الباحث القرآني

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. اختلفوا في تنزيل هذه الآية وتأويلها فروى محمد بن كعب القرضي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله ﷺ‎ إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فينزل تحتها ويقيل، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه إعرابي وأخذ السيف من الشجرة واخترطه ثم أتى النبي ﷺ‎ وهو نائم، فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب برأسه الشجرة حتى انفرد ساعة فأنزل الله الآية [96] . وقال أنس: كان النبي ﷺ‎ يحرس، قال: وقالت عائشة: فكنت ذات ليلة إلى جنبه فسهر تلك الليلة، فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ فقال: «ليت رجل صالح يحرسني الليلة» قالت: فبينما نحن في ذلك حتى سمعت صوت السلاح. فقال: من هذا؟ قال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول الله ﷺ‎ حتى سمعت غطيطه فنزلت الآية فأخرج رسول الله ﷺ‎ رأسه من قبة أديم وقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله عز وجل» [[تفسير ابن كثير: 2/ 81 وتفسير القرطبي: 6/ 244 وزاد المسير: 2/ 301.]] [97] . وروى الحسن مرسلا إلى النبي ﷺ‎ قال: «لمّا بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت إن من الناس من يكذبني» [[زاد المسير: 2/ 301، تفسير القرطبي: 6/ 243.]] [98] وكان عتابه قريشا واليهود والنصارى فأنزل الله الآية، قلت: ولما نزل قوله وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ سكت النبي (عليه السلام) عن عيب الهتهم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [[سورة المائدة: 67.]] يعني معايب آلهتهم. وقيل: نزلت في عيب اليهود وذلك إنه (عليه السلام) دعا اليهود إلى الإسلام وقالوا: أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون: تريد أن نتّخذك عيانا كما اتخذت النصارى عيانا عيسى، فلما رأى النبي (عليه السلام) ذلك سكت فحرضه الله على دعائهم إلى الإسلام وأمره أن يقول لهم. يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية. قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقاويل لأنه ليس بين قوله بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وبين قوله لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ فصل. فلما نزلت الآية قال (عليه السلام) : «لا يأتي من عندي ومن نصرني» [99] . وقيل: نزلت في قصة عيينة بن حصين وفقراء أهل الصفة وقيل: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الرجم والقصاص ومرّ في قصة. وقيل: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من أمر نسائك. وذلك أن رسول الله لما نزلت آية التخيير لم يكن يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا فأنزل الله، وقيل: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في أمر زينب بنت جحش ، وقيل: نزلت في الجهاد، وذلك إن المنافقين كرهوه، قال الله فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ [[سورة محمّد: 20.]] الآية وكرهه أيضا بعض المؤمنين قال الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [[سورة النساء: 77.]] الآية، وكان (عليه السلام) يمسك في بعض المسلمين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة القوم فأنزل الله الآية. وقال أبو جعفر محمد بن علي: معناه: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في فضل علي بن أبي طالب، فلما نزلت الآية أخذ (عليه السلام) بيد علي، فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» [[مسند أحمد: 1/ 84.]] [100] . أبو القاسم يعقوب بن أحمد السري، أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن محمد، أبو مسلم إبراهيم ابن عبد الله الكعبي، الحجاج بن منهال، حماد عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لما نزلنا مع رسول الله ﷺ‎ في حجة الوداع كنّا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول الله عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي، فقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «ألست أولى بكل مؤمن من نفسه» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» [[البداية والنهاية: 5/ 229.]] . قال: فلقيه عمر فقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. روى أبو محمد عبد الله بن محمد القائنيّ نا أبو الحسن محمد بن عثمان النصيبي نا: أبو بكر محمد ابن الحسن السبيعي نا علي بن محمد الدّهان، والحسين بن إبراهيم الجصاص قالا نا الحسن بن الحكم نا الحسن بن الحسين بن حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ قال: نزلت في علي (رضي الله عنه) أمر النبي ﷺ‎ أن يبلغ فيه فأخذ (عليه السلام) بيد علي، وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» [[مسند أحمد: 5/ 370.]] [101] . وبَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في حقوق المسلمين فلما نزلت الآية خطب رسول الله ﷺ‎ أي يوم هذا الحديث في خطبة الوداع، ثم قال: هل بلّغت؟ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ قرأ ابن محيصن وابن قفال وأبو عمرو والأعمش وشبل: رِسالَتَهُ: على واحدة، وهي قراءة أصحاب عبد الله. الباقون جمع. فإن قيل: فأي فائدة في قوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ولا يقال: كل من هذا الطعام وإن لم تأكل فما أكلته. الجواب فيه ما سمعت فيه أبا القاسم بن جندب سمعت علي بن مهدي الطبري يقول: أمر رسول الله ﷺ‎ تبليغ ما أنزل إليك في الوقت والإتيان فيه. حتى تكثر الشركة والعدة وإن لم يفعل على كل ما أوصى الله إليه واحكم الله أن حرّم بعضها لأنه كمن لم يبلغ لأن تركه إبلاغ البعض محيط لإبلاغ ما بلغ. كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ [[سورة النساء: 150.]] الآية. فاعلم أن إيمانهم بالبعض إلى بعضهم وأن كفرهم بالبعض يحيط الإيمان بالبعض. وحاشى لرسول الله أن يكتم شيئا مما أوحى الله. قالت العلماء: الدعوة بقراءة الصلاة إذ البعض ركن من أركانها. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن [الأخدش] [[هكذا في الأصل.]] يحكي عن الحسن ابن الفضل أنّه قال: معنى الآية بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في الوقت حتى تكثر الشوكة والعدّة، ومن لم يفعل هذا كتب كمن لم يبلغ، وقيل: بلغ مجاهدا محتسبا صابرا غير خائف، وقيل: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إلى جميع الناس [ولا تخاف] . وهذه من الحدود التي يدل مقام القطع عليه [[يراجع أحكام القرآن للجصّاص: 561.]] . وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ يحفظك ويمنعك مِنَ النَّاسِ ووجه هذه الآية، وقد شجّ جبينه وكسرت رباعيته وأوذي في عدة مواطن بضروب من الأذى، فالجواب أن معناها والله يعصمك منهم فلا يصلون إلى مثلك، وقيل: نزلت هذه الآية بعد ما شجّ جبينه وكسرت رباعيته لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن. وقيل: معناه وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ يخصك بالعصمة من بين الناس لأنه كان نبي الوقت والنبي معصوم. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ عن عبد الله الحسين بن محمد [الديلمي] ، محمد ابن إسحاق السبتي، أبو عروة، عمرو بن هشام، محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن أبي عبد الملك عن القاسم عن أبي أمامة قال: كان رجل من بني هاشم يقال له ركانة وكان من أفتك الناس وأشدهم بأسا وكان مشركا وكان يرعى غنما له ويقال له أقسم فخرج نبي الله ﷺ‎ من بيت عائشة ذات يوم متوجها قبل ذلك الوادي فلقيه ركانة وليس مع نبي الله أحد فقام إليه ركانه وقال: يا محمد أنت الذي تشتم آلهتنا اللات والعزى وتدعو إلى إلهك العزيز الحكيم؟ ولولا رحم بيني وبينك ما كلمتك حتى أقتلك ولكن أدع إلهك العزيز الحكيم يخلصك مني اليوم وسأعرض عليك أمرا هل لك أن أصارعك وتدعو إلهك العزيز الحكيم يعينك عليّ وأنا أدعو اللات والعزى فإن أنت صرعتني فلك عشرة من غنمي وتختارها فقال (عليه السلام) : قم إن شئت واتخذ العهد ودعا النبي ﷺ‎ إلهه العزيز الحكيم أن يعينه على ركانة، ودعا ركانة إلهه-[اللات والعزى]- أن أعنّي اليوم على محمد فأخذه النبي (عليه السلام) فصرعه وجلس على صدره. فقال ركانة: يا محمد قم فلست الذي فعلت هذا بي إنما إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى وما وضع أحد جنبي قبلك، فقال ركانة: عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى ومن خيارها. فقام النبي (عليه السلام) ودعا كل واحد منهما إلهه كما فعلا أول مرّة فصرعه النبي ﷺ‎ وجلس على كبده، فقال له ركانة: فلست أنت الذي فعلت فيّ هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى وما وضع جنبي أحد قبلك، فقال له ركانة: عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى تختارها فأخذ مني الله ودعا كل واحد منهما إلهه فصرعه نبي الله الثالثة، فقال له ركانة: لست أنت الذي فعلت بي هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى فدونك ثلاثين شاة من غنمي فأخسرها. فقال له النبي ﷺ‎: لا أريد ذلك ولكن أدعوك إلى الإسلام وأركانه وأنفس بك أن تصير إلى النار، إنك إن تسلم تسلم فقال له ركانة: ألا تريني آية، فقال له نبي الله (عليه السلام) الله شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل لهذا لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟ قال: نعم، وقريب منهما شجرة ذات فروع وقضبان فأشار نبي الله (عليه السلام) ، فقال لها: أقبلي بإذن الله فانشقت إثنتين وأتت على نصف شقها وقضبانها وفروعها حتى كانت بين يدي النبي ﷺ‎ وبين ركانة فقال له ركانة: أريتني عظيما، فمرها فلترجع، فقال (عليه السلام) الله شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل فأمرها فرجعت لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟ قال: نعم، فأمرها النبي (عليه السلام) فرجعت بقضبانها وفروعها حتى التأمت فلما قال النبي ﷺ‎: أسلم تسلم، فقال له ركانة: فما لي ألّا أكون أما أنا فقد رأيت عظيما، ولكني أكره أن يتحدث فينا أهل المدينة وفتيانهم فيّ إنما أجيبك لرعب دخل قلبي منك، ولكن قد علمت في أهل المدينة وصبيانهم إنه لم يوضع جنبي قط ولم يدخل قلبي رعب ساعة قط ليلا ولا نهارا فلك دونك فاختر غنمك، فقال (عليه السلام) : ليس في حاجة إلى غنمك إذ أبيت أن تسلم، فانطلق رسول الله ﷺ‎ راجعا فأقبل أبو بكر وعمر يسألانه في بيت عائشة فأخبرتهما إنه قد توجه قبل وادي أضم وقد عرفا إنه وادي ركانة لا يخطيه، فخرجا في طلبه وأشفقا أن يلقاه ركانة فيقتله، فجعلا يصعدان على كل شرفة ونظرا فإذا هما كذلك إذ نظر نبي الله (عليه السلام) مقبلا، فقالا: يا نبي الله كيف تخرج إلى هذا الوادي وحدك وقد عرفت إنه جهة ركانة وإنه من أفتك الناس وأشدهم تكذيبا لك، فضحك إليهما النبي ﷺ‎ وقال: «اليس الله يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنه لم يكن يصل إليّ والله معي» وأنشأ يحدثهما حديث ركانة والذي فعله به والذي أراه فعجبا من ذلك وقالا: يا رسول الله عرفت ركانة فلا والذي بعثك بالحق ما نعلم إنه وضع جنبيه إنسان قط، فقال (عليه السلام) : «إني دعوت ربي عز وجل فأعانني عليه، وإن ربي قال خذ عشرة لك وبقوة عشرة» [102] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب