الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا﴾ أَيْ فِي الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ. (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أَيْ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) سَأَلَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَاشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَتِهِ لما أسمعه كلامه. ف (قالَ لَنْ تَرانِي) أَيْ فِي الدُّنْيَا. وَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: أَرِنِي آيَةً عَظِيمَةً لِأَنْظُرَ إِلَى قُدْرَتِكَ، لِأَنَّهُ قَالَ "إِلَيْكَ" وَ "قالَ لَنْ تَرانِي". وَلَوْ سَأَلَ آيَةً لَأَعْطَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ، كَمَا أَعْطَاهُ سَائِرَ الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا مَقْنَعٌ عَنْ طَلَبِ آيَةٍ أُخْرَى، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ. (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) ضَرَبَ لَهُ مِثَالًا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ بِنْيَتِهِ وَأَثْبَتُ أَيْ فَإِنْ ثَبَتَ الْجَبَلُ وَسَكَنَ فَسَوْفَ تَرَانِي، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْ فَإِنَّكَ لَا تُطِيقُ رُؤْيَتِي، كَمَا أَنَّ الْجَبَلَ لَا يُطِيقُ رُؤْيَتِي. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى اللَّهَ فَلِذَلِكَ خَرَّ صَعِقًا، وَأَنَّ الْجَبَلَ رَأَى رَبَّهُ فَصَارَ دَكًّا بِإِدْرَاكٍ خَلْقَهُ اللَّهُ لَهُ. وَاسْتَنْبَطَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: "وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي". ثُمَّ قَالَ (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) وَتَجَلَّى مَعْنَاهُ ظَهَرَ، مِنْ قَوْلِكَ: جَلَوْتُ الْعَرُوسَ أَيْ أَبْرَزْتُهَا. وَجَلَوْتُ السَّيْفَ أَبْرَزْتُهُ مِنَ الصَّدَأِ، جِلَاءً فِيهِمَا. وَتَجَلَّى الشَّيْءُ انْكَشَفَ. وَقِيلَ: تَجَلَّى أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ، قَالَهُ قُطْرُبٌ وَغَيْرُهُ. وَقِرَاءَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ "دَكًّا"، يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا "دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا" [[راجع ج ٢٠ ص ٥٤.]] وَأَنَّ الْجَبَلَ مُذَكَّرٌ [[في ب وج: قراءة.]]. وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ "دَكَّاءَ" أَيْ جَعَلَهُ مِثْلَ أَرْضٍ دَكَّاءَ، وَهِيَ النَّاتِئَةُ [[الذي في مفردات الراغب: أرض دكاء مسواة.]] لَا تَبْلُغُ أَنْ تَكُونَ جَبَلًا. وَالْمُذَكَّرُ أَدَكُّ، وَجَمْعُ دَكَّاءَ دكاوات وَدُكٌّ، مِثْلَ حَمْرَاوَاتٍ وَحُمْرٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الدُّكُّ مِنَ الْجِبَالِ: الْعِرَاضُ، وَاحِدُهَا أَدَكُّ. غَيْرُهُ: وَالدَّكَّاوَاتُ جَمْعُ دَكَّاءَ: رَوَابٍ مِنْ طِينٍ لَيْسَتْ بِالْغِلَاظِ. وَالدِّكْدَاكُ كَذَلِكَ مِنَ الرَّمْلِ: مَا الْتَبَدَ بِالْأَرْضِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ. وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ لَا سَنَامَ لَهَا. وَفِي التَّفْسِيرِ: فَسَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ، فَهُوَ يَذْهَبُ فِيهَا حَتَّى الْآنَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَهُ تُرَابًا. عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: رَمْلًا هَائِلًا. (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أَيْ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ: مَيِّتًا، يُقَالُ: صَعِقَ الرَّجُلُ فَهُوَ صَعِقٌ. وَصُعِقَ فَهُوَ مَصْعُوقٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: خَرَّ مُوسَى صَعِقًا يَوْمَ الْخَمِيسَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأُعْطِيَ التَّوْرَاةَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ يَوْمَ النَّحْرِ. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: سَأَلَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَلِذَلِكَ تَابَ. وقيل: قال عَلَى جِهَةِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ وَالْخُشُوعِ لَهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ. وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ مَا كَانَتْ عَنْ مَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ. وَأَيْضًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الرُّؤْيَةُ جَائِزَةٌ. وَعِنْدَ الْمُبْتَدِعَةِ سَأَلَ لِأَجْلِ الْقَوْمِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي التَّوْبَةَ. فَقِيلَ: أَيْ تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ [[راجع ج ٥٤ من هذا الجزء.]] "بَيَانُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ جَائِزَةٌ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ سُؤَالُ مُوسَى مُسْتَحِيلًا مَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَا رَبِّ أَلَكَ صَاحِبَةٌ وَوَلَدٌ. وَسَيَأْتِي فِي" الْقِيَامَةِ [[راجع ج ١٩ ص ١٠٥.]] " مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قِيلَ: بن قَوْمِي. وَقِيلَ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَقِيلَ: بِأَنَّكَ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا لِوَعْدِكَ السَّابِقِ، فِي ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (لَا يخيروا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَصَعِقَ فِيمَنْ صعق فأفاق قبلي أو حوسب بصفته الْأُولَى (. أَوْ قَالَ (كَفَتْهُ صَعْقَتُهُ الْأُولَى). وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ كَعْبٍ قال: إن الله تبارك وتعالى قسم كَلَامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ، وَرَآهُ مُحَمَّدٌ ﷺ مرتين.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب