ الأمْرِ الإلَهِيِّ إلى العَبَثِ، والكُلُّ كَما تَرى.
لا يُقالُ: إنَّ عِنْدَنا أمْرَيْنِ يَدُلّانِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمَوْصُولِ الخِلافَةُ:
أحَدُهُما أنَّهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - كانَ مَأْمُورًا بِأبْلَغِ عِبارَةٍ بِتَبْلِيغِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِها، حَيْثُ قالَ سُبْحانَهُ مُخاطِبًا لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -:
﴿فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ المُرادُ هُنا فَرْدٌ هو أهَمُّ الأفْرادِ وأعْظَمُها شَأْنًا - ولَيْسَ ذَلِكَ إلّا الخِلافَةُ إذْ بِها يَنْتَظِمُ أمْرُ الدِّينِ والدُّنْيا - لَخَلا الكَلامُ عَنِ الفائِدَةِ.
وثانِيهُما أنَّ ابْنَ إسْحاقَ ذَكَرَ في سِيرَتِهِ
«أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - خَطَبَ النّاسَ في حَجَّةِ الوَداعِ خُطْبَتَهُ الَّتِي بَيَّنَ فِيها ما بَيَّنَ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعالى، وأثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ: «أيُّها النّاسُ، اسْمَعُوا قَوْلِي؛ فَإنِّي لا أدْرِي لَعَلِّي لا ألْقاكم بَعْدَ عامِي هَذا بِهَذا المَوْقِفِ أبَدًا، أيُّها النّاسُ إنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم عَلَيْكم حَرامٌ إلى أنْ تَلْقَوْا رَبَّكم كَحُرْمَةِ يَوْمِكم هَذا، وكَحُرْمَةِ شَهْرِكم هَذا، وإنَّكم سَتَلْقَوْنَ رَبَّكم فَيَسْألَنَّكم عَنْ أعْمالِكُمْ، وقَدْ بَلَّغْتُ» ثُمَّ أوْصى - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – بِالنِّساءِ، ثُمَّ قالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -:
«فاعْقِلُوا قَوْلِي فَإنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، وقَدْ تَرَكْتُ فِيكم ما إنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أبَدًا؛ كِتابَ اللَّهِ تَعالى وسَنَةَ نَبِيِّهِ، صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ» إلى أنْ قالَ - بِأبِي هو وأمِّي، صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -:
«اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» قالَ ابْنُ إسْحاقَ: فَذُكِرَ لِي أنَّ النّاسَ قالُوا:
«اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ اشْهَدِ»» انْتَهى.
فَإنَّ هَذِهِ الرِّوايَةَ ظاهِرَةٌ في أنَّ الخُطْبَةَ كانَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ، كَما في رِوايَةِ يَحْيى بْنِ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، ويَوْمُ الغَدِيرِ كانَ اليَوْمَ الثّامِنَ عَشَرَ مِن ذِي الحِجَّةِ بَعْدَ أنْ فَرَغَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وسَلَّمَ مِن شَأْنِ المَناسِكِ، وتَوَجَّهَ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ المَأْمُورُ بِتَبْلِيغِهِ أمْرًا آخَرَ غَيْرَ ما بَلَّغَهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – قَبْلُ، وشَهَّدَ النّاسَ عَلى تَبْلِيغِهِ، وأشْهَدَ اللَّهَ تَعالى عَلى ذَلِكَ، ولَيْسَ هَذا إلّا الخِلافَةُ الكُبْرى، والإمامَةُ العُظْمى، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ يَقُولُ: يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ كَوْنَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ – خَلِيفَتَكَ، وقائِمًا مَقامَكَ بَعْدَكَ، وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وإنْ قالَ لَكَ النّاسُ حِينَ قُلْتَ:
«اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ»: اللَّهُمَّ نَعَمْ؛ لِأنّا نَقُولُ: إنَّ الشَّرْطِيَّةَ في الأمْرِ الأوَّلِ - بَعْدَ غَمْضِ العَيْنِ عَمّا فِيهِ - مَمْنُوعَةٌ لِجَوازِ أنْ يُرادَ بِالمَوْصُولِ في الآيَتَيْنِ الأحْكامُ الشَّرْعِيَّةُ المُتَعَلِّقَةُ بِمَصالِحِ العِبادِ في مَعاشِهِمْ ومَعادِهِمْ، ولا يَلْزَمُ الخُلُوُّ عَنِ الفائِدَةِ؛ إذْ كَمْ آيَةٍ تَكَرَّرَتْ في القُرْآنِ، وأمْرٌ ونَهْيٌ ذُكِرَ مِرارًا لِلتَّأْكِيدِ والتَّقْرِيرِ، عَلى أنَّ بَعْضَهم ذَكَرَ أنَّ فائِدَةَ الأمْرِ هُنا إزالَةُ تَوَهُّمِ أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - تَرَكَ أوْ يَتْرُكُ تَبْلِيغَ شَيْءٍ مِنَ الوَحْيِ تَقِيَّةً.
ويَرِدُ عَلى الأمْرِ الثّانِي أمْرانِ:
الأوَّلُ أنَّ كَوْنَ يَوْمِ الغَدِيرِ بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ لِيَكُونَ المَأْمُورُ بِتَبْلِيغِهِ أمْرًا آخَرَ، بَلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الخُطْبَةِ وقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – فِيها:
«اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ يَوْمِي الغَدِيرِ وعَرَفَةَ، وما ورَدَ في غَيْرِما أثَرٍ مِن أنَّ سُورَةَ المائِدَةِ نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ في حِجَّةِ الوَداعِ لا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِلْبَعْدِيَّةِ ولِلْقَبْلِيَّةِ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الإيابِ ولا الذَّهابِ، وظاهِرُ حالِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في تِلْكَ الحَجَّةِ مِن إراءَةِ المَناسِكِ، ووَضْعِ الرِّبا ودِماءِ الجاهِلِيَّةِ - وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وقَدْ ذَكَرَهُ أهْلُ السِّيَرِ - يُرْشِدُ إلى أنَّ النُّزُولَ كانَ في الذَّهابِ.
والثّانِي: أنّا لَوْ سَلَّمْنا كَوْنَ النُّزُولِ يَوْمَ الغَدِيرِ فَلا نُسَلِّمُ أنَّ المَأْمُورَ بِتَبْلِيغِهِ أمْرٌ آخَرُ، وغايَةُ ما يَلْزَمُ حِينَئِذٍ لُزُومُ التَّكْرارِ، وقَدْ عَلِمْتَ فائِدَتَهُ وكَثْرَةَ وُقُوعِهِ، سَلَّمْنا أنَّ المَأْمُورَ بِتَبْلِيغِهِ أمْرٌ آخَرُ لَكِنّا لا نُسَلِّمُ أنَّهُ لَيْسَ إلّا الخِلافَةُ، وكَمْ قَدْ بَلَّغَ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ المُنَزَّلَةِ عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - والَذى يُفْهَمُ مِن بَعْضِ الرِّواياتِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ قَبْلَ حَجَّةِ الوَداعِ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدُويَهْ والضِّياءُ في المُخْتارَهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ:
««سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أيُّ آيَةٍ أُنْزِلَتْ مِنَ السَّماءِ أشُدُّ عَلَيْكَ؟ فَقالَ: كُنْتُ بِمِنًى أيّامَ مَوْسِمٍ، واجْتَمَعَ مُشْرِكُو العَرَبِ وأفْناءُ النّاسِ في المَوْسِمِ، فَأُنْزِلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَقالَ: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾ الآيَةَ، قالَ: فَقُمْتُ عِنْدَ العَقَبَةِ فَنادَيْتُ: يا أيُّها النّاسُ، مَن يَنْصُرُنِي عَلى أنْ أُبَلِّغَ رِسالاتِ رَبِّي ولَكُمُ الجَنَّةُ؟ أيُّها النّاسُ: قُولُوا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنا رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم تُفْلِحُوا وتَنْجَحُوا ولَكُمُ الجَنَّةُ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَما بَقِيَ رَجُلٌ، ولا امْرَأةٌ، ولا أمَةٌ، ولا صَبِيٌّ إلّا يَرْمُونَ عَلَيَّ بِالتُّرابِ والحِجارَةِ، ويَقُولُونَ: كَذّابٌ، صابِئٌ، فَعَرَضَ عَلَيَّ عارِضٌ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، إنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ آنَ لَكَ أنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ كَما دَعا نُوحٌ عَلى قَوْمِهِ بِالهَلاكِ، فَقالَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ، وانْصُرْنِي عَلَيْهِمْ أنْ يُجِيبُونِي إلى طاعَتِكَ، فَجاءَ العَبّاسُ عَمُّهُ فَأنْقَذَهُ مِنهُمْ، وطَرَدَهم عَنْهُ»».
قالَ الأعْمَشُ: فَبِذَلِكَ تَفْتَخِرُ بَنُو العَبّاسِ، ويَقُولُونَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ:
﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ هَوى النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أبا طالِبٍ، وشاءَ اللَّهُ تَعالى عَبّاسَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ.
وأصْرَحُ مِن هَذا ما أخْرَجَهُ أبُو الشَّيْخِ، وأبُو نُعَيْمٍ في ( الدَّلائِلِ ) وابْنُ مَرْدُويَهْ، وابْنُ عَساكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - قالَ:
««كانَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يُحْرَسُ، وكانَ يُرْسِلُ مَعَهُ عَمُّهُ أبُو طالِبٍ كُلَّ يَوْمٍ رِجالًا مِن بَنِي هاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ، حَتّى نَزَلَتْ ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ فَأرادَ عَمُّهُ أنْ يُرْسِلَ مَعَهُ مَن يَحْرُسُهُ فَقالَ: يا عَمِّ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَدْ عَصَمَنِي»» فَإنَّ أبا طالِبٍ ماتَ قَبْلَ الهِجْرَةِ وحِجَّةَ الوَداعِ بَعْدَها بِكَثِيرٍ، والظّاهِرُ اتِّصالُ الآيَةِ.
وعَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ لَيْلًا؛ بِناءً عَلى ما أخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والتِّرْمِذِيُّ، والبَيْهَقِيُّ، وغَيْرُهُمْ، عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - قالَتْ:
««كانَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – يُحْرَسُ، حَتّى نَزَلَتْ ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ فَأخْرَجَ رَأْسَهُ مِنَ القُبَّةِ، فَقالَ: أيُّها النّاسُ انْصَرِفُوا، فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ تَعالى»» ولا يَخْفى أنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ في المَقْصُودِ.
والَذى أمِيلُ إلَيْهِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الأخْبارِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِمّا تَكَرَّرَ نُزُولُهُ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، والمُرادُ بِالعِصْمَةِ مِنَ النّاسِ حِفْظُ رُوحِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - مِنَ القَتْلِ والهَلاكِ، فَلا يَرِدُ أنَّهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - شُجَّ وجْهُهُ الشَّرِيفُ، وكُسِرَتْ رُباعِيَّتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ.
ومِنهم مَن ذَهَبَ إلى العُمُومِ، وادَّعى أنَّ الآياتِ إنَّما نَزَلَتْ بَعْدَ أُحُدٍ واسْتُشْكِلَ الأمْرانِ بِأنَّ اليَهُودَ سَمُّوهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - حَتّى قالَ:
««لا زالَتْ أُكْلَةُ خَيْبَرَ تُعاوِدُنِي وهَذا أوانُ قَطَعَتْ أبْهَرِي»» وأُجِيبَ بِأنَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - ضَمِنَ لَهُ العِصْمَةَ مِنَ القَتْلِ ونَحْوِهِ بِسَبَبِ تَبْلِيغِ الوَحْيِ، وأمّا ما فُعِلَ بِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وبِالأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَلِلذَّبِّ عَنِ الأمْوالِ والبِلادِ والأنْفُسِ، ولا يَخْفى بُعْدُهُ.
وقالَ الرّاغِبُ: عِصْمَةُ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - حِفْظُهم بِما خُصُّوا بِهِ مِن صَفاءِ الجَوْهَرِ، ثُمَّ بِما أوْلاهم مِنَ الأخْلاقِ والفَضائِلِ، ثُمَّ بِالنُّصْرَةِ وتَثْبِيتِ أقْدامِهِمْ، ثُمَّ بِإنْزالِ السَّكِينَةِ عَلَيْهِمْ، وبِحِفْظِ قُلُوبِهِمْ، وبِالتَّوْفِيقِ.
وقِيلَ: المُرادُ بِالعِصْمَةِ الحِفْظُ مِن صُدُورِ الذَّنْبِ، والمَعْنى: بَلِّغْ، واللَّهُ تَعالى يَمْنَحُكَ الحِفْظَ مِن صُدُورِ الذَّنْبِ مِن بَيْنِ النّاسِ، أيْ يَعْصِمُكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ دُونَهُمْ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا تَوْجِيهٌ لَمْ يَصْدُرْ إلّا مِمَّنْ لَمْ يَعْصِمْهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الخَطَأِ.
ومِثْلُهُ ما نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسى في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ حَيْثُ قالَ: لا يَهْدِيهِمْ بِالمَعُونَةِ والتَّوْفِيقِ والألْطافِ إلى الكُفْرِ، بَلْ إنَّما يَهْدِيهِمْ إلى الإيمانِ، وزَعَمَ أنَّ الَّذِي دَعاهُ إلى هَذا التَّفْسِيرِ أنَّ اللَّهَ تَعالى هَدى الكُفّارَ إلى الإيمانِ بِأنْ دَلَّهم عَلَيْهِ ورَغَّبَهم فِيهِ، وحَذَّرَهم مِن خِلافِهِ - وأنْتَ قَدْ عَلِمْتَ المُرادَ بِالآيَةِ - عَلى أنَّ في كَلامِهِ ما لا يَخْفى مِنَ النَّظَرِ.
وقالَ الجُبّائِيُّ: المُرادُ: لا يَهْدِيهِمْ إلى الجَنَّةِ والثَّوابِ، وفِيهِ غَفْلَةٌ عَنْ كَوْنِ الجُمْلَةِ في مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ.
وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ المُرادَ: أنَّ عَلَيْكَ البَلاغَ لا الهِدايَةَ، فَمَن قَضَيْتُ عَلَيْهِ بِالكُفْرِ والوَفاةِ عَلَيْهِ لا يَهْتَدِي أبَدًا، وهو كَما تَرى، فَلْيُفْهَمْ جَمِيعُ ما ذَكَرْناهُ في هَذِهِ الآيَةِ، ولْيُحْفَظْ؛ فَإنِّي لا أظُنُّ أنَّكَ تَجِدُهُ في كِتابٍ.
وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ، عَنْ عاصِمٍ: ( رِسالاتِهِ ) عَلى الجَمِيعِ، وإيرادُ الآيَةِ في تَضاعِيفِ الآياتِ الوارِدَةِ في أهْلِ الكِتابِ لِما أنَّ الكُلَّ قَوارِعُ يَسُوءُ الكُفّارَ سَماعُها، ويَشُقُّ عَلى الرَّسُولِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مُشافَهَتُهم بِها، خُصُوصًا ما يَتْلُوها مِنَ النَّصِّ النّاعِي عَلَيْهِمْ كَمالَ ضَلالِهِمْ، ولِذَلِكَ أُعِيدَ الأمْرُ فَقالَ سُبْحانَهُ:
﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ﴾ والمُرادُ بِهِمُ اليَهُودُ والنَّصارى - كَما قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ - وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ بِهِمُ اليَهُودُ،فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وغَيْرُهُما، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - قالَ:
««جاءَ رافِعُ بْنُ حارِثَةَ، وسَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، ومالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، ورافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ، ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّكَ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ ودِينِهِ؟ وتُؤْمِنُ بِما عِنْدَنا مِنَ التَّوْراةِ؟ وتَشْهَدُ أنَّها مِنَ اللَّهِ تَعالى حُقٌّ؟ فَقالَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: بَلى، ولَكِنَّكم أحْدَثْتُمْ وجَحَدْتُمْ ما فِيها مِمّا أُخِذَ عَلَيْكم مِنَ المِيثاقِ، وكَتَمْتُمْ مِنها ما أُمِرْتُمْ أنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنّاسِ، فَبَرِئَتْ مِن إحْداثِكُمْ، قالُوا: فَإنّا نَأْخُذُ بِما في أيْدِينا؛ فَإنّا عَلى الهُدى والحَقِّ، ولا نُؤْمِنُ بِكَ ولا نَتَّبِعُكَ» فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ:
﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ﴾» أيْ دِينٍ يُعْتَدُّ بِهِ، ويَلِيقُ بِأنْ يُسَمّى شَيْئًا لِظُهُورِ بُطْلانِهِ ووُضُوحِ فَسادِهِ، وفي هَذا التَّعْبِيرِ ما لا يَخْفى مِنَ التَّحْقِيرِ، ومَن أمْثالُهم أقَلُّ مِن لا شَيْءَ
﴿حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ أيْ تُراعُوهُما، وتُحافِظُوا عَلى ما فِيهِما مِنَ الأُمُورِ الَّتِي مَن جُمْلَتِها دَلائِلُ رِسالَةِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وشَواهِدُ نُبُوَّتِهِ، فَإنَّ إقامَتَهُما وتَوْفِيَةَ حُقُوقِهِما إنَّما تَكُونُ بِذَلِكَ لا بِالعَمَلِ بِجَمِيعِ ما فِيهِما مَنسُوحًا كانَ أوَغِيَرَهُ، فَإنَّ مُراعاةَ المَنسُوخِ تَعْطِيلٌ لَهُما ورَدٌّ لِشَهادَتِهِما.
﴿وما أُنْزِلَ إلَيْكم مِن رَبِّكُمْ﴾ أيِ القُرْآنُ المَجِيدُ، وإقامَتُهُ بِالإيمانِ بِهِ، وقُدِّمَتْ إقامَةُ الكِتابَيْنِ عَلى إقامَتِهِ مَعَ أنَّها المَقْصُودَةُ بِالذّاتِ؛ رِعايَةً لِحَقِّ الشَّهادَةِ، واسْتِنْزالًا لَهم عَنْ رُتْبَةِ الشِّقاقِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالمَوْصُولِ كُتُبُ أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وقِيلَ: الكُتُبُ الإلَهِيَّةُ؛ فَإنَّها كُلَّها ناطِقَةٌ بِوُجُوبِ الإيمانِ بِمَنِ ادَّعى النُّبُوَّةَ وأظْهَرَ المُعْجِزَةَ، ووُجُوبِ طاعَةِ مَن بُعِثَ إلَيْهِمْ لَهُ، وقَدْ مَرَّ تَمامُ الكَلامِ عَلى مِثْلِ هَذا النَّظْمِ الكَرِيمِ، وكَذا عَلى قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنهم ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ - كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ - مُبَيِّنَةٌ لِشِدَّةِ شَكِيمَتِهِمْ، وغُلُوِّهِمْ في المُكابَرَةِ والعِنادِ، وعَدَمِ إفادَةِ التَّبْلِيغِ نَفْعًا، وتَصْدِيرُها بِالقِسْمِ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِها وتَحْقِيقِهِ، ونِسْبَةُ الإنْزالِ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مَعَ نِسْبَتِهِ فِيما مَرَّ إلَيْهِمْ لِلْإنْباءِ عَنِ انْسِلاخِهِمْ عَنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وإذا أُرِيدَ بِالمَوْصُولِ النِّعَمُ الَّتِي أُعْطِيَها - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَأمْرُ النِّسْبَةِ ظاهِرٌ جِدًّا.
﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ أيْ: لا تَأْسَفْ ولا تَحْزَنْ لِزِيادَةِ طُغْيانِهِمْ وكُفْرِهِمْ، فَإنَّ غائِلَةَ ذَلِكَ مَوْصُولَةٌ بِهِمْ، وتَبِعَتَهُ عائِدَةٌ إلَيْهِمْ، وفي المُؤْمِنِينَ غِنًى لَكَ عَنْهُمْ، ووَضْعُ المُظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمِرِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُوخِ في الكُفْرِ، وقِيلَ: المُرادُ لا تَحْزَنْ عَلى هَلاكِهِمْ وعَذابِهِمْ، ووَضْعُ الظّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِعَدَمِ الأسى، ولا يَخْلُو عَنْ