الباحث القرآني

النَّوْعُ الرّابِعَ عَشَرَ مِنَ المُحَرَّماتِ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكم كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكم وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكم كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكم وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ . فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الإحْصانُ في اللُّغَةِ المَنعُ، وكَذَلِكَ الحَصانَةُ، يُقالُ: مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ ودِرْعٌ حَصِينَةٌ، أيْ: مانِعَةٌ صاحِبَها مِنَ الجِراحَةِ. قالَ تَعالى: ﴿وعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكم لِتُحْصِنَكم مِن بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] مَعْناهُ لِتَمْنَعَكم وتَحْرِزَكم، والحِصْنُ المَوْضِعُ الحَصِينُ لِمَنعِهِ مَن يُرِيدُهُ بِالسُّوءِ، والحِصانُ بِالكَسْرِ الفَرَسُ الفَحْلُ، لِمَنعِهِ صاحِبَهُ مِنَ الهَلاكِ، والحَصانُ بِالفَتْحِ المَرْأةُ العَفِيفَةُ لِمَنعِها فَرْجَها مِنَ الفَسادِ، قالَ تَعالى: ﴿ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها﴾ [التحريم: ١٢] . واعْلَمْ أنَّ لَفْظَ الإحْصانِ جاءَ في القُرْآنِ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: الحُرِّيَّةُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ [النور: ٤] يَعْنِي الحَرائِرَ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قَذَفَ غَيْرَ حُرٍّ لَمْ يُجْلَدْ ثَمانِينَ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النساء: ٢٥] يَعْنِي الحَرائِرَ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ﴾ (p-٣٣)﴿مِنكم طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ﴾ [النساء: ٢٥]، أيِ: الحَرائِرَ. وثانِيها: العَفافُ، وهو قَوْلُهُ ﴿مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ﴾ [النساء: ٢٥]، وقَوْلُهُ: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ [المائدة: ٥]، وقَوْلُهُ: ﴿والَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها﴾ [الأنبياء: ٩١] أيْ: أعَفَّتْهُ. وثالِثُها: الإسْلامُ، مِن ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَإذا أُحْصِنَّ﴾ [النساء: ٢٥] قِيلَ في تَفْسِيرِهِ: إذا أسْلَمْنَ. ورابِعُها: كَوْنُ المَرْأةِ ذاتَ زَوْجٍ يُقالُ: امْرَأةٌ مُحْصَنَةٌ إذا كانَتْ ذاتَ زَوْجٍ، وقَوْلُهُ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ يَعْنِي ذَواتِ الأزْواجِ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى عَطَفَ المُحْصَناتِ عَلى المُحَرَّماتِ، فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ الإحْصانُ سَبَبًا لِلْحُرْمَةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الحُرِّيَّةَ والعَفافَ والإسْلامَ لا تَأْثِيرَ لَهُ في ذَلِكَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ المُزَوَّجَةَ؛ لِأنَّ كَوْنَ المَرْأةِ ذاتَ زَوْجٍ لَهُ تَأْثِيرٌ في كَوْنِها مُحَرَّمَةً عَلى الغَيْرِ. واعْلَمْ أنَّ الوُجُوهَ الأرْبَعَةَ مُشْتَرِكَةٌ في المَعْنى الأصْلِيِّ اللُّغَوِيِّ، وهو المَنعُ، وذَلِكَ لِأنّا ذَكَرْنا أنَّ الإحْصانَ عِبارَةٌ عَنِ المَنعِ، فالحُرِّيَّةُ سَبَبٌ لِتَحْصِينِ الإنْسانِ مِن نَفاذِ حُكْمِ الغَيْرِ فِيهِ، والعِفَّةُ أيْضًا مانِعَةٌ لِلْإنْسانِ عَنِ الشُّرُوعِ فِيما لا يَنْبَغِي، وكَذَلِكَ الإسْلامُ مانِعٌ مِن كَثِيرٍ مِمّا تَدْعُو إلَيْهِ النَّفْسُ والشَّهْوَةُ، والزَّوْجُ أيْضًا مانِعٌ لِلزَّوْجَةِ مِن كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ، والزَّوْجَةُ مانِعَةٌ لِلزَّوْجِ مِنَ الوُقُوعِ في الزِّنا، ولِذَلِكَ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن تَزَوَّجَ فَقَدْ حَصَّنَ ثُلُثَيْ دِينِهِ» “ فَثَبَتَ أنَّ المَرْجِعَ بِكُلِّ هَذِهِ الوُجُوهِ إلى ذَلِكَ المَعْنى اللُّغَوِيِّ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: اخْتَلَفَ القُرّاءُ في ”المُحْصَناتِ“ فَقَرَءُوا بِكَسْرِ الصّادِ وفَتْحِها في جَمِيعِ القُرْآنِ إلّا الَّتِي في هَذِهِ الآيَةِ فَإنَّهم أجْمَعُوا عَلى الفَتْحِ فِيها، فَمَن قَرَأ بِالكَسْرِ جَعَلَ الفِعْلَ لَهُنَّ يَعْنِي: أسْلَمْنَ واخْتَرْنَ العَفافَ، وتَزَوَّجْنَ وأحْصَنَّ أنْفُسَهُنَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الأُمُورِ، ومَن قَرَأ بِالفَتْحِ جَعَلَ الفِعْلَ لِغَيْرِهِنَّ، يَعْنِي أحْصَنَهُنَّ أزْواجُهُنَّ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: الثَّيِّبُ الذِّمِّيُّ إذا زَنى يُرْجَمُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يُرْجَمُ، حُجَّةُ الشّافِعِيِّ أنَّهُ حَصَلَ الزِّنا مَعَ الإحْصانِ وذَلِكَ عِلَّةٌ لِإباحَةِ الدَّمِ، فَوَجَبَ أنْ يَثْبُتَ إباحَةُ الدَّمِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّجْمِ، أمّا قَوْلُنا: حَصَلَ الزِّنا مَعَ الإحْصانِ، فَهَذا يَعْتَمِدُ إثْباتَ قَيْدَيْنِ: أحَدُهُما: حُصُولُ الزِّنا ولا شَكَّ فِيهِ. الثّانِي: حُصُولُ الإحْصانِ وهو حاصِلٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ المُحْصَنَةِ: المُزَوَّجَةُ، وهَذِهِ المَرْأةُ مُزَوَّجَةٌ فَهي مُحْصَنَةٌ، فَثَبَتَ أنَّهُ حَصَلَ الزِّنا مَعَ الإحْصانِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ الزِّنا مَعَ الإحْصانِ عِلَّةٌ لِإباحَةِ الدَّمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا لِإحْدى مَعانٍ ثَلاثَةٍ» “ ومِنها قَوْلُهُ: ”«وزِنًا بَعْدَ إحْصانٍ» “ جَعَلَ الزِّنا بَعْدَ الإحْصانِ عِلَّةً لِإباحَةِ الدَّمِ في حَقِّ المُسْلِمِ، والمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِهَذا الحُكْمِ، أمّا العِلَّةُ فَهي مُجَرَّدُ الزِّنا بَعْدَ الإحْصانِ، بِدَلِيلِ أنَّ لامَ التَّعْلِيلِ إنَّما دَخَلَ عَلَيْهِ. أقْصى ما في البابِ أنَّهُ حَكَمَ في حَقِّ المُسْلِمِ أنَّ الزِّنا بَعْدَ الإحْصانِ عِلَّةٌ لِإباحَةِ الدَّمِ، إلّا أنَّ كَوْنَهُ مُسْلِمًا مَحَلُّ الحُكْمِ، وخُصُوصُ مَحَلِّ الحُكْمِ لا يَمْنَعُ مِنَ التَّعْدِيَةِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ المَحَلِّ، وإلّا لَبَطَلَ القِياسُ بِالكُلِّيَّةِ، وأمّا العِلَّةُ فَهي ما دَخَلَ عَلَيْهِ لامُ التَّعْلِيلِ، وهي ماهِيَّةُ الزِّنا بَعْدَ الإحْصانِ، وهَذِهِ الماهِيَّةُ لَمّا حَصَلَتْ في حَقِّ الثَّيِّبِ الذِّمِّيِّ، وجَبَ أنْ يَحْصُلَ في حَقِّهِ إباحَةُ الدَّمِ، فَثَبَتَ أنَّهُ مُباحُ الدَّمِ، ثُمَّ هَهُنا طَرِيقانِ: إنْ شِئْنا اكْتَفَيْنا بِهَذا القَدْرِ، فَإنّا نَدَّعِي كَوْنَهُ مُباحَ الدَّمِ والخَصْمُ لا يَقُولُ بِهِ، (p-٣٤)فَصارَ مَحْجُوبًا، أوْ نَقُولُ: لَمّا ثَبَتَ أنَّهُ مُباحُ الدَّمِ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الرَّجْمِ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ. فَإنْ قِيلَ: ما ذَكَرْتُمْ إنْ دَلَّ عَلى أنَّ الذِّمِّيَّ مُحْصَنٌ، فَهَهُنا ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وهو قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» “ . قُلْنا: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ أنَّ الذِّمِّيَّ مُحْصَنٌ، وثَبَتَ بِهَذا الخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ أنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، فَنَقُولُ: إنَّهُ مُحْصَنٌ بِمَعْنى أنَّهُ ذُو زَوْجٍ، وغَيْرُ مُحْصَنٍ بِمَعْنى أنَّهُ لا يُحَدُّ قاذِفُهُ، وقَوْلُهُ: ”«مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» “ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلى أنَّهُ لا يُحَدُّ قاذِفُهُ، لا عَلى أنَّهُ لا يُحَدُّ عَلى الزِّنا، لِأنَّهُ وصَفَهُ بِوَصْفِ الشِّرْكِ وذَلِكَ جِنايَةٌ، والمَذْكُورُ عَقِيبَ الجِنايَةِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ أمْرًا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ عُقُوبَةً، وقَوْلُنا: إنَّهُ لا يُحَدُّ قاذِفُهُ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ عُقُوبَةً، أمّا قَوْلُنا: لا يُحَدُّ عَلى الزِّنا، لا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَهُ، فَكانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ”«مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» “ ما ذَكَرْناهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: المُرادُ مِنها ذَواتُ الأزْواجِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَفي قَوْلِهِ: ﴿إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ المَرْأةَ إذا كانَتْ ذاتَ زَوْجٍ حُرِّمَتْ عَلى غَيْرِ زَوْجِها، إلّا إذا صارَتْ مِلْكًا لِإنْسانٍ، فَإنَّها تَحِلُّ لِلْمالِكِ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِمِلْكِ اليَمِينِ هَهُنا مِلْكُ النِّكاحِ، والمَعْنى أنَّ ذَواتَ الأزْواجِ حَرامٌ عَلَيْكم إلّا إذا مَلَكْتُمُوهُنَّ بِنِكاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ وُقُوعِ البَيْنُونَةِ بَيْنَهُنَّ وبَيْنَ أزْواجِهِنَّ، والمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ الزَّجْرُ عَنِ الزِّنا والمَنعُ مِن وطْئِهِنَّ إلّا بِنِكاحٍ جَدِيدٍ، أوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ إنْ كانَتِ المَرْأةُ مَمْلُوكَةً، وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِمِلْكِ اليَمِينِ؛ لِأنَّ مِلْكَ اليَمِينِ حاصِلٌ في النِّكاحِ وفي المِلْكِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ هَهُنا بِالمُحْصَناتِ الحَرائِرُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٥] ذَكَرَ هَهُنا المُحْصَناتِ ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ﴾ [النساء: ٢٥] كانَ المُرادُ بِالمُحْصَناتِ هَهُنا ما هو المُرادُ هُناكَ، ثُمَّ المُرادُ مِنَ المُحْصَناتِ هُناكَ الحَرائِرُ، فَكَذا هَهُنا، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَفي قَوْلِهِ: ﴿إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ وجْهانِ: الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ: إلّا العَدَدَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ مِلْكًا لَكم وهو الأرْبَعُ، فَصارَ التَّقْدِيرُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الحَرائِرُ إلّا العَدَدَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ مِلْكًا لَكم وهو الأرْبَعُ. الثّانِي: الحَرائِرُ مُحَرَّماتٌ عَلَيْكم إلّا ما أثْبَتَ اللَّهُ لَكم مِلْكًا عَلَيْهِنَّ، وذَلِكَ عِنْدَ حُضُورِ الوَلِيِّ والشُّهُودِ وسائِرِ الشَّرائِطِ المُعْتَبَرَةِ في الشَّرِيعَةِ، فَهَذا الأوَّلُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ هو المُخْتارُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هم لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ﴾ ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ٥ - ٦ ] جَعَلَ مِلْكَ اليَمِينِ عِبارَةً عَنْ ثُبُوتِ المِلْكِ فِيها، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هَهُنا مُفَسَّرًا بِذَلِكَ؛ لِأنَّ تَفْسِيرَ كَلامِ اللَّهِ تَعالى بِكَلامِ اللَّهِ أقْرَبُ الطُّرُقِ إلى الصِّدْقِ والصَّوابِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ إذا سُبِيَ أحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الآخَرِ وأُخْرِجَ إلى دارِ الإسْلامِ وقَعَتِ الفُرْقَةُ، أمّا إذا سُبِيا مَعًا فَقالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَهُنا تَزُولُ الزَّوْجِيَّةُ، ويَحِلُّ لِلْمالِكِ أنْ يَسْتَبْرِئَها بِوَضْعِ الحَمْلِ إنْ كانَتْ حامِلًا مِن زَوْجِها، أوْ بِالحَيْضِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: لا تَزُولُ، حُجَّةُ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ﴾ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ ذاتِ الأزْواجِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ يَقْتَضِي أنَّ عِنْدَ طَرَيانِ المِلْكِ تُرْفَعُ الحُرْمَةُ ويَحْصُلُ الحِلُّ، قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: لَوْ حَصَلَتِ الفُرْقَةُ (p-٣٥)بِمُجَرَّدِ طَرَيانِ المِلْكِ لَوَجَبَ أنْ تَقَعَ الفُرْقَةُ بِشِراءِ الأمَةِ واتِّهابِها وإرْثِها، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيُقالُ لَهُ: كَأنَّكَ ما سَمِعْتَ أنَّ العامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ في الباقِي، وأيْضًا: فالحاصِلُ عِنْدَ السَّبْيِ إحْداثُ المِلْكِ فِيها، وعِنْدَ البَيْعِ نُقِلَ المِلْكُ مِن شَخْصٍ إلى شَخْصٍ فَكانَ الأوَّلُ أقْوى، فَظَهَرَ الفَرْقُ. * * * المَسْألَةُ السّادِسَةُ: مَذْهَبُ عَلِيٍّ وعُمَرَ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أنَّ الأمَةَ المَنكُوحَةَ إذا بِيعَتْ لا يَقَعُ عَلَيْها الطَّلاقُ، وعَلَيْهِ إجْماعُ الفُقَهاءِ اليَوْمَ، وقالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ وجابِرٌ وأنَسٌ: إنَّها إذا بِيعَتْ طُلِّقَتْ، حُجَّةُ الجُمْهُورِ: «أنَّ عائِشَةَ لَمّا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وأعْتَقَتْها خَيَّرَها النَّبِيُّ ﷺ وكانَتْ مُزَوَّجَةً»، ولَوْ وقَعَ الطَّلاقُ بِالبَيْعِ لَما كانَ لِذَلِكَ التَّخْيِيرِ فائِدَةٌ، ومِنهم مَن رَوى في قِصَّةِ بَرِيرَةَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«بَيْعُ الأمَةِ طَلاقُها» “ وحُجَّةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وابْنِ مَسْعُودٍ عُمُومُ الِاسْتِثْناءِ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ وحاصِلُ الجَوابِ عَنْهُ يَرْجِعُ إلى تَخْصِيصِ عُمُومِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ، واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ ذِكْرَ المُحَرَّماتِ بِقَوْلِهِ: ﴿كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ مِن غَيْرِ لَفْظِ الفِعْلِ فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] يَدُلُّ عَلى مَعْنى الكِتابَةِ فالتَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْكم تَحْرِيمُ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ المُحَرَّماتِ كِتابًا مِنَ اللَّهِ، ومَجِيءُ المَصْدَرِ مِن غَيْرِ لَفْظِ الفِعْلِ كَثِيرٌ، نَظِيرُهُ ﴿وتَرى الجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وهي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ﴾ [النمل: ٨٨] . الثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى جِهَةِ الأمْرِ، ويَكُونَ ”عَلَيْكم“ مُفَسِّرًا لَهُ، فَيَكُونُ المَعْنى: الزَمُوا كِتابَ اللَّهُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ”﴿وأُحِلَّ لَكُمْ﴾“ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ”﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾“، والباقُونَ بِفَتْحِ الألِفِ والحاءِ عَطْفًا عَلى ”كِتابَ اللَّهِ“ يَعْنِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكم تَحْرِيمَ هَذِهِ الأشْياءِ وأحَلَّ لَكم ما وراءَها. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ يَقْتَضِي حِلَّ كُلِّ مَن سِوى الأصْنافِ المَذْكُورَةِ، إلّا أنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى تَحْرِيمِ أصْنافٍ أُخَرَ سِوى هَؤُلاءِ المَذْكُورِينَ ونَحْنُ نَذْكُرُها. الصِّنْفُ الأوَّلُ: لا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأةِ وبَيْنَ عَمَّتِها وخالَتِها، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”«لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلى عَمَّتِها ولا عَلى خالَتِها» “ وهَذا خَبَرٌ مَشْهُورٌ مُسْتَفِيضٌ، ورُبَّما قِيلَ: إنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغَ التَّواتُرِ، وزَعَمَ الخَوارِجُ أنَّ هَذا خَبَرٌ واحِدٌ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ لا يَجُوزُ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ عُمُومَ الكِتابِ مَقْطُوعُ المَتْنِ ظاهِرُ الدَّلالَةِ، وخَبَرُ الواحِدِ مَظْنُونُ المَتْنِ ظاهِرُ الدَّلالَةِ، فَكانَ خَبَرُ الواحِدِ أضْعَفَ مِن عُمُومِ القُرْآنِ، فَتَرْجِيحُهُ عَلَيْهِ بِمُقْتَضى تَقْدِيمِ الأضْعَفِ عَلى الأقْوى وإنَّهُ لا يَجُوزُ. الثّانِي: مِن جُمْلَةِ الأحادِيثِ المَشْهُورَةِ خَبَرُ مُعاذٍ، وإنَّهُ يَمْنَعُ مِن تَقْدِيمِ خَبَرِ الواحِدِ عَلى عُمُومِ القُرْآنِ مِن وجْهَيْنِ؛ لِأنَّهُ قالَ: «بِمَ تَحْكُمُ ؟ قالَ: بِكِتابِ اللَّهِ، قالَ: فَإنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» ﷺ، فَقَدَّمَ التَّمَسُّكَ بِكِتابِ اللَّهِ عَلى التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ، وهَذا يَمْنَعُ مِن تَقْدِيمِ السُّنَّةِ عَلى الكِتابِ، وأيْضًا فَإنَّهُ قالَ: «فَإنْ لَمْ تَجِدْ ؟ قالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» ﷺ، عَلَّقَ جَوازَ التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ عَلى عَدَمِ الكِتابِ بِكَلِمَةِ ”إنْ“ وهي لِلِاشْتِراطِ، والمُعَلَّقُ عَلى الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. الثّالِثُ: أنَّ مِنَ الأحادِيثِ المَشْهُورَةِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا رُوِيَ لَكم عَنِّي حَدِيثٌ فاعْرِضُوهُ عَلى كِتابِ اللَّهِ فَإنْ وافَقَهُ فاقْبَلُوهُ وإلّا فَرُدُّوهُ» “، فَهَذا الخَبَرُ يَقْتَضِي أنْ لا يُقْبَلَ خَبَرُ الواحِدِ إلّا عِنْدَ مُوافَقَةِ الكِتابِ، فَإذا كانَ خَبَرُ العَمَّةِ (p-٣٦)والخالَةِ مُخالِفًا لِظاهِرِ الكِتابِ وجَبَ رَدُّهُ. الرّابِعُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلى عَمَّتِها» “ لا يَخْلُو الحالُ فِيهِما مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: إمّا أنْ يُقالَ: الآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ الخَبَرِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الآيَةُ ناسِخَةً لِلْخَبَرِ؛ لِأنَّهُ ثَبَتَ أنَّ العامَّ إذا ورَدَ بَعْدَ الخاصِّ كانَ العامُّ ناسِخًا لِلْخاصِّ، وإمّا أنْ يُقالَ: الخَبَرُ ورَدَ بَعْدَ الكِتابِ، فَهَذا يَقْتَضِي نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ وإنَّهُ لا يَجُوزُ، وإمّا أنْ يُقالَ: ورَدا مَعًا، وهَذا أيْضًا باطِلٌ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَكُونُ الآيَةُ وحْدَها مُشْتَبِهَةً، ويَكُونُ مَوْضِعُ الحُجَّةِ مَجْمُوعَ الآيَةِ مَعَ الخَبَرِ، ولا يَجُوزُ لِلرَّسُولِ المَعْصُومِ أنْ يَسْعى في تَشْهِيرِ الشُّبْهَةِ ولا يَسْعى في تَشْهِيرِ الحُجَّةِ، فَكانَ يَجِبُ عَلى الرَّسُولِ ﷺ أنْ لا يُسْمِعَ أحَدًا هَذِهِ الآيَةَ إلّا مَعَ هَذا الخَبَرِ، وأنْ يُوجِبَ إيجابًا ظاهِرًا عَلى جَمِيعِ الأُمَّةِ أنْ لا يُبَلِّغُوا هَذِهِ الآيَةَ إلى أحَدٍ إلّا مَعَ هَذا الخَبَرِ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أنْ يَكُونَ اشْتِهارُ هَذا الخَبَرِ مُساوِيًا لِاشْتِهارِ هَذِهِ الآيَةِ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنا فَسادَ هَذا القِسْمِ. الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ تَثْبُتَ صِحَّةُ هَذا الخَبَرِ قَطْعًا، إلّا أنَّ التَّمَسُّكَ بِالآيَةِ راجِحٌ عَلى التَّمَسُّكِ بِالخَبَرِ. وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ نَصٌّ صَرِيحٌ في التَّحْلِيلِ كَما أنَّ قَوْلَهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] نَصٌّ صَرِيحٌ في التَّحْرِيمِ، وأمّا قَوْلُهُ: ”«لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلى عَمَّتِها» “ فَلَيْسَ نَصًّا صَرِيحًا؛ لِأنَّ ظاهِرَهُ إخْبارٌ، وحَمْلُ الإخْبارِ عَلى النَّهْيِ مَجازٌ، ثُمَّ بِهَذا التَّقْدِيرِ فَدَلالَةُ لَفْظِ النَّهْيِ عَلى التَّحْرِيمِ أضْعَفُ مِن دَلالَةِ لَفْظِ الإحْلالِ عَلى مَعْنى الإباحَةِ. الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ صَرِيحٌ في تَحْلِيلِ كُلِّ ما سِوى المَذْكُوراتِ، وقَوْلُهُ: ”«لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلى عَمَّتِها» “ لَيْسَ صَرِيحًا في العُمُومِ، بَلِ احْتِمالُهُ لِلْمَعْهُودِ السّابِقِ أظْهَرُ. الوَجْهُ السّادِسُ: أنَّهُ تَعالى اسْتَقْصى في هَذِهِ الآيَةِ شَرْحَ أصْنافِ المُحَرَّماتِ فَعَدَّ مِنها خَمْسَةَ عَشَرَ صِنْفًا، ثُمَّ بَعْدَ هَذا التَّفْصِيلِ التّامِّ والِاسْتِقْصاءِ الشَّدِيدِ قالَ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتِ الحِلُّ في كُلِّ مَن سِوى هَذِهِ الأصْنافِ المَذْكُورَةِ لَصارَ هَذا الِاسْتِقْصاءُ عَبَثًا ولَغْوًا، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِكَلامِ أحْكَمِ الحاكِمِينَ، فَهَذا تَقْرِيرُ وُجُوهِ السُّؤالِ في هَذا البابِ. والجَوابُ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: ما ذَكَرَهُ الحَسَنُ وأبُو بَكْرٍ الأصَمُّ، وهو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ لا يَقْتَضِي إثْباتَ الحِلِّ عَلى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، وهَذا الوَجْهُ عِنْدِي هو الأصَحُّ في هَذا البابِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ إخْبارٌ عَنْ إحْلالِ كُلِّ ما سِوى المَذْكُوراتِ ولَيْسَ فِيهِ بَيانُ أنَّ إحْلالَ كُلِّ ما سِوى المَذْكُوراتِ وقَعَ عَلى التَّأْبِيدِ أمْ لا، والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ لا يُفِيدُ التَّأْبِيدَ: أنَّهُ يَصِحُّ تَقْسِيمُ هَذا المَفْهُومِ إلى المُؤَبَّدِ وإلى غَيْرِ المُؤَبَّدِ، فَيُقالُ تارَةً: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ أبَدًا، وأُخْرى ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ إلى الوَقْتِ الفُلانِيِّ، ولَوْ كانَ قَوْلُهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ صَرِيحًا في التَّأْبِيدِ لَما كانَ هَذا التَّقْسِيمُ مُمْكِنًا، ولِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ لا يُفِيدُ إلّا إحْلالَ مَن سِوى المَذْكُوراتِ، وصَرِيحُ العَقْلِ يَشْهَدُ بِأنَّ الإحْلالَ أعَمُّ مِنَ الإحْلالِ المُؤَبَّدِ ومِنَ الإحْلالِ المُؤَقَّتِ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ لا يُفِيدُ إلّا حِلَّ مَن عَدا المَذْكُوراتِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، فَأمّا ثُبُوتُ حِلِّهِمْ في سائِرِ الأوْقاتِ فاللَّفْظُ ساكِتٌ عَنْهُ بِالنَّفْيِ والإثْباتِ، وقَدْ كانَ حِلُّ مَن سِوى المَذْكُوراتِ ثابِتًا في ذَلِكَ الوَقْتِ، وطَرَيانُ حُرْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ النَّصِّ ولا نَسْخًا لَهُ، فَهَذا وجْهٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ مُقَرَّرٌ، وبِهَذا الطَّرِيقِ (p-٣٧)نَقُولُ أيْضًا: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] لَيْسَ نَصًّا في تَأْبِيدِ هَذا التَّحْرِيمِ، وإنَّ ذَلِكَ التَّأْبِيدَ إنَّما عَرَفْناهُ بِالتَّواتُرِ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، لا مِن هَذا اللَّفْظِ، فَهَذا هو الجَوابُ المُعْتَمَدُ في هَذا المَوْضِعِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ حُرْمَةَ الجَمْعِ بَيْنَ المَرْأةِ وبَيْنَ عَمَّتِها وخالَتِها غَيْرُ مَذْكُورَةٍ في الآيَةِ، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى حَرَّمَ الجَمْعَ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ، وكَوْنُهُما أُخْتَيْنِ يُناسِبُ هَذِهِ الحُرْمَةَ؛ لِأنَّ الأُخْتِيَّةَ قَرابَةٌ قَرِيبَةٌ، والقَرابَةُ القَرِيبَةُ تُناسِبُ مَزِيدَ الوُصْلَةِ والشَّفَقَةِ والكَرامَةِ، وكَوْنُ إحْداهُما ضَرَّةَ الأُخْرى يُوجِبُ الوَحْشَةَ العَظِيمَةَ والنَّفْرَةَ الشَّدِيدَةَ، وبَيْنَ الحالَتَيْنِ مُنافَرَةٌ عَظِيمَةٌ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَها أُخْتًا لَها يُناسِبُ حُرْمَةَ الجَمْعِ بَيْنَهُما في النِّكاحِ، وقَدْ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ ذِكْرَ الحُكْمِ مَعَ الوَصْفِ المُناسِبِ لَهُ يَدُلُّ بِحَسَبِ اللَّفْظِ عَلى كَوْنِ الحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الوَصْفِ فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ القَرابَةِ القَرِيبَةِ مانِعَةً مِنَ الجَمْعِ في النِّكاحِ، وهَذا المَعْنى حاصِلٌ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها أوْ خالَتِها، فَكانَ الحُكْمُ المَذْكُورُ في الأُخْتَيْنِ مَذْكُورًا في العَمَّةِ والخالَةِ مِن طَرِيقِ الدَّلالَةِ، بَلْ هَهُنا أوْلى، وذَلِكَ لِأنَّ العَمَّةَ والخالَةَ يُشْبِهانِ الأُمَّ لِبِنْتِ الأخِ ولِبِنْتِ الأُخْتِ، وهُما يُشْبِهانِ الوَلَدَ لِلْعَمَّةِ والخالَةِ، واقْتِضاءُ مِثْلِ هَذِهِ القَرابَةِ لِتَرْكِ المُضارَّةِ أقْوى مِنِ اقْتِضاءِ قَرابَةِ الأُخْتِيَّةِ لِمَنعِ المُضارَّةِ، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ﴾ مانِعًا مِنَ العَمَّةِ والخالَةِ بِطَرِيقِ الأوْلى. الثّانِي: أنَّهُ نَصَّ عَلى حُرْمَةِ التَّزَوُّجِ بِأُمَّهاتِ النِّساءِ فَقالَ: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ ولَفْظُ الأُمِّ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلى العَمَّةِ والخالَةِ، أمّا عَلى العَمَّةِ فَلِأنَّهُ تَعالى قالَ مُخْبِرًا عَنْ أوْلادِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبائِكَ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ﴾ [البقرة: ١٣٣] فَأطْلَقَ لَفْظَ الأبِ عَلى إسْماعِيلَ مَعَ أنَّهُ كانَ عَمًّا، وإذا كانَ العَمُّ أبًا لَزِمَ أنْ تَكُونَ العَمَّةُ أُمًّا، وأمّا إطْلاقُ لَفْظِ الأُمِّ عَلى الخالَةِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ﴾ [يوسف: ١٠٠] والمُرادُ أبُوهُ وخالَتُهُ، فَإنَّ أُمَّهُ كانَتْ مُتَوَفّاةً في ذَلِكَ الوَقْتِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ لَفْظَ الأُمِّ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلى العَمَّةِ والخالَةِ، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿وأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ﴾ مُتَناوِلًا لِلْعَمَّةِ والخالَةِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ. وإذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ المُرادُ ما وراءَ هَؤُلاءِ المَذْكُوراتِ سَواءٌ كُنَّ مَذْكُوراتٍ بِالقَوْلِ الصَّرِيحِ أوْ بِدَلالَةٍ جَلِيَّةٍ أوْ بِدَلالَةٍ خَفِيَّةٍ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنِ العَمَّةُ والخالَةُ خارِجَةً عَنِ المَذْكُوراتِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: في الجَوابِ عَنْ شُبْهَةِ الخَوارِجِ أنْ نَقُولَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ عامٌّ، وقَوْلُهُ: ”«لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلى عَمَّتِها ولا عَلى خالَتِها» “ خاصٌّ، والخاصُّ مُقَدَّمٌ عَلى العامِّ، ثُمَّ هَهُنا طَرِيقانِ: تارَةً نَقُولُ: هَذا الخَبَرُ بَلَغَ في الشُّهْرَةِ مَبْلَغَ التَّواتُرِ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القُرْآنِ بِخَبَرِ المُتَواتِرِ جائِزٌ، وعِنْدِي هَذا الوَجْهُ كالمُكابَرَةِ؛ لِأنَّ هَذا الخَبَرَ وإنْ كانَ في غايَةِ الشُّهْرَةِ في زَمانِنا هَذا لَكِنَّهُ لَمّا انْتَهى في الأصْلِ إلى رِوايَةِ الآحادِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الآحادِ. وتارَةً نَقُولُ: تَخْصِيصُ عُمُومِ الكِتابِ بِخَبَرِ الواحِدِ جائِزٌ، وتَقْرِيرُهُ مَذْكُورٌ في الأُصُولِ، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في هَذا البابِ، والمُعْتَمَدُ في الجَوابِ عِنْدَنا الوَجْهُ الأوَّلُ. الصِّنْفُ الثّالِثُ مِنَ التَّخْصِيصاتِ الدّاخِلَةِ في هَذا العُمُومِ: أنَّ المُطَلَّقَةَ ثَلاثًا لا تَحِلُّ، إلّا أنَّ هَذا التَّخْصِيصَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] . الصِّنْفُ الرّابِعُ: تَحْرِيمُ نِكاحِ المُعْتَدَّةِ، ودَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ (p-٣٨)[البقرة: ٢٢٨] . الصِّنْفُ الخامِسُ: مَن كانَ في نِكاحِهِ حُرَّةٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أنْ يَتَزَوَّجَ بِالأمَةِ، وهَذا بِالِاتِّفاقِ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ: القادِرُ عَلى طَوْلِ الحُرَّةِ لا يَجُوزُ لَهُ نِكاحُ الأمَةِ، ودَلِيلُ هَذا التَّخْصِيصِ قَوْلُهُ: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٥] وسَيَأْتِي بَيانُ دَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذا المَطْلُوبِ. الصِّنْفُ السّادِسُ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّزَوُّجُ بِالخامِسَةِ، ودَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [النساء: ٣] . الصِّنْفُ السّابِعُ: المُلاعَنَةُ: ودَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«المُتَلاعِنانِ لا يَجْتَمِعانِ أبَدًا» “. * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ . فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿أنْ تَبْتَغُوا﴾ في مَحَلِّهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ رُفِعَ عَلى البَدَلِ مِن ”ما“ والتَّقْدِيرُ: وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم وأُحِلَّ لَكم أنْ تَبْتَغُوا، عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ (وأُحِلَّ) بِضَمِّ الألِفِ، ومَن قَرَأ بِالفَتْحِ كانَ مَحَلُّ ”أنْ تَبْتَغُوا“ نَصْبًا. الثّانِي: أنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ عَلى القِراءَتَيْنِ النَّصْبَ بِنَزْعِ الخافِضِ كَأنَّهُ قِيلَ: لِأنْ تَبْتَغُوا، والمَعْنى: وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم لِإرادَةِ أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكم، وقَوْلُهُ: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ أيْ: في حالِ كَوْنِكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿مُحْصِنِينَ﴾ أيْ: مُتَعَفِّفِينَ عَنِ الزِّنا، وقَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ أيْ: غَيْرَ زانِينَ، وهو تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ. قالَ اللَّيْثُ: السِّفاحُ والمُسافَحَةُ الفُجُورُ، وأصْلُهُ في اللُّغَةِ مِنَ السَّفْحِ وهو الصَّبُّ يُقالُ: دُمُوعٌ سَوافِحُ ومَسْفُوحَةٌ، قالَ تَعالى: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] وفُلانٌ سَفّاحٌ لِلدِّماءِ أيْ: سَفّاكٌ، وسُمِّيَ الزِّنى سِفاحًا لِأنَّهُ لا غَرَضَ لِلزّانِي إلّا سَفْحُ النُّطْفَةِ. فَإنْ قِيلَ: أيْنَ مَفْعُولُ تَبْتَغُوا ؟ قُلْنا: التَّقْدِيرُ: وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم لِإرادَةِ أنْ تَبْتَغُوهُنَّ، أيْ تَبْتَغُوا ما وراءَ ذَلِكم، فَحُذِفَ ذِكْرُهُ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا مَهْرَ أقَلُّ مِن عَشَرَةِ دَراهِمَ، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَجُوزُ بِالقَلِيلِ والكَثِيرِ ولا تَقْدِيرَ فِيهِ. احْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى قَيَّدَ التَّحْلِيلَ بِقَيْدٍ، وهو الِابْتِغاءُ بِأمْوالِهِمْ، والدِّرْهَمُ والدِّرْهَمانِ لا يُسَمّى أمْوالًا، فَوَجَبَ أنْ لا يَصِحَّ جَعْلُها مَهْرًا. فَإنْ قِيلَ: ومَن عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَراهِمَ لا يُقالُ عِنْدَهُ أمْوالٌ، مَعَ أنَّكم تُجَوِّزُونَ كَوْنَها مَهْرًا. قُلْنا: ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنْ لا تَكُونَ العَشَرَةُ كافِيَةً، إلّا أنّا تَرَكْنا العَمَلَ بِظاهِرِ الآيَةِ في هَذِهِ الصُّورَةِ لِدَلالَةِ الإجْماعِ عَلى جَوازِهِ، فَتَمَسَّكَ في الأقَلِّ مِنَ العَشَرَةِ بِظاهِرِ الآيَةِ. واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ الِابْتِغاءَ بِالأمْوالِ جائِزٌ، ولَيْسَ فِيها دَلالَةٌ عَلى (p-٣٩)أنَّ الِابْتِغاءَ بِغَيْرِ الأمْوالِ لا يَجُوزُ، إلّا عَلى سَبِيلِ المَفْهُومِ، وأنْتُمْ لا تَقُولُونَ بِهِ، ثُمَّ نَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا تَقْدِيرَ في المَهْرِ وُجُوهٌ: الحُجَّةُ الأُولى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿بِأمْوالِكُمْ﴾ مُقابَلَةُ الجَمْعِ بِالجَمْعِ، فَيَقْتَضِي تَوَزُّعَ الفَرْدِ عَلى الفَرْدِ، فَهَذا يَقْتَضِي أنْ يَتَمَكَّنَ كُلُّ واحِدٍ مِنِ ابْتِغاءِ النِّكاحِ بِما يُسَمّى مالًا، والقَلِيلُ والكَثِيرُ في هَذِهِ الحَقِيقَةِ وفي هَذا الِاسْمِ سَواءٌ، فَيَلْزَمُ مِن هَذِهِ الآيَةِ جَوازُ ابْتِغاءِ النِّكاحِ بِأيِّ شَيْءٍ يُسَمّى مالًا مِن غَيْرِ تَقْدِيرٍ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] دَلَّتِ الآيَةُ عَلى سُقُوطِ النِّصْفِ عَنِ المَذْكُورِ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ لَوْ وقَعَ العَقْدُ في أوَّلِ الأمْرِ بِدِرْهَمٍ أنْ لا يَجِبَ عَلَيْهِ إلّا نِصْفُ دِرْهَمٍ، وأنْتُمْ لا تَقُولُونَ بِهِ. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: الأحادِيثُ: مِنها ما رُوِيَ «أنَّ امْرَأةً جِيءَ بِها إلى النَّبِيِّ ﷺ وقَدْ تَزَوَّجَ بِها رَجُلٌ عَلى نَعْلَيْنِ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”رَضِيتِ مِن نَفْسِكِ بِنَعْلَيْنِ ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ، فَأجازَهُ النَّبِيُّ» ﷺ “، والظّاهِرُ أنَّ قِيمَةَ النَّعْلَيْنِ تَكُونُ أقَلَّ مِن عَشَرَةِ دَراهِمَ، فَإنَّ مِثْلَ هَذا الرَّجُلِ والمَرْأةِ اللَّذَيْنِ لا يَكُونُ تَزَوُّجُهُما إلّا عَلى النَّعْلَيْنِ يَكُونانِ في غايَةِ الفَقْرِ، ونَعْلُ هَذا الإنْسانِ يَكُونُ قَلِيلَ القِيمَةِ جِدًّا، ومِنها ما رُوِيَ عَنْجابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«مَن أعْطى امْرَأةً في نِكاحٍ كَفَّ دَقِيقٍ أوْ سَوِيقٍ أوْ طَعامٍ فَقَدِ اسْتَحَلَّ» “، ومِنها ما رُوِيَ في قِصَّةِ الواهِبَةِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ لِمَن أرادَ التَّزَوُّجَ بِها: ”«التَمِسْ ولَوْ خاتَمًا مِن حَدِيدٍ» “ وذَلِكَ لا يُساوِي عَشَرَةَ دَراهِمَ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ تَزَوَّجَ بِها عَلى تَعْلِيمِ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَهْرًا ولَها مَهْرُ مِثْلِها، ثُمَّ قالَ: إذا تَزَوَّجَ امْرَأةً عَلى خِدْمَتِهِ سَنَةً، فَإنْ كانَ حُرًّا فَلَها مَهْرُ مِثْلِها، وإنْ كانَ عَبْدًا فَلَها خِدْمَةُ سَنَةٍ، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: يَجُوزُ جَعْلُ ذَلِكَ مَهْرًا، احْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ عَلى قَوْلِهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: هَذِهِ الآيَةُ، وذَلِكَ أنَّهُ تَعالى شَرَطَ في حُصُولِ الحِلِّ أنْ يَكُونَ الِابْتِغاءُ بِالمالِ، والمالُ اسْمٌ لِلْأعْيانِ لا لِلْمَنافِعِ. الثّانِي: قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤] وذَلِكَ صِفَةُ الأعْيانِ. أجابَ الشّافِعِيُّ عَنِ الأوَّلِ بِأنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الِابْتِغاءَ بِالمالِ جائِزٌ، ولَيْسَ فِيهِ بَيانُ أنَّ الِابْتِغاءَ بِغَيْرِ المالِ جائِزٌ أمْ لا، وعَنِ الثّانِي: أنَّ لَفْظَ الإيتاءِ كَما يَتَناوَلُ الأعْيانَ يَتَناوَلُ المَنافِعَ المُلْتَزَمَةَ، وعَنِ الثّالِثِ: أنَّهُ خَرَجَ الخِطابُ عَلى الأعَمِّ الأغْلَبِ، ثُمَّ احْتَجَّ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلى جَوازِ جَعْلِ المَنفَعَةِ صَداقًا بِوُجُوهٍ: الحُجَّةُ الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى في قِصَّةِ شُعَيْبٍ: ﴿إنِّي أُرِيدُ أنْ أُنْكِحَكَ إحْدى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ﴾ [القصص: ٢٧] جَعَلَ الصَّداقَ تِلْكَ المَنافِعَ، والأصْلُ في شَرْعِ مَن تَقَدَّمَنا البَقاءُ إلى أنْ يَطْرَأ النّاسِخُ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّ الَّتِي وهَبَتْ نَفْسَها، لَمّا لَمْ يَجِدِ الرَّجُلُ الَّذِي أرادَ أنْ يَتَزَوَّجَ بِها شَيْئًا، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ ؟ قالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذا، قالَ: زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ» “، واللَّهُ أعْلَمُ. (p-٤٠) * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ عِتْقَ الأمَةِ لا يَكُونُ صَداقًا لَها؛ لِأنَّ الآيَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ البُضْعِ مالًا، وما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ «أعْتَقَ صَفِيَّةَ وجَعَلَ عِتْقَها صَداقَها»، فَذاكَ مِن خَواصِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿مُحْصِنِينَ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهم يَصِيرُونَ مُحْصِنِينَ بِسَبَبِ عَقْدِ النِّكاحِ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ الإحْصانُ شَرْطًا في الإحْلالِ المَذْكُورِ في قَوْلِهِ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ والأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَبْقى الآيَةُ عامَّةً مَعْلُومَةَ المَعْنى، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ الثّانِي تَكُونُ الآيَةُ مُجْمَلَةً؛ لِأنَّ الإحْصانَ المَذْكُورَ فِيهِ غَيْرُ مُبَيَّنٍ، والمُعَلَّقُ عَلى المُجْمَلِ يَكُونُ مُجْمَلًا، وحَمْلُ الآيَةِ عَلى وجْهٍ يَكُونُ مَعْلُومًا أوْلى مِن حَمْلِها عَلى وجْهٍ يَكُونُ مُجْمَلًا. * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ . فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الِاسْتِمْتاعُ في اللُّغَةِ الِانْتِفاعُ، وكُلُّ ما انْتُفِعَ بِهِ فَهو مَتاعٌ، يُقالُ: اسْتَمْتَعَ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ، ويُقالُ فِيمَن ماتَ في زَمانِ شَبابِهِ: لَمْ يَتَمَتَّعْ بِشَبابِهِ، قالَ تَعالى: ﴿رَبَّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ١٢٨]، وقالَ: ﴿أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها﴾ [الأحقاف: ٢٠] يَعْنِي تَعَجَّلْتُمُ الِانْتِفاعَ بِها، وقالَ: ﴿فاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ﴾ [التوبة: ٦٩] يَعْنِي بِحَظِّكم ونَصِيبِكم مِنَ الدُّنْيا، وفي قَوْلِهِ: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ وجْهانِ: الأوَّلُ: فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنَ المَنكُوحاتِ مِن جِماعٍ أوْ عَقْدٍ عَلَيْهِنَّ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ أسْقَطَ الرّاجِعَ إلى ”ما“ لِعَدَمِ الِالتِباسِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى: ٤٣] فَأُسْقِطَ مِنهُ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ ”ما“ في قَوْلِهِ: ﴿ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ بِمَعْنى النِّساءِ و”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿مِنهُنَّ﴾ لِلتَّبْعِيضِ، والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (بِهِ) راجِعٌ إلى لَفْظِ (ما) لِأنَّهُ واحِدٌ في اللَّفْظِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ إلى مَعْنى ”ما“ لِأنَّهُ جَمْعٌ في المَعْنى، وقَوْلُهُ: ﴿أُجُورَهُنَّ﴾ أيْ: مُهُورَهُنَّ، قالَ تَعالى: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلًا﴾ [النساء: ٢٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿فانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [النساء: ٢٥] وهي المُهُورُ، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ هَهُنا، وقالَ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الممتحنة: ١٠] وإنَّما سُمِّيَ المَهْرُ أجْرًا لِأنَّهُ بَدَلُ المَنافِعِ، ولَيْسَ بِبَدَلٍ مِنَ الأعْيانِ، كَما سُمِّيَ بَدَلُ مَنافِعِ الدّارِ والدّابَّةِ أجْرًا، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ: الخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ لا تُقَرِّرُ المَهْرَ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ تُقَرِّرُهُ، واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ عَلى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ مُشْعِرٌ بِأنَّ وُجُوبَ إيتائِهِنَّ مُهُورَهُنَّ كانَ لِأجْلِ الِاسْتِمْتاعِ بِهِنَّ، ولَوْ كانَتِ الخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ مُقَرِّرَةً لِلْمَهْرِ كانَ الظّاهِرُ أنَّ الخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تَتَقَدَّمُ الِاسْتِمْتاعَ بِهِنَّ، فَكانَ المَهْرُ يَتَقَرَّرُ قَبْلَ الِاسْتِمْتاعِ، وتَقَرُّرُهُ قَبْلَ الِاسْتِمْتاعِ يَمْنَعُ مِن تَعَلُّقِ ذَلِكَ التَّقَرُّرِ بِالِاسْتِمْتاعِ، والآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ تَقَرُّرَ المَهْرِ يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِمْتاعِ، فَثَبَتَ أنَّ الخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ لا تُقَرِّرُ المَهْرَ. (p-٤١) * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: وهو قَوْلُ أكْثَرِ عُلَماءِ الأُمَّةِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكُمْ﴾ المُرادُ مِنهُ ابْتِغاءُ النِّساءِ بِالأمْوالِ عَلى طَرِيقِ النِّكاحِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ فَإنِ اسْتَمْتَعَ بِالدُّخُولِ بِها آتاها المَهْرَ بِالتَّمامِ، وإنِ اسْتَمْتَعَ بِعَقْدِ النِّكاحِ آتاها نِصْفَ المَهْرِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الآيَةِ حُكْمُ المُتْعَةِ، وهي عِبارَةٌ عَنْ أنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ المَرْأةَ بِمالٍ مَعْلُومٍ إلى أجَلٍ مُعَيَّنٍ فَيُجامِعَها، واتَّفَقُوا عَلى أنَّها كانَتْ مُباحَةً في ابْتِداءِ الإسْلامِ، رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قَدِمَ مَكَّةَ في عُمْرَتِهِ تَزَيَّنَ نِساءُ مَكَّةَ، فَشَكا أصْحابُ الرَّسُولِ ﷺ طُولَ العُزُوبَةِ، فَقالَ: اسْتَمْتِعُوا مِن هَذِهِ النِّساءِ»، واخْتَلَفُوا في أنَّها هَلْ نُسِخَتْ أمْ لا ؟ فَذَهَبَ السَّوادُ الأعْظَمُ مِنَ الأُمَّةِ إلى أنَّها صارَتْ مَنسُوخَةً، وقالَ السَّوادُ مِنهم: إنَّها بَقِيَتْ مُباحَةً كَما كانَتْ، وهَذا القَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعِمْرانَ بْنِ الحُصَيْنِ، أمّا ابْنُ عَبّاسٍ فَعَنْهُ ثَلاثُ رِواياتٍ: إحْداها: القَوْلُ بِالإباحَةِ المُطْلَقَةِ، قالَ عُمارَةُ: سَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ عَنِ المُتْعَةِ: أسِفاحٌ هي أمْ نِكاحٌ ؟ قالَ: لا سِفاحٌ ولا نِكاحٌ، قُلْتُ: فَما هي ؟ قالَ: هي مُتْعَةٌ كَما قالَ تَعالى، قُلْتُ: هَلْ لَها عِدَّةٌ ؟ قالَ نَعَمْ عِدَّتُها حَيْضَةٌ، قُلْتُ: هَلْ يَتَوارَثانِ ؟ قالَ: لا. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ عَنْهُ: أنَّ النّاسَ لَمّا ذَكَرُوا الأشْعارَ في فُتْيا ابْنِ عَبّاسٍ في المُتْعَةِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ إنِّي ما أفْتَيْتُ بِإباحَتِها عَلى الإطْلاقِ، لَكِنِّي قُلْتُ: إنَّها تَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ كَما تَحِلُّ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ لَهُ. والرِّوايَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ أقَرَّ بِأنَّها صارَتْ مَنسُوخَةً. رَوى عَطاءٌ الخُراسانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ قالَ: صارَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] ورُوِيَ أيْضًا أنَّهُ قالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: اللَّهُمَّ إنِّي أتُوبُ إلَيْكَ مِن قَوْلِي في المُتْعَةِ والصَّرْفِ، وأمّا عِمْرانُ بْنُ الحُصَيْنِ فَإنَّهُ قالَ: «نَزَلَتْ آيَةُ المُتْعَةِ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى ولَمْ يَنْزِلْ بَعْدَها آيَةٌ تَنْسَخُها، وأمَرَنا بِها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وتَمَتَّعْنا بِها، وماتَ ولَمْ يَنْهَنا عَنْهُ، ثُمَّ قالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ ما شاءَ» . وأمّا أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فالشِّيعَةُ يَرْوُونَ عَنْهُ إباحَةَ المُتْعَةِ، ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: لَوْلا أنَّ عُمَرَ نَهى النّاسَ عَنِ المُتْعَةِ ما زَنى إلّا شَقِيٌّ، ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ المَشْهُورُ بِمُحَمَّدِ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ: «أنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرَّ بِابْنِ عَبّاسٍ وهو يُفْتِي بِجَوازِ المُتْعَةِ، فَقالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ: إنَّهُ ﷺ نَهى عَنْها وعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ»، فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِالرِّواياتِ، واحْتَجَّ الجُمْهُورُ عَلى حُرْمَةِ المُتْعَةِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الوَطْءَ لا يَحِلُّ إلّا في الزَّوْجَةِ أوِ المَمْلُوكَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هم لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ﴾ ﴿إلّا عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ﴾ [المؤمنون: ٥، ٦]، وهَذِهِ المَرْأةُ لا شَكَّ أنَّها لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً، ولَيْسَتْ أيْضًا زَوْجَةً، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: لَوْ كانَتْ زَوْجَةً لَحَصَلَ التَّوارُثُ بَيْنَهُما لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكم نِصْفُ ما تَرَكَ أزْواجُكُمْ﴾ [النساء: ١٢] وبِالِاتِّفاقِ لا تَوارُثَ بَيْنَهُما. وثانِيها: ولَثَبَتَ النَّسَبُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«الوَلَدُ لِلْفِراشِ» “، وبِالِاتِّفاقِ لا يَثْبُتُ. وثالِثُها: ولَوَجَبَتِ العِدَّةُ عَلَيْها، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤] واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الحُجَّةَ كَلامٌ حَسَنٌ مُقَرَّرٌ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ في خُطْبَتِهِ: مُتْعَتانِ كانَتا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنا أنْهى عَنْهُما وأُعاقِبُ عَلَيْهِما، ذُكِرَ هَذا الكَلامُ في مَجْمَعِ الصَّحابَةِ وما أنْكَرَ عَلَيْهِ أحَدٌ، فالحالُ هَهُنا لا يَخْلُو (p-٤٢)إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهم كانُوا عالِمِينَ بِحُرْمَةِ المُتْعَةِ فَسَكَتُوا، أوْ كانُوا عالِمِينَ بِأنَّها مُباحَةٌ ولَكِنَّهم سَكَتُوا عَلى سَبِيلِ المُداهَنَةِ، أوْ ما عَرَفُوا إباحَتَها ولا حُرْمَتَها فَسَكَتُوا لِكَوْنِهِمْ مُتَوَقِّفِينَ في ذَلِكَ، والأوَّلُ هو المَطْلُوبُ، والثّانِي يُوجِبُ تَكْفِيرَ عُمَرَ وتَكْفِيرَ الصَّحابَةِ؛ لِأنَّ مَن عَلِمَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَكَمَ بِإباحَةِ المُتْعَةِ، ثُمَّ قالَ: إنَّها مُحَرَّمَةٌ مَحْظُورَةٌ مِن غَيْرِ نَسْخٍ لَها فَهو كافِرٌ بِاللَّهِ، ومَن صَدَّقَهُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مُخْطِئًا كافِرًا، كانَ كافِرًا أيْضًا، وهَذا يَقْتَضِي تَكْفِيرَ الأُمَّةِ وهو عَلى ضِدِّ قَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: ١١٠] . والقِسْمُ الثّالِثُ: وهو أنَّهم ما كانُوا عالِمِينَ بِكَوْنِ المُتْعَةِ مُباحَةً أوْ مَحْظُورَةً فَلِهَذا سَكَتُوا، فَهَذا أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ المُتْعَةَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِها مُباحَةً تَكُونُ كالنِّكاحِ، واحْتِياجُ النّاسِ إلى مَعْرِفَةِ الحالِ في كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عامٌّ في حَقِّ الكُلِّ، ومِثْلُ هَذا يُمْنَعُ أنْ يَبْقى مَخْفِيًّا، بَلْ يَجِبُ أنْ يَشْتَهِرَ العِلْمُ بِهِ، فَكَما أنَّ الكُلَّ كانُوا عارِفِينَ بِأنَّ النِّكاحَ مُباحٌ، وأنَّ إباحَتَهُ غَيْرُ مَنسُوخَةٍ، وجَبَ أنْ يَكُونَ الحالُ في المُتْعَةِ كَذَلِكَ، ولَمّا بَطَلَ هَذانِ القِسْمانِ ثَبَتَ أنَّ الصَّحابَةَ إنَّما سَكَتُوا عَنِ الإنْكارِ عَلى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأنَّهم كانُوا عالِمِينَ بِأنَّ المُتْعَةَ صارَتْ مَنسُوخَةً في الإسْلامِ. فَإنْ قِيلَ: ما ذَكَرْتُمْ يَبْطُلُ بِما أنَّهُ رُوِيَ أنَّ عُمَرَ قالَ: لا أُوتى بِرَجُلٍ نَكَحَ امْرَأةً إلى أجَلٍ إلّا رَجَمْتُهُ، ولا شَكَّ أنَّ الرَّجْمَ غَيْرُ جائِزٍ، مَعَ أنَّ الصَّحابَةَ ما أنْكَرُوا عَلَيْهِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهم كانُوا يَسْكُتُونَ عَنِ الإنْكارِ عَلى الباطِلِ. قُلْنا: لَعَلَّهُ كانَ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ والزَّجْرِ والسِّياسَةِ، ومِثْلُ هَذِهِ السِّياساتِ جائِزَةٌ لِلْإمامِ عِنْدَ المَصْلَحَةِ، ألا تَرى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«مَن مَنَعَ مِنّا الزَّكاةَ فَإنّا آخِذُوها مِنهُ وشَطْرَ مالِهِ» “ ثُمَّ إنَّ أخْذَ شَطْرِ المالِ مِن مانِعِ الزَّكاةِ غَيْرُ جائِزٍ، لَكِنَّهُ قالَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ لِلْمُبالَغَةِ في الزَّجْرِ، فَكَذا هَهُنا، واللَّهُ أعْلَمُ. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ عَلى أنَّ المُتْعَةَ مُحَرَّمَةٌ: ما رَوى مالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ والحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أبِيهِما عَنْ عَلِيٍّ: «أنَّ الرَّسُولَ ﷺ نَهى عَنْ مُتْعَةِ النِّساءِ وعَنْ أكْلِ لُحُومِ الحُمُرِ الإنْسِيَّةِ»، ورَوى الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الجُهَنِيُّ عَنْ أبِيهِ قالَ: «غَدَوْتُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإذا هو قائِمٌ بَيْنَ الرُّكْنِ والمَقامِ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إلى الكَعْبَةِ يَقُولُ: ”يا أيُّها النّاسُ إنِّي أمَرْتُكم بِالِاسْتِمْتاعِ مِن هَذِهِ النِّساءِ، ألا وإنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَها عَلَيْكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ فَمَن كانَ عِنْدَهُ مِنهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخْلِ سَبِيلَها ولا تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» “، ورُوِيَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«مُتْعَةُ النِّساءِ حَرامٌ» “، وهَذِهِ الأخْبارُ الثَّلاثَةُ ذَكَرَها الواحِدِيُّ في البَسِيطِ، وظاهِرٌ أنَّ النِّكاحَ لا يُسَمّى اسْتِمْتاعًا؛ لِأنّا بَيَّنّا أنَّ الِاسْتِمْتاعَ هو التَّلَذُّذُ، ومُجَرَّدُ النِّكاحِ لَيْسَ كَذَلِكَ. أمّا القائِلُونَ بِإباحَةِ المُتْعَةِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ: الحُجَّةُ الأُولى: التَّمَسُّكُ بِهَذِهِ الآيَةِ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ وفي الِاسْتِدْلالِ بِهَذِهِ الآيَةِ طَرِيقانِ: الطَّرِيقُ الأُولى: أنْ نَقُولَ: نِكاحُ المُتْعَةِ داخِلٌ في هَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكُمْ﴾ يَتَناوَلُ مَنِ ابْتَغى بِمالِهِ الِاسْتِمْتاعَ بِالمَرْأةِ عَلى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ، ومَنِ ابْتَغى بِمالِهِ عَلى سَبِيلِ التَّأْقِيتِ، وإذا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ القِسْمَيْنِ داخِلًا فِيهِ كانَ قَوْلُهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكُمْ﴾ يَقْتَضِي حِلَّ (p-٤٣)القِسْمَيْنِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي حِلَّ المُتْعَةِ. الطَّرِيقُ الثّانِي: أنْ نَقُولَ: هَذِهِ الآيَةُ مَقْصُورَةٌ عَلى بَيانِ نِكاحِ المُتْعَةِ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: ما رُوِيَ أنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كانَ يَقْرَأُ (فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) وهَذا أيْضًا هو قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ، والأُمَّةُ ما أنْكَرُوا عَلَيْهِما في هَذِهِ القِراءَةِ، فَكانَ ذَلِكَ إجْماعًا مِنَ الأُمَّةِ عَلى صِحَّةِ هَذِهِ القِراءَةِ، وتَقْرِيرُهُ ما ذَكَرْتُمُوهُ في أنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمّا مَنَعَ مِنَ المُتْعَةِ والصَّحابَةُ ما أنْكَرُوا عَلَيْهِ كانَ ذَلِكَ إجْماعًا عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْنا، وكَذا هَهُنا، وإذا ثَبَتَ بِالإجْماعِ صِحَّةُ هَذِهِ القِراءَةِ ثَبَتَ المَطْلُوبُ. الثّانِي: أنَّ المَذْكُورَ في الآيَةِ إنَّما هو مُجَرَّدُ الِابْتِغاءِ بِالمالِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أمَرَ بَإيتائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ بَعْدَ الِاسْتِمْتاعِ بِهِنَّ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ مُجَرَّدَ الِابْتِغاءِ بِالمالِ يُجَوِّزُ الوَطْءَ، ومُجَرَّدُ الِابْتِغاءِ بِالمالِ لا يَكُونُ إلّا في نِكاحِ المُتْعَةِ، فَأمّا في النِّكاحِ المُطْلَقِ فَهُناكَ الحِلُّ إنَّما يَحْصُلُ بِالعَقْدِ، ومَعَ الوَلِيِّ والشُّهُودِ، ومُجَرَّدُ الِابْتِغاءِ بِالمالِ لا يُفِيدُ الحِلَّ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالمُتْعَةِ. الثّالِثُ: أنَّ في هَذِهِ الآيَةِ أُوجِبَ إيتاءَ الأُجُورِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْتاعِ، والِاسْتِمْتاعُ عِبارَةٌ عَنِ التَّلَذُّذِ والِانْتِفاعِ، فَأمّا في النِّكاحِ فَإيتاءُ الأُجُورِ لا يَجِبُ عَلى الِاسْتِمْتاعِ البَتَّةَ، بَلْ عَلى النِّكاحِ، ألا تَرى أنَّ بِمُجَرَّدِ النِّكاحِ يَلْزَمُ نِصْفُ المَهْرِ ؟ فَظاهِرٌ أنَّ النِّكاحَ لا يُسَمّى اسْتِمْتاعًا، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ الِاسْتِمْتاعَ هو التَّلَذُّذُ، ومُجَرَّدُ النِّكاحِ لَيْسَ كَذَلِكَ. الرّابِعُ: أنّا لَوْ حَمَلْنا هَذِهِ الآيَةَ عَلى حُكْمِ النِّكاحِ لَزِمَ تَكْرارُ بَيانِ حُكْمِ النِّكاحِ في السُّورَةِ الواحِدَةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [النساء: ٣] ثُمَّ قالَ: ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: ٤] أمّا لَوْ حَمَلْنا هَذِهِ الآيَةَ عَلى بَيانِ نِكاحِ المُتْعَةِ كانَ هَذا حُكْمًا جَدِيدًا، فَكانَ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ أوْلى، واللَّهُ أعْلَمُ. الحُجَّةُ الثّانِيَةُ عَلى جَوازِ نِكاحِ المُتْعَةِ: أنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى أنَّ نِكاحَ المُتْعَةِ كانَ جائِزًا في الإسْلامِ، ولا خِلافَ بَيْنِ أحَدٍ مِنَ الأُمَّةِ فِيهِ، إنَّما الخِلافُ في طَرَيانِ النّاسِخِ، فَنَقُولُ: لَوْ كانَ النّاسِخُ مَوْجُودًا لَكانَ ذَلِكَ النّاسِخُ إمّا أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالتَّواتُرِ، أوْ بِالآحادِ، فَإنْ كانَ مَعْلُومًا بِالتَّواتُرِ، كانَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ وعِمْرانُ بْنُ الحُصَيْنِ مُنْكِرِينَ لِما عُرِفَ ثُبُوتُهُ بِالتَّواتُرِ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وذَلِكَ يُوجِبُ تَكْفِيرَهم، وهو باطِلٌ قَطْعًا، وإنْ كانَ ثابِتًا بِالآحادِ فَهَذا أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَ ثُبُوتُ إباحَةِ المُتْعَةِ مَعْلُومًا بِالإجْماعِ والتَّواتُرِ، كانَ ثُبُوتُهُ مَعْلُومًا قَطْعًا، فَلَوْ نَسَخْناهُ بِخَبَرِ الواحِدِ لَزِمَ جَعْلُ المَظْنُونِ رافِعًا لِلْمَقْطُوعِ وإنَّهُ باطِلٌ. قالُوا: ومِمّا يَدُلُّ أيْضًا عَلى بُطْلانِ القَوْلِ بِهَذا النَّسْخِ أنَّ أكْثَرَ الرِّواياتِ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهى عَنِ المُتْعَةِ وعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ»، وأكْثَرُ الرِّواياتِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أباحَ المُتْعَةَ في حَجَّةِ الوَداعِ وفي يَوْمِ الفَتْحِ، وهَذانِ اليَوْمانِ مُتَأخِّرانِ عَنْ يَوْمِ خَيْبَرَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى فَسادِ ما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ نَسَخَ المُتْعَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ؛ لِأنَّ النّاسِخَ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُهُ عَلى المَنسُوخِ، وقَوْلُ مَن يَقُولُ: إنَّهُ حَصَلَ التَّحْلِيلُ مِرارًا والنَّسْخُ مِرارًا ضَعِيفٌ، لَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِنَ المُعْتَبَرِينَ، إلّا الَّذِينَ أرادُوا إزالَةَ التَّناقُضِ عَنْ هَذِهِ الرِّواياتِ. الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: ما رُوِيَ «أنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ عَلى المِنبَرِ: مُتْعَتانِ كانَتا مَشْرُوعَتَيْنِ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأنا أنْهى عَنْهُما: مُتْعَةُ الحَجِّ، ومُتْعَةُ النِّكاحِ»، وهَذا مِنهُ تَنْصِيصٌ عَلى أنَّ مُتْعَةَ النِّكاحِ كانَتْ مَوْجُودَةً في عَهْدِ الرَّسُولِ ﷺ، وقَوْلُهُ: وأنا أنْهى عَنْهُما يَدُلُّ عَلى أنَّ الرَّسُولَ ﷺ ما نَسَخَهُ، وإنَّما عُمَرُ هو الَّذِي نَسَخَهُ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: هَذا الكَلامُ يَدُلُّ عَلى أنَّ حِلَّ المُتْعَةِ كانَ ثابِتًا في عَهْدِ الرَّسُولِ ﷺ، وأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما نَسَخَهُ، وأنَّهُ لَيْسَ ناسِخٌ إلّا نَسْخَ عُمَرَ، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ لا يَصِيرَ مَنسُوخًا؛ لِأنَّ ما كانَ ثابِتًا في (p-٤٤)زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ وما نَسَخَهُ الرَّسُولُ يَمْتَنِعُ أنْ يَصِيرَ مَنسُوخًا بِنَسْخِ عُمَرَ، وهَذا هو الحُجَّةُ الَّتِي احْتَجَّ بِها عِمْرانُ بْنُ الحُصَيْنِ حَيْثُ قالَ: «إنَّ اللَّهَ أنْزَلَ في المُتْعَةِ آيَةً وما نَسَخَها بِآيَةٍ أُخْرى، وأمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالمُتْعَةِ وما نَهانا عَنْها، ثُمَّ قالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ ما شاءَ»، يُرِيدُ أنَّ عُمَرَ نَهى عَنْها، فَهَذا جُمْلَةُ وُجُوهِ القائِلِينَ بِجَوازِ المُتْعَةِ. والجَوابُ عَنِ الوَجْهِ الأوَّلِ أنْ نَقُولَ: هَذِهِ الآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ مِنها نِكاحُ المُتْعَةِ وبَيانُهُ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ المُحَرَّماتِ بِالنِّكاحِ أوَّلًا في قَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ ثُمَّ قالَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ فَكانَ المُرادُ بِهَذا التَّحْلِيلِ ما هو المُرادُ هُناكَ بِهَذا التَّحْرِيمِ، لَكِنَّ المُرادَ هُناكَ بِالتَّحْرِيمِ هو النِّكاحُ، فالمُرادُ بِالتَّحْلِيلِ هَهُنا أيْضًا يَجِبُ أنْ يَكُونَ هو النِّكاحَ. الثّانِي: أنَّهُ قالَ: ﴿مُحْصِنِينَ﴾ والإحْصانُ لا يَكُونُ إلّا في نِكاحٍ صَحِيحٍ. والثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ سَمّى الزِّنا سِفاحًا لِأنَّهُ لا مَقْصُودَ فِيهِ إلّا سَفْحُ الماءِ، ولا يُطْلَبُ فِيهِ الوَلَدُ وسائِرُ مَصالِحِ النِّكاحِ، والمُتْعَةُ لا يُرادُ مِنها إلّا سَفْحُ الماءِ فَكانَ سِفاحًا، هَذا ما قالَهُ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ. أمّا الَّذِي ذَكَرَهُ في الوَجْهِ الأوَّلِ: فَكَأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أصْنافَ مَن يَحْرُمُ عَلى الإنْسانِ وطْؤُهُنَّ، ثُمَّ قالَ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ أيْ: وأُحِلَّ لَكم وطْءُ ما وراءَ هَذِهِ الأصْنافِ، فَأيُّ فَسادٍ في هَذا الكَلامِ ؟ وأمّا قَوْلُهُ ثانِيًا: الإحْصانُ لا يَكُونُ إلّا في نِكاحٍ صَحِيحٍ فَلَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ دَلِيلًا، وأمّا قَوْلُهُ ثالِثًا: الزِّنا إنَّما سُمِّيَ سِفاحًا؛ لِأنَّهُ لا يُرادُ مِنهُ إلّا سَفْحُ الماءِ، والمُتْعَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإنَّ المَقْصُودَ مِنها سَفْحُ الماءِ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِن قِبَلِ اللَّهِ، فَإنْ قُلْتُمُ: المُتْعَةُ مُحَرَّمَةٌ، فَنَقُولُ: هَذا أوَّلُ البَحْثِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ ؟ فَظَهَرَ أنَّ الكَلامَ رِخْوٌ، والَّذِي يَجِبُ أنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ في هَذا البابِ أنْ نَقُولَ: إنّا لا نُنْكِرُ أنَّ المُتْعَةَ كانَتْ مُباحَةً، إنَّما الَّذِي نَقُولُهُ: إنَّها صارَتْ مَنسُوخَةً، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلَوْ كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً عَلى أنَّها مَشْرُوعَةٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قادِحًا في غَرَضِنا، وهَذا هو الجَوابُ أيْضًا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقِراءَةِ أُبَيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ، فَإنَّ تِلْكَ القِراءَةَ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِها لا تَدُلُّ إلّا عَلى أنَّ المُتْعَةَ كانَتْ مَشْرُوعَةً، ونَحْنُ لا نُنازِعُ فِيهِ، إنَّما الَّذِي نَقُولُهُ: إنَّ النَّسْخَ طَرَأ عَلَيْهِ، وما ذَكَرْتُمْ مِنَ الدَّلائِلِ لا يَدْفَعُ قَوْلَنا. وقَوْلُهُمُ: النّاسِخُ إمّا أنْ يَكُونَ مُتَواتِرًا أوْ آحادًا. قُلْنا: لَعَلَّ بَعْضَهم سَمِعَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمّا ذَكَرَ ذَلِكَ في الجَمْعِ العَظِيمِ تَذَكَّرُوهُ وعَرَفُوا صِدْقَهُ فِيهِ فَسَلَّمُوا الأمْرَ لَهُ. قَوْلُهُ: إنَّ عُمَرَ أضافَ النَّهْيَ عَنِ المُتْعَةِ إلى نَفْسِهِ. قُلْنا: قَدْ بَيَّنّا أنَّهُ لَوْ كانَ مُرادُهُ أنَّ المُتْعَةَ كانَتْ مُباحَةً في شَرْعِ مُحَمَّدٍ ﷺ وأنا أنْهى عَنْهُ لَزِمَ تَكْفِيرُهُ وتَكْفِيرُ كُلِّ مَن لَمْ يُحارِبْهُ ويُنازِعْهُ، ويُفْضِي ذَلِكَ إلى تَكْفِيرِ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ حَيْثُ لَمْ يُحارِبْهُ ولَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ القَوْلَ عَلَيْهِ، وكُلُّ ذَلِكَ باطِلٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ: كانَ مُرادُهُ أنَّ المُتْعَةَ كانَتْ مُباحَةً في زَمَنِ الرَّسُولِ ﷺ، وأنا أنْهى عَنْها لِما ثَبَتَ عِنْدِي أنَّهُ ﷺ نَسَخَها، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ هَذا الكَلامُ حُجَّةً لَنا في مَطْلُوبِنا، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ والمَعْنى أنَّ إيتاءَهُنَّ أُجُورَهُنَّ ومُهُورَهُنَّ فَرِيضَةٌ لازِمَةٌ وواجِبَةٌ، وذَكَرَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ في قَوْلِهِ: ﴿فَرِيضَةً﴾ ثَلاثَةَ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّهُ حالٌ مِنَ الأُجُورِ بِمَعْنى مَفْرُوضَةٍ. وثانِيها: أنَّها وُضِعَتْ مَوْضِعَ إيتاءٍ، لِأنَّ الإيتاءَ مَفْرُوضٌ. وثالِثُها: أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ، أيْ: فَرَضَ ذَلِكَ فَرِيضَةً. * * * (p-٤٥) ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ . وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الَّذِينَ حَمَلُوا الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ عَلى بَيانِ حُكْمِ النِّكاحِ قالُوا: المُرادُ أنَّهُ إذا كانَ المَهْرُ مُقَدَّرًا بِمِقْدارٍ مُعَيَّنٍ، فَلا حَرَجَ في أنْ تَحُطَّ عَنْهُ شَيْئًا مِنَ المَهْرِ أوْ تُبَرِّئَهُ عَنْهُ بِالكُلِّيَّةِ، فَعَلى هَذا: المُرادُ مِنَ التَّراضِي الحَطُّ مِنَ المَهْرِ أوِ الإبْراءُ عَنْهُ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤] وقَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٧] وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ لا إثْمَ عَلَيْكم في أنْ تَهَبَ المَرْأةُ لِلزَّوْجِ مَهْرَها، أوْ يَهَبَ الزَّوْجُ لِلْمَرْأةِ تَمامَ المَهْرِ إذا طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ، وأمّا الَّذِينَ حَمَلُوا الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ عَلى بَيانِ المُتْعَةِ قالُوا: المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ إذا انْقَضى أجَلُ المُتْعَةِ لَمْ يَبْقَ لِلرَّجُلِ عَلى المَرْأةِ سَبِيلٌ البَتَّةَ، فَإنْ قالَ لَها: زِيدِينِي في الأيّامِ وأزِيدُكِ في الأُجْرَةِ كانَتِ المَرْأةُ بِالخِيارِ، إنْ شاءَتْ فَعَلَتْ، وإنْ شاءَتْ لَمْ تَفْعَلْ، فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾ أيْ مِن بَعْدِ المِقْدارِ المَذْكُورِ أوَّلًا مِنَ الأجْرِ والأجَلِ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلْحاقُ الزِّيادَةِ في الصَّداقِ جائِزٌ، وهي ثابِتَةٌ إنْ دَخَلَ بِها أوْ ماتَ عَنْها، أمّا إذا طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتِ الزِّيادَةُ، وكانَ لَها نِصْفُ المُسَمّى في العَقْدِ، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: الزِّيادَةُ بِمَنزِلَةِ الهِبَةِ، فَإنْ أقْبَضَها مَلَكَتْهُ بِالقَبْضِ، وإنْ لَمْ يُقْبِضْها بَطَلَتْ. احْتَجَّ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ لِأبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقَوْلُهُ: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾ يَتَناوَلُ ما وقَعَ التَّراضِي بِهِ في طَرَفَيِ الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ، فَكانَ هَذا بِعُمُومِهِ يَدُلُّ عَلى جَوازِ إلْحاقِ الزِّيادَةِ بِالصَّداقِ، قالَ: بَلْ هَذِهِ الآيَةُ بِالزِّيادَةِ أخَصُّ مِنها بِالنُّقْصانِ؛ لِأنَّهُ تَعالى عَلَّقَهُ بِتَراضِيهِما، والبَراءَةُ والحَطُّ لا يَحْتاجُ إلى رِضا الزَّوْجِ، والزِّيادَةُ لا تَصِحُّ إلّا بِقَبُولِهِ، فَإذا عُلِّقَ ذَلِكَ بِتَراضِيهِما جَمِيعًا دَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ هو الزِّيادَةُ. والجَوابُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الزِّيادَةُ عِبارَةً عَمّا ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ ؟ وهو أنَّهُ إذا طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإنْ شاءَتِ المَرْأةُ أبْرَأتْهُ عَنِ النِّصْفِ، وإنْ شاءَ الزَّوْجُ سَلَّمَ إلَيْها كُلَّ المَهْرِ، وبِهَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَدْ زادَها عَمّا وجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إلَيْها، وأيْضًا عِنْدَنا أنَّهُ لا جُناحَ في تِلْكَ الزِّيادَةِ إلّا أنَّها تَكُونُ هِبَةً، والدَّلِيلُ القاطِعُ عَلى بُطْلانِ هَذِهِ الزِّيادَةِ أنَّ هَذِهِ الزِّيادَةَ لَوِ التَحَقَتْ بِالأصْلِ لَكانَ إمّا مَعَ بَقاءِ العَقْدِ الأوَّلِ، أوْ بَعْدَ زَوالِ العَقْدِ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ العَقْدَ لَمّا انْعَقَدَ عَلى القَدْرِ الأوَّلِ، فَلَوِ انْعَقَدَ مَرَّةً أُخْرى عَلى القَدْرِ الثّانِي، لَكانَ ذَلِكَ تَكْوِينًا لِذَلِكَ العَقْدِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي تَحْصِيلَ الحاصِلِ وهو مُحالٌ. والثّانِي باطِلٌ لِانْعِقادِ الإجْماعِ عَلى أنَّ عِنْدَ إلْحاقِ الزِّيادَةِ لا يَرْتَفِعُ العَقْدُ الأوَّلُ، فَثَبَتَ فَسادُ ما قالُوهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنْواعًا كَثِيرَةً مِنَ التَّكالِيفِ والتَّحْرِيمِ والإحْلالِ، بَيَّنَ أنَّهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ لا يَخْفى عَلَيْهِ مِنها خافِيَةٌ أصْلًا، وحَكِيمٌ لا يُشَرِّعُ الأحْكامَ إلّا عَلى وفْقِ الحِكْمَةِ، وذَلِكَ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ لِأوامِرِهِ والِانْقِيادَ لِأحْكامِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب