﴿وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِیۤ أَنظُرۡ إِلَیۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِی وَلَـٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِیۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكࣰّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقࣰاۚ فَلَمَّاۤ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [الأعراف ١٤٣]
﴿ولَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا﴾ أيْ: لِوَقْتِنا الَّذِي وقَّتْناهُ أيْ: لِتَمامِ الأرْبَعِينَ، واللّامُ لِلِاخْتِصاصِ كَما في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ وهي بِمَعْنى عِنْدَ، عِنْدَ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ،
﴿وكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ بِحَرْفٍ وصَوْتٍ، ومَعَ هَذا لا يُشْبِهُ كَلامَ المَخْلُوقِينَ ولا مَحْذُورَ في ذَلِكَ كَما أوْضَحْناهُ في الفائِدَةِ الرّابِعَةِ، وإلى ما ذَكَرَهُ ذَهَبَ السَّلَفُ الصّالِحُ.
وقَدْ أخْرَجَ البَزّارُ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنْ جابِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
««لَمّا كَلَّمَ اللَّهُ تَعالى مُوسى يَوْمَ الطُّورِ كَلَّمَهُ بِغَيْرِ الكَلامِ الَّذِي كَلَّمَهُ يَوْمَ ناداهُ فَقالَ لَهُ مُوسى: يا رَبِّ، أهَذا كَلامُكَ الَّذِي كَلَّمْتَنِي بِهِ؟ قالَ: يا مُوسى، أنا كَلَّمْتُكَ بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلافِ لِسانٍ، ولِي قُوَّةُ الألْسُنِ كُلِّها وأقْوى مِن ذَلِكَ، فَلَمّا رَجَعَ مُوسى إلى بَنِي إسْرائِيلَ قالُوا: يا مُوسى، صِفْ لَنا كَلامَ الرَّحْمَنِ، فَقالَ: لا تَسْتَطِيعُونَهُ؛ ألَمْ تَرَوْا إلى صَوْتِ الصَّواعِقِ الَّذِي يُقْبِلُ في أحْلى حَلاوَةٍ سَمِعْتُمُوهُ فَذاكَ قَرِيبٌ مِنهُ ولَيْسَ بِهِ»».
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عَنْ أبِي الحُوَيْرِثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعاوِيَةَ قالَ:
««إنَّما كَلَّمَ اللَّهُ تَعالى مُوسى بِقَدْرِ ما يُطِيقُ مِن كَلامِهِ، ولَوْ تَكَلَّمَ بِكَلامِهِ كُلِّهِ لَمْ يُطِقْهُ شَيْءٌ»».
وأخْرَجَ جَماعَةٌ عَنْ كَعْبٍ قالَ:
«لَمّا كَلَّمَ اللَّهُ تَعالى مُوسى كَلَّمَهُ بِالألْسِنَةِ كُلِّها. فَجَعَلَ يَقُولُ: يا رَبِّ، لا أفْهَمُ حَتّى كَلَّمَهُ آخِرُ الألْسِنَةِ بِلِسانِهِ بِمِثْلِ صَوْتِهِ» الخَبَرَ.
وأخْرَجُوا عَنِ ابْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ أنَّهُ قالَ: قِيلَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ما شَبَّهْتَ كَلامَ رَبِّكَ مِمّا خَلَقَ فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: بِالرَّعْدِ السّاكِنِ.
وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:
«لَمّا خَرَجَ أخِي مُوسى إلى مُناجاةِ رَبِّهِ كَلَّمَهُ ألْفَ كَلِمَةٍ ومِائَتَيْ كَلِمَةٍ، فَأوَّلَ ما كَلَّمَهُ بِالبَرْبَرِيَّةِ».
ونُقِلَ عَنِ الأشْعَرِيِّ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما سَمِعَ الكَلامَ النَّفْسِيَّ القائِمَ بِذاتِ اللَّهِ تَعالى ولَمْ يَكُنْ ما سَمِعَهُ مُخْتَصًّا بِجِهَةٍ مِنَ الجِهاتِ، وحَمْلُهُ إلى سَماعٍ بِالفِعْلِ مُشْكِلٌ مَعَ الأخْبارِ الدّالَّةِ عَلى خِلافِهِ، والظّاهِرُ أنَّ ذَلِكَ إنْ صَحَّ نَقْلُهُ فَهو قَوْلٌ رَجَعَ عَنْهُ إلى مَذْهَبِ السَّلَفِ الَّذِي أبانَ عَنِ اعْتِقادِهِ لَهُ في الإبانَةِ.
﴿قالَ رَبِّ أرِنِي﴾ أيْ: ذاتَكَ أوْ نَفْسَكَ. فالمَفْعُولُ الثّانِي مَحْذُوفٌ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ، ولَمْ يُصَرِّحْ بِهِ تَأدُّبًا.
﴿أنْظُرْ إلَيْكَ﴾ مَجْزُومٌ في جَوابِ الدُّعاءِ، واسْتُشْكِلَ بِأنَّ الرُّؤْيَةَ مُسَبَّبَةٌ عَنِ النَّظَرِ مُتَأخِّرَةٌ عَنْهُ، كَما يُرِيكَ ذَلِكَ النَّظَرُ إلى قَوْلِهِمْ: نَظَرْتُ إلَيْهِ فَرَأيْتُهُ، ووَجَّهَهُ أنَّ النَّظَرَ تَقْلِيبُ الحَدَقَةِ نَحْوَ الشَّيْءِ التِماسًا لِرُؤْيَتِهِ، والرُّؤْيَةُ الإدْراكُ بِالباصِرَةِ بَعْدَ التَّقْلِيبِ وحِينَئِذٍ كَيْفَ يُجْعَلُ النَّظَرُ جَوابًا لِطَلَبِ الرُّؤْيَةِ مُسَبَّبًا عَنْهُ وهو عَكْسُ القَضِيَّةِ.
وأُجِيبَ بِأنَّ المُرادَ بِالإراءَةِ لَيْسَ إيجادَ الرُّؤْيَةِ بَلِ التَّمَكُّنَ مِنها مُطْلَقًا أوْ بِالتَّجَلِّي والظُّهُورِ وهو مُقَدَّمٌ عَلى النَّظَرِ وسَبَبٌ لَهُ، فَفي الكَلامِ ذِكْرُ المَلْزُومِ وإرادَةُ اللّازِمِ. أيْ: مَكِّنِّي مِن رُؤْيَتِكَ أوْ تَجَلَّ لِي فَأنْظُرُ إلَيْكَ وأراكَ.
﴿قالَ﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ رَبُّ العِزَّةِ حِينَ قالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ، فَقِيلَ: قالَ:
﴿لَنْ تَرانِي﴾ أيْ: لا قابِلِيَّةَ لَكَ لِرُؤْيَتِي وأنْتَ عَلى ما أنْتَ عَلَيْهِ، وهو نَفْيٌ لِلْإراءَةِ المَطْلُوبَةِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ.
﴿ولَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ﴾ اسْتِدْراكٌ لِبَيانِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يُطِيقُ الرُّؤْيَةَ، والمُرادُ مِنَ الجَبَلِ طُورُ سَيْناءَ، كَما ورَدَ في غَيْرِ ما خَبَرٍ، وفي تَفْسِيرِ الخازِنِ وغَيْرِهِ أنَّ اسْمَهُ زَبِيرٌ بِزايٍ مَفْتُوحَةٍ وباءٍ مُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وراءٍ مُهْمَلَةٍ بِوَزْنِ أمِيرٍ.
﴿فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ﴾ ولَمْ يُفَتِّتْهُ التَّجَلِّي
﴿فَسَوْفَ تَرانِي﴾ إذا تَجَلَّيْتُ لَكَ.
﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ أيْ: ظَهَرَ لَهُ عَلى الوَجْهِ اللّائِقِ بِجَنابِهِ تَعالى بَعْدَ جَعْلِهِ مُدْرِكًا لِذَلِكَ.
﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ أيْ: مَدْكُوكًا مُتَفَتِّتًا، والدَّكُّ والدَّقُّ أخَوانِ كالشَّكِّ والشَّقِّ. وقالَ شَيْخُنا الكُورانِيُّ: إنَّ الجَبَلَ مُنْدَرِجٌ في الأشْياءِ الَّتِي تُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللَّهِ بِنَصِّ:
﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ المَحْمُولِ عَلى ظاهِرِهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ المُسْتَلْزِمِ لِكَوْنِهِ حَيًّا مُدْرِكًا حَياةً وإدْراكًا لائِقَيْنِ بِعالَمِهِ ونَشْأتِهِ، وقِيلَ: هَذا مَثَلٌ لِظُهُورِ اقْتِدارِهِ سُبْحانَهُ وتَعَلُّقِ إرادَتِهِ بِما فَعَلَ بِالجَبَلِ لا أنَّ ثَمَّ تَجَلِّيًا، وهو نَظِيرُ ما قُرِّرَ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ مِن أنَّ المُرادَ أنَّ ما قَضاهُ سُبْحانَهُ وأرادَ كَوْنَهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الوُجُودِ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ لا أنَّ ثَمَّةَ قَوْلًا. وتَعَقَّبَهُ صاحِبُ الفَرائِدِ بِأنَّ هَذا المَعْنى غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الآيَةِ؛ لِأنَّ تَجَلّى مُطاوِعُ جَلَّيْتُهُ أيْ أظْهَرْتُهُ يُقالُ: جَلَّيْتُهُ فَتَجَلّى؛ أيْ: أظْهَرْتُهُ فَظَهَرَ.
ولا يُقَدَّرُ تَجَلِّي اقْتِدارِهِ؛ لِأنَّهُ خِلافُ الأصْلِ، عَلى أنَّ هَذا الحَمْلَ بَعِيدٌ عَنِ المَقْصُودِ بِمَراحِلَ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والتِّرْمِذِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحاهُ، والبَيْهَقِيُّ، وغَيْرُهم مِن طُرُقٍ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ:
«أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ﴾ إلَخْ. قالَ:
«هَكَذا وأشارَ بِإصْبَعَيْهِ ووَضَعَ طَرَفَ إبْهامِهِ عَلى أُنْمُلَةِ الخِنْصَرِ - وفي لَفْظٍ: - عَلى المِفْصَلِ الأعْلى مِنَ الخِنْصَرِ فَساخَ الجَبَلُ»».
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ما تَجَلّى مِنهُ سُبْحانَهُ لِلْجَبَلِ إلّا قَدْرُ الخِنْصَرِ فَجَعَلَهُ تُرابًا، وهَذا كَما لا يَخْفى مِنَ المُتَشابِهاتِ الَّتِي يُسْلَكُ فِيها طَرِيقُ التَّسْلِيمِ، وهو أسْلَمُ وأحْكَمُ أوِ التَّأْوِيلُ بِما يَلِيقُ بِجَلالِ ذاتِهِ تَعالى. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ (دَكّاءَ) بِالمَدِّ؛ أيْ: أرْضًا مُسْتَوِيَةً، ومِنهُ قَوْلُهُمْ: ناقَةٌ دَكّاءُ لِلَّتِي لَمْ يَرْتَفِعْ سَنامُها. وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ: (دُكًّا) بِضَمِّ الدّالِ والتَّنْوِينِ، جَمْعُ دَكّاءَ، كَحُمْرٍ وحَمْراءَ، أيْ: قِطَعًا دُكًّا فَهو صِفَةُ جَمْعٍ، وفي شَرْحِ التَّسْهِيلِ لِأبِي حَيّانَ أنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرى الأسْماءِ فَأُجْرِيَ عَلى المُذَكَّرِ.
﴿وخَرَّ مُوسى﴾ أيْ: سَقَطَ مِن هَوْلِ ما رَأى، وفَرَّقَ بَعْضُهم بَيْنَ السُّقُوطِ والخُرُورِ؛ بِأنَّ الأوَّلَ مُطْلَقٌ، والثّانِيَ سُقُوطٌ لَهُ صَوْتٌ كالخَرِيرِ.
﴿صَعِقًا﴾ أيْ: صاعِقًا وصائِحًا مِنَ الصَّعْقَةِ، والمُرادُ أنَّهُ سَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، ومَيِّتًا عِنْدَ قَتادَةَ.
رُوِيَ أنَّهُ بَقِيَ كَذَلِكَ مِقْدارَ جُمُعَةٍ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أخَذَتْهُ الغَشْيَةُ عَشِيَّةَ يَوْمِ الخَمِيسِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلى عَشِيَّةِ يَوْمِ الجُمُعَةِ، ونَقَلَ بَعْضُ القَصّاصِينَ أنَّ المَلائِكَةَ كانَتْ تَمُرُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ فَيَلْكُزُونَهُ بِأرْجُلِهِمْ ويَقُولُونَ: يا ابْنَ النِّساءِ الحُيَّضِ، أطَمِعْتَ في رُؤْيَةِ رَبِّ العِزَّةِ. وهو كَلامٌ ساقِطٌ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ؛ فَإنَّ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِمّا يَجِبُ تَبْرِئَتُهم مِن إهانَةِ الكَلِيمِ بِالوَكْزِ بِالرِّجْلِ والغَضِّ في الخِطابِ.
﴿فَلَمّا أفاقَ﴾ بِأنْ عادَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ قَبْلُ، وذَلِكَ بِعَوْدِ الرُّوحِ إلَيْهِ عَلى ما قالَ قَتادَةُ، أوْ بِعَوْدِ الفَهْمِ والحِسِّ عَلى ما قالَ غَيْرُهُ، والمَشْهُورُ أنَّ الإفاقَةَ رُجُوعُ العَقْلِ والفَهْمِ إلى الإنْسانِ بَعْدَ ذَهابِهِما عَنْهُ بِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ، ولا يُقالُ لِلْمَيِّتِ إذا عادَتْ إلَيْهِ رُوحُهُ أفاقَ، وإنَّما يُقالُ ذَلِكَ لِلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ؛ ولِهَذا اخْتارَ الأكْثَرُونَ ما قالَهُ الحَبْرُ.
﴿قالَ﴾ تَعْظِيمًا لِأمْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ:
﴿سُبْحانَكَ﴾ أيْ: تَنْزِيهًا لَكَ مِن مُشابَهَةِ خَلْقِكَ في شَيْءٍ، أوْ مِن أنْ يَثْبُتَ أحَدٌ لِرُؤْيَتِكَ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ قَبْلَها، أوْ مِن أنْ أسْألَكَ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنٍ مِنكَ.
﴿تُبْتُ إلَيْكَ﴾ مِنَ الإقْدامِ عَلى السُّؤالِ بِغَيْرِ إذْنٍ، وقِيلَ: مِن رُؤْيَةِ وُجُودِي والمَيْلِ مَعَ إرادَتِي.
﴿وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾ بِعَظَمَتِكَ وجَلالِكَ أوْ بِأنَّهُ لا يَراكَ أحَدٌ في هَذِهِ النَّشْأةِ فَيَثْبُتُ عَلى ما قِيلَ، وأرادَ كَما قالَ الكُورانِيُّ: أنَّهُ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ عَنْ ذَوْقٍ مَسْبُوقٍ بِعَيْنِ اليَقِينِ في نَظَرِهِ. وقِيلَ: أرادَ أوَّلَ المُؤْمِنِينَ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ السُّؤالُ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنكَ.
واسْتَدَلَّ أهْلُ السُّنَّةِ المُجَوِّزُونَ لِرُؤْيَتِهِ سُبْحانَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى جَوازِها في الجُمْلَةِ، واسْتَدَلَّ بِها المُعْتَزِلَةُ النُّفاةُ عَلى خِلافِ ذَلِكَ، وقامَتِ الحَرْبُ بَيْنَهُما عَلى ساقٍ، وخُلاصَةُ الكَلامِ في ذَلِكَ أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ قالُوا: إنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى إمْكانِ الرُّؤْيَةِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ سَألَها بِقَوْلِهِ:
﴿رَبِّ أرِنِي﴾ إلَخْ، ولَوْ كانَتْ مُسْتَحِيلَةً فَإنْ كانَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عالِمًا بِالِاسْتِحالَةِ فالعاقِلُ فَضْلًا عَنِ النَّبِيِّ مُطْلَقًا فَضْلًا عَمَّنْ هو مِن أُولِي العَزْمِ لا يَسْألُ المُحالَ ولا يَطْلُبُهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا لَزِمَ أنْ يَكُونَ آحادُ المُعْتَزِلَةِ ومَن حَصَّلَ طَرَفًا مِن عُلُومِهِمْ أعْلَمَ بِاللَّهِ تَعالى وما يَجُوزُ عَلَيْهِ وما لا يَجُوزُ مِنَ النَّبِيِّ الصَّفِيِّ، والقَوْلُ بِذَلِكَ غايَةُ الجَهْلِ والرُّعُونَةِ، وحَيْثُ بَطَلَ القَوْلُ بِالِاسْتِحالَةِ تَعَيَّنَ القَوْلُ بِالجَوازِ، والثّانِي أنَّ فِيها تَعْلِيقَ الرُّؤْيَةِ عَلى اسْتِقْرارِ الجَبَلِ وهو مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ، وما عُلِّقَ عَلى المُمْكِنِ مُمْكِنٌ، واعْتَرَضَ الخُصُومُ الوَجْهَ الأوَّلَ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ سَألَ الرُّؤْيَةَ وإنَّما سَألَ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِهِ تَعالى إلّا أنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ مَجازًا لِما بَيْنَهُما مِنَ التَّلازُمِ. والتَّعْبِيرُ بِأحَدِ المُتَلازِمَيْنِ عَنِ الآخَرِ شائِعٌ في كَلامِهِمْ، وإلى هَذا ذَهَبَ أبُو الهُذَيْلِ بْنُ العَلّافِ، وتابَعَهُ عَلَيْهِ الجُبّائِيُّ وأكْثَرُ البَصْرِيِّينَ، الثّانِي: أنّا سَلَّمْنا أنَّهُ لَمْ يَسْألِ العِلْمَ بَلْ سَألَ الرُّؤْيَةَ حَقِيقَةً لَكِنّا نَقُولُ: إنَّهُ سَألَ رُؤْيَةَ عَلَمٍ مِن أعْلامِ السّاعَةِ بِطَرِيقِ حَذْفِ المُضافِ وإقامَةِ المُضافِ إلَيْهِ مَقامَهُ، فَمَعْنى:
﴿أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ﴾ أرِنِي أنْظُرْ إلى عَلَمٍ مِن أعْلامِكَ الدّالَّةِ عَلى السّاعَةِ، وإلى هَذا ذَهَبَ الكَعْبِيُّ والبَغْدادِيُّونَ، الثّالِثُ: أنّا سَلَّمْنا أنَّهُ سَألَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعالى نَفْسِهِ حَقِيقَةً ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بَلْ لِدَفْعِ قَوْمِهِ القائِلِينَ:
﴿أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ وإنَّما أضافَ الرُّؤْيَةَ إلَيْهِ دُونَهم لِيَكُونَ مَنعُهُ أبْلَغَ في دَفْعِهِمْ ورَدْعِهِمْ عَمّا سَألُوهُ تَنْبِيهًا بِالأعْلى عَلى الأدْنى، وإلى هَذا ذَهَبَ الجاحِظُ ومُتَّبِعُوهُ، الرّابِعُ: أنّا سَلَّمْنا أنَّهُ سَألَ لِنَفْسِهِ لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ ذَلِكَ يُنافِي العِلْمَ بِالإحالَةِ؛ إذِ المَقْصُودُ مِن سُؤالِها إنَّما هُوَ: أنْ يَعْلَمَ الإحالَةَ بِطَرِيقٍ سَمْعِيٍّ مُضافٍ إلى ما عِنْدَهُ مِنَ الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ، وذَلِكَ جائِزٌ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ طَلَبُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إراءَةَ كَيْفِيَّةِ إحْياءِ المَوْتى، وقَوْلُهُ:
﴿ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ، الخامِسُ: أنّا سَلَّمْنا أنَّ سُؤالَ الرُّؤْيَةِ يُنافِي العِلْمَ بِالإحالَةِ لَكِنّا نَلْتَزِمُ القَوْلَ بِعَدَمِ العِلْمِ وهو غَيْرُ قادِحٍ في نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ فَإنَّ النُّبُوَّةَ لا تَتَوَقَّفُ عَلى العِلْمِ بِجَمِيعِ العَقائِدِ الحَقَّةِ أوْ جَمِيعِ ما يَجُوزُ عَلَيْهِ تَعالى وما لا يَجُوزُ، بَلْ عَلى ما يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الغَرَضُ مِنَ البَعْثَةِ والدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ تَعالى وهو وحْدانِيَّتُهُ وتَكْلِيفُ عِبادِهِ بِالأوامِرِ والنَّواهِي تَحْرِيضًا لَهم عَلى النَّعِيمِ المُقِيمِ، ولَيْسَ امْتِناعُ الرُّؤْيَةِ مِن هَذا القَبِيلِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّهُ سَألَ وُقُوعَ الرُّؤْيَةِ في الدُّنْيا وهي غَيْرُ واقِعَةٍ عِنْدَنا وعِنْدَكُمْ، ونُسِبَ هَذا القَوْلُ إلى الحَسَنِ مِنّا وهو غَرِيبٌ مِنهُ.
السّادِسُ: أنا سَلَّمْنا العِلْمَ بِالإحالَةِ لَكِنْ لا نُسَلِّمُ امْتِناعَ السُّؤالِ، وإنَّما يَمْتَنِعُ أنْ لَوْ كانَ مُحَرَّمًا في شَرْعِهِ، لِمَ لا يَجُوزُ أنْ لا يَكُونَ مُحَرَّمًا؟
السّابِعُ: أنّا سَلَّمْنا الحُرْمَةَ لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ، لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ صَغِيرَةً وهي غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ؟
وتَكَلَّمُوا عَلى الوَجْهِ الثّانِي مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّهُ عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ عَلى أمْرٍ مُمْكِنٍ؛ لِأنَّ التَّعْلِيقَ لَمْ يَكُنْ عَلى اسْتِقْرارِ الجَبَلِ حالَ سُكُونِهِ وإلّا لَوُجِدَتِ الرُّؤْيَةُ ضَرُورَةَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأنَّ الجَبَلَ حالَ سُكُونِهِ كانَ مُسْتَقِرًّا بَلْ عَلى اسْتِقْرارِهِ حالَ حَرَكَتِهِ، وهو مُحالٌ لِذاتِهِ، والثّالِثُ: أنّا وإنْ سَلَّمْنا أنَّ اسْتِقْرارَ الجَبَلِ مُمْكِنٌ لَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ المُعَلَّقَ بِالمُمْكِنِ مُمْكِنٌ، فَإنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنِ انْعَدَمَ المَعْلُولُ انْعَدَمَتِ العِلَّةُ، والعِلَّةُ قَدْ تَكُونُ مُمْتَنِعَةَ العَدَمِ مَعَ إمْكانِ المَعْلُولِ في نَفْسِهِ كالصِّفاتِ بِالنِّسْبَةِ إلى الذّاتِ عِنْدَ المُتَكَلِّمِينَ، والعَقْلِ الأوَّلِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ تَعالى عِنْدَ الحُكَماءِ، فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ المُمْتَنِعَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالِاسْتِقْرارِ المُمْكِنِ، والسِّرُّ في جَوازِ ذَلِكَ أنَّ الِارْتِباطَ بَيْنَ المُعَلِّقِ والمُعَلَّقِ عَلَيْهِ إنَّما هُوَ: بِحَسْبِ الوُقُوعِ؛ بِمَعْنى أنَّهُ إنْ وقَعَ عَدَمُ المَعْلُولِ وقَعَ عَدَمُ العِلَّةِ، والمُمْكِنُ الذّاتِيُّ قَدْ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الوُقُوعِ الذّاتِيِّ فَيَجُوزُ التَّعْلِيقُ بَيْنَهُما، ولَيْسَ الِارْتِباطُ بَيْنَهُما بِحَسْبِ الإمْكانِ حَتّى يَلْزَمَ إمْكانَ المُعَلَّقِ عَلَيْهِ إمْكانُ المُعَلِّقِ، ثُمَّ إنّا وإنْ سَلَّمْنا دَلالَةَ ما ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الوَجْهَيْنِ عَلى جَوازِ الرُّؤْيَةِ فَهو مُعارَضٌ بِما يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الجَوازِ، فَإنَّ (لَنْ) في الآيَةِ لِتَأْبِيدِ النَّفْيِ وتَأْكِيدِهِ، وأيْضًا قَوْلُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ:
﴿تُبْتُ إلَيْكَ﴾ دَلِيلُ كَوْنِهِ مُخْطِئًا في سُؤالِهِ، ولَوْ كانَتِ الرُّؤْيَةُ جائِزَةً لَما كانَ مُخْطِئًا، والزَّمَخْشَرِيُّ عامَلَهُ اللَّهُ تَعالى بِعَدْلِهِ زَعَمَ أنَّ الآيَةَ أبْلَغُ دَلِيلٍ عَلى عَدَمِ إمْكانِ الرُّؤْيَةِ، وذَكَرَ في كَشّافِهِ ما ذَكَرَ وقالَ: ثُمَّ أعْجَبُ مِنَ المُتَسَمِّينَ بِالإسْلامِ المُسَمَّيْنِ بِأهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ كَيْفَ اتَّخَذُوا هَذِهِ العَظِيمَةَ مَذْهَبًا ولا يُغْرُنَّكَ تَسَتُّرُهم بِالبَلْكَفَةِ فَإنَّهُ مِن مَنصُوباتِ أشْياخِهِمْ، والقَوْلُ ما قالَ بَعْضُ العَدْلِيَّةِ فِيهِمْ:
وجَماعَةٍ سَمَّوْا هَواهم سُنَّةً لَجَماعَةٌ حُمُرٌ لَعَمْرِي مُوكَفَهْ
قَدْ شَبَّهُوهُ بِخَلْقِهِ وتَخَوَّفُوا شُنَعَ الوَرى فَتَسَتَّرُوا بِالبَلْكَفَةْ
وأُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما سَألَ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأنَّهُ لَوْ كانَتِ الرُّؤْيَةُ بِمَعْنى العِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَكانَ النَّظَرُ المَذْكُورُ بَعُدَ أيْضًا بِمَعْناهُ ولَيْسَ كَذَلِكَ، فَإنَّ النَّظَرَ المَوْصُولَ بِإلى نَصٌّ في الرُّؤْيَةِ لا يَحْتَمِلُ سِواهُ فَلا يُتْرَكُ لِلِاحْتِمالِ، وفي شَرْحِ المَواقِفِ أنَّ طَلَبَ العِلْمِ الضَّرُورِيِّ لِمَن يُخاطِبُهُ ويُناجِيهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وأُورِدَ عَلَيْهِ أنَّ المُرادَ هو العِلْمُ بِهُوِيَّتِهِ الخاصَّةِ، والخِطابُ لا يَقْتَضِي إلّا العِلْمَ بِوَجْهٍ كَمَن يُخاطِبُنا مِن وراءِ الجِدارِ، والمُرادُ بِالعِلْمِ بِالهُوِيَّةِ الخاصَّةِ انْكِشافُ هُوِيَّتِهِ تَعالى عَلى وجْهٍ جُزْئِيٍّ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ عِنْدَ العَقْلِ صِدْقُهُ عَلى كَثِيرِينَ كَما في المَرْئِيِّ بِحاسَّةِ البَصَرِ، ولا شَكَّ في كَوْنِهِ مُمْكِنًا في حَقِّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ في العَبْدِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِهُوِيَّتِهِ الخاصَّةِ عَلى الوَجْهِ الجُزْئِيِّ بِدُونِ اسْتِعْمالِ الباصِرَةِ كَما يَخْلُقُ بَعْدَهُ، وفي عَدَمِ لُزُومِهِ الخِطابَ فَإنَّهُ إنَّما يَقْتَضِي العِلْمَ بِالمُخاطَبِ بِأُمُورٍ كُلِّيَّةٍ يُمْكِنُ صِدْقُها عَلى كَثِيرِينَ عِنْدَ العَقْلِ وإنْ كانَتْ في الخارِجِ مُنْحَصِرَةً في شَخْصٍ واحِدٍ فَهو مِن قَبِيلِ التَّعَقُّلِ، وبِهَذا التَّحْرِيرِ يُعْلَمُ رَصانَةُ الإيرادِ ودَفْعُ ما أُورِدَ عَلَيْهِ، ويَظْهَرُ مِنهُ رَكاكَةُ ما قالَهُ الآمِدِيُّ. مِن أنَّ حَمْلَ الرُّؤْيَةِ عَلى العِلْمِ يَلْزَمُ مِنهُ أنْ يَكُونَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ غَيْرَ عالِمٍ بِرَبِّهِ لِئَلّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الحاصِلِ، ونِسْبَةُ ذَلِكَ إلى الكَلِيمِ مِن أعْظَمِ الجَهالاتِ؛ لِأنّا نَقُولُ: العِلْمُ بِالهُوِيَّةِ الخاصَّةِ عَلى ما ذَكَرْنا لَيْسَ مِن ضَرُورِيّاتِ النُّبُوَّةِ ولا المُكالَمَةِ كَما لا يَخْفى، نَعَمْ يَأْبى هَذا الحَمْلَ التَّعْدِيَةُ كَما عَلِمْتَ ويُبْعِدُهُ الجَوابُ بِ لَنْ تَرانِي ولَكِنِ انْظُرْ إلَخْ. كَما هو ظاهِرٌ، وإنْ تَكَلَّفَ لَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِما تَمُجُّهُ الأسْماعُ.
وقِيلَ: إنَّهُ لَوْ ساغَ هَذا التَّأْوِيلُ لَساغَ مِثْلُهُ فِي:
﴿أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ لِتَساوِي الدَّلالَةِ وهو مُمْتَنِعٌ بِالإجْماعِ، وجَهْرَةً لا يَزِيدُ عَلى كَوْنِ النَّظَرِ مَوْصُولًا بِ إلى. وأُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّما سَألَهُ أنْ يُرِيَهُ عَلَمًا مِن أعْلامِ السّاعَةِ بِأنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ لِثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ.
ثانِيها: أنَّهُ أُجِيبَ بِلَنْ تَرانِي، وهو إنْ كانَ مَحْمُولًا عَلى نَفْيِ ما وقَعَ السُّؤالُ عَنْهُ مِن رُؤْيَةِ بَعْضِ الآياتِ فَهو خَلْفٌ؛ فَإنَّهُ قَدْ أراهُ سُبْحانَهُ أعْظَمَ الآياتِ وهو تَدَكْدُكُ الجَبَلِ، وإنْ كانَ مَحْمُولًا عَلى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لَزِمَ أنْ لا يَكُونَ الجَوابُ مُطابِقًا لِلسُّؤالِ.
ثالِثُها: أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ:
﴿فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي﴾ إنْ كانَ مَحْمُولًا عَلى رُؤْيَةِ الآيَةِ فَهو مُحالٌ؛ لِأنَّ الآيَةَ لَيْسَ في اسْتِقْرارِ الجَبَلِ بَلْ في تَدَكْدُكِهِ، وإنْ كانَ مَحْمُولًا عَلى الرُّؤْيَةِ لا يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِالسُّؤالِ، فَإذَنْ لا يَنْبَغِي حَمْلُ ما في الآيَةِ عَلى رُؤْيَةِ الآيَةِ، وعَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الرُّؤْيَةَ وقَعَتْ لِدَفْعِ قَوْمِهِ بِأنَّ ذَلِكَ خِلافُ الظّاهِرِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ، وكَوْنُ الدَّلِيلِ أخْذَ الصَّعْقَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وأيْضًا كانَ يَجِبُ عَلَيْهِ -عَلَيْهِ السَّلامُ- أنْ يُبادِرَ إلى رَدْعِهِمْ وزَجْرِهِمْ عَنْ طَلَبِ ما لا يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ تَعالى كَما قالَ:
﴿إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ عِنْدَ قَوْلِهِمْ:
﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ﴾ وقَوْلِهِمْ: إنَّ المَقْصُودَ ضَمُّ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ إلى العَقْلِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ إذْ ذَلِكَ كانَ يُمْكِنُ بِطَلَبِ إظْهارِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لَهُ مِن غَيْرِ أنْ يَطْلُبَ الرُّؤْيَةَ مَعَ إحالَتِها، وقِصَّتُهُ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيها، وما ذَكَرُوهُ في الوَجْهِ الخامِسِ ظاهِرٌ رَدُّهُ مِن تَقْرِيرِ الوَجْهِ الأوَّلِ مِنَ الوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُما أهْلُ السُّنَّةِ، وحاصِلُهُ أنَّهُ يَلْزَمُهم أنْ يَكُونَ الكَلِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ دُونَ آحادِ المُعْتَزِلَةِ عِلْمًا ودُونَ مَن حَصَّلَ طَرَفًا مِنَ الكَلامِ في مَعْرِفَةِ ما يَجُوزُ عَلَيْهِ تَعالى وما لا يَجُوزُ، وهَذِهِ كَلِمَةٌ حَمْقاءُ وطَرِيقَةٌ عَوْجاءُ لا يَسْلُكُها أحَدٌ مِنَ العُقَلاءِ، فَإنَّ كَوْنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أعْلَمَ مِمَّنْ عَداهم بِذاتِهِ تَعالى وصِفاتِهِ العُلا مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يَنْتَطِحَ فِيهِ كَبْشانِ، وكَوْنُ الرُّؤْيَةِ في الدُّنْيا غَيْرَ واقِعَةٍ عِنْدَ الفَرِيقَيْنِ إنْ أُرِيدَ بِهِ أنَّها غَيْرُ مُمْكِنَةِ الوُقُوعِ فَهو أوَّلُ المَسْألَةِ، وإنْ أُرِيدَ أنَّها مُمْكِنَةٌ لَكِنَّها لا تَقَعُ لِأحَدٍ فَلا نُسَلِّمُ أنَّهُ أجْمَعَ عَلى ذَلِكَ الفَرِيقانِ، أمّا المُعْتَزِلَةُ فَلِأنَّهم لا يَقُولُونَ بِإمْكانِها، وأمّا أهْلُ السُّنَّةِ فَلِأنَّ كَثِيرًا مِنهم ذَهَبَ إلى أنَّها وقَعَتْ لِنَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَيْلَةَ الإسْراءِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وأنَسٍ وغَيْرِهِما، وقَوْلُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها: مَن زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَأى رَبَّهُ فَقَدْ أعْظَمَ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ الفِرْيَةَ. مَدْفُوعٌ أوْ مُؤَوَّلٌ بِأنَّ المُرادَ: مَن زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ في نُورِهِ الَّذِي هو نُورُهُ أعْنِي النُّورَ الشَّعْشَعانِيَّ الَّذِي يَذْهَبُ بِالأبْصارِ، وهو المُشارُ إلَيْهِ في حَدِيثِ:
««لَأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهى إلَيْهِ بَصَرُهُ»».
فَقَدْ أعْظَمَ الفِرْيَةَ، ومِن هَذا يُعْلَمُ ما في احْتِمالِ إرادَةِ عَدَمِ الوُقُوعِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الإمْكانِ وعَدَمِهِ. وقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَجُوزُ أنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ الطَّلَبُ مُحَرَّمًا في شَرْعِهِ فَلا يَمْتَنِعُ يَرِدُ عَلَيْهِ أنَّ دَلِيلَ الحُرْمَةِ ظاهِرٌ، فَإنَّ طَلَبَ المُحالِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَرامًا في شَرْعِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لَما بَلَغَ في التَّشْنِيعِ عَلى قَوْمِهِ حِينَ طَلَبُوا ما طَلَبُوا عَلى أنّا لَوْ سَلَّمْنا أنَّهُ لَيْسَ بِحَرامٍ يُقالُ: إنَّهُ لا فائِدَةَ فِيهِ وما كانَ كَذَلِكَ فَمَنصِبُ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، ومِن هَذا يُعْلَمُ ما في قَوْلِهِمْ الأخِيرِ.
وأُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ المُعَلَّقَ عَلَيْهِ هو اسْتِقْرارُ الجَبَلِ حالَ حَرَكَتِهِ بِأنَّهم إنْ أرادُوا أنَّ الشَّرْطَ هو الِاسْتِقْرارُ حالَ وُجُودِ الحَرَكَةِ مَعَ الحَرَكَةِ فَهو زِيادَةُ إضْمارٍ وتَرْكٌ لِظاهِرِ اللَّفْظِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ فَلا يَصِحُّ، وإنْ أرادُوا أنَّ الشَّرْطَ هو الِاسْتِقْرارُ في الحالَةِ الَّتِي وُجِدَتْ فِيها الحَرَكَةُ بَدَلًا عَنِ الحَرَكَةِ فَلا يَخْفى جَوازُهُ، فَكَيْفَ يُدَّعى أنَّهُ مُحالٌ لِذاتِهِ؟ وبَعْضُهم قالَ في الرَّدِّ: إنَّ المُعَلَّقَ عَلَيْهِ اسْتِقْرارُ الجَبَلِ بَعْدَ النَّظَرِ بِدَلِيلِ الفاءِ، وحِينَ تَعَلَّقَتْ إرادَةُ اللَّهِ تَعالى بِعَدَمِ اسْتِقْرارِهِ عَقِيبَ النَّظَرِ اسْتَحالَ اسْتِقْرارُهُ وإنْ كانَ بِالغَيْرِ فَعَدَلَ عَنِ القَوْلِ بِالمُحالِ بِالذّاتِ إلى القَوْلِ بِالمُحالِ بِالغَيْرِ؛ لِأنَّ الغَرَضَ يَتِمُّ بِهِ أيْضًا، وتَعَقَّبَهُ السّالَكُوتِيُّ وغَيْرُهُ بِأنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ اسْتِقْرارَ الجَبَلِ حِينَ تَعَلُّقِ إرادَتِهِ تَعالى بِعَدَمِ اسْتِقْرارِهِ أيْضًا مُمْكِنٌ بِأنْ يَقَعَ بَدَلَهُ الِاسْتِقْرارُ، إنَّما المُحالُ اسْتِقْرارُهُ مَعَ تَعَلُّقِ إرادَتِهِ سُبْحانَهُ بِعَدَمِ الِاسْتِقْرارِ، ولِبَعْضِ فُضَلاءِ الرُّومِ هاهُنا كَلامٌ نَقَلَهُ الشِّهابُ لا تَغُرَّنَّكَ قَعْقَعَتُهُ؛ فَإنَّ الظَّواهِرَ لا تُتْرَكُ لِمُجَرَّدِ الِاحْتِمالِ المَرْجُوحِ، وأُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمْ لا نُسَلِّمُ أنَّ المُعَلَّقَ بِالمُمْكِنِ مُمْكِنٌ إلَخْ. بِأنَّ المُرادَ بِالمُمْكِنِ المُعَلَّقُ عَلَيْهِ المُمْكِنُ الصِّرْفُ والخالِي عَنِ الِامْتِناعِ مُطْلَقًا، ولا شَكَّ أنَّ إمْكانَ المَعْلُولِ فِيما امْتَنَعَ عَدَمُ عِلَّتِهِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ التَّعْلِيقُ بَيْنَهُما إنَّما هُوَ: بِحَسْبِ الِامْتِناعِ بِالغَيْرِ؛ فَإنَّ اسْتِلْزامَ عَدَمِ الصِّفاتِ وعَدَمِ العَقْلِ الأوَّلِ عَدَمُ الواجِبِ مِن حَيْثُ إنَّ وُجُودَ كُلٍّ مِنهُما واجِبٌ وعَدَمُهُ مُمْتَنِعٌ بِوُجُودِ الواجِبِ، وأمّا بِالنَّظَرِ إلى ذاتِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الأُمُورِ الخارِجَةِ فَلا اسْتِلْزامَ بِخِلافِ اسْتِقْرارِ الجَبَلِ؛ فَإنَّهُ مُمْكِنٌ صِرْفٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ لا بِالذّاتِ ولا بِالعَرَضِ كَما لا يَخْفى، عَلى أنَّ بَعْضَهم نَظَرَ في صِحَّةِ المِثالِ لُغَةً وإنْ كانَ فِيهِ ما فِيهِ، وما قِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ في الآيَةِ بَيانَ جَوازِ الرُّؤْيَةِ وعَدَمَ جَوازِها إذْ هو غَيْرُ مَسْؤُولٍ عَنْهُ بَلِ المَقْصُودُ إنَّما هو بَيانُ عَدَمِ وُقُوعِها وعَدَمُ الشَّرْطِ مُتَكَفِّلٌ بِذَلِكَ كَلامٌ لا طائِلَ تَحْتَهُ؛ إذِ الجَوازُ وعَدَمُ الجَوازِ مِن مُسْتَتْبَعاتِ التَّعْلِيقِ بِإجْماعِ جَهابِذَةِ الفَرِيقَيْنِ، وما ذَكَرُوهُ في المُعارَضَةِ مِن أنَّ (لَنْ) تُفِيدُ تَأْبِيدَ النَّفْيِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ولَوْ سُلِّمَ فَيُحْتَمَلُ أنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلى الدُّنْيا كَما في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبَدًا﴾ فَإنَّ إفادَةَ التَّأْبِيدِ فِيهِ أظْهَرُ، وقَدْ حَمَلُوهُ عَلى ذَلِكَ أيْضًا؛ لِأنَّهم يَتَمَنَّوْنَهُ في الآخِرَةِ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ العُقُوبَةِ، ومِمّا يَهْدِي إلى هَذا أنَّ الرُّؤْيَةَ المَطْلُوبَةَ إنَّما هِيَ: الرُّؤْيَةُ في الدُّنْيا وحَقُّ الجَوابِ أنْ يُطابِقَ السُّؤالَ، وقَدْ ورَدَ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ مُقَيَّدٌ لا مُطْلَقٌ؛ فَلْيُتْبَعْ بَيانُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
فَقَدْ أخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ في نَوادِرِ الأُصُولِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ
«عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿رَبِّ أرِنِي﴾ إلَخْ. فَقالَ:
«قالَ اللَّهُ تَعالى: يا مُوسى، إنَّهُ لا يَرانِي حَيٌّ إلّا ماتَ، ولا يابِسٌ إلّا تَدَهْدَهَ، ولا رَطْبٌ إلّا تَفَرَّقَ، وإنَّما يَرانِي أهْلُ الجَنَّةِ الَّذِينَ لا تَمُوتُ أعْيُنُهم ولا تَبْلى أجْسادُهُمْ»».
وهَذا ظاهِرٌ في أنَّ مَطْلُوبَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ الرُّؤْيَةَ في الدُّنْيا مَعَ بَقائِهِ عَلى حالَتِهِ الَّتِي هو عَلَيْها حِينَ السُّؤالِ مِن غَيْرِ أنْ يَعْقِبَها صَعْقٌ لِأنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وجَلَّ: إنَّهُ لَنْ يَرانِي حَيٌّ إلَخْ ... لا يَنْفِي إلّا الرُّؤْيَةَ في الدُّنْيا مَعَ الحَياةِ لا الرُّؤْيَةَ مُطْلَقًا، فَمَعْنى:
﴿لَنْ تَرانِي﴾ في الآيَةِ لَنْ تَرانِي وأنْتَ باقٍ عَلى هَذِهِ الحالَةِ لا لَنْ تَرانِي في الدُّنْيا مُطْلَقًا فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونَ المَعْنى لَنْ تَرانِي مُطْلَقًا لا في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ. نَعَمْ إنَّ هَذا الحَدِيثَ مُخَصَّصٌ بِما صَحَّ مَرْفُوعًا ومَوْقُوفًا
«أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَأى رَبَّهُ لَيْلَةَ الإسْراءِ» مَعَ عَدَمِ الصَّعْقِ، ولَعَلَّ الحِكْمَةَ في اخْتِصاصِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِذَلِكَ أنَّ نَشْأتَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أكْمَلُ نَشْأةٍ، وأعْدَلُها صُورَةً ومَعْنًى لِجامِعِيَّتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِلْحَقائِقِ عَلى وجْهِ الِاعْتِدالِ، وهي فِيهِ مُتَجاذِبَةٌ، ومُقْتَضى ذَلِكَ الثَّباتُ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى، ومَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقَعْ لَهُ التَّجَلِّي إلّا في دارِ البَقاءِ، فاجْتَمَعَ مُقْتَضى المَوْطِنِ مَعَ مُقْتَضى كَمالِ اعْتِدالِ النَّشْأةِ، وقَدْ يُقالُ أيْضًا عَلى سَبِيلِ التَّنْزِيلِ: لَوْ سَلَّمْنا دَلالَةَ (لَنْ) عَلى التَّأْبِيدِ مُطْلَقًا لَكانَ غايَةُ ذَلِكَ انْتِفاءَ وُقُوعِ الرُّؤْيَةِ، ولا يَلْزَمُ مِنهُ انْتِفاءُ الجَوازِ، والمُعْتَزِلَةُ يَزْعُمُونَ ذَلِكَ. وقَوْلُهُمْ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ:
﴿تُبْتُ إلَيْكَ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُخْطِئًا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ التَّوْبَةَ قَدْ تُطْلَقُ بِمَعْنى الرُّجُوعِ وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْها ذَنْبٌ، وعَلى هَذا فَلا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن
﴿تُبْتُ إلَيْكَ﴾ أيْ: رَجَعْتُ إلَيْكَ عَنْ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ.
وذَكَرُ ابْنُ المُنِيرِ أنَّ تَسْبِيحَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا تَبَيَّنَ لَهُ مِن أنَّ العِلْمَ قَدْ سَبَقَ بِعَدَمِ وُقُوعِ الرُّؤْيَةِ في الدُّنْيا، واللَّهُ تَعالى مُقَدَّسٌ عَنْ وُقُوعِ خِلافِ مَعْلُومِهِ، وأمّا التَّوْبَةُ في حَقِّ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَلا يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ عَنْ ذَنْبٍ؛ لِأنَّ مَنزِلَتَهُمُ العَلِيَّةَ تُصانُ عَنْ كُلِّ ما يَحُطُّ عَنْ مَرْتَبَةِ الكَمالِ، وكانَ عَلَيْهِ -عَلَيْهِ السَّلامُ- نَظَرًا إلى عُلُوِّ شَأْنِهِ أنْ يَتَوَقَّفَ في سُؤالِ الرُّؤْيَةِ عَلى الإذْنِ فَحَيْثُ سَألَ مِن غَيْرِ إذْنٍ كانَ تارِكًا الأوْلى بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ.
وقَدْ ورَدَ:
««حَسَناتُ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ»».
وذَكَرَ الإمامُ الرّازِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ. وقالَ الآمِدِيُّ: إنَّ التَّوْبَةَ وإنْ كانَتْ تَسْتَدْعِي سابِقِيَّةَ الذَّنْبِ إلّا أنَّهُ لَيْسَ هُناكَ ما يَدُلُّ قَطْعًا عَلى أنَّ الذَّنْبَ في سُؤالِهِ، بَلْ جازَ أنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ عَمّا تَقَدَّمَ قَبْلَ السُّؤالِ مِمّا يَعُدُّهُ هو عَلَيْهِ السَّلامُ ذَنْبًا، والدّاعِي لِذَلِكَ ما رَأى مِنَ الأهْوالِ العَظِيمَةِ مِن تَدَكْدُكِ الجَبَلِ عَلى ما هو عادَةُ المُؤْمِنِينَ الصُّلَحاءِ مِن تَجْدِيدِ التَّوْبَةِ عَمّا سَلَفَ إذا رَأوْا آيَةً وأمْرًا مَهُولًا،
* * *وذَكَرَ أنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ:
﴿وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ ابْتِداءَ الإيمانِ في تِلْكَ الحالَةِ، بَلِ المُرادُ بِهِ إضافَةُ الأوَّلِيَّةِ إلَيْهِ لا إلى الإيمانِ، ولَعَلَّ المُرادَ مِن ذَلِكَ الإخْبارِ الِاسْتِعْطافُ لِقَبُولِ تَوْبَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَمّا هو ذَنْبٌ عِنْدَهُ، وأرادَ بِالمُؤْمِنِينَ قَوْمَهُ عَلى ما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ، وما يُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ مِن أنَّ الآيَةَ أبْلَغُ دَلِيلٍ عَلى عَدَمِ إمْكانِ الرُّؤْيَةِ لا يَخْفى ما فِيهِ عَلى مَن أحاطَ خُبْرًا بِما ذَكَرْناهُ، ومِنَ المُحَقِّقِينَ مَنِ اسْتَنَدَ في دَلالَةِ الآيَةِ عَلى إمْكانِها بِغَيْرِ ما تَقَدَّمَ أيْضًا، وهو أنَّهُ تَعالى أحالَ انْتِفاءَ الرُّؤْيَةِ عَلى عَجْزِ الرّائِي وضَعْفِهِ عَنْها حَيْثُ قالَ لَهُ:
﴿لَنْ تَرانِي﴾ ولَوْ كانَتْ رُؤْيَتُهُ تَعالى غَيْرَ جائِزَةٍ لَكانَ الجَوابُ: لَسْتُ بِمَرْئِيٍّ، ألا تَرى لَوْ قالَ: أرِنِي أنْظُرْ إلى صُورَتِكَ ومَكانِكَ لَمْ يَحْسُنْ في الجَوابِ أنْ يُقالَ: لَنْ تَرى صُورَتِي ولا مَكانِي. بَلِ الحَسَنُ: لَسْتُ بِذِي صُورَةٍ ولا مَكانٍ. وقالَ بَعْضُهُمْ: بَعْدَ أنْ بَيَّنَ كَوْنَ الآيَةِ دَلِيلًا عَلى أنَّ الرُّؤْيَةَ جائِزَةٌ في الجُمْلَةِ بِبَعْضِ ما تَقَدَّمَ: ولِذَلِكَ رَدَّهُ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ:
﴿لَنْ تَرانِي﴾ دُونَ: لَنْ أُرى، ولَنْ أُرِيَكَ، ولَنْ تَنْظُرَ إلَيَّ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قاصِرٌ عَنْ رُؤْيَتِهِ تَعالى لِتَوَقُّفِها عَلى مُعَدٍّ في الرّائِي ولَمْ يُوجَدْ فِيهِ بَعْدُ، وذَلِكَ لِأنَّ: لَنْ أُرى يَدُلُّ عَلى امْتِناعِ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا، ولَنْ أُرِيَكَ يَقْتَضِي أنَّ المانِعَ مِن جِهَتِهِ تَعالى، ولَيْسَ فِي: لَنْ تَنْظُرَ تَنْبِيهٌ عَلى المَقْصُودِ؛ لِأنَّ النَّظَرَ لا يَتَوَقَّفُ عَلى مُعَدٍّ وإنَّما المُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ الرُّؤْيَةُ والإدْراكُ، وعَلَّلَ النَّيْسابُورِيُّ عَدَمَ كَوْنِ الجَوابِ لَنْ تَنْظُرَ إلى المُناسِبِ لِأنْظُرَ إلَيْكَ بِأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَطْلُبِ النَّظَرَ المُطْلَقَ وإنَّما طَلَبَ النَّظَرَ الَّذِي مَعَهُ الإدْراكُ بِدَلِيلِ: أرِنِي. وانْتَصَرَ بَعْضُهم لِلْمُعْتَزِلَةِ بِأنَّ لَهم أنْ يَقُولُوا: إنَّ طَلَبَ الإراءَةِ مُتَضَمِّنٌ لِطَلَبِ رَفْعِ المَوانِعِ مِنَ الرُّؤْيَةِ وإيجادِ ما تَتَوَقَّفُ هي عَلَيْهِ؛ لِأنَّ مَعْنى ذَلِكَ: مَكِّنِي مِنَ الرُّؤْيَةِ. والتَّمْكِينُ إنَّما يَتِمُّ بِما ذُكِرَ مِنَ الرَّفْعِ والإيجادِ، وكانَ الظّاهِرُ في رَدِّ هَذا الطَّلَبِ: لَنْ أُمَكِّنَكَ مِن رُؤْيَتِي، لَكِنْ عُدِلَ عَنْهُ إلى: لَنْ تَرانِي إشارَةً إلى اسْتِحالَةِ الرُّؤْيَةِ وعَدَمِ وُقُوعِها بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ رُؤْيَتَكَ لِي أمْرٌ مُحالٌ في نَفْسِهِ وتَمْكِينِي إنَّما يَكُونُ مِنَ المُمْكِنِ، ولَوْ لَمْ يَكُنِ المُرادُ ذَلِكَ بَلْ كانَ المُرادُ أنَّكَ لا قابِلِيَّةَ لَكَ لِرُؤْيَتِي لَكانَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَقُولَ: يا رَبِّ، أنا أعْلَمُ عَدَمَ القابِلِيَّةِ لَكِنِّي سَألْتُكَ التَّمْكِينَ وهو مُتَضَمِّنٌ لِسُؤالِ إيجادِها؛ لِأنَّها مِمّا تَتَوَقَّفُ الرُّؤْيَةُ عَلَيْهِ، فَعَلى هَذا لا يَكُونُ الجَوابُ مُفِيدًا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ولا مُقْنِعًا لَهُ بِخِلافِهِ عَلى الأوَّلِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ هو المُتَعَيِّنَ. فَإنْ قِيلَ: القابِلِيَّةُ وعَدَمُ القابِلِيَّةِ مِن تَوابِعِ الِاسْتِعْدادِ وعَدَمِ الِاسْتِعْدادِ، وهُما غَيْرُ مَجْعُولَيْنِ، قُلْنا: هَذا عَلى ما فِيهِ مِنَ الكَلامِ العَرِيضِ والنِّزاعِ الطَّوِيلِ مُسْتَلْزِمٌ لِمَطْلُوبِنا مِنَ امْتِناعِ الرُّؤْيَةِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَهُ أدْنى اسْتِعْدادٍ لِفَهْمِ الحَقائِقِ.
وأُجِيبَ بِأنَّ طَلَبَ التَّمْكِينِ مِن شَيْءٍ إنَّما يَتَضَمَّنُ طَلَبَ رَفْعِ المَوانِعِ الَّتِي في جانِبِ المَطْلُوبِ مِنهُ فَقَطْ عَلى ما هو الظّاهِرُ لا مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَشْمَلُ ما كانَ في جانِبِ المَطْلُوبِ مِنهُ وما كانَ في جانِبِ الطّالِبِ، ويُرْشِدُ إلى ذَلِكَ أنَّ قَوْلَكَ: لَمْ يُمَكِّنِّي زَيْدٌ مِن قَتْلِ عَمْرٍو مَثَلًا ظاهِرٌ في أنَّهُ حالَ بَيْنَكَ وبَيْنَ قَتْلِهِ مَعَ تَهَيُّئِكَ لَهُ وارْتِفاعِ المَوانِعِ الَّتِي مِن قِبَلِكَ عَنْهُ، فَكَأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا كَلَّمَهُ رَبُّهُ هاجَ بِهِ الشَّوْقُ إلى الرُّؤْيَةِ كَما قالَ الحَسَنُ: لِأنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إبْلِيسَ غاصَ في الأرْضِ حَتّى خَرَجَ مِن بَيْنِ قَدَمَيْهِ فَوَسْوَسَ إلَيْهِ أنَّ مُكَلِّمَكَ شَيْطانٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَألَها كَما قالَ السُّدِّيُّ: وأعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ اعْتِقادِهِ فَذُهِلَ عَنْ نَفْسِهِ وما فِيها مِنَ المَوانِعِ فَلَمْ يَخْطُرْ بِبالِهِ إلّا طَلَبُ رَفْعِ المَوانِعِ عَنْها مِن قِبَلِ الرَّبِّ سُبْحانَهُ، فَنَبَّهَهُ جَلَّ شَأْنُهُ بِقَوْلِهِ:
﴿لَنْ تَرانِي﴾ عَلى وُجُودِ المانِعِ فِيهِ عَنِ الرُّؤْيَةِ وهو الضَّعْفُ عَنْ تَحَمُّلِها وأراهُ ضَعْفَ مَن هو أقْوى مِنهُ عَنْ ذَلِكَ بِدَكِّ الجَبَلِ عِنْدَ تَجَلِّيهِ لَهُ، فَفائِدَةُ الِاسْتِدْراكِ عَلى هَذا أنْ يَتَحَقَّقَ عِنْدَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ أضْعَفُ مِن أنْ يَقُومَ لِتَجَلِّي الرُّؤْيَةِ، وهو عَلى ما هو عَلَيْهِ، ويُمْكِنُ أنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ أنْ أفاقَ مِن هَذِهِ الغَفْلَةِ، وحِينَئِذٍ لا شَكَّ أنَّ الجَوابَ (بِلَنْ تَرانِي) إلَخْ مُفِيدٌ مُقْنِعٌ.
هَذا وذَكَرَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ حاصِلَ الكَلامِ في هَذا المَقامِ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ عالِمًا بِإمْكانِ الرُّؤْيَةِ ووُقُوعِها في الدُّنْيا لِمَن شاءَ اللَّهُ تَعالى مِن عِبادِهِ عَقْلًا، والشُّرُوطُ الَّتِي تُذْكَرُ لَها لَيْسَتْ شُرُوطًا عَقْلِيَّةً وإنَّما هي شُرُوطٌ عادِيَّةٌ ولَمْ يَكُنْ عالِمًا بِعَدَمِ الوُقُوعِ مَعَ عَدَمِ تَغَيُّرِ الحالِ حَتّى سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ الرَّبِّ المُتَعالِ، ولَيْسَ في عَدَمِ العِلْمِ بِما ذُكِرَ نَقْصٌ في مَرْتَبَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّهُ مِنَ الأُمُورِ المَوْقُوفَةِ عَلى السَّمْعِ، والجَهْلُ بِالأُمُورِ السَّمْعِيَّةِ لا يُعَدُّ نَقْصًا، فَقَدْ صَحَّ أنَّ أعْلَمَ الخَلْقِ عَلى الإطْلاقِ نَبِيَّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أشْياءَ فَقالَ: سَأسْألُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وأنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ سُئِلَ فَقالَ: سَأسْألُ رَبَّ العِزَّةِ، وقَدْ قالَتِ المَلائِكَةُ:
﴿سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلا ما عَلَّمْتَنا﴾ وأنَّ الآيَةَ لا تَصْلُحُ دَلِيلًا عَلى امْتِناعِ الرُّؤْيَةِ عَلى ما يَقُولُهُ المُعْتَزِلَةُ بَلْ دَلالَتُها عَلى إمْكانِها في الجُمْلَةِ أظْهَرُ وأظْهَرُ، بَلْ هي ظاهِرَةٌ في ذَلِكَ دُونَ ما يَقُولُهُ الخُصُومُ وما رَواهُ أبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ:
﴿لَنْ تَرانِي﴾: إنَّهُ لا يَكُونُ ذَلِكَ أبَدًا لا حُجَّةَ لَهم فِيهِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ وافٍ بِمَطْلُوبِهِمْ، مَعَ أنَّ التَّأْبِيدَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلى عَدَمِ تَغَيُّرِ الحالِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ الخَبَرُ المَرْوِيُّ عَنْهُ سابِقًا، وكَذا ما رَواهُ عَنْهُ أبُو الشَّيْخِ إذْ فِيهِ: يا مُوسى إنَّهُ لا يَرانِي أحَدٌ فَيَحْيا. قالَ مُوسى: رَبِّ، إنْ أراكَ ثُمَّ أمُوتُ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ لا أراكَ ثُمَّ أحْيا، وما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ الأشْياخِ أنَّهم قالُوا: إنَّهُ تَعالى يُرى بِلا كَيْفٍ هو المَشْهُورُ.
ونَقَلَ المِناوِيُّ أنَّ الكَمالَ بْنَ الهُمامِ سُئِلَ عَمّا رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ أنَسٍ مِن قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
««رَأيْتُ رَبِّي في أحْسَنِ صُورَةٍ»» بِناءً عَلى حَمْلِ الرُّؤْيَةِ في اليَقَظَةِ فَأجابَ بِأنَّ هَذا حِجابُ الصُّورَةِ. انْتَهى. وهو التَّجَلِّي الصُّورِيُّ الشّائِعُ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، ومِنهُ عِنْدَهم تَجَلِّي اللَّهِ تَعالى في الشَّجَرَةِ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وتَجَلِّيهِ جَلَّ وعَلا لِلْخَلْقِ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ، وهو سُبْحانُهُ وإنْ تَجَلّى بِالصُّورَةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَقَيِّدٍ بِها:
﴿واللَّهُ مِن ورائِهِمْ مُحِيطٌ﴾، والرُّؤْيَةُ الَّتِي طَلَبَها مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ غَيْرُ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ مُوسى كانَ يَرى اللَّهَ تَعالى إلّا أنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أنَّ ما رَآهُ هو - هو - وعَلى هَذا الطَّرْزِ يُحْمَلُ ما جاءَ في بَعْضِ الرِّواياتِ المَطْعُونِ بِها: رَأيْتُ رَبِّي في صُورَةِ شابٍّ. وفي بَعْضِها زِيادَةُ: لَهُ نَعْلانِ مِن ذَهَبٍ، ومِنَ النّاسِ مَن حَمَلَ الرُّؤْيَةَ في رِوايَةِ الدّارَقُطْنِيِّ عَلى الرُّؤْيَةِ المَنامِيَّةِ، وظاهِرُ كَلامِ السُّيُوطِيِّ أنَّ الكَيْفِيَّةَ فِيها لا تَضُرُّ وهو الَّذِي سَمِعْتُهُ مِنَ المَشايِخِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهُمْ، والمَسْألَةُ خِلافِيَّةٌ، وإذا صَحَّ ما قالَهُ المَشايِخُ وأفْهَمَهُ كَلامُ السُّيُوطِيِّ فَأنا -ولِلَّهِ تَعالى الحَمْدُ- قَدْ رَأيْتُ رَبِّي مَنامًا ثَلاثَ مَرّاتٍ، وكانَتِ المَرَّةُ الثّالِثَةُ في السَّنَةِ السّادِسَةِ والأرْبَعِينَ والمِائَتَيْنِ والألْفِ بَعْدِ الهِجْرَةِ، رَأيْتُهُ جَلَّ شَأْنُهُ ولَهُ مِنَ النُّورِ ما لَهُ مُتَوَجِّهًا جِهَةَ المَشْرِقِ فَكَلَّمَنِي بِكَلِماتٍ أُنْسِيتُها حِينَ اسْتَيْقَظْتُ، ورَأيْتُ مَرَّةً في مَنامٍ طَوِيلٍ كَأنِّي في الجَنَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعالى وبَيْنِي وبَيْنَهُ سِتْرٌ حُبِيكَ بِلُؤْلُؤٍ مُخْتَلِفٍ ألْوانُهُ، فَأمَرَ سُبْحانَهُ أنْ يُذْهَبَ بِي إلى مَقامِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ مَقامِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَذُهِبَ بِي إلَيْهِما فَرَأيْتُ ما رَأيْتُ. ولِلَّهِ تَعالى الفَضْلُ والمِنَّةُ.
ومِنهم مَن حَمَلَ الصُّورَةَ عَلى ما بِهِ التَّمَيُّزُ والمُرادُ بِها ذاتُهُ تَعالى المَخْصُوصَةُ المُنَزَّهَةُ عَنْ مُماثَلَةِ ما عَداهُ مِن الأشْياءِ البالِغَةِ إلى أقْصى مَراتِبِ الكَمالِ، وما ذَكَرَهُ مِنَ البَيْتَيْنِ لِبَعْضِ العَدْلِيَّةِ فَهو في ذَلِكَ عُثَيْثَةٌ تَقْرِمُ جِلْدًا أمْلَسا. والقَوْلُ ما قالَهُ تاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِيهِمْ:
عَجَبًا لِقَوْمٍ ظالِمِينَ تَلَقَّبُوا بِالعَدْلِ ما فِيهِمْ لَعَمْرِي مَعْرِفَهْ
قَدْ جاءَهم مِن حَيْثُ لا يَدْرُونَهُ تَعْطِيلُ ذاتِ اللَّهِ مَعْ نَفْيِ الصِّفَةْ
وتَلَقَّبُوا عَدْلِيَّةً قُلْنا نَعَمْ عَدَلُوا بِرَبِّهُمُ فَحَسْبُهُمُ سَفَهْ
وقالَ ابْنُ المُنِيرِ:
وجَماعَةٌ كَفَرُوا بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ ∗∗∗ هَذا ووَعْدِ اللَّهِ ما لَنْ يُخْلِفَهْ
وتَلَقَّبُوا عَدْلِيَّةً قُلْنا أجَلْ عَدَلُوا بِرَبِّهُمُ فَحَسْبُوهُمُ سَفَهْ
وتَنَعَّتُوا النّاجِينَ كَلّا إنَّهم إنْ لَمْ يَكُونُوا في لَظًى فَعَلى شَفَهْ
وبَعْدَ هَذا كُلِّهِ نَقُولُ: إنَّ النّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا في أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هَلْ رَأى رَبَّهُ بَعْدَ هَذا الطَّلَبِ أمْ لا، فَذَهَبَ أكْثَرُ الجَماعَةِ إلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَرَهُ لا قَبْلَ الصَّعْقِ ولا بَعْدَهُ. وقالَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ: إنَّهُ رَآهُ بَعْدَ الصَّعْقِ وكانَ الصَّعْقُ مَوْتًا، وذَكَرَ قُدِّسَ سِرُّهُ أنَّهُ سَألَ مُوسى عَنْ ذَلِكَ فَأجابَهُ بِما ذُكِرَ، والآيَةُ عِنْدِي غَيْرُ ظاهِرَةٍ في ذَلِكَ، وإلى الرُّؤْيَةِ بَعْدَ الصَّعْقِ ذَهَبَ القُطْبُ الرّازِيُّ في تَقْرِيرِ كَلامٍ لِلزَّمَخْشَرِيِّ، إلّا أنَّ ذَلِكَ عَلى احْتِمالِ أنْ تُفَسَّرَ بِالِانْكِشافِ التّامِّ الَّذِي لا يَحْصُلُ إلّا إذا كانَتِ النَّفْسُ فانِيَةً مَقْطُوعَةَ النَّظَرِ عَنْ وُجُودِها فَضْلًا عَنْ وُجُودِ الغَيْرِ فَإنَّهُ قالَ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا طَلَبَ هَذِهِ المَرْتَبَةَ مِنَ الِانْكِشافِ وعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ (بِأنا) دَلَّ عَلى أنَّ نَظَرَهُ كانَ باقِيًا عَلى نَفْسِهِ، وهي لا تَكُونُ كَذَلِكَ إلّا مُتَعَلِّقَةً بِالعَلائِقِ الجُسْمانِيَّةِ مَشُوبَةً بِالشَّوائِبِ المادِّيَّةِ، لا جَرَمَ مَنَعَ عَنْهُ هَذِهِ المَرْتَبَةَ، وأُشِيرَ إلى أنَّ مَنعَها إنَّما كانَ لِأجْلِ بَقاءِ أنا وأنْتَ في قَوْلِهِ: أرِنِي ولَنْ تَرانِي، ثُمَّ لَمّا لَمْ يُرِدْ حِرْمانَهُ عَنْ حُصُولِ هَذِهِ المَرْتَبَةِ مَعَ اسْتِعْدادِهِ وتَأهُّلِهِ لَها عَلِمَ طَرِيقَ المَعْرِفَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿ولَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ﴾ فَإنَّ الجَبَلَ مَعَ عَدَمِ تَعَلُّقِهِ لَمّا لَمْ يُطِقْ نَظْرَةً مِن نَظَراتِ التَّجَلِّي فَمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ تَعَلُّقِهِ كَيْفَ يُطِيقُ ذَلِكَ، فَلَمّا أدْرَكَ الرَّمْزَ خَرَّ صَعِقًا مَغْشِيًّا عَلَيْهِ مُتَجَرِّدًا عَنِ العَلائِقِ فانِيًا عَنْ نَفْسِهِ، فَحَصَلَ لَهُ المَطْلُوبُ، فَلَمّا أفاقَ عَلِمَ أنَّ طَلَبَهُ الرُّؤْيَةَ في تِلْكَ الحالَةِ الَّتِي كانَ عَلَيْها كانَ سُوءَ أدَبٍ فَتابَ عَنْهُ.
وذَهَبَ الشَّيْخُ إبْراهِيمُ الكُورانِيُّ إلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأى رَبَّهُ سُبْحانَهُ حَقِيقَةً قَبْلَ الصَّعْقِ فَصَعِقَ لِذَلِكَ كَما دُكَّ الجَبَلُ لِلتَّجَلِّي، وأيَّدَهُ بِما أخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ:
««لَمّا تَجَلّى اللَّهُ تَعالى لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُبْصِرُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ عَلى الصَّفا في اللَّيْلَةِ الظَّلْماءِ مِن مَسِيرَةِ عَشَرَةِ فَراسِخَ»».
وبِما أخْرَجَهُ عَنْ أبِي مَعْشَرٍ أنَّهُ قالَ:
««مَكَثَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أرْبَعِينَ لَيْلَةً لا يَنْظُرُ إلَيْهِ أحَدٌ إلّا ماتَ مِن نُورِ رَبِّ العالَمِينَ»».
وجُمِعَ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ:
««إنَّ اللَّهَ تَعالى أعْطى مُوسى الكَلامَ وأعْطانِي الرُّؤْيَةَ، وفَضَّلَنِي بِالمَقامِ المَحْمُودِ والحَوْضِ المَوْرُودِ»».
بِأنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي أعْطاها لِنَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ هي الرُّؤْيَةُ مَعَ الثَّباتِ والبَقاءِ مِن غَيْرِ صَعْقٍ، كَما أنَّ الكَلامَ الَّذِي أعْطاهُ مُوسى كَذَلِكَ بِخِلافِ رُؤْيَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّها لَمْ تُجْمَعْ لَهُ مَعَ البَقاءِ، وعَلى هَذا فَمَعْنى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في حَدِيثِ الدَّجّالِ:
««إنَّهُ لَنْ يَرى أحَدٌ مِنكم رَبَّهُ حَتّى يَمُوتَ»». هو أنَّ أحَدًا لا يَراهُ في الدُّنْيا مَعَ البَقاءِ، ولا يُجْمَعُ لَهُ في الدُّنْيا بَيْنَهُما.
وفَسَّرَ الآيَةَ بِما لا يَخْلُو عَنْ خَفاءٍ.
والذّاهِبُونَ إلى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا يُجِيبُونَ عَمّا ذَكَرَهُ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، وخَبَرِ أبِي مَعْشَرٍ بِأنَّ الثّانِيَ لَيْسَ فِيهِ أكْثَرُ مِن إثْباتِ سُطُوعِ نُورِ اللَّهِ تَعالى عَلى وجْهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَيْسَ في ذَلِكَ إثْباتُ الرُّؤْيَةِ لِجَوازِ أنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنهُ تَعالى عَلى وجْهِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن غَيْرِ رُؤْيَةٍ؛ فَإنَّهُ لا تَلازُمَ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ وإشْراقِ النُّورِ، وبِأنَّ الأوَّلَ لَيْسَ نَصًّا في ثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ المَطْلُوبَةِ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّها كَما قالَ غَيْرُ واحِدٍ عِبارَةٌ عَنِ التَّجَلِّي الذّاتِيِّ، ولِلَّهِ تَعالى تَجَلِّياتٌ شَتّى غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَعَلَّ التَّجَلِّيَ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ الحَدِيثُ عَلى تَقْدِيرِ صِحَّةِ واحِدٍ مِنها، وقَدْ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ تَجَلّى عَلَيْهِ -عَلَيْهِ السَّلامُ- بِكَلامِهِ واصْطِفائِهِ وقُرْبِهِ مِنهُ عَلى الوَجْهِ الخاصِّ اللّائِقِ بِهِ تَعالى، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ هَذا سَبَبًا لِذَلِكَ الإبْصارِ، وهَذا أوْلى مِمّا قِيلَ: إنَّ اللّامَ في لِمُوسى لِلتَّعْلِيلِ ومُتَعَلِّقُ تَجَلّى مَحْذُوفٌ؛ أيْ: لَمّا تَجَلّى اللَّهُ تَعالى لِلْجَبَلِ لِأجْلِ إرْشادِ مُوسى كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ يُبْصِرُ بِسَبَبِ إشْراقِ بَعْضِ أنْوارِهِ تَعالى عَلَيْهِ حِينَ التَّجَلِّي لِلْجَبَلِ ما يُبْصِرُ.
تَضَّوَعَ مِسْكًا بَطْنُ نُعْمانَ ∗∗∗ إذْ مَشَتْ بِهِ زَيْنَبُ في نِسْوَةٍ خَفِراتِ
فالحَقُّ الَّذِي لا يَنْبَغِي المَحِيصُ عَنْهُ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ما سَألَ في هَذا المِيقاتِ، والَّذِي أقْطَعُ بِهِ أنَّهُ نالَ مَقامَ قُرْبِ النَّوافِلِ والفَرائِضِ الَّذِي يَذْكُرُهُ الصُّوفِيَّةُ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهم بِالمَعْنى الَّذِي يَذْكُرُونَهُ كَيْفَما كانَ، وحاشا لِلَّهِ مِن أنْ أُفَضِّلَ أحَدًا مِن أوْلِياءِ هَذِهِ الأُمَّةِ وإنْ كانُوا هم - هم - عَلى أحَدٍ مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ فَضْلًا عَنْ رُسُلِهِمْ مُطْلَقًا، فَضْلًا عَنْ أُولِي العَزْمِ مِنهُمْ،
* * *(وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ العارِفِينَ مِن بابِ الإشارَةِ في هَذِهِ الآياتِ) أنَّ اللَّهَ تَعالى واعَدَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ثَلاثِينَ لَيْلَةً لِلتَّخَلُّصِ مِن حِجابِ الأفْعالِ والصِّفاتِ والذّاتِ كُلَّ عَشَرَةٍ لِلتَّخَلُّصِ مِن حِجابٍ، واخْتِيرَتِ العَشَرَةُ لِأنَّها عَدَدٌ كامِلٌ كَما تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ﴾، لَكِنْ بَقِيَتْ مِنهُ بَقِيَّةٌ ما خَلَصَ عَنْها، واسْتِعْمالُ السِّواكِ في الثَّلاثِينَ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ بَعْضُ الآثارِ إشارَةٌ إلى ذَلِكَ فَضَمَّ إلى الثَّلاثِينَ عَشَرَةً أُخْرى لِلتَّخَلُّصِ مِن تِلْكَ البَقِيَّةِ، وجاءَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أُمِرَ بِأنْ يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ سُبْحانَهُ بِما يَتَقَرَّبُ بِهِ في ثَلاثِينَ، وأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْراةُ في العَشَرَةِ الَّتِي ضُمَّتْ إلَيْها لِتَكْمُلَ أرْبَعِينَ، وهو إشارَةٌ إلى أنَّهُ بَلَغَ الشُّهُودَ الذّاتِيَّ التّامَّ في الثَّلاثِينَ بِالسُّلُوكِ إلى اللَّهِ تَعالى ولَمْ يَبْقَ مِنهُ شَيْءٌ بَلْ فَنِيَ بِالكُلِّيَّةِ، وفي العَشَرَةِ الرّابِعَةِ كانَ سُلُوكُهُ في اللَّهِ تَعالى حَتّى رُزِقَ البَقاءَ بَعْدَ الفَناءِ بِالإفاقَةِ، قالُوا: وعَلى هَذا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ سُؤالُ الرُّؤْيَةِ في الثَّلاثِينَ والإفاقَةُ بَعْدَها، وكانَ التَّكْلِيمُ في مَقامِ تَجَلِّي الصِّفاتِ، وكانَ السُّؤالُ عَنْ إفْراطِ شَوْقٍ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى شُهُودِ الذّاتِ في مَقامِ فَناءِ الصِّفاتِ مَعَ وُجُودِ البَقِيَّةِ، و
﴿لَنْ تَرانِي﴾ إشارَةٌ إلى اسْتِحالَةِ الإثْنِينِيَّةِ وبَقاءِ الإنِّيَّةِ في مَقامِ المُشاهَدَةِ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ مَن قالَ: رَأيْتُ رَبِّي بِعَيْنِ رَبِّي، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ:
﴿ولَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ﴾ إشارَةٌ إلى جَبَلِ الوُجُودِ، أيِ انْظُرْ إلى جَبَلِ وُجُودِكَ؛
﴿فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي﴾ وهو مِن بابِ التَّعْلِيقِ بِالمُحالِ عِنْدَهُ.
﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ أيْ: مُتَلاشِيًا لا وُجُودَ لَهُ.
﴿وخَرَّ مُوسى﴾ عَنْ دَرَجَةِ الوَجْدِ.
﴿صَعِقًا﴾ أيْ: فانِيًا.
﴿فَلَمّا أفاقَ﴾ بِالوُجُودِ المَوْهُوبِ الحَقّانِيِّ
﴿قالَ سُبْحانَكَ﴾ أنْ تَكُونَ مَرْئِيًّا لِغَيْرِكَ.
﴿تُبْتُ إلَيْكَ﴾ عَنْ ذَنْبِ البَقِيَّةِ، أوْ رَجَعْتُ إلَيْكَ بِحَسْبِ العِلْمِ والمُشاهَدَةِ؛ إذْ لَيْسَ في الوُجُودِ سِواكَ.
﴿وأنا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾ بِحَسْبِ الرُّتْبَةِ، أيْ: أنا في الصَّفِّ الأوَّلِ مِن صُفُوفِ مَراتِبِ الأرْواحِ الَّذِي هو مَقامُ أهْلِ الوَحْدَةِ، وقَدْ يُقالُ: إنَّ مُوسى إشارَةً إلى مُوسى الرُّوحِ ارْتاضَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً لِتَظْهَرَ مِنهُ يَنابِيعُ الحِكْمَةِ وقالَ لِأخِيهِ هارُونَ القَلْبِ:
﴿اخْلُفْنِي في قَوْمِي﴾ مِنَ الأوْصافِ البَشَرِيَّةِ.
﴿وأصْلِحْ﴾ ذاتَ بَيْنِهِمْ عَلى وفْقِ الشَّرِيعَةِ وقانُونِ الطَّرِيقَةِ.
﴿ولا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ﴾ مِنَ القُوى الطَّبِيعِيَّةِ، ولَمّا حَصَلَ الرُّوحُ عَلى بِساطِ القُرْبِ بَعْدَ هاتِيكَ الرِّياضَةِ وتَتابَعَتْ عَلَيْهِ في رَوْضاتِ الأُنْسِ كاساتُ المَحَبَّةِ غَرَّدَ بُلْبُلُ لِسانِهِ في قَفَصِ فَمِ وُجُودِهِ فَقالَ:
﴿رَبِّ أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ﴾ فَقالَ لَهُ: هَيْهاتَ ذاكَ وأيْنَ الثُّرَيّا مِن يَدِ المُتَناوِلِ؟ أنْتَ بَعْدُ في بُعْدِ الإثْنِينِيَّةِ وحِجابِ جَبَلِ الأنانِيَّةِ فَإنْ أرَدْتَ ذَلِكَ فَخَلِّ نَفْسَكَ وائْتِنِي.
وجانِبْ جَنابَ الوَصْلِ هَيْهاتَ لَمْ يَكُنْ وها أنْتَ حَيٌّ إنْ تَكُنْ صادِقًا مُتِ
هُوَ الحُبُّ إنْ لَمْ تَقْضِ لَمْ تَقْضِ مَأْرَبًا ∗∗∗ مِنَ الحُبِّ فاخْتَرْ ذاكَ أوْ خَلِّ خَلَّتِي
فَهانَ عَلَيْهِ الفَناءُ في جانِبِ رُؤْيَةِ المَحْبُوبِ ولَمْ يَعِزَّ لَدَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إذْ رَأى عِزَّةَ المَطْلُوبِ.
ونادى:
فَقُلْتُ لَها: رُوحِي لَدَيْكِ وقَبْضُها ∗∗∗ إلَيْكِ ومَن لِي أنْ تَكُونَ بِقَبْضَتِي
وما أنا بِالشّانِي الوَفاءِ عَلى الهَوى ∗∗∗ وشَأْنِي الوَفا تَأْبى سِواهُ سَجِيَّتِي
فَبَذَلَ وُجُودَهُ وأعْطى مَوْجُودَهُ فَتَجَلّى رَبُّهُ لِجَبَلِ أنانِيَّتِهِ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِ بِرُؤْيَتِهِ، وكانَ ما كانَ وأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّها، وطَفِئَ المِصْباحُ إذْ طَلَعَ الصَّباحُ، وصَدَحَ هَزارُ الأُنْسِ في رِياضِ القُدْسِ بِنَغَمٍ.
ولَقَدْ خَلَوْتُ مَعَ الحَبِيبِ وبَيْنَنا ∗∗∗ سِرٌّ أرَقُّ مِنَ النَّسِيمِ إذا سَرى
وأباحَ طَرْفِي نَظْرَةً أمَّلْتُها ∗∗∗ فَغَدَوْتُ مَعْرُوفًا وكُنْتُ مُنَكَّرا
فَدُهِشْتُ بَيْنَ جَمالِهِ وجَلالِهِ ∗∗∗ وغَدا لِسانُ الحالِ عَنِّي مُخْبِرا
هَذا والكَلامُ في الرُّؤْيَةِ طَوِيلٌ، وقَدْ تَكَفَّلَ عِلْمُ الكَلامِ بِتَحْقِيقِ ذَلِكَ عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ، والَّذِي عَلَيْنا إنَّما هُوَ: كَشْفُ القِناعِ عَمّا يَتَعَلَّقُ بِالآيَةِ، والَّذِي نَظُنُّهُ أنّا قَدْ أدَّيْنا الواجِبَ، ويَكْفِي مِنَ القِلادَةِ ما أحاطَ بِالجِيدِ، واللَّهُ تَعالى الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ.