الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكم كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكم وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [٢٤]
﴿والمُحْصَناتُ﴾ أيْ: وحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المُزَوَّجاتُ ﴿مِنَ النِّساءِ﴾ حَرائِرَ وإماءً، مُسْلِماتٍ أوْ لا؛ لِئَلّا تَخْتَلِطَ المِياهُ فَيَضِيِعُ النِّسَبُ ﴿إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ أيْ: مِنَ اللّائِي سُبِينَ ولَهُنَّ أزْواجٌ في دارِ الكُفْرِ، فَهُنَّ حَلالٌ لِغُزاةِ المُسْلِمِينَ، وإنْ كُنَّ مُحْصَناتٍ؛ لِأنَّ السَّبْيَ لَهُنَّ يَرْفَعُ نِكاحَهُنَّ ويُفِيدُ الحِلَّ بَعْدَ الِاسْتِبْراءِ.
رَوى الإمامُ أحْمَدُ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ (p-١١٨٣)والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: «أصَبْنا سَبايا مِن سَبْيِ أوْطاسٍ، ولَهُنَّ أزْواجٌ، فَكَرِهْنا أنْ نَقْعَ عَلَيْهِنَّ ولَهُنَّ أزْواجٌ، فَسَألْنا النَّبِيَّ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ فاسْتَحْلَلْنا فُرُوجَهُنَّ».
* * *
تَنْبِيهٌ:
اسْتَدَلَّ بِعُمُومِ الآيَةِ مَن قالَ: إنَّ انْتِقالَ المِلْكِ بِبَيْعٍ أوْ إرْثٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَقْطَعُ النِّكاحَ.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: إذا بِيعَتِ الأمَةُ ولَها زَوْجٌ فَسَيِّدُها أحَقُّ بِبُضْعِها، وعَنْهُ: بَيْعُ الأمَةِ طَلاقُها.
ورُوِيَ ذَلِكَ أيْضًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وجابِرٍ، وابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - قالُوا: بَيْعُها طَلاقُها.
ورَوى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: طَلاقُ الأمَةِ سِتٌّ: بَيْعُها طَلاقُها، وعِتْقُها طَلاقُها، وهِبَتُها طَلاقُها، وبَراءَتُها طَلاقُها، وطَلاقُ زَوْجِها طَلاقُها.
كَذا قَرَأْتُهُ في تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ، ولا يَخْفى أنَّ المَعْدُودَ خَمْسَةٌ، ولَعَلَّ السّادِسَ بَيْعُ زَوْجِها، حَيْثُ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ورَوى عَوْفٌ عَنِ الحَسَنِ: بَيْعُ الأمَةِ طَلاقُها وبَيْعُهُ طَلاقُها، فَهَذا قَوْلُ هَؤُلاءِ مِنَ السَّلَفِ، وحُجَّتُهم عُمُومُ الِاسْتِثْناءِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾
والجُمْهُورُ عَلى أنَّ بَيْعَ الأمَةِ لَيْسَ طَلاقًا لَها، واحْتَجُّوا بِحَدِيثِ بِرَيْرَةَ المُخَرَّجِ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما، فَإنَّ عائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ اشْتَرَتْها وأعْتَقَتْها ولَمْ يَنْفَسِخْ نِكاحُها مِن زَوْجِها مُغِيثٍ، بَلْ خَيَّرَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ الفَسْخِ والبَقاءِ، فاخْتارَتِ الفَسْخَ، وقِصَّتُها مَشْهُورَةٌ، فَلَوْ كانَ (p-١١٨٤)بَيْعُ الأمَةِ طَلاقَها لَما خُيِّرَتْ، وتَخْيِيرُها دالٌّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الآيَةِ المَسْبِيّاتُ فَقَطْ، وبِالجُمْلَةِ فالجُمْهُورُ قَصَرُوا الآيَةَ عَلى السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ.
قالَ الرّازِيُّ: وهو يَرْجِعُ إلى تَخْصِيصِ عُمُومِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ، أيْ: وهو مَقْبُولٌ ومَعْمُولٌ بِهِ في غَيْرِما مَوْضِعٍ، كَنِصابِ السَّرِقَةِ، وفي التَّنْبِيهِ الآتِي زِيادَةٌ لِهَذا فَتَأثَّرْهُ.
فائِدَةٌ:
اتَّفَقَ القُرّاءُ عَلى فَتْحِ الصّادِ فِي: " المُحْصَناتُ: هُنا، ويُقْرَأُ بِالفَتْحِ والكَسْرِ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، وكِلاهُما مَشْهُورٌ، فالفَتْحُ عَلى أنَّهُنَّ أُحْصِنَّ بِالأزْواجِ أوْ بِالإسْلامِ، والكَسْرُ عَلى أنَّهُنَّ أحْصَنَّ فُرُوجَهُنَّ أوْ أزْواجَهُنَّ، واشْتِقاقُ الكَلِمَةِ مِنَ الإحْصانِ وهو المَنعُ.
﴿كِتابَ اللَّهِ﴾ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أيْ: كَتَبَ اللَّهُ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ تَحْرِيمَ هَؤُلاءِ كِتابًا وفَرَضَهُ فَرْضًا، فالزَمُوا كِتابَهُ ولا تَخْرُجُوا عَنْ حُدُودِهِ وشَرْعِهِ ﴿وأُحِلَّ لَكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] ﴿ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ إشارَةٌ إلى ما ذُكِرَ مِنَ المُحَرَّماتِ المَعْدُودَةِ، أيْ: أُحِلَّ لَكم نِكاحُ ما سِواهُنَّ.
﴿أنْ تَبْتَغُوا﴾ مَفْعُولٌ لَهُ، أيْ: أُحِلَّ لَكم إرادَةَ أنْ تَبْتَغُوا، أوْ بَدَلٌ مِن (ما) أيِ: ابْتِغاءُ النِّساءِ ﴿بِأمْوالِكُمْ﴾ أيْ: بِصَرْفِها إلى مُهُورِهِنَّ ﴿مُحْصِنِينَ﴾ حالٌ مِن فاعِلِ (تَبْتَغُوا) والإحْصانُ: العِفَّةُ، وتَحْصِينُ النَّفْسِ عَنِ الوُقُوعِ فِيما يُوجِبُ اللَّوْمَ ﴿غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ غَيْرَ زانِينَ، والسِّفاحُ الزِّنى والفُجُورُ، مِنَ السَّفْحِ وهو الصَّبُّ؛ لِأنَّهُ لا غَرَضَ لِلزّانِي إلّا سَفْحُ النُّطْفَةِ، وكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ إذا خَطَبَ الرَّجُلُ المَرْأةَ، قالَ: انْكِحِينِي، فَإذا أرادَ الزِّنى قالَ: سافِحِينِي.
قالَ الزَّجّاجُ: المُسافَحَةُ أنْ تُقِيمَ امْرَأةٌ مَعَ رَجُلٍ عَلى الفُجُورِ مِن غَيْرِ تَزْوِيجٍ صَحِيحٍ.
* * *
تَنْبِيهٌ:
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ عامٌّ مَخْصُوصٌ بِمُحَرَّماتٍ أُخَرَ دَلَّتْ عَلَيْها دَلائِلُ أُخَرُ، فَمِن ذَلِكَ، ما صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الجَمْعِ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها أوْ خالَتِها، وقَدْ حَكى التِّرْمِذِيُّ المَنعَ مِن ذَلِكَ عَنْ كافَّةِ أهْلِ العِلْمِ، وقالَ: لا نَعْلَمُ بَيْنَهُمُ اخْتِلافًا (p-١١٨٥)فِي ذَلِكَ.
ومِن ذَلِكَ نِكاحُ المُعْتَدَّةِ، ومِن ذَلِكَ أنَّ مَن كانَ في نِكاحِهِ حُرَّةٌ لا يَجُوزُ لَهُ نِكاحُ الأمَةِ، ومِن ذَلِكَ القادِرُ عَلى الحُرَّةِ لا يَجُوزُ لَهُ نِكاحُ الأمَةِ، ومِن ذَلِكَ مَن عِنْدَهُ أرْبَعُ زَوْجاتٍ لا يَجُوزُ لَهُ نِكاحُ خامِسَةٍ، ومِن ذَلِكَ المُلاعِنَةُ فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلى المُلاعِنِ أبَدًا، فالآيَةُ مِمّا نَزَلَ عامًّا ودَلَّتِ السُّنَّةُ ومَواضِعُ مِنَ التَّنْزِيلِ عَلى أنَّها مُخَصَّصَةٌ بِغَيْرِها.
قالَ الإمامُ الشّافِعِيُّ في "الرِّسالَةِ":
[٢٤٤] فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى النّاسِ اتِّباعَ وحْيِهِ وسُنَنِ رَسُولِهِ، ﷺ.
[٢٤٥] فَقالَ في كِتابِهِ: ﴿رَبَّنا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِكَ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٩]
[٢٥٠] وقالَ: ﴿وأنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣]
فِي آياتٍ نَظائِرِها.
قالَ الشّافِعِيُّ:
[٢٥٢] فَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الكِتابَ وهو القُرْآنُ: وذَكَرَ الحِكْمَةَ، فَسَمِعْتُ مَن أرْضى مِن أهْلِ العِلْمِ بِالقُرْآنِ يَقُولُ: الحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
[٢٥٣] وهَذا يُشْبِهُ ما قالَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
[٢٥٤] لِأنَّ القُرْآنَ ذُكِرَ وأُتْبِعَتْهُ الحِكْمَةُ، وذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَناؤُهُ مَنَّهُ عَلى خَلْقِهِ بِتَعْلِيمِهِمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ، فَلَمْ يَجُزْ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنْ يُقالَ: الحِكْمَةُ هَهُنا إلّا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ.
[٢٥٥] وذَلِكَ أنَّها مَقْرُونَةٌ مَعَ كِتابِ اللَّهِ، وأنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ طاعَةَ رَسُولِهِ ﷺ وحَتَّمَ عَلى النّاسِ اتِّباعَ أمْرِهِ - فَلا يَجُوزُ أنْ يُقالَ لِقَوْلٍ: فَرْضٌ، إلّا لِكِتابِ اللَّهِ ثُمَّ سُنَّةِ رَسُولِهِ، ﷺ.
[٢٥٦] لِما وصَفْنا مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى جَلَّ ثَناؤُهُ جَعَلَ الإيمانَ بِرَسُولِهِ ﷺ مَقْرُونًا بِالإيمانِ بِهِ.
(p-١١٨٦)[٢٥٧] وسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُبَيِّنَةً عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مَعْنى ما أرادَ دَلِيلًا عَلى خاصِّهِ وعامِّهِ، ثُمَّ قَرَنَ الحِكْمَةَ بِها بِكِتابِهِ، فَأتْبَعَها إيّاهُ، ولَمْ يَجْعَلْ هَذا لِأحَدٍ مِن خَلْقِهِ غَيْرِ رَسُولِهِ ﷺ انْتَهى.
وإنَّما أوْرَدْنا هَذا؛ تَزِيِيفًا لِزَعْمِ الخَوارِجِ أنَّ حَدِيثَ: «لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلى عَمَّتِها ولا عَلى خالَتِها» المَرْوِيَّ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما خَبَرٌ واحِدٌ، وتَخْصِيصَ عُمُومِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ لا يَجُوزُ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ الرّازِيُّ، وأوْرَدَ مِن حُجَجِهِمْ أنَّ عُمُومَ الكِتابِ مَقْطُوعُ المَتْنِ ظاهِرُ الدَّلالَةِ، وخَبَرَ الواحِدِ مَظْنُونُ المَتْنِ ظاهِرُ الدَّلالَةِ، فَكانَ خَبَرُ الواحِدِ أضْعَفَ مِن عُمُومِ القُرْآنِ، فَتَرْجِيحُهُ عَلَيْهِ بِمُقْتَضى تَقْدِيمِ الأضْعَفِ عَلى الأقْوى، وأنَّهُ لا يَجُوزُ، انْتَهى.
وقَدْ تَوَسَّعَ الرّازِيُّ هُنا في الجَوابِ عَنْ شُبْهَتِهِمْ، ومِمّا قِيلَ فِيهِ: إنَّ تَحْرِيمَ الجَمْعِ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها أوْ خالَتِها مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ [النساء: ٢٣]
قالَ العَلّامَةُ أبُو السُّعُودِ: ويَشْتَرِكُ في هَذا الحُكْمِ الجَمْعُ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها ونَظائِرِها، فَإنَّ مَدارَ حُرْمَةِ الجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إفْضاؤُهُ إلى قَطْعِ ما أمَرَ اللَّهُ بِوَصْلِهِ، وذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ في الجَمْعِ بَيْنَ هَؤُلاءِ، بَلْ أوْلى؛ فَإنَّ العَمَّةَ والخالَةَ بِمَنزِلَةِ الأُمِّ، فَقَوْلُهُ ﷺ: «لا تُنْكَحُ المَرْأةُ ...» إلَخْ مِن قَبِيلِ بَيانِ التَّفْسِيرِ لا بَيانِ التَّغْيِيرِ، وقِيلَ: هو مَشْهُورٌ يَجُوزُ بِهِ الزِّيادَةُ عَلى الكِتابِ.
وقالَ أيْضًا: ولَعَلَّ إيثارَ اسْمِ الإشارَةِ (يَعْنِي في قَوْلِهِ: ﴿ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ ) المُتَعَرِّضِ لِوَصْفِ المُشارِ إلَيْهِ وعُنْوانِهِ عَلى الضَّمِيرِ المُتَعَرِّضِ لِلذّاتِ فَقَطْ - لِتَذْكِيرِ ما في كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ مِنَ العُنْوانِ الَّذِي عَلَيْهِ يَدُورُ حُكْمُ الحُرْمَةِ، فَيُفْهَمُ مُشارَكَةُ مَن في مَعْناهُنَّ لَهُنَّ فِيها بِطَرِيقَةِ الدَّلالَةِ، فَإنَّ حُرْمَةَ الجَمْعِ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها، وبَيْنَها وبَيْنَ خالَتِها لَيْسَتْ بِطَرِيقِ العِبارَةِ، بَلْ بِطَرِيقِ الدَّلالَةِ، كَما سَلَفَ، انْتَهى.
(p-١١٨٧)وفِي "تَنْوِيرِ الِاقْتِباسِ": ويُقالُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكُمْ﴾ أنْ تَطْلُبُوا بِأمْوالِكم تَزَوُّجَهُنَّ وهي المُتْعَةُ، وقَدْ نُسِخَتِ الآنَ، انْتَهى، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى ذَلِكَ.
﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ أيْ: مَن تَمَتَّعْتُمْ بِهِ مِنَ المَنكُوحاتِ بِالجِماعِ ﴿فَآتُوهُنَّ﴾ فَأعْطُوهُنَّ ﴿أُجُورَهُنَّ﴾ مُهُورَهُنَّ كامِلَةً ﴿فَرِيضَةً﴾ أيْ: مِنَ اللَّهِ عَلَيْكم أنْ تُعْطُوا المَهْرَ تامًّا، و: ﴿فَرِيضَةً﴾ حالٌ مِنَ الأُجُورِ، بِمَعْنى مَفْرُوضَةٍ، أوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: إيتاءً مَفْرُوضًا، أوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أيْ: فُرِضَ ذَلِكَ فَرِيضَةً.
﴿ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ لا حَرَجَ عَلَيْكم ﴿فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ﴾ أنْتُمْ وهُنَّ ﴿مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾ أيْ: مِن حَطِّها أوْ بَعْضِها أوْ زِيادَةٍ عَلَيْها بِالتَّراضِي ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فِيما شَرَعَ مِنَ الأحْكامِ.
* * *
تَنْبِيهٌ:
حَمَلَ قَوْمٌ الآيَةَ عَلى نِكاحِ المُتْعَةِ، قالُوا: مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ أيْ: فَمَن جامَعْتُمُوهُنَّ مِمَّنْ نَكَحْتُمُوهُنَّ نِكاحَ المُتْعَةِ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَدِ اسْتُدِلَّ بِعُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى نِكاحِ المُتْعَةِ، ولا شَكَّ أنَّهُ كانَ مَشْرُوعًا في ابْتِداءِ الإسْلامِ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وطائِفَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ القَوْلُ بِإباحَتِها لِلضَّرُورَةِ، وهو رِوايَةٌ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ، وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والسُّدِّيُّ يَقْرَءُونَ: (فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) وقالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتْ في نِكاحِ المُتْعَةِ.
ولَكِنَّ الجُمْهُورَ عَلى خِلافِ ذَلِكَ، والعُمْدَةُ ما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ نِكاحِ المُتْعَةِ وعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ» .
وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (p-١١٨٨)عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الجُهَنِيِّ، عَنْ أبِيهِ «أنَّهُ كانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ! إنِّي كُنْتُ أذِنْتُ لَكم في الِاسْتِمْتاعِ مِنَ النِّساءِ، وإنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَمَن كانَ عِنْدَهُ مِنهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ، ولا تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» انْتَهى.
وفِي "الكَشّافِ": قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في المُتْعَةِ، كانَ الرَّجُلُ يَنْكِحُ المَرْأةَ وقْتًا مَعْلُومًا، لَيْلَةً أوْ لَيْلَتَيْنِ أوْ أُسْبُوعًا، بِثُبُوتٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، ويَقْضِي مِنها وطَرَهُ ثُمَّ يُسَرِّحُها، وسُمِّيَتْ مُتْعَةً لِاسْتِمْتاعِهِ بِها، أوْ لِتَمْتِيعِهِ لَها بِما يُعْطِيها.
وقالَ الخَفاجِيُّ: رُوِيَ أنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أتَدْرِي ما صَنَعْتَ بِفَتْواكَ؟ قالَ: سارَتْ بِها الرُّكْبانُ وقِيلَ فِيها الشِّعْرُ، كَقَوْلِهِ:
؎قَدْ قُلْتُ لِلشَّيْخِ لَمّا طالَ مَجْلِسُهُ يا صاحِ هَلْ لَكَ في فُتْيا ابْنِ عَبّاسِ؟
؎هَلْ لَكَ في رُخْصَةِ الأطْرافِ آنِسَةٍ ∗∗∗ تَكُونُ مَثْواكَ حَتّى مَصْدَرِ النّاسِ؟
فَقالَ: إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ، واللَّهِ! ما بِهَذا أفْتَيْتُ ولا أحْلَلْتُ إلّا مِثْلَ ما أحَلَّ اللَّهُ المَيْتَةَ والدَّمَ.
وقالَ الإمامُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ القَيِّمِ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي: "زادِ المَعادِ" في الكَلامِ عَلى ما في غَزْوَةِ الفَتْحِ مِنَ الفِقْهِ، ما نَصُّهُ: ومِمّا وقَعَ في هَذِهِ الغَزْوَةِ إباحَةُ مُتْعَةِ النِّساءِ، ثُمَّ حَرَّمَها ﷺ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِن مَكَّةَ، واخْتُلِفَ في الوَقْتِ الَّذِي حُرِّمَتْ فِيهِ المُتْعَةُ عَلى أرْبَعَةِ أقْوالٍ:
أحَدُها: أنَّهُ يَوْمَ خَيْبَرَ، وهَذا قَوْلُ طائِفَةٍ مِنَ العُلَماءِ، مِنهُمُ الشّافِعِيُّ وغَيْرُهُ.
والثّانِي: أنَّهُ عامَ فَتْحِ مَكَّةَ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ وطائِفَةٍ.
والثّالِثُ: أنَّهُ عامَ حُنَيْنٍ، وهَذا في الحَقِيقَةِ هو القَوْلُ الثّانِي، لِاتِّصالِ غَزاةِ حُنَيْنٍ بِالفَتْحِ.
والرّابِعُ: أنَّهُ عامَ حَجَّةِ الوَداعِ، وهو وهْمٌ مِن بَعْضِ الرُّواةِ، سافَرَ فِيهِ وهْمُهُ مَن فَتْحِ مَكَّةَ إلى حَجَّةِ الوَداعِ، وسَفَرُ الوَهْمِ مِن زَمانٍ إلى زَمانٍ، ومِن مَكانٍ إلى مَكانٍ، ومِن واقِعَةٍ إلى واقِعَةٍ - كَثِيرًا ما يَعْرِضُ لِلْحُفّاظِ فَمَن (p-١١٨٩)دُونَهم.
والصَّحِيحُ: أنَّ المُتْعَةَ إنَّما حُرِّمَتْ عامَ الفَتْحِ؛ لِأنَّهُ قَدْ ثَبَتَ في "صَحِيحِ مُسْلِمٍ " «أنَّهُمُ اسْتَمْتَعُوا عامَ الفَتْحِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ – بِإذْنِهِ»، ولَوْ كانَ التَّحْرِيمُ زَمَنَ خَيْبَرَ لَزِمَ النَّسْخُ مَرَّتَيْنِ، وهَذا لا عَهْدَ بِمِثْلِهِ في الشَّرِيعَةِ البَتَّةَ، ولا يَقَعُ مِثْلُهُ فِيها.
وأيْضًا: فَإنَّ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ فِيها مُسْلِماتٌ، وإنَّما كُنَّ يَهُودِيّاتٍ، وإباحَةُ نِساءِ أهْلِ الكِتابِ لَمْ تَكُنْ ثَبَتَتْ بَعْدُ، إنَّما أُبِحْنَ بَعْدَ ذَلِكَ في سُورَةِ المائِدَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكم وطَعامُكم حِلٌّ لَهم والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥] [المائِدَةِ: ٥] وهَذا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] [المائِدَةِ: ٣] وبِقَوْلِهِ: ﴿اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ﴾ [المائدة: ٣] [المائِدَةِ: ٣] وهَذا كانَ في آخِرِ الأمْرِ بَعْدَ حَجَّةِ الوَداعِ، أوْ فِيها، فَلَمْ تَكُنْ إباحَةُ نِساءِ أهْلِ الكِتابِ ثابِتَةً مِن خَيْبَرَ، ولا كانَ لِلْمُسْلِمِينَ رَغْبَةٌ في الِاسْتِمْتاعِ بِنِساءِ عَدُوِّهِمْ قَبْلَ الفَتْحِ، وبَعْدَ الفَتْحِ اسْتُرِقَّ مَنِ اسْتُرِقَّ مِنهُنَّ (p-١١٩٠)وصِرْنَ إماءً لِلْمُسْلِمِينَ.
فَإنْ قِيلَ: فَما تَصْنَعُونَ بِما ثَبَتَ فِي"الصَّحِيحَيْنِ" مِن حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهى عَنْ مُتْعَةِ النِّساءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وعَنْ أكْلِ لُحُومِ الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ» وهَذا صَحِيحٌ صَرِيحٌ؟
قِيلَ: هَذا الحَدِيثُ قَدْ صَحَّتْ رِوايَتُهُ بِلَفْظَيْنِ: هَذا أحَدُهُما.
والثّانِي: الِاقْتِصارُ عَلى نَهْيِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ نِكاحِ المُتْعَةِ، وعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، هَذِهِ رِوايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قالَ قاسِمُ بْنُ أصْبُغَ: قالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: يَعْنِي أنَّهُ نَهى عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ، لا عَنْ نِكاحِ المُتْعَةِ، ذَكَرَهُ أبُو عُمَرَ فِي: "التَّمْهِيدِ": ثُمَّ قالَ: عَلى هَذا أكْثَرُ النّاسِ، انْتَهى.
فَتَوَهَّمَ بَعْضُ الرُّواةِ أنَّ (يَوْمَ خَيْبَرَ) ظَرْفٌ لِتَحْرِيمِهِنَّ، فَرَواهُ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المُتْعَةَ زَمَنَ خَيْبَرَ، والحُمُرَ الأهْلِيَّةَ» واقْتَصَرَ بَعْضُهم عَلى رِوايَةِ بَعْضِ الحَدِيثِ، فَقالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المُتْعَةَ زَمَنَ خَيْبَرَ» فَجاءَ بِالغَلَطِ البَيِّنِ.
فَإنْ قِيلَ: فَأيُّ فائِدَةٍ في الجَمْعِ بَيْنَ التَّحْرِيمَيْنِ، إذا لَمْ يَكُونا قَدْ وقَعا في وقْتٍ واحِدٍ، وأيْنَ المُتْعَةُ مِن تَحْرِيمِ الحُمُرِ؟ قِيلَ: هَذا الحَدِيثُ رَواهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُحْتَجًّا بِهِ عَلى ابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ في المَسْألَتَيْنِ، فَإنَّهُ كانَ يُبِيحُ المُتْعَةَ ولُحُومَ الحُمُرِ، فَناظَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ في المَسْألَتَيْنِ، ورَوى لَهُ التَّحْرِيمَيْنِ، وقَيَّدَ تَحْرِيمَ الحُمُرِ بِزَمَنِ خَيْبَرَ، وأطْلَقَ تَحْرِيمَ المُتْعَةِ وقالَ: إنَّكَ امْرُؤٌ تائِهٌ، «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَرَّمَ المُتْعَةَ، وحَرَّمَ لُحُومَ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ»، كَما قالَهُ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ النّاسِ، فَرَوى الأمْرَيْنِ مُحْتَجًّا عَلَيْهِ بِهِما، لا مُقَيِّدًا لَهُما بِيَوْمِ خَيْبَرَ.... واللَّهُ المُوَفِّقُ.
ولَكِنْ هَهُنا نَظَرٌ آخَرُ، وهو أنَّهُ: هَلْ حَرَّمَها تَحْرِيمَ الفَواحِشِ الَّتِي لا تُباحُ بِحالٍ، أوْ حَرَّمَها عِنْدَ الِاسْتِغْناءِ عَنْها، وأباحَها لِلْمُضْطَرِّ؟ هَذا هو الَّذِي نَظَرَ فِيهِ ابْنُ عَبّاسٍ وقالَ: أنا أبَحْتُها لِلْمُضْطَرِّ كالمَيْتَةِ والدَّمِ، فَلَمّا تَوَسَّعَ فِيها مَن تَوَسَّعَ، ولَمْ يَقِفْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أمْسَكَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنِ الإفْتاءِ بِحِلِّها، ورَجَعَ عَنْهُ، وقَدْ كانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرى إباحَتَها ويَقْرَأُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٧] [المائِدَةِ: ٨٧].
(p-١١٩١)فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْهُ قالَ: «كُنّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ولَيْسَ لَنا نِساءٌ، فَقُلْنا: ألا نَخْتَصِي؟ فَنَهانا عَنْ ذَلِكَ، فَرَخَّصَ لَنا بَعْدَ ذَلِكَ أنْ نَتَزَوَّجَ المَرْأةَ بِالثَّوْبِ»، ثُمَّ قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكم ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ [المائدة: ٨٧] [المائِدَةِ: ٨٧].
وقِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ الآيَةَ عَقِيبَ هَذا الحَدِيثِ تَحْتَمِلُ أمْرَيْنِ:
أحَدُهُما: الرَّدُّ عَلى مَن يُحَرِّمُها، وأنَّها لَوْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَما أباحَها رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ.
والثّانِي: أنْ يَكُونَ أرادَ آخِرَ هَذِهِ الآيَةِ، وهو الرَّدُّ عَلى مَن أباحَها مُطْلَقًا، وأنَّهُ مُعْتَدٍ، فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إنَّما رَخَّصَ فِيها لِلضَّرُورَةِ عِنْدَ الحاجَةِ في الغَزْوِ، وعِنْدَ عَدَمِ النِّساءِ، وشَدَّةِ الحاجَةِ إلى المَرْأةِ، فَمَن رَخَّصَ فِيها في الحَضَرِ مَعَ كَثْرَةِ النِّساءِ، وإمْكانِ النِّكاحِ المُعْتادِ، فَقَدِ اعْتَدى، واللَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ.
فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِما رَوى مُسْلِمٌ في "صَحِيحِهِ" مِن حَدِيثِ جابِرٍ، وسَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، قالا: «خَرَجَ عَلَيْنا مُنادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ أذِنَ لَكم أنْ تَسْتَمْتِعُوا (يَعْنِي: مُتْعَةَ النِّساءِ)».
قِيلَ: هَذا كانَ زَمَنَ الفَتْحِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، ثُمَّ حَرَّمَها بَعْدَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ ما رَواهُ مُسْلِمٌ في "صَحِيحِهِ" عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ قالَ: «رَخَّصَ لَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عامَ أوْطاسٍ في المُتْعَةِ ثَلاثًا، ثُمَّ نَهى عَنْها» .
(وعامُ أوْطاسٍ ) هو (وعامُ الفَتْحِ) واحِدٌ؛ لِأنَّ غَزاةَ أوْطاسٍ مُتَّصِلَةٌ بِفَتْحِ مَكَّةَ.
فَإنْ قِيلَ: فَما تَصْنَعُونَ بِما رَواهُ (p-١١٩٢)مُسْلِمٌ فِي: "صَحِيحِهِ" عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قالَ: «كُنّا نَسْتَمْتِعُ بِالقَبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ والدَّقِيقِ الأيّامَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأبِي بَكْرٍ حَتّى نَهى عَنْها عُمَرُ في شَأْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ،» وفِيما ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: «مُتْعَتانِ كانَتا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أنا أنْهى عَنْهُما: مُتْعَةُ النِّساءِ ومُتْعَةُ الحَجِّ؟»
قِيلَ: النّاسُ في هَذا طائِفَتانِ: طائِفَةٌ تَقُولُ: إنَّ عُمَرَ هو الَّذِي حَرَّمَها ونَهى عَنْها، وقَدْ أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِاتِّباعِ ما سَنَّهُ الخُلَفاءُ الرّاشِدُونَ، ولَمْ تَرَ هَذِهِ الطّائِفَةُ تَصْحِيحَ حَدِيثِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ في تَحْرِيمِ المُتْعَةِ عامَ الفَتْحِ، فَإنَّهُ مِن رِوايَةِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جِدِّهِ، وقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ، ولَمْ يَرَ البُخارِيُّ إخْراجَ حَدِيثِهِ فِي: "صَحِيحِهِ" مَعَ شِدَّةِ الحاجَةِ إلَيْهِ، وكَوْنِهِ أصْلًا مِن أُصُولِ الإسْلامِ، ولَوْ صَحَّ عِنْدَهُ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ إخْراجِهِ أوِ الِاحْتِجاجِ بِهِ، قالُوا: ولَوْ صَحَّ حَدِيثُ سَبْرَةَ لَمْ يَخْفَ عَلى ابْنِ مَسْعُودٍ حَتّى يَرْوِيَ أنَّهم فَعَلُوها ويَحْتَجَّ بِالآيَةِ.
وقالُوا أيْضًا: ولَوْ صَحَّ لَمْ يَقُلْ عُمَرُ: إنَّها كانَتْ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأنا أنْهى عَنْها، وأُعاقِبُ عَلَيْها، بَلْ كانَ يَقُولُ: إنَّهُ ﷺ حَرَّمَها ونَهى عَنْها.
قالُوا: ولَوْ صَحَّ لَمْ تُفْعَلْ عَلى عَهْدِ الصِّدِّيقِ وهو عَهْدُ خِلافَةِ النُّبُوَّةِ حَقًّا.
والطّائِفَةُ الثّانِيَةُ: رَأتْ صِحَّةَ حَدِيثِ سَبْرَةَ، ولَوْ لَمْ يَصِحَّ فَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَرَّمَ مُتْعَةَ (p-١١٩٣)النِّساءِ» .
فَوَجَبَ حَمْلُ حَدِيثِ جابِرٍ عَلى أنَّ الَّذِي أخْبَرَ عَنْها بِفِعْلِها لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ، ولَمْ يَكُنْ قَدِ اشْتَهَرَ حَتّى كانَ زَمَنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمّا وقَعَ فِيها ظَهَرَ واشْتَهَرَ، وبِهَذا تَأْتَلِفُ الأحادِيثُ الوارِدَةُ فِيها، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. انْتَهى.
هَذا، والَّذِينَ حَمَلُوا الآيَةَ عَلى بَيانِ حُكْمِ النِّكاحِ قالُوا: المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ﴾ إلَخْ ... أنَّهُ إذا كانَ المَهْرُ مُقَدَّرًا بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ فَلا حَرَجَ في أنْ تَحُطَّ عَنْهُ شَيْئًا مِنَ المَهْرِ، أوْ تُبَرِّئَهُ عَنْهُ بِالكُلِّيَّةِ، بِالتَّراضِي، كَما تَقَدَّمَ وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤] [النِّساءِ: ٤] وقَوْلِهِ: ﴿إلا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٧] [البَقَرَةِ: مِنَ الآيَةِ ٢٣٧].
وقَدْ رَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حَضْرَمِيٍّ: أنَّ رِجالًا كانُوا يُقْرِضُونَ المَهْرَ، ثُمَّ عَسى أنْ تُدْرِكَ أحَدَهُمُ العَسِرَةُ، فَقالَ اللَّهُ: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾ إلَخْ.
يَعْنِي إنْ وضَعَتْ لَكَ مِنهُ شَيْئًا فَهو لَكَ سائِغٌ.
وأمّا الَّذِينَ حَمَلُوا الآيَةَ عَلى بَيانِ المُتْعَةِ، قالُوا: المُرادُ مِن نَفْيِ الجُناحِ أنَّهُ إذا انْقَضى أجَلُ المُتْعَةِ لَمْ يَبْقَ لِلرَّجُلِ عَلى المَرْأةِ سَبِيلٌ البَتَّةَ، فَإنْ قالَ لَها: زِيدِينِي في الأيّامِ وأزِيدُكِ في الأُجْرَةِ - كانَتِ المَرْأةُ بِالخِيارِ، إنْ شاءَتْ فَعَلَتْ وإنْ شاءَتْ لَمْ تَفْعَلْ، فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾ أيْ: مِن بَعْدِ المِقْدارِ المَذْكُورِ أوَّلًا مِنَ الأجْرِ والأجْلِ، أفادَهُ الرّازِيُّ.
قالَ السُّدِّيُّ: إنْ شاءَ أرْضاها مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ الأُولى، يَعْنِي الأجْرَ الَّذِي أعْطاها عَلى تَمَتُّعِهِ بِها قَبْلَ انْقِضاءِ الأجَلِ بَيْنَهُما، فَقالَ: أتَمَتَّعُ مِنكِ أيْضًا بِكَذا وكَذا، فَإنْ شاءَ زادَ قَبْلَ أنْ يَسْتَبْرِئَ رَحِمَها يَوْمَ تَنْقَضِي المُدَّةُ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾
قالَ السُّدِّيُّ: إذا انْقَضَتِ المُدَّةُ فَلَيْسَ عَلَيْها سَبِيلٌ، وهي مِنهُ بَرِيئَةٌ، وعَلَيْها أنْ تَسْتَبْرِئَ ما في رَحِمِها، ولَيْسَ بَيْنَهُما مِيراثٌ، فَلا يَرِثُ واحِدٌ مِنهُما صاحِبَهُ.
(p-١١٩٤)قالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: أوْلى التَّأْوِيلَيْنِ في ذَلِكَ بِالصَّوابِ التَّأْوِيلُ الأوَّلُ؛ لِقِيامِ الحُجَّةِ بِتَحْرِيمِ اللَّهِ تَعالى مُتْعَةِ النِّساءِ عَلى لِسانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ انْتَهى.
قالَ المَهايِمِيُّ: ثُمَّ أشارَ تَعالى إلى نِكاحِ ما يُسْتَباحُ لِلضَّرُورَةِ كَنِكاحِ المُتْعَةِ، لَكِنَّها ضَرُورَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لا تَنْقَطِعُ بِكَثْرَةِ الإسْلامِ فَقالَ:
{"ayah":"۞ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۖ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاۤءَ ذَ ٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُوا۟ بِأَمۡوَ ٰلِكُم مُّحۡصِنِینَ غَیۡرَ مُسَـٰفِحِینَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِیضَةࣰۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ فِیمَا تَرَ ٰضَیۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِیضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق