قوله: ﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾، الآية.
(ومعنى: ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾)، أي: أفهمه ما شاء من كلامه الذي ليس ككلام المخلوقين الذي [هو] حركات اللسان وظهور الأصوات، فكلامه، عز وجل، ليس ككلام الآدميين، إذ ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء، وعلينا أن نقف حيث انتهى بنا العلم، ولا نُكَيّفُ وَنَحُدُّ، ونسلم الأمر لله، (عز وجل)، ونقول كما قال، ولا نشبه؛ لأنه، تعالى، قد نفى التشبيه [كله] بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١].
ومن لم يمد ﴿دَكّاً﴾، جعله مصدر دَكَكْتَهُ: إذا كسَّرته وفتته. ومعناه: جعله مُفَتَتاً كالتراب والمَدَر. وشاهده قوله: ﴿[إِذَا] دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً﴾ [الفجر: ٢١]،
* * *
وقوله: ﴿فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ [الحاقة: ١٤]، فتقديره: جعله مدكوكاً، ثم أقام المصدر مقام اسم المفعول.
وقيل: إن قوله: ﴿جَعَلَهُ دَكّاً﴾، مثل: دُكَّه دُكَاً، فهو مصدر قد عمل فيه فعل من غير لفظه، فهو محمول على المعنى.
ومن مد ﴿دَكّاً﴾، فمعناه: جعله "مِثْل دَكَّاء"، ثم حذف مثل، (وأجراه مُجْرى): ﴿وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢]. وهو قول الأخفش.
وقال قطرب المعنى: جعله أرضاً دكاء، ثم أقام الصفة مُقام الموصوف مثل: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ [البقرة: ٨٣].
وقال الفراء: ﴿دَكّاً﴾ و ﴿دَكّاً﴾ مثل: "البَأْس" [والبَأْسَاء]، كأنه جعله بمعنى واحد.
ومعنى الآية: قال الربيع في قوله، تعالى: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾ [مريم: ٥٢]، حدثني بعض من لقي أصحاب رسول الله ﷺ، قال: قُرَّبه الرب، تعالى، إليه حتى سَمِعَ صَرِيفَ القَلَمِ، فقال عند ذلك من الشوق: ﴿رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي﴾.
قال السدي: لما كلمه، أحب أن ينظر إليه، فقال له: ﴿لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾، فَحَفَّ الله حول الجبل ملائكته، وحَفَّ حول الملائكة بنار، وحَفَّ حول النار بملائكة، وحَفَّ حول الملائكة بنار، ثم تجلى ربه للجبل.
وقال أبو بكر الهذلي: تخلف موسى بعد الثلاثين حتى سمع كلام الله، سبحانه، اشتاق إلى النظر إليه فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي﴾، (أي): ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا؛ فإن من نظر إليّ مات، قال: إلهي، سمعت كلامك، واشتقت إلى النظر إليك، ولأَن أنظر إليك ثم أموت، أحبّ إلي من أن أعيش ولا أراك: قال: فانظر ﴿إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾.
قال مجاهد: يعني أنه أكبر منك، وأشد خلقاً، فنظر موسى، (عليه السلام)، إلى الجبل لا يتمالك [و] أقبل يَنْدَكُّ على أوله. فلما رأى موسى (عليه السلام) ما يصنع الجبل، خَرَّ صَعِقاً.
وقال الحسن: لما كلمه ربه دخل قَلْبَ موسى، ﷺ، من السرور من كلام الله (عز وجل)، ما لم يصل إلى قلبه مثله قط. فدعت موسى (عليه السلام)، نفسه [إلى] أن يسأل ربه (عز وجل)، أن يريه نفسه، تبارك وتعالى، ولو كان عَهِدَ إليه قبل ذلك أنه لا يرى، ما سأله ذلك.
ويروي: أن موسى عليه السلام مكث بعد أن كلمه ربه عز وجل أربعين ليلة لا يراه [أحد] إلا مات من نور رب العزة.
قال وهب: كلم الله (سبحانه)، موسى في ألف مقام، فكان إذا كلمه الله، (سبحانه) رئي النور على وجهه ثلاثاً، وما قرب موسى، عليه السلام النساء مذ كلمه [الله]، جل وعز.
* * *
قوله: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾.
أي: اطلع (إلى) الجبل، ﴿جَعَلَهُ دَكّاً﴾، أي مستوياً بالأرض ﴿وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً﴾، أي: مغشياً عليه لم يمت.
قال ابن عباس: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر، ﴿جَعَلَهُ دَكّاً﴾، أي: تراباً.
وقال قتادة: ﴿صَعِقاً﴾، [أي]: ميتاً.
وقال سفيان: ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر.
وقال أبو بكر الهذلي: انقعر الجبل فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة.
وروى سفيان الثوري عن الكلبي [أنه] قال: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر الذي تحت الأرضين السَّبْع، فهو يهوي إلى يوم القيامة.
وقال القُتْبي: ﴿دَكّاً﴾ ألصقه بالأرض.
يقال: "نَاقَةٌ دَكَّاء": إذا لم يكن لها سَنَامٌ.
وقيل معنى دَكَكْتُ: دَقَقْتُ. أبدل من القافين كافان لقرب مخرجيهما.
وكان الطبري يختار قراءة: (دكاء) بالمد؛ لأنه قد ثبت عن النبي، ﷺ، أنه (قال): "ساخ الجبل"، ولم يقل: "تفتت"، ولا "تحول تراباً". وإذا ساخ وذهب ظهر وجه الأرض، فصار بمنزلة (الناقة) التي ذهب سنامها.
* * *
قوله: ﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ﴾.
أي: من غشيته، ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ﴾، أي: تنزيهاً لك، يا رب، أن يراك أَحَدٌ في الدنيا، ثم يعيش، ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾، عن مسألتي إياك الرؤية في الدنيا، ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾، أي: أولهم أَنَّكَ لاَ تُرَى فِي الدُّنْيا.
قال ابن عباس: مرت الملائكة بموسى وقد صعق، فقالت: يا ابن النساء الحُيَّض، لقد سألت ربك شيئاً عظيماً! فقال: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾، من سؤالي الرؤية في الدنيا، ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي أول من يؤمن، أي: يصدق بأنه لاَ يَرَاكَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِكَ فِي الدُّنْيا.
قال ابن عباس: ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾، أي: أول من آمن بك من بني إسرائيل.
وقال مجاهد: وأنا أول قومي إيماناً.
{"ayah":"وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِیۤ أَنظُرۡ إِلَیۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِی وَلَـٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِیۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكࣰّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقࣰاۚ فَلَمَّاۤ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"}