﴿وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِیۤ أَنظُرۡ إِلَیۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِی وَلَـٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِیۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكࣰّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقࣰاۚ فَلَمَّاۤ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [الأعراف ١٤٣]
﴿ولَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ أيْ لِلْوَقْتِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُ أيْ لِتَمامِ الأرْبَعِينَ كَما تَقُولُ أتَيْتُهُ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ، ومَعْنى اللّامِ الِاخْتِصاصُ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ وحْدَهُ خُصَّ بِالتَّكْلِيمِ إذْ جاءَ لِلْمِيقاتِ، وقالَ القاضِي: سَمِعَ هو والسَّبْعُونَ كَلامَ اللَّهِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خُلِقَ لَهُ إدْراكًا سَمِعَ بِهِ الكَلامَ القائِمَ بِالذّاتِ القَدِيمَةِ الَّذِي هو صِفَةُ ذاتٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ: أدْنى اللَّهُ تَعالى مُوسى حَتّى سَمِعَ صَرِيفَ الأقْلامِ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وكَلَّمَهُ رَبُّهُ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ كَما يُكَلِّمُ المَلَكَ، وتَكْلِيمُهُ أنْ يَخْلُقَ الكَلامَ مَنطُوقًا بِهِ في بَعْضِ الأجْرامِ كَما خَلَقَهُ مَحْفُوظًا في اللَّوْحِ، ورُوِيَ أنَّ مُوسى كانَ يَسْمَعُ الكَلامَ في كُلِّ جِهَةٍ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ كَلَّمَهُ أرْبَعِينَ يَوْمًا وأرْبَعِينَ لَيْلَةً وكَتَبَ لَهُ الألْواحَ، وقِيلَ: إنَّما كَلَّمَهُ في أوَّلِ الأرْبَعِينَ انْتَهى. وقالَ وهْبٌ كَلَّمَهُ في ألْفِ مَقامٍ وعَلى أثَرِ كُلِّ مَقامٍ يُرى نُورٌ عَلى وجْهِهِ ثَلاثَةَ أيّامٍ ولَمْ يَقْرَبِ النِّساءَ مُذْ كَلَّمَهُ اللَّهُ، وقَدْ أوْرَدُوا هُنا الخِلافَ الَّذِي في كَلامِ اللَّهِ، وهو مَذْكُورٌ، ودَلائِلُ المُخْتَلِفِينَ مَذْكُورٌ في كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ، وكَلَّمَهُ مَعْطُوفٌ عَلى جاءَ، وقِيلَ: حالَ، وعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ ”وكَلَّمْناهُ“ إلى قَوْلِهِ: وكَلَّمَهُ رَبُّهُ لِلْمَعْنى الَّذِي عَدَلَ إلى قَوْلِهِ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ، وفَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ.
* * *﴿قالَ رَبِّ أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ﴾ . قالَ السُّدِّيُّ وأبُو بَكْرٍ الهُذَلِيُّ: لَمّا كَلَّمَهُ وخَصَّهُ بِهَذِهِ المَرْتَبَةِ طَمَحَتْ هِمَّتُهُ إلى رُتْبَةِ الرُّؤْيَةِ وتَشَوَّفَ إلى ذَلِكَ فَسَألَ رَبَّهُ أنْ يُرِيَهُ نَفْسَهُ. قالَ الزَّجّاجُ: شَوَّقَهُ الكَلامُ فَعِيلَ صَبْرُهُ فَحَمَلَهُ عَلى سُؤالِ الرُّؤْيَةِ، وقالَ الرَّبِيعُ: لَمْ يَعْهَدْ إلَيْهِ في الرُّؤْيَةِ فَظَنَّ أنَّ السُّؤالَ في هَذا الوَقْتِ جائِزٌ، وقالَ السُّدِّيُّ: غارَ الشَّيْطانُ في الأرْضِ فَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقالَ إنَّما يُكَلِّمُكَ شَيْطانٌ فَسَألَ الرُّؤْيَةَ ولَوْ لَمْ تَجُزِ الرُّؤْيَةُ ما سَألَها ؟ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ورُؤْيَةُ اللَّهِ عِنْدَ الأشْعَرِيَّةِ وأهْلِ السُّنَّةِ جائِزَةٌ عَقْلًا؛ لِأنَّهُ مِن حَيْثُ هو مَوْجُودٌ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وقَرَّرَتِ الشَّرِيعَةُ رُؤْيَةَ اللَّهِ في الآخِرَةِ ومَنَعَتْ مِن ذَلِكَ في الدُّنْيا بِظَواهِرِ الشَّرْعِ، فَمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَسْألْ مُحالًا وإنَّما سَألَ جائِزًا، وقَوْلُهُ:
﴿لَنْ تَرانِي ولَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ﴾ الآيَةَ لَيْسَ بِجَوابِ مَن سَألَ مُحالًا وقَدْ قالَ تَعالى لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ:
﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [هود: ٤٦]، فَلَوْ سَألَ مُوسى مُحالًا لَكانَ في الجَوابِ زَجْرٌ ما وتَيْئِيسٌ، وقالَ الكِرْمانِيُّ وغَيْرُهُ: في الكَلامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَنْ تَرانِي في الدُّنْيا، وقِيلَ: لَنْ تَقْدِرَ أنْ تَرانِي، وقِيلَ: لَنْ تَرانِي بِسُؤالِكَ، وقِيلَ: لَنْ تَرانِي ولَكِنْ سَتَرانِي حِينَ أتَجَلّى لِلْجَبَلِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَلَبَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ وهو مِن أعْلَمِ النّاسِ بِاللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ وما يَجُوزُ عَلَيْهِ وما لا يَجُوزُ وبِتَعالِيهِ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي هي إدْراكٌ بِبَعْضِ الحَواسِّ وذَلِكَ إنَّما يَصِحُّ فِيما كانَ في جِهَةٍ وما لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا عَرَضٍ فَمُحالٌ أنْ يَكُونَ في جِهَةٍ، ومَنعُ المُجْبِرَةِ إحالَتُهُ في العُقُولِ غَيْرُ لازِمٍ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِأوَّلِ مُكابَرَتِهِمْ وارْتِكابِهِمْ وكَيْفَ يَكُونُ طالِبَهُ وقَدْ قالَ حِينَ أخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الَّذِينَ قالُوا أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إلى قَوْلِهِ:
﴿تُضِلُّ بِها مَن تَشاءُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] فَتَبَرَّأ مِن فِعْلِهِمْ ودَعاهم سُفَهاءَ وضُلّالًا، قُلْتُ: ما كانَ طَلَبُهُ الرُّؤْيَةَ إلّا لِيُسْكِتَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ دَعاهم سُفَهاءَ وضُلّالًا وتَبَرَّأ مِن فِعْلِهِمْ ولِيُلْقِمَهُمُ الحُجَّةَ، وذَلِكَ أنَّهم حِينَ طَلَبُوا الرُّؤْيَةَ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ وأعْلَمَهُمُ الخَطَأ ونَبَّهَهم عَلى الحَقِّ فَلَجُّوا وتَمادَوْا في لَجاجِهِمْ وقالُوا لا بُدَّ ولَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَراهُ فَأرادَ أنْ يَسْمَعُوا النَّصَّ مِن عِنْدِ اللَّهِ بِاسْتِحالَةِ ذَلِكَ، وهو قَوْلُهُ لَنْ تَرانِي لِيَتَيَقَّنُوا ويَنْزاحَ عَنْهم ما كانَ داخِلَهم مِنَ الشُّبْهَةِ فَلِذَلِكَ قالَ:
﴿رَبِّ أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ﴾ فَإنْ قُلْتَ: فَهَلّا قالَ أرِهِمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ قُلْتُ: لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ إنَّما كَلَّمَ مُوسى وهم يَسْمَعُونَ فَلَمّا سَمِعُوا كَلامَ رَبِّ العِزَّةِ أرادُوا أنْ يَرى مُوسى ذاتَهُ فَيُبْصِرُوهُ مَعَهُ كَما أسْمَعَهُ كَلامَهُ فَسَمِعُوهُ مَعَهُ، إرادَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى قِياسٍ فاسِدٍ، فَلِذَلِكَ قالَ مُوسى
﴿أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ﴾؛ ولِأنَّهُ إذا زُجِرَ عَمّا طَلَبَ وأنْكَرَ عَلَيْهِ مَعَ نُبُوَّتِهِ واخْتِصاصِهِ وزُلْفَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وقِيلَ لَهُ لَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كانَ غَيْرُهُ أوْلى بِالإنْكارِ ولِأنَّ الرَّسُولَ إمامُ أُمَّتِهِ فَكانَ ما يُخاطَبُ بِهِ أوْ يُخاطِبُ راجِعًا إلَيْهِمْ، وقَوْلُهُ
﴿أنْظُرْ إلَيْكَ﴾ وما فِيهِ مِن مَعْنى المُقابَلَةِ الَّتِي هي مَحْضُ التَّشْبِيهِ والتَّجْسِيمِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ تَرْجَمَةٌ عَلى مُقْتَرَحِهِمْ وحِكايَةٌ لِقَوْلِهِمْ وجَلَّ صاحِبُ الجُمَلِ أنْ يَجْعَلَ اللَّهَ مَنظُورًا إلَيْهِ مُقابَلًا بِحاسَّةِ النَّظَرِ، فَكَيْفَ بِمَن هو أعْرَقُ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ مِن واصِلِ بْنِ عَطاءٍ وعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ والنَّظّامِ وأبِي الهُذَيْلِ والشَّيْخَيْنِ وجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، وثانِي مَفْعُولَيْ أرِنِي مَحْذُوفٌ، أيْ (أرِنِي) نَفْسَكَ اجْعَلْنِي مُتَمَكِّنًا مِن رُؤْيَتِكَ بِأنْ تَتَجَلّى لِي فَأنْظُرَ إلَيْكَ انْتَهى.
﴿قالَ لَنْ تَرانِي﴾ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَصَّ عَلى مَنعِهِ الرُّؤْيَةَ في الدُّنْيا ولَنْ تَنْفِيَ المُسْتَقْبَلَ فَلَوْ بَقِينا عَلى هَذا النَّفْيِ بِمُجَرَّدِهِ لَتَضَمَّنَ أنَّ مُوسى لا يَراهُ أبَدًا ولا في الآخِرَةِ لَكِنْ ورَدَ مِن جِهَةٍ أُخْرى الحَدِيثُ المُتَواتِرُ أنَّ أهْلَ الإيمانِ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعالى يَوْمَ القِيامَةِ فَمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أحْرى بِرُؤْيَتِهِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى (لَنْ)، قُلْتُ: تَأْكِيدُ النَّفْيِ الَّذِي تُعْطِيهِ لا وذَلِكَ أنَّ لا تَنْفِي المُسْتَقْبَلَ تَقُولُ لا أفْعَلُ غَدًا فَإذا أكَّدْتَ نَفْيَها قُلْتَ لَنْ أفْعَلَ غَدًا، والمَعْنى أنَّ فِعْلَهُ يُنافِي حالِي، كَقَوْلِهِ:
﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣] وقَوْلُهُ:
﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] نَفْيٌ لِلرُّؤْيَةِ فِيما يُسْتَقْبَلُ ولَنْ تَرانِي تَأْكِيدٌ وبَيانٌ فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ قالَ لَنْ تَرانِي ولَمْ يَقُلْ لَنْ تَنْظُرَ إلَيَّ لِقَوْلِهِ أنْظُرْ إلَيْكَ، قُلْتُ: لَمّا قالَ أرِنِي بِمَعْنى اجْعَلْنِي مُتَمَكِّنًا مِنَ الرُّؤْيَةِ الَّتِي هي الإدْراكُ عَلِمَ أنَّ الطَّلِبَةَ هي الرُّؤْيَةُ لا النَّظَرُ الَّذِي لا إدْراكَ مَعَهُ، فَقِيلَ لَنْ تَرانِي ولَمْ يَقُلْ لَنْ تَنْظُرَ إلَيَّ.
* * *﴿ولَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي﴾ قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: ولَكِنْ سَأتَجَلّى لِلْجَبَلِ الَّذِي هو أقْوى مِنكَ وأشَدُّ فَإنِ اسْتَقَرَّ وأطاقَ الصَّبْرَ لِهَيْبَتِي فَسَيُمْكِنُكَ أنْتَ رُؤْيَتِي، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَعَلى هَذا إنَّما جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الجَبَلَ مِثالًا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما المَعْنى سَأبْتَدِئُ لَكَ عَلى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ لِعَظَمَتِي فَسَوْفَ تَرانِي انْتَهى. وتَعْلِيقُ الرُّؤْيَةِ عَلى تَقْدِيرِ الِاسْتِقْرارِ مُؤْذِنٌ بِعَدَمِها إنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ، ونَبَّهَ بِذَلِكَ عَلى أنَّ الجَبَلَ مَعَ شِدَّتِهِ وصَلابَتِهِ إذا لَمْ يَسْتَقِرَّ، فالآدَمِيُّ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ أوْلى بِأنْ لا يَسْتَقِرَّ وهَذا تَسْكِينٌ لِقَلْبِ مُوسى وتَخْفِيفٌ عَنْهُ مِن ثِقَلِ أعْباءِ المَنعِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ اتَّصَلَ الِاسْتِدْراكُ في قَوْلِهِ تَعالى
﴿ولَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ﴾ بِما قَبْلَهُ، قُلْتُ: تَصِلُ بِهِ عَلى مَعْنى أنَّ النَّظَرَ إلَيَّ مُحالٌ فَلا تَطْلُبْهُ، ولَكِنْ عَلَيْكَ بِنَظَرٍ آخَرَ وهو أنْ تَنْظُرَ إلى الجَبَلِ الَّذِي يَرْجُفُ بِكَ وبِمَن طَلَبَ الرُّؤْيَةَ لِأجْلِهِمْ كَيْفَ أفْعَلُ بِهِ وكَيْفَ أجْعَلُهُ دَكًّا بِسَبَبِ طَلَبِكَ لِلرُّؤْيَةِ لِتَسْتَعْظِمَ ما أقْدَمْتَ عَلَيْهِ بِما أُرِيكَ مِن عَظِيمِ أثَرِهِ، كَأنَّهُ عَزَّ وعَلا حَقَّقَ عِنْدَ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ ما مَثَّلَهُ عِنْدَ نِسْبَةِ الوَلَدِ إلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ [مريم: ٩٠] ﴿أنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا﴾ [مريم: ٩١] ﴿فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ﴾ كَما كانَ مُسْتَقِرًّا ثابِتًا ذاهِبًا في جِهاتِهِ
﴿فَسَوْفَ تَرانِي﴾ تَعْرِيضٌ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ لِوُجُودِ ما لا يَكُونُ مِنَ اسْتِقْرارِ الجَبَلِ مَكانَهُ حَتّى يَدُكَّهُ دَكًّا ويُسَوِّيَهُ بِالأرْضِ، وهَذا كَلامٌ مُدْمَجٌ بَعْضُهُ في بَعْضٍ، وأُورِدَ عَلى أُسْلُوبٍ عَجِيبٍ ونَظْمٍ بَدِيعٍ ألا تَرى كَيْفَ تَخَلَّصَ مِنَ النَّظَرِ إلى النَّظَرِ بِكَلِمَةِ الِاسْتِدْراكِ ثُمَّ كَيْفَ ثَنّى بِالوَعِيدِ بِالرَّجْفَةِ الكائِنَةِ بِسَبَبِ طَلَبِ النَّظَرِ عَلى الشَّرِيطَةِ في وُجُودِ الرُّؤْيَةِ، أعْنِي قَوْلَهُ:
﴿فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي﴾ انْتَهى. وهو عَلى طَرِيقَةِ المُعْتَزِلَةِ في نَفْيِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى، ولَهم في ذَلِكَ أقاوِيلُ أرْبَعَةٌ: أحَدُها: ما رَوَوْا عَنِ الحَسَنِ وغَيْرِهِ أنَّ مُوسى ما عَرَفَ أنَّ الرُّؤْيَةَ غَيْرُ جائِزَةٍ وهو عارِفٌ بِعَدْلِهِ وبِرَبِّهِ وبِتَوْحِيدِهِ فَلَمْ يَبْعُدْ أنْ يَكُونَ العِلْمُ بِامْتِناعِ الرُّؤْيَةِ وجَوازِها مَوْقُوفًا عَلى السَّماعِ، ورُدَّ ذَلِكَ وبِأنَّهُ يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ بِاللَّهِ أقَلَّ دَرَجَةً مِن مَعْرِفَةِ أرْذالِ المُعْتَزِلَةِ وذَلِكَ باطِلٌ بِالإجْماعِ، الثّانِي: قالَ الجُبّائِيُّ وابْنُهُ أبُو هاشِمٍ: سَألَ الرُّؤْيَةَ عَلى لِسانِ قَوْمِهِ فَقَدْ كانُوا مُكْثِرِينَ لِلْمَسْألَةِ عَنْها لا لِنَفْسِهِ فَلَمّا مُنِعَ ظَهَرَ أنْ لا سَبِيلَ إلَيْها، ورُدَّ بِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَقالَ أرِهِمْ يَنْظُرُوا إلَيْكَ ولَقِيلَ لَنْ تَرَوْنِي، وأيْضًا لَوْ كانَ مُحالًا لَمَنَعَهم عَنْهُ كَما مَنَعَهم عَنْ جَعْلِ الآلِهَةِ لَهم بِقَوْلِهِ
﴿إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٨]، وقالَ الكَعْبِيُّ: سَألَهُ الآياتِ الباهِرَةَ الَّتِي عِنْدَها تَزُولُ الخَواطِرُ والوَساوِسُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ كَما تَقُولُ في مَعْرِفَةِ أهْلِ الآخِرَةِ، ورُدَّ ذَلِكَ بِأنَّهُ يَقْتَضِي حَذْفُ مُضافٍ، وسِياقُ الكَلامِ يَأْبى ذَلِكَ فَقَدْ أراهُ مِنَ الآياتِ ما لا غايَةَ بَعْدَها كالعَصا وغَيْرِها، وقالَ الأصَمُّ: المَقْصُودُ أنْ يَذْكُرَ مِنَ الدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ ما يَدُلُّ عَلى امْتِناعِ الرُّؤْيَةِ حَتّى يَتَأكَّدَ الدَّلِيلُ العَقْلِيُّ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، و”ألْ“ في ”الجَبَلِ“ لِلْعَهْدِ وهو أعْظَمُ جَبَلٍ بِمَدْيَنَ يُقالُ لَهُ أرَرْيَيْنُ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ تَطاوَلَتِ الجِبالُ لِلتَّجَلِّي وتَواضَعَ أرَرْيَيْنُ فَتَجَلّى لَهُ.
* * *﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمّا أفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿قالَ يا مُوسى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ بِرِسالاتِي وبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٤] ﴿وكَتَبْنا لَهُ في الألْواحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأحْسَنِها سَأُرِيكم دارَ الفاسِقِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٥] ﴿سَأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأنَّهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وكانُوا عَنْها غافِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٦] ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ولِقاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أعْمالُهم هَلْ يُجْزَوْنَ إلّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٤٧] ﴿واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِن بَعْدِهِ مِن حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ ألَمْ يَرَوْا أنَّهُ لا يُكَلِّمُهم ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وكانُوا ظالِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٨] ﴿ولَمّا سُقِطَ في أيْدِيهِمْ ورَأوْا أنَّهم قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا ويَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٩] ﴿ولَمّا رَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفًا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أعَجِلْتُمْ أمْرَ رَبِّكم وألْقى الألْواحَ وأخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ ولا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٥٠] ﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِأخِي وأدْخِلْنا في رَحْمَتِكَ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ [الأعراف: ١٥١] ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنالُهم غَضَبٌ مِن رَبِّهِمْ وذِلَّةٌ في الحَياةِ الدُّنْيا وكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٥٢] ﴿والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِن بَعْدِها وآمَنُوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأعراف: ١٥٣] ﴿ولَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ أخَذَ الألْواحَ وفي نُسْخَتِها هُدًى ورَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هم لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٤] التَّجَلِّي: الظُّهُورُ. الدَّكُّ: مَصْدَرُ دَكَكْتُ الشَّيْءَ فَتَّتُهُ وسَحَقْتُهُ مَصْدَرٌ في مَعْنى المَفْعُولِ والدَّكُّ والدَّقُّ بِمَعْنًى واحِدٍ، وقالَ ابْنُ عَزِيزٍ: دَكًّا مُسْتَوِيًا مَعَ الأرْضِ. الخُرُورُ: السُّقُوطُ. أفاقَ: ثابَ إلَيْهِ حِسُّهُ وعَقْلُهُ. اللَّوْحُ: مَعْرُوفٌ، وهو يُعَدُّ لِلْكِتابَةِ وغَيْرِها وأصْلُهُ اللَّمْعُ تَلْمَعُ وتَلُوحُ فِيهِ الأشْياءُ المَكْتُوبَةُ. الحُلِيُّ: مَعْرُوفٌ وهو ما يَتَزَيَّنُ بِهِ النِّساءُ مِن فِضَّةٍ وذَهَبٍ وجَوْهَرٍ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحَجَرِ النَّفِيسِ. الخُوارُ: صَوْتُ البَقَرَةِ. الأسَفُ: الحُزْنُ يُقالُ: أسِفَ يَأْسَفُ. الجَرُّ: الجَذْبُ. الإشْماتُ: السُّرُورُ بِما يَنالُ الشَّخْصَ مِنَ المَكْرُوهِ. السُّكُوتُ والسُّكاتُ: الصَّمْتُ.
* * *﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وخَرَّ مُوسى صَعِقًا﴾ تَرَتَّبَ عَلى التَّجَلِّي أمْرانِ أحَدُهُما: تَفَتُّتُ الجَبَلِ وتَفَرُّقُ أجْزائِهِ، والثّانِي خُرُورُ مُوسى مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وجَماعَةُ المُفَسِّرِينَ، وقالَ السُّدِّيُّ: مَيِّتًا ويُبْعِدُهُ لَفْظَةُ أفاقَ، والتَّجَلِّي بِمَعْنى الظُّهُورِ الجُسْمانِيِّ مُسْتَحِيلٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَوْمٌ: لَمّا وقَعَ نُورُهُ عَلَيْهِ تَدَكْدَكَ، وقالَ المُبَرِّدُ: المَعْنى ظَهَرَ لِلْجَبَلِ مِن مَلَكُوتِ اللَّهِ ما يُدَكْدَكُ بِهِ، وقِيلَ: ظَهَرَ جُزْءٌ مِنَ العَرْشِ لِلْجَبَلِ فَتَصَرَّعَ مِن هَيْبَتِهِ، وقِيلَ: ظَهَرَ أمْرُهُ تَعالى، وقِيلَ: (تَجَلّى) لِأهْلِ الجَبَلِ يُرِيدُ مُوسى والسَّبْعِينَ الَّذِينَ مَعَهُ، وقالَ الضَّحّاكُ: أظْهَرَ اللَّهُ مِن نُورِ الحُجُبِ مِثْلَ مَنخَرِ الثَّوْرِ، وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ وكَعْبُ الأحْبارِ: ما تَجَلّى مِن عَظَمَةِ اللَّهِ لِلْجَبَلِ إلّا مِثْلَ سَمِّ الخِياطِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَمّا ظَهَرَ لَهُ اقْتِدارُهُ وتَصَدّى لَهُ أمْرُهُ وإرادَتُهُ. انْتَهى. وقالَ المُتَأوِّلُونَ المُتَكَلِّمُونَ كالقاضِي أبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وغَيْرِهِ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَبَلِ حَياةً وحِسًّا وإدْراكًا يَرى بِهِ، ثُمَّ تَجَلّى لَهُ، أيْ: ظَهَرَ وبَدا فانْدَكَّ الجَبَلُ لِشِدَّةِ المَطْلَعِ فَلَمّا رَأى مُوسى ما بِالجَبَلِ صُعِقَ، وهَذا المَعْنى مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والظّاهِرُ نِسْبَةُ التَّجَلِّي إلَيْهِ تَعالى عَلى ما يَلِيقُ بِهِ مِن غَيْرِ انْتِقالٍ ولا وصْفٍ يَدُلُّ عَلى الجِسْمِيَّةِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: صارَ تُرابًا. وقالَ مُقاتِلٌ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً، وقِيلَ: صارَ سِتَّةَ أجْبُلٍ، ثَلاثَةٌ بِالمَدِينَةِ أُحُدٌ ووَرِقانُ ورَضْوى، وثَلاثَةٌ بِمَكَّةَ ثَوْرٌ وثَبِيرٌ وحِراءٌ، رَواهُ أنَسٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقِيلَ: ذَهَبَ أعْلاهُ وبَقِيَ أسْفَلُهُ، وقِيلَ: صارَ غُبارًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وقالَ سُفْيانُ: رُوِيَ أنَّهُ انْساحَ في الأرْضِ وأفْضى إلى البَحْرِ الَّذِي تَحْتَ الأرَضِينَ، قالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ: فَهو يَهْوِي فِيهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وقالَ الجُمْهُورُ (دَكًّا)، أيْ: مَدْكُوكًا، أوْ ذا دَكٍّ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: دَكّاءَ عَلى وزْنِ حَمْراءَ والدَّكّاءُ النّاقَةُ الَّتِي لا سَنامَ لَها، والمَعْنى: جَعَلَهُ أرْضًا دَكّاءَ تَشْبِيهًا بِالنّاقَةِ الدَّكّاءِ، وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ: ابْسُطْ يَدَكَ دَكّاءَ، أيْ: مُدَّها مُسْتَوِيَةً، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ والدَّكّاءُ اسْمٌ لِلرّابِيَةِ النّاشِرَةِ مِنَ الأرْضِ كالدَّكَّةِ. انْتَهى. وهَذا يُناسِبُ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجُمْلَتِهِ وإنَّما ذَهَبَ أعْلاهُ وبَقِيَ أكْثَرُهُ، وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ (دُكًّا)، أيْ: قِطَعًا جُمَعُ دَكّاءَ، نَحْوُ غُزٍّ جَمْعُ غَزّاءَ، وانْتَصَبَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِجَعَلَهُ ويَضْعُفُ قَوْلُ الأخْفَشِ إنَّ نَصْبَهُ مِن بابِ قَعَدْتُ جُلُوسًا، (وصَعِقًا) حالٌ مُقارِنَةٌ، ويُقالُ صَعَقَهُ فَصُعِقَ وهو مِنَ الأفْعالِ الَّتِي تَعَدَّتْ بِالحَرَكَةِ، نَحْوُ شَتَرَ اللَّهُ عَيْنَهُ فَشُتِرَتْ، والظّاهِرُ أنَّ مُوسى والجَبَلَ لَمْ يُطِيقا رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعالى حِينَ تَجَلّى فَلِذَلِكَ انْدَكَّ الجَبَلُ، وصَعِقَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وحَكى عِياضُ بْنُ مُوسى عَنِ القاضِي أبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ رَأى اللَّهَ فَلِذَلِكَ خَرَّ صَعِقًا، وأنَّ الجَبَلَ رَأى رَبَّهُ فَلِذَلِكَ صارَ دَكًّا بِإدْراكِ كُلْفَةِ اللَّهِ لَهُ، وذَكَرَ أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْ كَعْبٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قَسَّمَ كَلامَهُ ورُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ ومُوسى - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِما وسَلَّمَ - فَكَلَّمَ مُوسى مَرَّتَيْنِ ورَآهُ مُحَمَّدٌ ﷺ مَرَّتَيْنِ، وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ مِن رُؤْيَتِهِ مَلائِكَةَ السَّماواتِ السَّبْعِ، وحَمَلَةَ العَرْشِ وهَيْئاتِهِمْ وأعْدادَهم ما اللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
﴿فَلَمّا أفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ﴾ . أيْ: مِن مَسْألَةِ الرُّؤْيَةِ في الدُّنْيا. قالَهُ مُجاهِدٌ، أوْ ومِن سُؤالِها قَبْلَ الِاسْتِئْذانِ، أوْ عَنْ صَغائِرِي حَكاهُ الكِرْمانِيُّ، أوْ قالَ ذاكَ عَلى سَبِيلِ الإنابَةِ إلى اللَّهِ تَعالى والرُّجُوعِ إلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِ الآياتِ عَلى ما جَرَتْ بِهِ عادَةُ المُؤْمِنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ العَظائِمِ، ولَيْسَتْ تَوْبَةً عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، أشارَ إلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (قالَ سُبْحانَكَ) أُنَزِّهُكَ عَنْ ما لا يَجُوزُ عَلَيْكَ مِنَ الرُّؤْيَةِ وغَيْرِها (تُبْتُ إلَيْكَ) مِن طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، فَإنْ قُلْتَ: فَإنْ كانَ طَلَبُ الرُّؤْيَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ فَمِمَّ تابَ، قُلْتُ: عَنْ إجْرائِهِ تِلْكَ المَقالَةِ العَظِيمَةِ وإنْ كانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ عَلى لِسانِهِ مِن غَيْرِ إذْنٍ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى فانْظُرْ إلى إعْظامِ اللَّهِ تَعالى أمْرَ الرُّؤْيَةِ في هَذِهِ الآيَةِ، وكَيْفَ أرْجَفَ الجَبَلَ بِطالِبِيها، وجَعَلَهُ دَكًّا، وكَيْفَ أصْعَقَهم، ولَمْ يُخَلِّ كَلِيمَهُ مِن نَفْيانِ ذَلِكَ مُبالَغَةً في إعْظامِ الأمْرِ، وكَيْفَ سَبَّحَ رَبَّهُ مُلْتَجِئًا إلَيْهِ وتابَ مِن إجْراءِ تِلْكَ الكَلِمَةِ عَلى لِسانِهِ وقالَ: أنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ تَعَجَّبَ مِنَ المُتَسَمِّينَ بِالإسْلامِ بِالمُتَسَمِّينَ بِأهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ كَيْفَ اتَّخَذُوا هَذِهِ العَظِيمَةَ مَذْهَبًا، ولا يَغُرَّنَّكَ تَسَتُّرُهم بِالبَلْكَفَةِ فَإنَّهُ مِن مَنصُوباتِ أشْياخِهِمْ، والقَوْلُ ما قالَهُ بَعْضُ العَدْلِيَّةِ فِيهِمْ:
لِجَماعَةٍ سَمُّوا هَواهم سُنَّةً وجَماعَةٍ حُمْرٍ لَعَمْرِي مُؤْكَفَهْ
قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وتَخَوَّفُوا ∗∗∗ شَنَعَ الوَرى فَتَسَتَّرُوا بِالبَلْكَفَهْ
وهُوَ تَفْسِيرٌ عَلى طَرِيقَةِ المُعْتَزِلَةِ، وسَبٌّ لِأهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ عَلى عادَتِهِ، وقَدْ نَظَمَ بَعْضُ عُلَماءِ السُّنَّةِ عَلى وزْنِ هَذَيْنِ البَيْتَيْنِ وبَحْرِهِما، أنْشَدَنا الأُسْتاذُ العَلّامَةُ أبُو جَعْفَرٍ أحْمَدُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ بِغَرْناطَةَ إجازَةً إنْ لَمْ يَكُنْ سَماعًا ونَقَلْتُهُ مِن خَطِّهِ، قالَ أنْشَدَنا القاضِي الأدِيبُ العالِمُ أبُو الخَطّابِ مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ بْنِ خَلِيلٍ السَّكُونِيُّ بِقِراءَتِي عَلَيْهِ عَنْ أخِيهِ القاضِي أبِي بَكْرٍ مِن نَظْمِهِ:
شَبَّهْتَ جَهْلًا صَدْرَ أُمَّةِ أحْمَدَ ∗∗∗ وذَوِي البَصائِرِ بِالحَمِيرِ المُؤْكَفَهْ
وزَعَمْتَ أنْ قَدْ شَبَّهُوا مَعْبُودَهم ∗∗∗ وتَخَوَّفُوا فَتَسَتَّرُوا بِالبَلْكَفَهْ
ورَمَيْتَهم عَنْ نَبْعَةٍ سَوَّيْتَها ∗∗∗ رَمْيَ الوَلِيدِ غَدًا يُمَزِّقُ مُصْحَفَهْ
وجَبَ الخَسارُ عَلَيْكَ فانْظُرْ مُنْصِفًا ∗∗∗ في آيَةِ الأعْرافِ فَهي المُنْصِفَهْ
أتَرى الكَلِيمَ أتى بِجَهْلٍ ما أتى ∗∗∗ وأتى شُيُوخُكَ ما أتَوْا عَنْ مَعْرِفَهْ
وبِآيَةِ الأعْرافِ ويْكَ خُذِلْتُمُ ∗∗∗ فَوَقَفْتُمُ دُونَ المَراقِي المُزْلَفَهْ
لَوْ صَحَّ في الإسْلامِ عَقْدُكَ لَمْ تَقُلْ ∗∗∗ بِالمَذْهَبِ المَهْجُورِ مِن نَفْيِ الصِّفَهْ
إنَّ الوُجُوهَ إلَيْهِ ناظِرَةٌ بِذا ∗∗∗ جاءَ الكِتابُ فَقُلْتُمُ هَذا السَّفَهْ
فالنَّفْيُ مُخْتَصٌّ بِدارٍ بَعْدَها لَكَ ∗∗∗ لا أبا لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهْ
وأنْشَدْنا قاضِي القُضاةِ أبُو القاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ قاضِي القُضاةِ أبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهّابِ بْنِ خَلَفٍ العُلامِيُّ بِالقاهِرَةِ لِنَفْسِهِ:
قالُوا يُرِيدُ ولا يَكُونُ مُرادُهُ ∗∗∗ عَدَلُوا ولَكِنْ عَنْ طَرِيقِ المَعْرِفَهْ
﴿وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ: مِن مُؤْمِنِي بَنِي إسْرائِيلَ، وقِيلَ: مِن أهْلِ زَمانِهِ إنْ كانَ الكُفْرُ قَدْ طَبَّقَ الآفاقَ، وقالَ أبُو العالِيَةِ بِأنَّكَ لا تُرى في الدُّنْيا، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأنَّكَ لَسْتَ بِمَرْئِيٍّ ولا مُدْرَكٍ بِشَيْءٍ مِنَ الحَواسِّ، وقالَ أيْضًا بِعَظَمَتِكَ وجَلالِكَ، وأنَّ شَيْئًا لا يَقُومُ لِبَطْشِكَ وبَأْسِكَ. انْتَهى. وتَفْسِيرُهُ الأوَّلُ عَلى طَرِيقَةِ المُعْتَزِلَةِ، وقَدْ ذَكَرَ مُتَكَلِّمُو أهْلِ السُّنَّةِ دَلائِلَ عَلى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى سَمْعِيَّةً وعَقْلِيَّةً يُوقَفُ عَلَيْها وعَلى حُجَجِ الخُصُومِ في كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ.