الباحث القرآني

إنَّ مِن تَمامِ التَّوَكُّلِ اسْتِعْمالَ الأسْبابِ الَّتِي نَصَبَها اللَّهُ لِمُسَبَّباتِها قَدَرًا وشَرْعًا، فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأصْحابَهُ أكْمَلُ الخَلْقِ تَوَكُّلًا، وإنَّما كانُوا يَلْقَوْنَ عَدُوَّهم وهم مُتَحَصِّنُونَ بِأنْواعِ السِّلاحِ، ودَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ، والبَيْضَةُ عَلى رَأْسِهِ، وقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ لا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ، ولا رُسُوخَ في العِلْمِ يَسْتَشْكِلُ هَذا، ويَتَكايَسُ في الجَوابِ تارَةً بِأنَّ هَذا فَعَلَهُ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، وتارَةً بِأنَّ هَذا كانَ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ. ووَقَعَتْ في مِصْرَ مَسْألَةٌ سَألَ عَنْها بَعْضُ الأُمَراءِ، وقَدْ ذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ أبُو القاسِمِ بْنُ عَساكِرَ، في " تارِيخِهِ الكَبِيرِ " أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ بَعْدَ أنْ أهْدَتْ لَهُ اليَهُودِيَّةُ الشّاةَ المَسْمُومَةَ لا يَأْكُلُ طَعامًا قُدِّمَ لَهُ حَتّى يَأْكُلَ مِنهُ مَن قَدَّمَهُ. قالُوا: وفي هَذا أُسْوَةٌ لِلْمُلُوكِ في ذَلِكَ. فَقالَ قائِلٌ: كَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذا، وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ فَإذا كانَ اللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ العِصْمَةَ فَهو يَعْلَمُ أنَّهُ لا سَبِيلَ لِبَشَرٍ إلَيْهِ. وَأجابَ بَعْضُهم بِأنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى ضَعْفِ الحَدِيثِ، وبَعْضُهم بِأنَّ هَذا كانَ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ، فَلَمّا نَزَلَتْ لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بَعْدَها. ولَوْ تَأمَّلَ هَؤُلاءِ أنَّ ضَمانَ اللَّهِ لَهُ العِصْمَةَ لا يُنافِي تَعاطِيَهُ لِأسْبابِها، لَأغْناهم عَنْ هَذا التَّكَلُّفِ، فَإنَّ هَذا الضَّمانَ لَهُ مِن رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى لا يُناقِضُ احْتِراسَهُ مِنَ النّاسِ، ولا يُنافِيهِ، كَما أنَّ إخْبارَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لَهُ بِأنَّهُ يُظْهِرُ دِينَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ ويُعْلِيهِ لا يُناقِضُ أمْرَهُ بِالقِتالِ وإعْدادِ العُدَّةِ والقُوَّةِ ورِباطِ الخَيْلِ، والأخْذِ بِالجِدِّ والحَذَرِ والِاحْتِراسِ مِن عَدُوِّهِ، ومُحارَبَتِهِ بِأنْواعِ الحَرْبِ والتَّوْرِيَةِ، فَكانَ إذا أرادَ الغَزْوَةَ ورّى بِغَيْرِها، وذَلِكَ لِأنَّ هَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ عَنْ عاقِبَةِ حالِهِ ومَآلِهِ بِما يَتَعاطاهُ مِنَ الأسْبابِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ مُفْضِيَةً إلى ذَلِكَ مُقْتَضِيَةً لَهُ، وهو ﷺ أعْلَمُ بِرَبِّهِ، وأتْبَعُ لِأمْرِهِ مِن أنْ يُعَطِّلَ الأسْبابَ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ لَهُ بِحِكْمَتِهِ مُوجِبَةً لِما وعَدَهُ بِهِ مِنَ النَّصْرِ والظَّفَرِ إظْهارِ دِينِهِ وغَلَبَتِهِ لِعَدُوِّهِ، وهَذا كَما أنَّهُ سُبْحانَهُ ضَمِنَ لَهُ حَياتَهُ حَتّى يُبَلِّغَ رِسالاتِهِ، ويُظْهِرَ دِينَهُ، وهو يَتَعاطى أسْبابَ الحَياةِ مِنَ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ والمَلْبَسِ والمَسْكَنِ، وهَذا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، حَتّى آلَ ذَلِكَ بِبَعْضِهِمْ إلى أنْ تَرَكَ الدُّعاءِ، وزَعَمَ أنَّهُ لا فائِدَةَ فِيهِ؛ لِأنَّ المَسْئُولَ إنْ كانَ قَدْ قُدِّرَ نالَهُ، ولا بُدَّ وإنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَنَلْهُ، فَأيُّ فائِدَةٍ في الِاشْتِغالِ بِالدُّعاءِ؟ ثُمَّ تَكايَسَ في الجَوابِ، بِأنْ قالَ: الدُّعاءُ عِبادَةٌ، فَيُقالُ لِهَذا الغالِطِ: بَقِيَ عَلَيْكَ قِسْمٌ آخَرُ - وهو الحَقُّ - أنَّهُ قَدْ قَدَّرَ لَهُ مَطْلُوبَهُ بِسَبَبٍ إنْ تَعاطاهُ حَصَلَ لَهُ المَطْلُوبُ، وإنْ عَطَّلَ السَّبَبَ فاتَهُ المَطْلُوبُ، والدُّعاءُ مِن أعْظَمِ الأسْبابِ في حُصُولِ المَطْلُوبِ، وما مِثْلُ هَذا الغالِطِ إلّا مِثْلُ مَن يَقُولُ: وإنْ كانَ اللَّهُ قَدْ قَدَّرَ لِيَ الشَّبَعَ فَأنا أشْبَعُ أكَلْتُ أوْ لَمْ آكُلْ، إنْ لَمْ يُقَدِّرْ لِيَ الشَّبَعَ لَمْ أشْبَعْ أكَلْتُ أوْ لَمْ آكُلْ فَما فائِدَةُ الأكْلِ؟ وأمْثالُ هَذِهِ التُّرَّهاتِ الباطِلَةِ المُنافِيَةِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى وشَرْعِهِ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. * (فائدة) عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية النبي ﷺ يوم أحد قال بعض العلماء بالأخبار إنه استقرى نسله فلا يبلغ أحد منهم الحلم إلا أبخر وأهتم يعرف ذلك فيهم من شؤم الآباء على الأبناء. واختلف فيما وقع للنبي ﷺ من هذا ونحوه فقيل هو قبل نزول قوله: ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾. وقيل العصمة الموعود بها عصمة النفس من القتل لا عصمته من أذاهم بالكلية بل أبقى الله تعالى لرسوله ثواب ذلك الأذى ولأمته حسن التأسي به إذا أوذي أحدهم نظر إلى ما جرى عليه وصبر، وللمؤذين الأشقياء الأخذة الرابية.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب