الباحث القرآني
﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ الإحْصانُ: التَّزَوُّجُ، أوِ الحُرِّيَّةُ، أوِ الإسْلامُ، أوِ العِفَّةُ. وعَلى هَذِهِ المَعانِي تَصَرَّفَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ في القُرْآنِ، ويُفَسَّرُ كُلُّ مَكانٍ بِما يُناسِبُهُ مِنها. ورَوى أبُو سَعِيدٍ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ جَيْشًا إلى أوْطاسَ، فَلَقَوْا عَدُوًّا وأصابُوا سَبْيًا لَهُنَّ أزْواجٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَتَأثَّمَ المُسْلِمُونَ مِن غِشْيانِهِنَّ، فَنَزَلَتْ» . فالمُحْصَناتُ هُنا المُزَوَّجاتُ. والمُسْتَثْنى هو السَّبايا، فَإذا وقَعَتْ في سَهْمِهِ مَن لَها زَوْجٌ فَهي حَلالٌ لَهُ، وإلى هَذا ذَهَبَ أبُو سَعِيدٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو قِلابَةَ، ومَكْحُولٌ، والزُّهْرِيُّ، وابْنُ زَيْدٍ، وهَذا كَما قالَ الفَرَزْدَقُ:
؎وذاتُ حَلِيلٍ أنَكَحَتْها رِماحُنا حَلالٌ لِمَن يَبْنِي بِها لَمْ تُطَلَّقِ
وقِيلَ: المُحْصَناتُ المُزَوَّجاتُ، والمُسْتَثْنى هُنَّ الإماءُ، فَتَحْرُمُ المُزَوَّجاتُ إلّا ما مُلِكَ مِنهُنَّ بِشِراءٍ، أوْ هِبَةٍ، أوْ صَدَقَةٍ، أوْ إرْثٍ. فَإنَّ مالِكَها أحَقُّ بِبُضْعِها مِنَ الزَّوْجِ، وبَيْعِها، وهِبَتِها، والصَّدَقَةِ بِها، وإرْثُها طَلاقٌ لَها. وإلى هَذا ذَهَبَ الأعْمَشِ، وأبُو جابِرٍ، وابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وسَعِيدٌ، والحَسَنُ. وذَهَبَ عَمْرُو بْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، وأبُو العالِيَةِ، وعُبَيْدَةُ، وطاوُسٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وعَطاءٌ: إلى أنَّ المُحْصَناتِ هُنَّ العَفائِفُ، وأُرِيدَ بِهِ كُلُّ النِّساءِ حَرامٌ، والشَّرائِعِ كُلُّها تَقْتَضِي ذَلِكَ. والمُسْتَثْنى مَعْناهُ: إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكم بِنِكاحٍ أوْ بِمِلْكٍ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَحْتَ مِلْكِ اليَمِينِ. وبِهَذا التَّأْوِيلِ يَكُونُ المَعْنى تَحْرِيمَ الزِّنا. ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ في المُحْصَناتِ أنَّهُنَّ الحَرائِرُ ؟ فَعَلى هَذا يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ أيْ: بِنِكاحٍ إنْ كانَ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا، وإنْ كانَ أُرِيدُ بِهِ الإماءُ كانَ مُنْقَطِعًا. قِيلَ: والَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الإحْصانِ - إنْ تَعَلَّقَ بِالقَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ مَعانِيهِ - الأرْبَعَةُ، وإنِ اخْتَلَفَتْ جِهاتُ الإحْصانِ، ويُحْمَلُ قَوْلُهُ: ﴿إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ عَلى ظاهِرِ اسْتِعْمالِهِ في القُرْآنِ وفي السُّنَّةِ وعَرْفِ العُلَماءِ مِن أنَّ المُرادَ بِهِ الإماءُ، ويَعُودُ الِاسْتِثْناءُ إلى ما صَحَّ أنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِن جِهاتِ الإحْصانِ. وكُلُّ ما صَحَّ مِلْكُها مِلْكَ يَمِينٍ حَلَّتْ لِمالِكِها مِن مَسْبِيَّةٍ أوْ مَمْلُوكَةٍ مُزَوَّجَةٍ.
ولَمْ يَخْتَلِفِ القُرّاءُ السَّبْعَةُ في فَتْحِ الصّادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ﴾، واخْتَلَفُوا في سِوى هَذا فَقَرَأ الكِسائِيُّ: بِكَسْرِ الصّادِ، سَواءٌ كانَ مُعَرَّفًا بِالألِفِ واللّامِ، أمْ نَكِرَةً. وقَرَأ باقِيهِمْ وعَلْقَمَةُ: بِالفَتْحِ، كَهَذا المُتَّفَقِ عَلَيْهِ. وقَرَأ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ: (والمُحْصُناتُ) بِضَمِّ الصّادِ اتِّباعًا لِضَمَّةِ المِيمِ، كَما قالُوا (مُنْتُنٌ) ولَمْ يَعْتَدُّوا بِالحاجِزِ لِأنَّهُ ساكِنٌ، فَهو حاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ. وقالَ مَكِّيٌّ: فائِدَةُ قَوْلِهِ: (مِنَ النِّساءِ) - أنَّ المُحْصَناتِ تَقَعُ عَلى الأنْفُسِ، فَقَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ [النور: ٤] لَوْ أُرِيدَ بِهِ النِّساءُ خاصَّةً، لَما حُدَّ مَن قَذَفَ رَجُلًا بِنَصِّ القُرْآنِ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ حَدَّهُ بِهَذا النَّصِّ.
﴿كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ انْتَصَبَ بِإضْمارِ فِعْلٍ، وهو فِعْلٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] . وكَأنَّهُ قِيلَ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكم تَحْرِيمَ ذَلِكَ كِتابًا. ومَن جَعَلَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [النساء: ٣] كَما ذَهَبَ إلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمانِيُّ، فَقَدْ أبْعَدَ وما ذَهَبَ إلَيْهِ الكِسائِيُّ مِن أنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ المَفْعُولِ في بابِ الإعْرابِ عَلى الظُّرُوفِ والمَجْرُوراتِ مُسْتَدِلًّا بِهَذِهِ الآيَةِ، إذْ تَقْدِيرُ ذَلِكَ عِنْدَهُ: عَلَيْكم كِتابَ اللَّهِ، أيِ: الزَمُوا كِتابَ اللَّهِ - لا يَتِمُّ دَلِيلُهُ لِاحْتِمالِهِ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا كَما ذَكَرْناهُ. ويُؤَكِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ قِراءَةُ أبِي حَيْوَةَ ومُحَمَّدِ بْنِ السَّمَيْقَعِ اليَمانِيِّ: (كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكم)، جَعَلَهُ فِعْلًا ماضِيًا رافِعًا ما بَعْدَهُ، أيْ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكم تَحْرِيمَ ذَلِكَ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ السَّمَيْقَعِ (p-٢١٥)أيْضًا أنَّهُ قَرَأ: (كُتُبُ اللَّهِ عَلَيْكم) جَمْعًا ورَفْعًا، أيْ: هَذِهِ كُتُبُ اللَّهِ عَلَيْكم، أيْ: فَرائِضُهُ ولازِماتُهُ.
* * *
﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ لَمّا نَصَّ عَلى المُحَرَّماتِ في النِّكاحِ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ أحَلَّ ما سِوى مَن ذَكَرَ، وظاهِرُ ذَلِكَ العُمُومُ. وبِهَذا الظّاهِرِ اسْتَدَلَّتِ الخَوارِجُ ومَن وافَقَهم مِنَ الشِّيعَةِ عَلى جَوازِ نِكاحِ المَرْأةِ عَلى عَمَّتِها وعَلى خالَتِها، والجَمْعِ بَيْنَهُما. وقَدْ أطالَ الِاسْتِدْلالَ في ذَلِكَ أبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ أحَدُ عُلَماءِ الشِّيعَةِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةَ في كِتابِهِ في التَّفْسِيرِ، ومُلَخَّصُ ما قالَ: أنَّهُ لا يُعارَضُ القُرْآنُ بِخَبَرِ آحادٍ. وهو ما رُوِيَ أنَّهُ قالَ: (لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلى عَمَّتِها ولا عَلى خالَتِها) بَلْ إذا ورَدَ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عُرِضَ عَلى القُرْآنِ، فَإنْ وافَقَهُ قُبِلَ، وإلّا رُدَّ. وما ذَهَبُوا إلَيْهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأنَّ الحَدِيثَ لَمْ يُعارِضِ القُرْآنَ، غايَةُ ما فِيهِ تَخْصِيصُ عُمُومٍ، ومُعْظَمُ العُمُوماتِ الَّتِي جاءَتْ في القُرْآنِ لا بُدَّ فِيها مِنَ التَّخْصِيصاتِ، ولَيْسَ الحَدِيثُ خَبَرَ آحادٍ بَلْ هو مُسْتَفِيضٌ، رُوِيَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَواهُ: عَلِيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وجابِرٌ، وابْنُ عُمَرَ، وأبُو مُوسى، وأبُو سَعِيدٍ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وعائِشَةُ. حَتّى ذَكَرَ بَعْضُ العُلَماءِ أنَّهُ مُتَواتِرٌ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ والعَمَلِ. وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إجْماعَ الأُمَّةِ عَلى تَحْرِيمِ الجَمْعِ، وكَأنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلافِ مَن ذُكِرَ لِشُذُوذِهِ، ولا يُعَدُّ هَذا التَّخْصِيصُ نَسْخًا لِلْعُمُومِ خِلافًا لِبَعْضِهِمْ. وقَدْ خَصَّصَ بَعْضُهم هَذا العُمُومَ بِالأقارِبِ مِن غَيْرِ ذَواتِ المَحارِمِ كَأنَّهُ قِيلَ: وأحِلُّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم مِن أقارِبِكم، فَهي حَلالٌ لَكم تَزْوِيجُهُنَّ، وإلى هَذا ذَهَبَ عَطاءٌ والسُّدِّيُّ، وخَصَّهُ السُّدِّيُّ بِالإماءِ: أيْ: وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم مِنَ الإماءِ. وأبْعَدَ عُبَيْدَةُ والسُّدِّيُّ في رَدِّ ذَلِكَ إلى ﴿مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ [النساء: ٣] والمَعْنى: وأُحِلَّ لَكم ما دُونَ الخَمْسِ أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكم عَلى وجْهِ النِّكاحِ. وقالَ السُّدِّيُّ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ يَعْنِي النِّكاحَ فِيما دُونَ الفَرْجِ. والظّاهِرُ العُمُومُ إلّا ما خَصَّتْهُ السُّنَّةُ المُسْتَفِيضَةُ مِن (p-٢١٦)تَحْرِيمِ الجَمْعِ بَيْنَ المَرْأةِ وعَمَّتِها وبَيْنَ المَرْأةِ وخالَتِها، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذا العُمُومِ الجَمْعُ بَيْنَ المَرْأةِ وبِنْتِ عَمِّها، وبَيْنَها وبَيْنَ بِنْتِ عَمَّتِها، وبَيْنَها وبَيْنَ بِنْتِ خالِها، أوْ بِنْتِ خالَتِها. وقَدْ رُوِيَ المَنعُ مِن ذَلِكَ عَنْ: إسْحاقَ بْنِ طَلْحَةَ، وعِكْرِمَةَ، وقَتادَةَ، وعَطاءٍ. وقَدْ نَكَحَ حَسَنُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ في لَيْلَةٍ واحِدَةٍ بِنْتَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وبِنْتَ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، فَجَمَعَ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمٍّ. وقَدْ كَرِهَ مالِكٌ هَذا، ولَيْسَ بِحَرامٍ عِنْدَهُ.
قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: لا أعْلَمُ أحَدًا، أبْطَلَ هَذا النِّكاحَ وهُما داخِلَتانِ في جُمْلَةِ ما أُبِيحَ بِالنِّكاحِ، غَيْرَ خارِجَتَيْنِ مِنهُ بِكِتابٍ ولا سُنَّةٍ، ولا إجْماعٍ، وكَذَلِكَ الجَمْعُ بَيْنَ ابْنَتَيْ عَمَّةٍ وابْنَتَيْ خالَةٍ. انْتَهى. وانْدَرَجَ تَحْتَ هَذا العُمُومِ أيْضًا أنَّهُ لَوْ زَنا بِامْرَأةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ نِكاحُها لِأجْلِ زِناهُ بِها، وكَذَلِكَ لا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأتُهُ إذا زَنا بِأُمِّها أوْ بِابْنَتِها. ولَوْ زَنا بِامْرَأةٍ ثُمَّ أرادَ نِكاحَ أُمِّها أوِ ابْنَتِها لَمْ يَحْرُما عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وعَلى هَذا أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ. ورُوِيَ عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ والشَّعْبِيِّ، وعَطاءٍ، والحَسَنِ، وسُفْيانَ، وأحْمَدَ، وإسْحاقَ، أنَّهُما يَحْرُمانِ عَلَيْهِ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ. ويَنْدَرِجُ أيْضًا تَحْتَ هَذا العُمُومِ: أنَّهُ لَوْ عَبَثَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ أُمُّهُ ولا ابْنَتُهُ، وبِهِ قالَ: مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ وأصْحابُهُ، قالُوا: لا يُحَرِّمُ النِّكاحَ العَبَثُ بِالرِّجالِ. وقالَ الثَّوْرِيُّ، وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ: هو مِثْلُ وطْءِ المَرْأةِ سَواءٌ في تَحْرِيمِ الأُمِّ والبِنْتِ، فَمَن حَرُمَ بِهَذا مِنَ النِّساءِ حَرُمَ مِنَ الرِّجالِ. وقالَ الأوْزاعِيُّ في غُلامَيْنِ: يَعْبَثُ أحَدُهُما بِالآخَرِ فَتُولَدُ لِلْمَفْعُولِ بِهِ جارِيَةٌ قالَ: لا يَتَزَوَّجُها الفاعِلُ.
وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ: وأُحِلَّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] . وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ: (وأحَلَّ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، والفاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اللَّهِ تَعالى، وهو أيْضًا مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ. ولا فَرْقَ في العَطْفِ بَيْنَ أنْ يَكُونَ الفِعْلُ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، أوْ لِلْمَفْعُولِ. ولا يُشْتَرَطُ المُناسِبَةُ ولا يُخْتارُ، وإنِ اخْتَلَفَ الفاعِلُ المَحْذُوفُ لِقِيامِ المَفْعُولِ مَقامَهُ، والفاعِلُ الَّذِي أُسْنِدَ إلَيْهِ الفِعْلُ المَبْنِيُّ لِلْفاعِلِ، فَكَيْفَ إذا اتَّحَدَ كَهَذا، لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ الفاعِلَ المَحْذُوفَ في (حُرِّمَتْ): هو اللَّهُ تَعالى، وهو الفاعِلُ المُضْمَرُ في: (أحَلَّ) المَبْنِيِّ لِلْفاعِلِ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: عَلامَ عُطِفَ قَوْلُهُ: وأُحِلَّ لَكم ؟ قُلْتُ: عَلى الفِعْلِ المُضْمَرِ الَّذِي نَصَبَ ﴿كِتابَ اللَّهِ﴾: أيْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكم تَحْرِيمَ ذَلِكَ، وأحَلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ اليَمانِيِّ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكم، وأحَلَّ لَكم. ثُمَّ قالَ: ومَن قَرَأ وأُحِلَّ لَكم عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، فَقَدْ عَطَفَهُ عَلى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٣] انْتَهى كَلامُهُ. فَفَرَّقَ في العَطْفِ بَيْنَ القِراءَتَيْنِ، وما اخْتارَهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ غَيْرُ مُخْتارٍ. لِأنَّ انْتِصابَ ﴿كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ إنَّما هو انْتِصابُ المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ مِن قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ، فالعامِلُ فِيهِ وهو (كَتَبَ)، إنَّما هو تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ، فَلَمْ يُؤْتَ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى سَبِيلِ التَّأْسِيسِ لِلْحُكْمِ، إنَّما التَّأْسِيسُ حاصِلٌ بِقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ، وهَذِهِ جِيءَ بِها عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ لِتِلْكَ الجُمْلَةِ المُؤَسَّسَةِ وما كانَ سَبِيلُهُ هَكَذا فَلا يُناسِبُ أنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ الجُمْلَةُ المُؤَسِّسَةُ لِلْحُكْمِ، إنَّما يُناسِبُ أنْ يُعْطَفَ عَلى جُمْلَةٍ مُؤَسِّسَةٍ مِثْلِها، لا سِيَّما والجُمْلَتانِ مُتَقابِلَتانِ: إذْ إحْداهُما لِلتَّحْرِيمِ، والأُخْرى لِلتَّحْلِيلِ، فَناسَبَ أنَّ يَعْطِفَ هَذِهِ عَلى هَذِهِ. وقَدْ أجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ في قِراءَةِ مَن قَرَأ: وأُحِلَّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِيهِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، ومَفْعُولُ (أُحِلُّ) هو ﴿ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ .
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والوَراءُ في هَذِهِ الآيَةِ ما يُعْتَبَرُ أمْرُهُ بَعْدَ اعْتِبارِ المُحَرَّماتِ، فَهو وراءَ أُولَئِكَ بِهَذا الوَجْهِ. وقالَ الفَرّاءُ: ما وراءَ ذَلِكم، أيْ: ما سِوى ذَلِكم. وقالَ الزَّجّاجُ: ما دُونَ ذَلِكم، أيْ: ما بَعْدَ هَذِهِ الأشْياءِ الَّتِي حُرِّمَتْ. وهَذِهِ التَّفاسِيرُ بَعْضُها يُقَرِّبُ مِن بَعْضٍ.
ومَوْضِعُ (أنْ تَبْتَغُوا) نَصْبٌ عَلى أنَّهُ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِن ﴿ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾، ويَشْمَلُ الِابْتِغاءُ بِالمالِ النِّكاحَ والشِّراءَ. وقِيلَ: الِابْتِغاءُ بِالمالِ هو عَلى وجْهِ النِّكاحِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (أنْ تَبْتَغُوا) مَفْعُولٌ لَهُ، بِمَعْنى: بَيَّنَ لَكم ما يَحِلُّ مِمّا يَحْرُمُ؛ (p-٢١٧)إرادَةَ أنْ يَكُونَ ابْتِغاؤُكم بِأمْوالِكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيامًا في حالِ كَوْنِكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ لِئَلّا تُضَيِّعُوا أمْوالَكم وتُفْقِرُوا أنْفُسَكم فِيما لا يَحِلُّ لَكم، فَتَخْسَرُوا دُنْياكم ودِينَكم، ولا مَفْسَدَةَ أعْظَمُ مِمّا يَجْمَعُ بَيْنَ الخُسْرانَيْنِ. انْتَهى كَلامُهُ. وانْظُرْ إلى جَعْجَعَةِ هَذِهِ الألْفاظِ وكَثْرَتِها، وتَحْمِيلِ لَفْظِ القُرْآنِ ما لا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وتَفْسِيرِ الواضِحِ الجَلِيِّ بِاللَّفْظِ المُعَقَّدِ، ودَسِّ مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ في غُضُونِ هَذِهِ الألْفاظِ الطَّوِيلَةِ دَسًّا خَفِيًّا إذْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وأُحِلَّ لَكم بِمَعْنى بُيِّنَ لَكم ما يَحِلُّ. وجُعِلَ قَوْلُهُ: أنْ تَبْتَغُوا عَلى حَذْفِ مُضافَيْنِ: أيْ إرادَةَ أنْ يَكُونَ ابْتِغاؤُكم، أيْ: إرادَةُ كَوْنِ ابْتِغائِكم بِأمْوالِكم. وفُسِّرَ الأمْوالُ بَعْدُ بِالمُهُورِ، وما يَخْرُجُ في المَناكِحِ، فَتَضَمَّنَ تَفْسِيرُهُ: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ لَكم ما يَحِلُّ لِإرادَتِهِ كَوْنَ ابْتِغائِكم بِالمُهُورِ، فاخْتَصَّتْ إرادَتُهُ بِالحَلالِ الَّذِي هو النِّكاحُ دُونَ السِّفاحِ. وظاهِرُ الآيَةِ غَيْرُ هَذا الَّذِي فَهِمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. إذِ الظّاهِرُ أنَّهُ تَعالى أحَلَّ لَنا ابْتِغاءَ ما سِوى المُحَرَّماتِ السّابِقِ ذِكْرُها بِأمْوالِنا حالَةَ الإحْصانِ، لا حالَةَ السِّفاحِ. وعَلى هَذا الظّاهِرِ لا يَجُوزُ أنْ يُعْرَبَ (أنْ تَبْتَغُوا) مَفْعُولًا لَهُ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأنَّهُ فاتَ شَرْطٌ مِن شُرُوطِ المَفْعُولِ لَهُ، وهو اتِّحادُ الفاعِلِ في العامِلِ والمَفْعُولِ لَهُ. لِأنَّ الفاعِلَ بِقَوْلِهِ: (وأُحِلَّ) هو اللَّهُ تَعالى. والفاعِلُ في: (أنْ تَبْتَغُوا) هو ضَمِيرُ المُخاطَبِينَ، فَقَدِ اخْتَلَفا. ولَمّا أحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ إنْ كانَ أحَسَّ بِهَذا؛ جَعَلَ ﴿أنْ تَبْتَغُوا﴾ عَلى حَذْفِ إرادَةٍ حَتّى يَتَّحِدَ الفاعِلُ في قَوْلِهِ: (وأُحِلَّ)، وفي المَفْعُولِ لَهُ، ولَمْ يَجْعَلْ أنْ تَبْتَغُوا مَفْعُولًا لَهُ إلّا عَلى حَذْفِ مُضافٍ وإقامَتِهِ مَقامَهُ، وهَذا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنِ الظّاهِرِ لِغَيْرِ داعٍ إلى ذَلِكَ. ومَفْعُولُ (تَبْتَغُوا) مَحْذُوفٌ اخْتِصارًا، إذْ هو ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى (ما) مِن قَوْلِهِ: ﴿ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾، وتَقْدِيرُهُ: أنْ تَبْتَغُوهُ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: أيْنَ مَفْعُولُ (تَبْتَغُوا) ؟ قُلْتُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا وهو النِّساءُ، وأجُودُ ألّا يُقَدَّرَ. وكَأنَّهُ قِيلَ: أنْ تُخْرِجُوا أمْوالَكم. انْتَهى كَلامُهُ. فَأمّا تَقْدِيرُهُ: إذا كانَ مُقَدَّرًا بِالنِّساءِ فَإنَّهُ لَمّا جَعَلَهُ مَفْعُولًا لَهُ غايَرَ بَيْنَ مُتَعَلِّقِ المَفْعُولِ لَهُ وبَيْنَ مُتَعَلِّقِ المَعْلُولِ. وأمّا قَوْلُهُ: وأجُودُ أنْ لا يُقَدَّرَ، وكَأنَّهُ قِيلَ: أنْ تُخْرِجُوا أمْوالَكم، فَهو مُخالِفٌ لِلظّاهِرِ، لِأنَّ مَدْلُولَ تَبْتَغُوا لَيْسَ مَدْلُولَ تُخْرِجُوا، ولِأنَّ تَعَدِّي تَبْتَغُوا إلى الأمْوالِ بِالباءِ لَيْسَ عَلى طَرِيقِ المَفْعُولِ بِهِ الصَّرِيحِ، كَما هو في (تُخْرِجُوا)، وهَذا كُلُّهُ تَكَلُّفٌ يَنْبَغِي أنْ يُنَزَّهَ كِتابُ اللَّهِ عَنْهُ.
وظاهِرُ قَوْلِهِ: بِأمْوالِكم، أنَّهُ يُطْلَقُ عَلى ما يُسَمّى مالًا وإنْ قَلَّ، وهو قَوْلُ أبِي سَعِيدٍ، والحَسَنِ، وابْنِ المُسَيَّبِ، وعَطاءٍ، واللَّيْثِ، وابْنِ أبِي لَيْلى، والثَّوْرِيِّ، والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ، والشّافِعِيِّ، ورَبِيعَةَ، قالُوا: يَجُوزُ النِّكاحُ عَلى قَلِيلِ المالِ وكَثِيرِهِ. وقِيلَ: لا مَهْرَ أقَلُّ مِن عَشَرَةِ دَراهِمَ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، والشَّعْبِيِّ، والنَّخَعِيِّ، في آخَرِينَ مِنَ التّابِعِينَ. وهو قَوْلُ: أبِي حَنِيفَةَ، وأبِي يُوسُفَ، وزُفَرَ، والحَسَنِ، ومُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ. وقالَ مالِكٌ: أقَلُّ المَهْرِ رُبُعُ دِينارٍ أوْ ثَلاثَةٌ دَراهِمَ. وقالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: مَن كانَ لَهُ دِرْهَمٌ أوْ دِرْهَمانِ لا يُقالُ عِنْدَهُ مالٌ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: بِأمْوالِكم يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَهْرُ مَنفَعَةً، لا تَعْلِيمَ قُرْآنٍ ولا غَيْرَهُ، وقَدْ أجازَ أنْ يَكُونَ المَهْرُ خِدْمَتَها مُدَّةً مَعْلُومَةً - جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ، ولَهم في ذَلِكَ تَفْصِيلٌ. وأجازَ أنْ يَكُونَ تَعْلِيمَ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ - الشّافِعِيُّ، ومَنَعَ مِن ذَلِكَ: مالِكٌ واللَّيْثُ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، وحُجَجُهم في كُتُبِ الفِقْهِ وفي كُتُبِ أحْكامِ القُرْآنِ.
والإحْصانُ: الفِقْهُ، وتُحْصِينُ النَّفْسَ عَنِ الوُقُوعِ في الحَرامِ. وانْتَصَبَ مُحْصِنِينَ عَلى الحالِ، و﴿غَيْرَ مُسافِحِينَ﴾ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ، لِأنَّ الإحْصانَ لا يُجامِعُ السِّفاحَ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ولا مُتَّخِذِي أخْدانٍ﴾ [المائدة: ٥] والمُسافِحُونَ هُمُ الزّانُونَ المُبْتَذِلُونَ، وكَذَلِكَ المُسافِحاتُ هُنَّ الزَّوانِي المُبْتَذِلاتُ اللَّواتِي هُنَّ سُوقٌ لِلزِّنا.
(p-٢١٨)ومُتَّخِذُو الأخْدانِ هُمُ الزُّناةُ المُتَسَتِّرُونَ الَّذِينَ يَصْحَبُونَ واحِدَةً واحِدَةً، وكَذَلِكَ مُتَّخِذاتُ الأخْدانِ هُنَّ الزَّوانِي المُتَسَتِّراتُ اللَّواتِي يَصْحَبْنَ واحِدًا واحِدًا، ويَزْنِينَ خُفْيَةً. وهَذانِ نَوْعانِ كانا في زَمَنِ الجاهِلِيَّةِ قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ، والشَّعْبِيُّ، والضَّحّاكُ، وغَيْرُهم. وأصْلُ المُسافِحِ مِنَ السَّفْحِ، وهو الصَّبُّ لِلْمَنِيِّ. وكانَ الفاجِرُ يَقُولُ لِلْفاجِرَةِ: سافِحِينِي وماذِيينِي مِنَ المَذْيِ.
* * *
﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ، وابْنُ زَيْدٍ، وغَيْرُهُمُ: المَعْنى فَإذا اسْتَمْتَعْتُمْ بِالزَّوْجَةِ ووَقَعَ الوَطْءُ، ولَوْ مَرَّةً، فَقَدْ وجَبَ إعْطاءُ الأجْرِ وهو المَهْرُ، ولَفْظَةُ (ما) تَدُلُّ عَلى أنَّ يَسِيرَ الوَطْءِ يُوجِبُ إيتاءَ الأُجْرَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنَ المَنكُوحاتِ مِن جِماعٍ أوْ خَلْوَةٍ صَحِيحَةٍ، أوْ عَقْدٍ عَلَيْهِنَّ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَيْهِ. انْتَهى. وأُدْرِجَ في الِاسْتِمْتاعِ الخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ عَلى مَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ، إذْ هو مَذْهَبُهُ. وقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ الِاسْتِمْتاعَ هُنا بِالوَطْءِ، لِأنَّ إيتاءَ الأجْرِ كامِلًا لا يَتَرَتَّبُ إلّا عَلَيْهِ، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِهِ ومَذْهَبِ مَن يَرى ذَلِكَ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا ومُجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، وغَيْرُهُمُ: الآيَةُ في نِكاحِ المُتْعَةِ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ: فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ لِأبِي نَضْرَةَ: هَكَذا أنْزَلَها اللَّهُ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: لَوْلا أنَّ عُمَرَ نَهى عَنِ المُتْعَةِ ما زَنى إلّا شَقِيٌّ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: جَوازُ نِكاحِ المُتْعَةِ مُطْلَقًا. وقِيلَ عَنْهُ: بِجَوازِها عِنْدَ الضَّرُورَةِ، والأصَحُّ عَنْهُ الرُّجُوعُ إلى تَحْرِيمِها. واتَّفَقَ عَلى تَحْرِيمِها فُقَهاءُ الأمْصارِ. وقالَ عِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ: «أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ بِالمُتْعَةِ، وماتَ بَعْدَما أمَرَنا بِها، ولَمْ يَنْهَنا عَنْهُ» قالَ رَجُلٌ بَعْدَهُ بِرَأْيِهِ ما شاءَ. وعَلى هَذا جَماعَةٌ مِن أهْلِ البَيْتِ والتّابِعِينَ. وقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُها عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ وغَيْرِهِ. وقَدِ اخْتَلَفُوا في ناسِخِ نِكاحِ المُتْعَةِ، وفي كَيْفِيَّتِهِ، وفي شُرُوطِهِ، وفِيما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن لَحاقِ ولَدٍ أوْ حَدٍّ بِما هو مَذْكُورٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، وكُتُبِ أحْكامِ القُرْآنِ، و(ما) مِن قَوْلِهِ: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ - مُبْتَدَأٌ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، والخَبَرُ الفِعْلُ الَّذِي يَلِيها، والجَوابُ: فَآتُوهُنَّ، ولا بُدَّ إذْ ذاكَ مِن راجِعٍ يَعُودُ عَلى اسْمِ الشَّرْطِ. فَإنْ كانَتْ (ما) واقِعَةً عَلى الِاسْتِمْتاعِ فالرّاجِعُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مِن أجْلِهِ أيْ: مِن أجْلِ ما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ. وإنْ كانَتْ (ما) واقِعَةً عَلى النَّوْعِ المُسْتَمْتَعِ بِهِ مِنَ الأزْواجِ، فالرّاجِعُ هو المَفْعُولُ بِآتُوهُنَّ وهو الضَّمِيرُ، ويَكُونُ أعادَ أوَّلًا في (بِهِ) عَلى لَفْظِ ما، وأعادَ عَلى المَعْنى في: فَآتُوهُنَّ، و(مِن) في: (مِنهُنَّ) عَلى هَذا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَبْعِيضًا. وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِلْبَيانِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (ما) مَوْصُولَةً، وخَبَرُها إذْ ذاكَ هو (فَآتُوهُنَّ)، والعائِدُ الضَّمِيرُ المَنصُوبُ في: (فَآتُوهُنَّ) إنْ كانَتْ واقِعَةً عَلى النِّساءِ، أوْ مَحْذُوفٌ إنْ كانَتْ واقِعَةً عَلى الِاسْتِمْتاعِ عَلى ما بُيِّنَ قَبْلُ.
والأُجُورُ: هي المُهُورُ. وهَذا نَصٌّ عَلى أنَّ المَهْرَ يُسَمّى أجْرًا، إذْ هو مُقابِلٌ لِما يُسْتَمْتَعُ بِهِ. وقَدِ اخْتُلِفَ في المَعْقُودِ عَلَيْهِ بِالنِّكاحِ ما هو ؟ أهُوَ بَدَنُ المَرْأةِ، أوْ مَنفَعَةُ العُضْوِ، أوِ الكُلِّ ؟ وقالَ القُرْطُبِيُّ: الظّاهِرُ المَجْمُوعُ، فَإنَّ العَقْدَ يَقْتَضِي كُلَّ هَذا. وإنْ كانَ الِاسْتِمْتاعُ هُنا المُتْعَةَ، فالأجْرُ هُنا لا يُرادُ بِهِ المَهْرُ بَلِ العِوَضُ كَقَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَكَ أجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا﴾ [القصص: ٢٥] وقَوْلِهِ: ﴿لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا﴾ [الكهف: ٧٧] (p-٢١٩)وظاهِرُ الآيَةِ: أنَّهُ يَجِبُ المُسَمّى في النِّكاحِ الفاسِدِ لِصِدْقِ قَوْلِهِ: ﴿فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ﴾ عَلَيْهِ. جُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّهُ لا يَجِبُ فِيهِ إلّا مَهْرُ المِثْلِ، ولا يَجِبُ المُسَمّى. والحُجَّةُ لَهم: (أيُّما امْرَأةٍ نَكَحَتْ نَفْسَها بِغَيْرِ إذْنِ ولِيِّها فَنِكاحُها باطِلٌ، فَإنْ دَخَلَ بِها فَلَها مَهْرُ مِثْلِها) وانْتَصَبَ (فَرِيضَةً) عَلى الحالِ مِن (أُجُورِهِنَّ)، أوْ مَصْدَرٌ عَلى غَيْرِ الصَّدْرِ. أيْ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إيتاءً، لِأنَّ الإيتاءَ مَفْرُوضٌ. أوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أيْ: فَرَضَ ذَلِكَ فَرِيضَةً.
* * *
﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾ لَمّا أُمِرُوا بِإيتاءِ أُجُورِ النِّساءِ المُسْتَمْتَعِ بِهِنَّ، كانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي الوُجُوبَ، فَأخْبَرَهُ تَعالى أنَّهُ لا حَرَجَ ولا إثْمَ في نَقْصِ ما تَراضَوْا عَلَيْهِ، أوْ رَدِّهِ، أوْ تَأخُّرِهِ. أعْنِي: الرِّجالَ والنِّساءَ.
﴿مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾: فَلَها أنْ تَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وأنْ تَنْقُصَ، وأنْ تُؤَخِّرَ، هَذا ما يَدُلُّ عَلَيْهِ سِياقُ الكَلامِ. وهو نَظِيرُ ﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤] وإلى هَذا ذَهَبَ الحَسَنُ وابْنُ زَيْدٍ. وقالَ السُّدِّيُّ: هو في المُتْعَةِ. والمَعْنى: فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ زِيادَةً في الأجَلِ، وزِيادَةً في المَهْرِ قَبْلَ اسْتِبْراءِ الرَّحِمِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في رَدِّ ما أعْطَيْتُمُوهُنَّ إلَيْكم. وقالَ ابْنُ المُعْتَمِرِ: فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنَ النُّقْصانِ في الصَّداقِ إذا أُعْسِرْتُمْ. وقِيلَ: مَعْناهُ إبْراءُ المَرْأةِ عَنِ المَهْرِ، أوْ تَوْفِيَتُهُ، أوْ تَوْفِيَةُ الرَّجُلِ كُلَّ المَهْرِ إنَّ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ. وقِيلَ: فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ فُرْقَةٍ، أوْ إقامَةٍ بَعْدَ أداءِ الفَرِيضَةِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَدِ اسْتَدَلَّ عَلى الزِّيادَةِ في المَهْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾، قِيلَ: لِأنَّ (ما) عُمُومٌ في الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ والتَّأْخِيرِ والحَظِّ والإبْراءِ، وعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي جَوازَ الجَمِيعِ، وهو بِالزِّيادَةِ أخَصُّ مِنهُ بِغَيْرِها مِمّا ذَكَرْناهُ، لِأنَّ المَرْأةَ والحَطَّ والتَّأْجِيلَ لا يَحْتاجُ في وُقُوعِهِ إلى رِضا الرَّجُلِ، والِاقْتِصارُ عَلى ما ذُكِرَ دُونَ الزِّيادَةِ يُسْقِطُ فائِدَةَ ذِكْرِ تَراضِيهِما. وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ إلى أنَّ الزِّيادَةَ في الصَّداقِ بَعْدَ النِّكاحِ جائِزَةٌ، وهي ثابِتَةٌ إنْ دَخَلَ بِها أوْ ماتَ عَنْها. وإنْ طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتِ الزِّيادَةُ. وقالَ مالِكٌ: تَصِحُّ الزِّيادَةُ، فَإنْ طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ ما زادَها إلَيْهِ، وإنْ ماتَ عَنْها قَبْلَ أنْ يَقْبِضَ فَلا شَيْءَ لَها. وقالَ الشّافِعِيُّ وزُفَرُ: الزِّيادَةُ بِمَنزِلَةِ هِبَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، إنْ أقْبَضَها جازَتْ، وإلّا بَطَلَتْ.
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا﴾ بِما يُصْلِحُ أمْرَ عِبادِهِ.
(حَكِيمًا) في تَقْدِيرِهِ وتَدْبِيرِهِ وتَشْرِيعِهِ.
{"ayah":"۞ وَٱلۡمُحۡصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۖ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاۤءَ ذَ ٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُوا۟ بِأَمۡوَ ٰلِكُم مُّحۡصِنِینَ غَیۡرَ مُسَـٰفِحِینَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِیضَةࣰۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ فِیمَا تَرَ ٰضَیۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِیضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق