﴿یُوصِیكُمُ ٱللَّهُ فِیۤ أَوۡلَـٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَاۤءࣰ فَوۡقَ ٱثۡنَتَیۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَ ٰحِدَةࣰ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَیۡهِ لِكُلِّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدࣱۚ فَإِن لَّمۡ یَكُن لَّهُۥ وَلَدࣱ وَوَرِثَهُۥۤ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥۤ إِخۡوَةࣱ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِیَّةࣲ یُوصِی بِهَاۤ أَوۡ دَیۡنٍۗ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَأَبۡنَاۤؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَیُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعࣰاۚ فَرِیضَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمࣰا﴾ [النساء ١١]
ثم قال الله تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ الوصية هي: العهد لأمر هام عهد به إليك، أي: أنه عهد إليك بشيء هام، هذه الوصية، وتكون بعد الموت، وأما ما قبل الموت فهي وكالة.
وينبغي أن يعلم أن المتصرف في غير ماله له أوصاف بحسب الوظيفة التي هو قائم بها، فتارة نسميه وكيلًا، وتارة نسميه وليًّا، وتارة نسميه ناظرًا، وتارة نسميه وصيًّا، فإذا كان يتولى مال الغير بغير إذن منه بل بإذن من الشرع، فإنه يسمى وليًّا كولي اليتيم، وإذا كان يتولى مال الغير بعد موته فإنه يسمى وصيًّا، وإذا كان يتولى الوقف فإنه يسمى ناظرًا، وإذا كان يتولى لحي فإنه يسمى وكيلًا.
هنا
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ قلنا: أصل الوصية العهد بالأمر الهام، وقوله:
﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ متعلق بـ
﴿يُوصِيكُمُ﴾ أي: أن الوصية في الأولاد أنفسهم، و(الأولاد) جمع (ولد)، ويشمل الذكور والإناث بدليل قوله:
﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يعني: إذا اجتمع في الأولاد ذكور وإناث، فإننا نعطي الذكر مثل حظ الأنثيين.
وتأمل كيف جاءت العبارة
﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ دون أن يقول: للأنثى نصف الذكر؛ لأن الحظ والنصيب فضل وزيادة والنصف نقص؛ فلهذا قال:
﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ولم يقل: للأنثى نصف ما للذكر؛ لما في كلمة (نصف) من النقص بخلاف (حظ)
﴿حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فإن فيه زيادة، فهو أحسن تعبيرًا مما لو قال: للأنثى نصف ما للذكر.
﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فإذا هلك عن خمسة أبناء وبنت فكم للبنت؟ واحد من أحد عشر؛ لأن الخمسة عن عشرة.
وإذا هلك عن سبعة أبناء وثلاث بنات؟ واحد من سبعة عشر، ليش؟ لأن السبعة عن أربعة عشر سهمًا، والثلاث عن ثلاثة أسهم، فالجميع سبعة عشر سهمًا، وهلم جرًّا.
﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ هنا قال:
﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾ ولم يقل: فإن كانوا نساء -أي: الأولاد- مع أنه جائز، فيجوز في الضمير إذا اكتنفه مذكر ومؤنث يجوز أن تذكره باعتبار ما سبقه إذا كان السابق مذكر، وتؤنثها باعتبار ما لحقها، فهنا قال:
﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾ أنث الضمير أو ذكره؟ أنثه، باعتبار ما لحقه، ولو كان في غير القرآن وقيل: فإن كانوا نساء جاز باعتبار ما سبقه، فالضمير يعود في مثل هذا التركيب..، يجوز أن يعود على ما سبق، ويجوز أن يعود على ما لحق.
﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ اختلف المفسرون في قوله تعالى:
﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ فقيل: إنها زائدة، وإن المعنى: فإن كن نساء اثنتين؛ وذلك لأن الثلثين تستحقه الثنتان فما فوق، وظاهر الآية الكريمة أن الثنتين لا تستحقان الثلثين، لماذا؟
* طالب: ظاهر الآية أن الثنتين لا يستحقان.
* الشيخ: لا، أنا سألتك لماذا؟ ما أريد أن تخبرني ما ظاهر الآية.
* الطالب: (...).
* الشيخ: أنا تكلمت بكلام ثم طلبت منك تعليله، فقلتُ: لماذا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: أقول لماذا؟ لماذا كان هو ظاهر الآية؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: لأنه قال: ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾.
* الشيخ: لأنه قال: ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾، فظاهره أن ثنتين لا تستحقان الثلثين مع أن الحكم خلاف ذلك؛ فلهذا قال بعض العلماء: إنها زائدة، ولكن الصحيح أنها ليست بزائدة، بل هي مفيدة وأصلية ليتبين أن ما فوق ثنتين لا ينحصر، لو كن عشرًا أو عشرين فإن الفرض لا يزيد بزيادتهن، بقي علينا الثنتان، الثنتان لنا في تقرير الثلثين لهما عدة أوجه:الوجه الأول أنه قال:
﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ ﴿وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾ مفهومه: ما زاد على الواحدة ليس لها النصف، ولا نعلم فرضًا للبنات سوى النصف أو الثلثين، فإذا لم يكن لها النصف بقي لها الثلثان، واضح؟ لأنه ليس هناك فرض بين النصف والثلثين.
ثانيًا: أن الله جعل للأختين الثلثين في آخر السورة، قال الله تبارك وتعالى:
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ [النساء ١٧٦]، وصلة البنتين بأبيهما أقوى من صلة الأختين بأخيهما، وعلى هذا فيكون للبنتين الثلثان كما أن للأختين الثلثين، واضح؟
الوجه الثالث -وإن كان خارجًا عن نطاق القرآن-:
«أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى ابنتي سعد بن الربيع الثلثين»(١) وهما اثنتان.
وعلى هذا فنقول: بين الله في هذه الآية الكريمة أن الأولاد إما أن يكونوا ذكورًا وإناثًا، وإما أن يكونوا إناثًا فقط، وبقي قسم ثالث وهو أن يكونوا ذكورًا فقط، فهل بين الله حكم هذه الأقسام الثلاثة؟
الجواب: ننظر؛ أما إذا كانوا ذكورًا وإناثًا فقد بين الله الحكم، ما هو؟ أن للذكر مثل حظ الأنثيين، تمام، وإذا كانوا نساء فقط بيَّن الله الحكم أن للواحدة النصف، ولما زاد الثلثين، وسكت عن الأولاد فدل على أنهم يرثون بلا تقدير وأنهم يرثون بالسوية، وسكت عن الأولاد الذكور فقط، فدل هذا على أنهم يرثون بلا تقدير؛ لأنه لو كان له مقدر لبينه كما بيَّن المقدر للناس، ولو كانوا يختلفون لبيَّن ذلك، كما بيَّن اختلاف الواحدة من البنات مع الثنتين فأكثر، وعلى هذا فإذا كانوا ذكورًا فقط فلهم المال، وكم تكون مسألتهم؟ من عدد الرؤوس.
لاحظوا: أن الورثة إذا كانوا عصبة لا تؤصل لهم مسألة، أصل مسألتهم من عدد رؤوسهم، فإذا كانوا مئة بني عم من كم المسألة؟ من مئة، على طول، إذا كانوا عصبة فمن عدد رؤوسهم مهما بلغوا، وإذا كانوا مئة بني عم وخمسين بنت عم؟
* طلبة: مئة.
* الشيخ: ليش مئة؟
* طالب: بنات العم لا يرثن.
* الشيخ: لأن بنات العم ما ترث، إذا كانوا مئة بني عم وخمسين بنت عم، الخمسين بنت عم ما ترث؛ لأنه مر علينا القاعدة قريبًا: لا يرث من الحواشي من الإناث إلا الأخوات، بنات أخٍ بنات عمٍّ ليس لهن ميراث.يقول عز وجل:
﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ﴾ فيه قراءة:
﴿إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةٌ فَلَهَا النِّصْفُ﴾ ، وعلى هذه القراءة تكون (كان) تامة، و(كان) التامة هي التي يكتفى بمرفوعها عن خبرها؛ لأنها لا تتطلب سواه، فهي تامة به، والناقصة هي التي تحتاج إلى خبر؛ لأنها لا تتم إلا به؛ ولهذا سميت (كان) إذا اكتفت بمرفوعها سميت: تامة، لا تحتاج إلى تكميل، ففيها قراءتان:
﴿إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةٌ﴾ ﴿إِنْ كَانَتَ وَاحِدَةً﴾.
﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ أبوي من؟ أبوي الميت ولم يسبق له ذكر لكن المقام يقتضيه، بأي دليل يقتضيه؟ لقوله:
﴿مِمَّا تَرَكَ﴾؛ لأن الإنسان لا يترك ماله إلا بعد موته،
﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ يعني: أباه وجده؟ أبويه يا إخوان؟ الأب هو الذكر، الأم أم، يقول: وأميه مثلًا؟ من باب التغليب، إذن الأبوان هما: الأب والأم، وهو هنا ملحق بالمثنى أو مثنى؟ ملحق.
﴿لِأَبَوَيْهِ﴾ أي: أبوي الميت،
﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ قوله:
﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ هذا بدل من قوله:
﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ بإعادة العامل، والبدل معروف أن له حكم المبدل في إعرابه، لكن هنا نستغني عن التبعية في الإعراب؛ لأننا أعدنا أيش؟ العامل.
﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا﴾ أي: من الأبوين السدس،
﴿مِمَّا تَرَكَ﴾ ابنهما أو بنتهما أيضًا.
﴿إِنْ كَانَ لَهُ﴾ (له) أي: للميت ولد، وقوله:
﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ يشمل الذكر والأنثى، فإذا كان الميت له أبوان وله أولاد، فلكل واحد من الأبوين السدس، لا يزيد على هذا.
﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ إلى قوله
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ﴾ طيب
﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ ﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ فإن كان الولد ذكرًا، فللأم السدس وللأب السدس والباقي للابن، وإن كان أنثى فرض لها، فرض لها فرضها، وهو النصف إن كانت واحدة، أو الثلثان إن كانت زائدة، والباقي؟ والباقي للأب تعصيبًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»(٢).
إذنْ ميراث الأبوين مع الولد فرض أو تعصيب، أما الأم ففرض، وليس لها تعصيب إطلاقًا، وفرضها السدس مع وجود الولد ذكرًا كان أم أنثى، وأما الأب فإن كان في الأولاد ذكور فليس له إلا السدس، وإن كان الورثة إناثًا فله السدس فرضًا والباقي إن بقي تعصيبًا.
وحينئذٍ نقول: إما أن يكون الولد الذي مع الأبوين ذكورًا فقط أو إناثًا فقط أو ذكورًا وإناثا؛ فإن كانوا ذكورًا فقط فليس للأب ولا للأم إلا السدس، وإن كانوا إناثًا فقط فليس للأم إلا السدس، وكذلك الأب يفرض له السدس وإن بقي شيء أخذه تعصيبًا، وإن كانوا ذكورًا وإناثًا فليس للأب إلا السدس كالأم؛ لأنه لا تعصيب للأب مع وجود أحد من الأبناء أو أبنائه؛ لأن الأبناء أو أبناءهم أولى بالتعصيب من الأب.
* * *أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ذكرنا أن في الآية دليلًا على أن الله أرحم بالإنسان من أمه وأبيه، فما وجه الدلالة من هذه الآية؟
* طالب: أن الله تعالى أوصى الوالدين بأولادهم.
* الشيخ: بأولادهم، وهذا يدل على أنه أرحم بهم من آبائهم.وذكرنا من فوائد الآية أنه إذا اجتمع في الميراث ابن وبنت كان للبنت نصف ما للولد من أين يؤخذ؟ إذا اجتمع في الميراث ابن وبنت فإن الذكر يعطى مثل الأنثى مرتين؛ لقوله:
﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾.
وذكرنا الفائدة في قوله:
﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ولم يقل: للأنثى نصف ما للذكر، فائدة؟
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم.
* طالب: لما كان للأنثى نصف نصيب الذكر جبر الله هذا النقص بقوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾؟
* الشيخ: لا.
* طالب: لأن (الحظ) فيها فضل وزيادة، أما (نصف الذكر) فيها نقص.
* الشيخ: نعم، يعني اختيار ﴿مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾؛ لأن الحظ والنصيب يفرح النفس ويبهج القلب، لكن النصف نقص وتدنٍ، فلهذا -والله أعلم- عدل عنه إلى ﴿مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾.قوله تعالى:
﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ اختلف المفسرون في كلمة
﴿فَوْقَ﴾..
يعني اختيار
﴿مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء ١١]؛ لأن الحظ والنصيب يفرح النفس ويبهج القلب، لكن النصف نقص وتدنٍ؛ فلهذا -والله أعلم- عدل عنه إلى
﴿مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾.
قوله تعالى:
﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ اختلف المفسرون في كلمة
﴿فَوْقَ﴾ فما هو اختلافهم في ذلك؟
* طالب: (...).
* الشيخ: قيل: إنها زائدة، لا، ليست زائدة لكن ما الفائدة منها؟ أن ما زاد على البنتين فلا يزيد السهم بزيادتهن، يعني -مثلًا- الثنتان لهما ثلثان، فوق ثلثان، أربع ثلثان، لا يزيد السهم بزيادتهن.فإن قال قائل: فالثنتان كم ميراثهما؟ كم ميراث البنتين؟
* الطالب: الثلثان.
* الشيخ: الثلثان؟ من أين يؤخذ والآية تقول: ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾؟ السؤال عن اثنتين؟
* طالب: (...).
* الشيخ: يعني بس هذه في الأخوات وهذه في البنات؟
* طالب: (...).
* الشيخ: يزيد الفرض إذا زاد عن الواحد، كذا؟ ولا نعلم فرضًا بعد النصف سوى الثلثين، هذا وجه. الوجه الثاني؟
* طالب: إذا ذكر الله عز وجل أن للبنتين ثلثان فمعلوم أن البنتين هما للميت.
* الشيخ: يعني قياس أولوية؟الثالث؟
* الطالب: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعطى ابنتي سعد بن الربيع ثلثين.
* الشيخ: طيب، ذكروا الميراث إذا كانوا ذكورا خلصًا، من أين يؤخذ من الآية؟
* طالب: لما بين الميراث والإناث وحدهن أن الذكور على خلاف ذلك يكون لهم المال بالسوية.
* الشيخ: إذنْ البنين والبنات ويسمون عند أهل العلم بالفرائض، يسمونه أيش؟ الفروع، إما أن يكونوا ذكورًا خلّصًا أو إناثًا خلّصًا أو إناثًا وذكورًا.إذا كانوا ذكورًا خلصًا قسم المال بينهم بالسوية، إذا كانوا إناثًا خلصًا فللواحدة النصف، ولما زاد الثلثان. إذا كانوا ذكورًا وإناثًا فللذكر مثل حظ الأنثيين، انتهى الكلام على الفروع.
من الوارث من الفروع؟ نرجع للضوابط السابقة، كل من ليس بينه وبين الميت أنثى، فالابن والبنت من الفروع، وابن الابن وابن ابن الابن كذلك، وبنت الابن كذلك، وبنت ابن الابن كذلك، وابن البنت؟ لا، لا يرث، لماذا؟ لأن بينه وبين الميت أنثى، والقاعدة: أن كل واحد من الفروع بينه وبين الميت أنثى فلا ميراث له.
الأبوان
﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ من المراد بالأبوين؟ الأب والأم، ماذا يسمى مثل هذه الصيغة؟ يسمى التغليب، غلبنا جانب الأب على جانب الأم فقلنا:
﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾.
قوله:
﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ هذا بدل بإعادة حرف الجر العامل،
﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ﴾ لكن بشرط أن يكون له ولد، وكلما ذكر الولد فالمراد به الفرع الوارث وهو: الولد والبنت وولد الابن وولد ابن الابن وإن نزل، من كل من ليس بينه وبين الميت أنثى.
﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ فإذا هلك هالك عن أب وأم وابن، فللأم السدس، وللأب السدس، والباقي للابن.
ولو هلك هالك عن بنت وأم وأب، فللبنت النصف، وللأم السدس، وللأب السدس؛ لأن الله قال:
﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أعطينا أصحاب الفروع فروضهم الآن، وبقي معنا أيش؟ سدس من نعطيه؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»(٣) ألحقنا الفرائض بأهلها، وأعطينا البنت نصيبها، والأم نصيبها، والأب نصيبه، بقي واحد من ستة بحثنا في هؤلاء الورثة من الذي يصدق عليه أنه أولى رجل ذكر؟ الأب، فنعطيه الأب تعصيبًا فنقول: للأب السدس فرضًا والباقي تعصيبًا، هذا ما تدل عليه الآية الكريمة مع الحديث، واضح الآن؟
إذنْ ميراث الأبوين السدس مع الولد وهو الفرع الوارث، كذا؟ ثم إن كان الولد ذكرًا فليس للأم والأب سوى السدس لكل واحد، وإن كان أنثى أعطيناها فرضها، فإن بقي شيء بعده فهو للأب تعصيبًا.
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ﴾ أي: لم يكن له فرع وارث لا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ابن ولا بنت، لم يكن له ولد
﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ إن لم يكن له ولد، هذا شرط، الشرط الثاني:
﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾، والجواب:
﴿فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾، وكم للأب؟ الباقي؛ لأنه إذا كان المال بين شخصين وفرض لأحدهما فالباقي كله للآخر.
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ الآن حصر الإرث في الأبوين، فلأمه الثلث، والباقي للأب، من أين عرفنا أن الباقي للأب؟ لأن الله قال:
﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ وأعطى أمه الثلث، فيكون الباقي للأب بالضرورة، فعرفنا الآن إذا هلك هالك عن أم وأب وليس معهما ولد ولا غيرهما، يعني ليس معهما أحد؛ لا ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة فلأمه الثلث.
هل هذا ماشٍ على قاعدة الفرائض؟ نعم، ماشٍ على قاعدة الفرائض؛ لأن قاعدة الفرائض: إذا كان الوارثان ذكرًا وأنثى من جنس وفي مرتبة واحدة فإن للذكر مثل حظ الأنثيين، انظر: ابن وبنت، أخ شقيق وأخت شقيقة، أخ لأب وأخت لأب، عم وعمة، ما يصلح، لماذا؟ لأن العمة من الحواشي، ولا يرث من الحواشي من الإناث إلا الأخوات.
وقوله تعالى:
﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ انحصر الإرث قلنا: في الأبوين، يكون للأم الثلث، فماذا لو كان مع الأبوين زوج أو زوجة هل للأم الثلث؟ نقول: الآية الكريمة تدل على أنه ليس لها ثلث، فماذا يكون لها؟ ننظر في الموضوع، لو هلك هالك عن زوج، امرأة هلكت عن زوجها وأمها وأبيها، ليس في المسألة ولد، صح؟ هلكت عن زوجها وأمها وأبيها، انحصر الإرث في ثلاثة أشخاص، فلننظر: للزوج النصف، وللأم ثلث الباقي، وللأب الباقي، لماذا صار للأم ثلث الباقي؟
نقول: لأن الأم والأب ورثا ما بقي بعد الزوج، وقد قال الله تعالى:
﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ فكأن الأبوين ورثا نصف المال -نصف المال يعني: الذي هو الباقي بعد الزوج- فيكون للأم ثلثه، يعني: نجعل الباقي بعد فرض الزوج كأنه المال كله، فإذا جعلناه كأنه المال كله، فإن للأم الثلث، وهذا واضح جدًّا، فنحن نجعل ما بقي بعد فرض الزوج كأنه المال كله، ومعلوم بنص القرآن أن الأم والأب إذا ورثا المال كله فللأم الثلث، فيكون لها ثلث الباقي.
وحينئذٍ لو سألنا السائل: هل هذه القسمة مخالفة للنص؟ لقلنا: لا، بل هي موافقة للنص، ووجهها ما قلت لكم.
مثال آخر: هلك رجل عن زوجة وأم وأب، كم للزوجة؟ الربع، وبقي ثلاثة أرباع: للأم ثلث الباقي، وللأب الباقي؛ لأن الزوجة لما أخذت نصيبها صار الباقي بعد فرضها كأنه المال كله، والأم والأب إذا ورثا المال كله صار للأم الثلث، وعلى هذا فللأم ثلث الباقي بعد فرض الزوجة، والباقي للأب، وهذا مقتضى النص القرآني الذي معنا.
هاتان المسألتان: زوج وأم وأب، وزوجة وأم وأب تسميان: العمريتين والغرَّاوين، العمريتين؛ لأن أول من قضى بهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إذ لم توجد هذه الصورة لا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا في عهد أبي بكر، هاتان الصورتان وجدتا في عهد عمر رضي الله عنه، فقضى بهما على هذا النحو قضاء موفقًا للصواب بلا شك، فسميتا بالعمريتين، وسميتا بالغرَّاوين؛ لأنهما في الفرائض كالغرة في وجه الفرس لظهورهما وبيانهما واشتهارهما، أظن المسألة واضحة الآن، فصار للأم والأب السدس مع وجود الولد، وللأم ثلث الباقي في زوج وأبوين وزوجة وأبوين.
قال:
﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ هذا معطوف على قوله:
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ﴾ يعني: حين إرثه أبويه له،
﴿فَإِنْ كَانَ﴾ و(الفاء) هنا عاطفة تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها، للترتيب تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها، فإذا ورث الرجلَ أبواه وكان له إخوة فلأمه السدس.
إخوة ذكور أو إناث؟ يشمل إخوة ذكور أو إناث، أشقاء أو لأب أو لأم؟ يشمل أشقاء أو لأب أو لأم.
﴿إِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ مثاله: هلك هالك عن أم وأب وأخوين شقيقين، في هذا المثال له إخوة أو لا؟ كم تعطى الأم؟ تعطى السدس، والباقي للأب، لماذا فرضنا للأم السدس؟ لوجود جمع من الإخوة، ولماذا لم نفرض للأب السدس؟ لعدم الفرع الوارث، فنقول: للأم السدس والباقي للأب، والإخوة؟ الإخوة يسقطون، يسقطون بإسقاط النبي صلى الله عليه آله وسلم لهم، حيث قال:
«أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»(٤) ، ألحقنا الفرائض الآن بأهلها، من صاحب الفرض في هذه المسألة؟ الأم، أعطيناها نصيبها، بحثنا وقارنا بين الأب والإخوة وجدنا أن الأب أولى؛ لأن الميت بضعة منه، فقلنا: الباقي للأب، واضح يا جماعة؟
إذا كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس، فإن قال قائل: كيف يحجب الإخوة وهم محجوبون؟ نقول: نعم، يحجبون غيرهم وهم محجوبون؛ لأن حجبهم هنا لوجود المانع لا لفوات الشرط، انتبه، حجبهم هنا لوجود المانع، من الذي منعهم من الإرث؟ الأب، لا لفوات الشرط فهم من أهل الإرث، يعني: ليس فيهم مانع من موانع الإرث حتى نقول: إن هؤلاء ليسوا مستحقين بالأصل من الميراث، نقول: هم مستحقون لولا وجود المانع؛ فلهذا حَجَبوا وهم محجوبون.
والغريب في هذه المسألة -يا إخوان- لو كان الإخوة إخوةً من أم حجبوا الأم من الثلث إلى السدس، وهذه غريبة من غرائب العلم أن يكون المدلي حاجبًا لمن أدلى به، والعادة أن الذي يحجب هو المدلى به، لكن هذه بالعكس، واضح؟ الابن يحجب ابن الابن لأيش؟ لأن الابن مدلي بالابن، ومن أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة، هنا الإخوة من الأم مدلون بالأم ولم تحجبهم الأم، بل هم الذين حجبوا الأم، على العكس، ولكن مسائل الفرائض كثير منها لا مجال للرأي فيه ولا مدخل للاجتهاد فيه، أمر مسلم
﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ مسلم.
انتهينا الآن من ميراث الأبوين
﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ فصار ميراث الأبوين أولًا: إذا كان معهم ولد فلكل واحد منهما السدس، ثم إن كان الولد ذكرًا فليس للأب سوى السدس، وإن كان أنثى فللأب ما بقي بعد الفروض تعصيبًا.
الحالة الثانية: إذا ورثه أبواه فقط، إذا ورث الميت أبواه فقط، أي: لم يوجد وارث سوى الأبوين ولا إخوة ولا فرع وارث فما ميراث الأم؟ الثلث، والباقي للأب، ميراث الأم الثلث؛ للنص، والباقي للأب؛ لأن المال الذي بين شخصين إذا قدر لأحدهما نصيبه صار الباقي للثاني
لهذا لو أعطيتك مالًا مضاربة تشتغل فيه وقلت: لك ربع الربح، ماذا يكون لي أنا صاحب المال؟ ثلاثة أرباع؛ لأن المال بين اثنين، إذا قدر لأحدهما نصيب فالباقي للآخر.
الحال الثالثة: إذا ورث الأبوان ولدهما وله إخوة فكم للأم؟ السدس، وإن كان الإخوة غير الوارثين فللأم السدس، والباقي للأب، والإخوة يسقطون؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»(٥) هذه الآية في حكم ميراث الفروع والأصول، وبدأ بذكر الفروع قبل الأصول، وكان المتوقع أن يبدأ بالأصول لأنهم أحق بالبر من الفروع، لكن ذكر الفروع؛ لأنهم بضعة من الميت، جزء منه، والأصول بالعكس الميت بضعة منهم، فكان الذي هو بضعة منه أولى (...) هو، أي: الميت بضعة منه.
وهذه من الحكم، وإلا كان المتوقع أن يقول قائل: لماذا لم يبدأ الله عز وجل بذكر الوالدين قبل ذكر الأولاد؟ والجواب هو هذا، فهذه الآية اشتملت على ميراث من؟ الفروع والأصول، بقي عندنا الحواشي والأزواج، ذكر الأزواج بعد هذه الآية مباشرة، والحواشي: الوارثون للفرع؛ لأن الآية الثانية الآتية خالصة لذوي الفروع ما فيها عاصب، الآية الثانية
﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُم﴾ إلى آخره
[النساء: ١٢] هذه خاصة بأصحاب الفروض ليس بها عصبة، فيها الزوجان ومن؟ والإخوة من الأم، وكلهم أصحاب فروض؛ ولهذا قال فيها:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ إلى آخره
[النساء: ١٣] وهنا لم يقل: تلك حدود الله؛ لأن هذه الآية فيها تعصيب غير محدد، والآية التي بعدها كلها أصحاب فروض، والآية الثالثة في آخر السورة فيها فروض وفيها تعصيب؛ ولهذا قال فيها:
﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء ١٧٦].
* طالب: (...)؟
* الشيخ: يعني مع جد واحد وأخ واحد؟ لأن الجد ليس بأخ.
* طالب: (...) وأم وجد للأم الثلث (...)؟
* الشيخ: إذا كان الأخ واحد فقط، أما لو كان الأخ اثنين فأكثر، يعني قُلْ: جد وأخ وأم، نقول: للأم الثلث؛ لأنه ليس عندنا فرع وارث ولا جمع من الإخوة، وهذا مما يضعف القول بأن الجد أخ؛ لأنه هنا ليس بأخ ولا يحجب الأم.كما أنه لو كان عندنا جدان لم يحجبا الأم إلى السدس، أليس كذلك؟ وفيه جدان؟ نعم، ما هما؟ الجد من الأم ليس له شيء، هذه صوَّرها العلماء فيما لو وطئ رجلان امرأة بشبهة وأتت بولد وعرض على القافة -القافة الذين يعرفون الإنسان بالشبه- وقالوا: هذا الولد لهذين الرجلين جميعًا، صار له أبوان، ولكل واحد منهما أب، فيكون له جدان، فلو كان له جدان لم يحجبا الأم إلى السدس، وهذه الأدلة على ضعف الإلحاق الإخوة بالجد، أدلة كثيرة ما هي واحدة.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: الأب؟ والنص ﴿إِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ من ليس له أب ولا ولد.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: في مسألة أيش؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا لا، استدللنا بأن الباقي للأب تعصيبًا؛ لأنه أولى رجل.(...)
﴿بِهَا أَوْ دَيْن﴾ يعني: هذا الميراث الذي قال الله عز وجل إنما يكون من بعد وصية يوصي بها، وفي قراءة:
﴿يُوصَى﴾ بالبناء للمجهول، أو دين.
الوصية في الأصل هي: العهد للشيء المهم، وهي اصطلاحًا: الأمر بالتبرع بالمال، بل وهي التبرع بالمال بعد الموت، هذه وصية التبرع بالمال بعد الموت أو الأمر بالتصرف بعد الموت، فهي إما بمال وإما بتصرف، فإذا أوصى رجل إلى شخص بالنظر على أولاده الصغار، فهذه وصية بمال أو بتصرف؟ بتصرف.
وإذا أوصى شخص بمئة درهم لفلان، فهذا تبرع بالمال بعد الموت، وهذا هو المراد بهذه الآية، المراد به التبرع بالمال بعد الموت.
وقوله عز وجل:
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ مطلق لم يقيد، لكن دلت السنة على أنه لا يزيد على الثلث، (...)
«سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين عاده النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة فقال له سعد: إني ذو مال» –يعني: ذو مال كثير-
«ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا»، قال: فالشطر؟ قال:
«لا»، قال: فالثلث؟ قال:
«الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»(٦) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما:
«لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع» -يعني-
«لكان أحسن»(٧) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«الثُّلُثُ كَثِيرٌ» ولم يرخص في الثلث إلا في المراجعة الثالثة من سعد رضي الله عنه.
ويذكر أن أبا بكر الصديق قال:
«أرضى بما رضيه الله لنفسه»(٨) ، فأوصى بالخمس، واعتمد ذلك الفقهاء فقالوا: ينبغي أن تكون الوصية بالخمس، ولكن شح الناس اليوم صاروا لا يعرفون في الوصية إلا الثلث، يندر جدًّا أن ترى شخصًا أوصى بخمس ماله. وينبغي لطلبة العلم أن يبينوا للناس أن يقولوا للناس: الوصية بالثلث رخصة جاءت بعد مراجعة، وما دون الثلث أفضل منه.
ودل القرآن على أن الوصية لا تكون لوارث، وهذا هو الشرط الثاني في الوصية، الشرط الأول ما هو؟ ألا تزيد على الثلث، والشرط الثاني هو: أن لا تكون لوارث، بوجه الدلالة قوله:
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾، فجعل الوصية مستقلة عن الميراث، وقال في الآية التي تليها هذه لما ذكر (...) الإرث قال:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا﴾ [النساء ١٣، ١٤].
ولا شك أن من أوصى لأمه بالخمس وقد أعطاها الله السدس فقد تعد حدود الله، فرض الله لها السدس وهو زاد على ذلك الخمس فأعطاها، فصار ميراثها الآن أكثر من السدس، وهذا تعدٍّ من حدود الله.
إذنْ نقول: الوصية التي تقدم على الميراث هي الوصية الشرعية التي جمعت شرطين هما: ألا تزيد على الثلث، وألا تكون للوارث.
وقوله:
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا﴾ في كلمة
﴿يُوصِي بِهَا﴾ دليل على أنه لا بد من ثبوت الوصية، لا بد من الثبوت، وأن يكون الموصي أوصى بها عن طمأنينة وعن معرفة، فلو أوصى وهو في غمرة المرض قد (...) ولم يكن يتصور ما يقول، فإن الوصية لا تقبل ولا عبرة بها؛ لأنه حقيقةً لم يوصِ بها، وكذلك لو لم تثبت الوصية ببينة، فإنها لا عبرة بها إلا إذا صدق الورثة وهم مرشدون بذلك، فالحق لهم والرجوع إليهم.
وقوله:
﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ الدين: كل ما ثبت في الذمة فهو دين، فالأجرة دين، والقرض دين، وثمن المبيع دين، والصداق على الزوج دين، وعوض الخلع على الزوجة دين، وأرش الجراحات دين، كل ما ثبت في الذمة فهو دين، فيقدم الدين على الميراث، فلو قدر أن الدين يستغرق جميع المال فلا شيء للورثة؛ لأن الله قال:
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، وإذا قدر أنه يستغرق نصف المال صار الميراث نصف المال؛ لأن الله قال:
﴿أَوْ دَيْنٍ﴾.
وهنا نسأل: هل الدين مقدم أو الوصية؟ الجواب: الدين، الدين قبل الوصية، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
« إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدين قبل الوصية»(٩) ، والمعنى يقتضيه؛ لأن الدين قضاؤه من باب الواجب والوصية من باب التبرع، يعني أن المدين يجب عليه أن يقضي دينه، والموصي مستحب ليست بواجبة، ومعلوم أن النظر الصحيح يقتضي تقديم الواجب.
فإن قال قائل: إذا كان الأمر كذلك فما الحكمة من تقديم الوصية على الدين؟ فالجواب على ذلك: الحكمة أولًا: العناية بالوصية والإشارة إلى أن الدين ينبغي للعاقل أن لا يحمله نفسه.
وثانيًا: أن الدين له من يطالب به، يعني لو فرض أن الورثة سكتوا وقسموا التركة هل يسكت صاحب الدين؟ لا يسكت، لا بد أن يطالب، لكن الوصية لو كتموها ولم يعلم بها الموصى إليه أو الموصى له ما علم بها ليس لها من يطالب؛ فلهذا قدمها ليهتم الورثة بها لا ليقدمها على الدين، فالدين مقدم ثم الوصية، ثم الميراث، فإذا هلك هالك عن ورثة وكان عليه دين يستغرق نصف ماله وأوصى بالثلث، فالمسألة من ستة: للدين ثلاثة، وللوصية الثلث اثنان.
* طالب: واحد.
* الشيخ: لا إله إلا الله! لم نعلم أن ثلث الستة واحد إلا هذه الليلة!
* طلبة: ثلث الباقي.
* الشيخ: نعم، أحسنتم، إذنْ نقول: المأخوذ في الدين كالمفقود، وعلى هذا فيكون التركة الموروثة هي الباقية بعد الدين ثلاثة من ستة، فنعطي صاحب الوصية ثلث الباقي واحدة، ويبقى اثنان هما نصيب الورثة.هنا قدمنا الدين على الوصية، صح؟ جعلنا النص الآن على من؟ على الوصية، لولا الدين لأخذ الموصى له اثنين من ستة، لكن الآن لم يأخذ إلا واحدًا من ستة؛ لأن الدين مقدم على الوصية، تمام؟
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾.
* طالب: قلنا: لا وصية لوارث إذا كان الابن كافرًا هل يحوز أن يرث الابن وهو كافر؟
* الشيخ: سؤال هل الكافر يرث من المسلم؟
* طالب: لا يرث.
* الشيخ: إي صحيح، ما دام أنه لا يرث فيوصي، لكن يبقى النظر هل يجوز أن يبر الإنسان الكافر؟ يعني هل يجوز لي أنا أن أبر الكافر؟ فيه تفصيل بينه الله تعالى في سورة الممتحنة فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ﴾ [الممتحنة ٨] هذا إحسان، ﴿وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ هذا المعاملة بالعدل، ما ينهى الإنسان أن يعامل الكافر بالعدل أو بالفضل بشرط أن لا يكون ممن يقاتلوننا في أيش؟ في الدين.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا لا، ما فيه تعدٍّ؛ لأن التعصيب حق له، حق شرعي، والباقي أعطيه بالتعصيب شرعًا.
* طالب: قلنا -يا شيخ-: إن مقتضى الوصية الاستحباب، أليس كذلك؟
* الشيخ: نعم، يعني الوصية مستحبة.
* الطالب: وقول الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة ١٨٠] وقلنا -يا شيخ-: ظاهر الآية أنها واجبة على غير الوالدين وذوي القروض، فما الجواب؟
* الشيخ: الجواب صحيح، الجواب هي واجبة، لكن واجبة للأقارب غير الوارثين، وقال أكثر العلماء –الجمهور-: إن هذه الآية منسوخة، والصحيح أنها غير منسوخة وأنها مخصصة، هذا هو الصحيح.
* طالب: إذا كان الميت عليه دين للبنك العقاري هل لا بد من سداده أو (...)؟
* الشيخ: ماذا تقولون؟ يقول: إنسان له دين مؤجل هل تقسم تركته أو يقضى الدين المؤجل؟ نقول: إن وثق الورثة برهن يحرز أو كفيل ملي، فالدين باقٍ على ما هو عليه، لا يحل وإن لم يوثقوا حل الدين ووجب البيع.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: والله حسب الحال، إذا كانوا غير محتاجين له، فالأفضل أن يبيعوه..
* طالب: الغالب أنه إذا توفي الإنسان يسقط؟
* الشيخ: يعني إذا كان مثلًا، إذا لم يسقط إذا كانوا غير محتاجين، فالأولى أن يبيعوه ليبرئوا ذممهم وذمة الميت، وإن كانوا محتاجين ننظر هل بقي عليه أقساط لم يوفها -أي على الميت- إن قيل: نعم، قلنا: لا بد أن يباع أو توفوها أنتم؛ لأن نفسه معلقة بها، وإن قالوا: لا، كل الأقساط التي حلت في حياته فقد سلمها، ففي هذه الحال نقول: لا بأس أن يبقى مرهونًا للبنك ويسدد كل سنة إذا (...).
* طالب: في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ ﴿فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ [النساء ٨] قلنا: إن القرابة يعطون منه، وفي قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾ [البقرة ١٨٠] يوصى لهم فمتى يعطون؟
* الشيخ: يوصى لهم إن حضروا، لكن الذي يعطى إذا حضر ما يعطى شيئًا كثيرًا.
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: ما يثقل؛ لأنهم بيعطونهم شيء قليل.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نكمل آية إرث الفروع والأصول، فيقول الله عز وجل:
﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ إلى آخره، سبق لنا أن الميراث لا يستحقه الورثة إلا بعد الوصية والدين، ونسأل الآن الأخ ما هي الوصية؟
* طالب: (...).
* الشيخ: ويش معنى ﴿يُوصِي بِهَا﴾؟
* طالب: الوصية التبرع بالمال بعد الموت أو الأمر بالتصرف فيه.
* الشيخ: إذنْ معناها: أن يتبرع بشيء من ماله بعد موته، إما لجهة عامة كالمساجد، أو لمعين كزيد أو عمرو.والدَّين ما هو؟
* طالب: الدين هو عبارة عن (...).
* الشيخ: كل ما ثبت في الذمة فهو دين، ثمن مبيع أو أجرة أو قرضًا.الوصية قبل الدين وأيهما يقدم؟
* طالب: يقدم الدين على الوصية.
* الشيخ: يقدم الدين على الوصية. ما هو الدليل؟
* طالب: «النبي ﷺ أمر علي بن أبي طالب بتقديم الدين على الوصية».
* الشيخ: قال علي: «قضى بالدين قبل الوصية».
* طالب: (...).
* الشيخ: صحيح، والوصية التبرع مستحب، فمنعه من الزائد على الثلث.وما هو الدليل على أن الوصية للوارث لا تصح؟
* طالب: قوله ﷺ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».
* الشيخ: نعم، قوله ﷺ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»(١٠) ، ثم تحديد الله المواريث، ثم قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ فلا تعتدوها.قال الله عز وجل:
﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ لما قسم سبحانه وتعالى القسمة على ما اقتضته حكمته قطع خط الاعتراض على هذه القسمة بقوله:
﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾.
فلو قال قائل: الآباء أحق من الأبناء لأن برهم واجب؟ وقال الآخر: الأبناء أحق من الآباء لأنهم قصَّار يحتاجون إلى رعاية في الغالب؟ نقول: وراء ذلك كله حكمة الله عز وجل، فنحن لا ندري آباؤنا أو أبناؤنا أيهم أقرب لنا نفعًا.
وهل المراد التفضيل بين الجنس والجنس، أي: بين الآباء والأبناء، لا ندري الأبناء أقرب أم الآباء؟ أم حتى بين الأبناء وبين الآباء؟ ما فهمتم، هل المعنى: لا تدرون الآباء أقرب نفعًا أم الأبناء؟ هذا واضح، أو لا تدرون أي الأبناء أقرب لكم نفعًا وأيّ الآباء أقرب لكم نفعًا؟ العموم، الآية تعم المعنيين، يعني: لا تدرون هل الآباء أنفع لكم أو الأبناء، ولا تدرون هل الأكبر من الأبناء أنفع أم الأصغر، وهل الأقرب من الآباء أنفع أم الأعلى.
كثيرًا ما يكون الجد أرأف وأرحم من الأب بأحفاده، وكثيرًا ما يكون الابن الأصغر أرحم من الابن الأكبر، فنحن في الحقيقة لا ندري هل الآباء أبر وأنفع لنا أو الأبناء، وهل أبناؤنا فيما بينهم أبر، الكبير أو الصغير أو الوسط، وكذلك بالنسبة للآباء لا ندري، فلما كنا لا نعلم وجب أن نكل الأمر إلى عالمه وهو الله عز وجل.
ثم قال:
﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ ﴿فَرِيضَةً﴾ هذه مصدر عاملها محذوف، وقد يقال: إنها مصدر نَابَتْ عن عاملها، والتقدير على الأول: فرضنا ذلك فريضةً، وعلى الثاني: نجعل
﴿فَرِيضَةً﴾ هي نفسها العامل ولا تحتاج إلى عامل ينصبها، فتكون تأكيدًا لما سبق، ويسمون هذا: المصدر المؤكِّد للجملة التي قبله ولا يحتاج إلى عامل، قال ابن مالك:
......................... ∗∗∗ ....... كَابْنِي أَنْتَ حَقًّا....
كلمة (حقًّا) ما فيها عامل لكن تؤكد الجملة التي سبقتها، هذه أيضًا ما فيها عامل لكن لما قال:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ وقسم وقدر صار هذا المصدر مؤكدًا للجملة التي قبله.
وقوله:
﴿فَرِيضَةً﴾ الفرض في اللغة: الحز والقطع، يقال مثلًا: فرض اللحم، يعني حزه، وفرض العصا، قطعه، ولكنها في الشرع: ما ألزم به الشارع، ما ألزم به الشارع فهو فرض، ولا فرق -في القول الصحيح- بين ما ثبت بدليل ظني أو بدليل قطعي، وقال بعض العلماء: ما ثبت بدليل قطعي فهو فرض، وما ثبت بدليل ظني فهو واجب، والصحيح ألا فرق، ما دام قد ثبت (...) به، فسمه فرضًا أو سمه واجبًا.
﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ وقوله:
﴿مِنَ اللَّهِ﴾ أي صادرة منه لا من غيره، فلم يقم بفرضها ملك مقرب ولا نبي مرسل، بل الله وحده هو الذي تولى فرضها.
ثم قال:
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ كان عليمًا بمن يستحق وبمقدار ما يستحق، وحكيمًا في وضع الحق في أهله كمًّا وكيفًا، فهو عز وجل له العلم التام وله الحكمة التامة، وبالعلم والحكمة تتم الأمور؛ لأن تخلف الأمور سببه أحد أمرين: إما الجهل، وإما السفه، تخلف الأمور سببه أيش؟ أمران: إما الجهل، أو السفه، فإذا وجد العلم ارتفع الجهل، وإذا وجدت الحكمة ارتفع السفه.
فالله سبحانه وتعالى عليم بالأمور وبمن يستحق وبمقدار ما يستحق، فهو حكيم حيث وضع الأشياء في مواضعها، فلما اجتمع في حقه سبحانه وتعالى العلم والحكمة انتفى أي اعتراض يمكن أن يعترض به على الحكم، عرفتم؟
ولهذا نجد أن الجاهل يتخبط في الأحكام؛ لأنه جاهل، ولو كان عنده حسن قصد وحسن إرادة لكنه جاهل فتجده متخبطًا، ونجد العالم السفيه الذي ليس عنده حكمة ترشده إلى ما فيه الخير، نجد أنه أيضًا يتخبط ويتعسف.
أما من لديه علم وحكمة فإنه سبحانه وتعالى كامل الحكم، أحكامه تامة، والعليم والحكيم من أسماء الله عز وجل.
والعلم: إدراك المعلوم على ما هو عليه، هذا تعريفه، العلم: إدراك المعلوم على ما هو عليه، فخرج بقولنا: (إدراك المعلوم) من لم يدرك، فهذا جاهل، جاهل جهلًا بسيطًا، وخرج بقولنا: (على ما هو عليه) من أدرك الشيء على غير ما هو عليه، وهذا جاهل لكن جهله مركب، وأيهما أولى الجهل المركب أو البسيط؟ البسيط أهون.
ونضرب ثلاثة أمثلة الآن: سأل سائل عن غزوة بدر فقيل له: في رمضان في السنة الثانية، ما تقولون في هذا المجيب؟ هذا عالم، وسأل سائل آخر عن وقعة بدر، غزوة بدر متى كانت؟ فأجيب بأنها في السنة الثالثة، هذا جاهل جهلًا مركبًا، وسأل سائل: متى كانت غزوة بدر؟ فأجيب بلا أدري، هذا جاهل جهلًا بسيطًا وهو خير من الجهل المركب.
ويقال: إن رجلًا يسمى تومًا يدعي الحكمة وأنه عالم حكيم
فَــــــــقَـــــــــالَ حِمَـــــارُ الْحَــــكِــــيـــمِ تَــــــــــوْمَـــــــا ∗∗∗ لَوْ أَنْصَفَ الــدَّهْـــرُ كُـــنْــــتُ أَرْكَــــــــبْ؎لِأَنَّـــــــــــنِي جَـــــــــــاهِــــــــــلٌ بَـــــــــــــسِـــــــــيـــــــــــــطٌ ∗∗∗ وَصَــــــــاحِــــــــبِي جَــــــــاهِـــــلٌ مُــــــــَركَّـــــــــــبْ
يقول الحمار، الحمار جاهل أو غير جاهل؟ جاهل، لكن جهله بسيط وتوما صاحبه جاهل مركب، وعلى هذا يقول الشاعر الآخر:
وَمَنْ رَامَ الْـــــــعُـــــــلُـــــومَ بِــــــغَــــيْرِ شـــــــيْــــــخٍ ∗∗∗ يَضِــــلُّ عَـــــنِ الصِّـــــرَاطِ الْمُــسْــتَــــقِيـــــمِ؎وَتَــلْــــــتَـــبِـــسُ الْــــعُـــــلُـــــومُ عَــــلَــــيْــــهِ حَــــتَّى ∗∗∗ يَــكُــونَ أَضَـــلَّ مِــنْ تَــوْمَـــا الْحَــكِـــــيـــــمِ ؎تَصَــــدَّقَ بِالْـــــبَــــنَـــــاتِ عَـــــلَــــى رِجَــــــالٍ ∗∗∗ يُـــــرِيـــــــدُ بِــــــذَاكَ جَــــــنَّـــــاتِ الـــنَّـــعِـــــــيــــمِ
هذا توما بدأ يتصدق على العالم بالنساء بدون أي شيء، بدون عقد نكاح، يقول: تبغي تصدق عليك؟ يلا خذ، يريد بذلك التقرب إلى الله، يعني: يهب النساء ليزنى بهن ويظن أن ذلك تقرب إلى الله وصدقة، هذا جهل مركب.
العلم أيش قلنا تعريفه؟ إدراك المعلوم على ما هو عليه.
الحكيم مشتق من الحُكم والحِكمة، من أسماء الله: الحكيم، وهو مشتق من الحُكم والحِكمة، فهو عز وجل حاكم وهو محكم، فعليه تكون (حكيم) بمعنى (فاعل) إذا كانت من (الحُكم)، و(حكيم) بمعنى (محكم) إذا كانت من (الحِكمة)، عرفتم؟ ويبقى عندنا إشكال في (حكيم) هل يأتي بمعنى مُحكم؟ نعم، ومنه قول الشاعر:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ يُــؤَرِّقُنِي وَأَصْــحَـابِي هُــجُــوعُ؎أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ .......................
أي: المسمع.
........................ ∗∗∗ يُـــؤَرِّقُنِي وَأَصْــحَــابِي هُــجُـــوعُ
نعود مرة ثانية نقول: إذا كانت من الحكم والإحكام فلا بد أن نعرف، الحُكم -أعني حكم الله- ينقسم إلى قسمين: حكم كوني، وحكم شرعي، فقول أخي يوسف:
﴿لَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ [يوسف ٨٠] هذا حكم كوني؛ ولهذا لم يقل: علي، قال: لي، أي: يقدر لي ذلك، وقوله تعالى في سورة الممتحنة لما ذكر أحكام النساء قال:
﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الممتحنة ١٠] هذا حكم شرعي.
الحكم ينقسم إلى قسمين: كوني وشرعي، ما الفرق بينهما؟ الفرق بينهما يقارب الفرق بين الإرادتين: الكونية، والشرعية، فما تعلق بما يحبه ويكرهه فهو؟ ما فهمتم ما أريد، ما تعلق بما يحبه ويكرهه، أي بما يحبه، فأمر به، أو يكرهه فنهى عنه؟ هذا شرعي، وما تعلق بتقديره سواء أحبه أم لم يحبه فهو كوني.
الحكم الكوني لا بد من وقوعه، والحكم الشرعي قد يمتثل وقد لا يمتثل، فيتبين بهذا أن الحكم قريب من الإرادة في التقسيم.
أما على الوجه الثاني في (الحكيم) وهو (المُحكم) فنقول: الحكمة وضع الشيء في مواضعه، وتتعلق في الحكم الكوني والحكم الشرعي، ثم هي إما حكمة باعتبار الصورة المعينة، وإما حكمة باعتبار الغاية، فإذا ضربت اثنين في اثنين صارت أربعة.
الحكمة إما أن تتعلق بالحكم الكوني على صورته المعينة وعلى غايته الحميدة، فمثلًا: الحكم الكوني إذا حكم الله عز وجل على أناس بالفقر والمرض والزلازل وما أشبه ذلك، هذا حكم لا شك أنه متضمن لحكمة، كونه وقع على هذا الوجه حكمة، والغاية منه حميدة هذه حكمة
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم ٤١].
خلق الإنسان على هذه الصفة لحكمة، خلق قائمًا منتصبًا، وغيره على العكس؛ لأن الإنسان له وظائف لا تتم إلى على خلقه على هذا الوجه، فالإنسان له وظائف: قيام ركوع سجود لا يتم إلى على هذا الوجه؛ فلذلك خلقه الله تعالى قائمًا منتصبًا دون غيره من الحيوانات، كونه على هذا الوجه حكمة، وكون الغاية منه، الغاية من ذلك أداء وظائف التي كلفه الله بها، هذه حكمة أخرى. وهكذا، فكرْ في الشمس والقمر والجبال والأنهار وما أشبهها.
في الشرع أيضًا حكمة على الصورة المعينة وحكمة على الغاية، كون الشرع على هذا الوجه، الصلوات خمس وأوقاتها متفرقة، وعددها كذا وكذا، هذا لا شك أنه مطابق للحكمة؛ ولهذا تجد الصلوات كلها مقرونة بتغير الشمس في الأفق، فالفجر عند إقبالها، والمغرب والعشاء عند إدبارها، والظهر والعصر عند توسطها وميلها، لا بد أن يكون هناك سبب، هذه حكمة، الغاية من الصلاة أيش؟ حكمة أيضًا.
ولهذا أقول لكم الآن (...) تتعلق بالحكم الكوني والشرعي على الصورة التي هو عليها وعلى الغاية المقصودة منه، فتكون أربعة: حكمة في الحكم الكوني باعتبار الصورة التي هو عليها، وحكمة في الحكم الكوني باعتبار غايته، وحكمة في الحكم الشرعي باعتبار الصورة التي هو عليها، وحكمة في الحكم الشرعي باعتبار الغاية المقصودة منه.
كل هذه المعاني الجليلة العظيمة كلها تحملها قوله:
﴿حَكِيمًا﴾، فأسماء الله حقيقة مملوءة من المعاني، حسنى على ما وصفها الله عز وجل، نرجع الآن إلى فوائد الآية.
يستفاد من الآية فوائد كثيرة:
أولًا: أن الله أرحم بالإنسان من والديه.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، ذكرنا معنى الحكمة أنها وضع الأشياء في مواضعها، والعلم: إدراك الشيء على ما هو.
* في الآية فوائد؛ منها: أن الله أرحم بالإنسان من والديه، تؤخذ من أين؟
* طالب: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾.
* الشيخ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾، فالذي يوصيك على الشيء هو أرحم به منك وأشد عناية به منك؛ ولهذا إذا وصى الإنسان أحدًا على أولاده فهو أرحم بأولاده من هذا الوصي.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الحكمة في توزيع الميراث أنه يشمل جميع الأولاد دون الصغار فقط، يعني لا يقتصر على الصغار أو على ذي الحاجة أو على من كان لا يكتسب أو ما أشبه ذلك، عام، هذه من الحكمة، من أجل ما يسمى في العرف الاصطلاحي: تبديد الثروة، تبديدها يعني: توزيع الثروة حتى لا تنحصر، هذا المال الذي هو ملايين كان في الأول يملكه واحد، الآن يملكه عدد كثير، ثم العدد أيضًا إذا ماتوا سينتقل إلى عدد آخرين، وهذا لا شك أنه من الحكمة.
* ومن فوائد الآية: حكمة أخرى في توزيع الميراث، حيث جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن في ذلك حكمة، منها: اعتبار ما يكون على الذكر من مسؤوليات مالية، الذكر عليه مسؤوليات مالية؟ نعم، أكثر من الأنثى، عليه الإنفاق، وعليه المهر، وعليه الجهاد، وعليه حقوق مالية أكثر، فرُوعِيَ في ذلك قسمة المواريث وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين.كذلك جعل للذكر مثل حظ الأنثيين من أجل بيان شرف الرجل على المرأة، وأنه أحق بالتكريم منها، خلافًا للمتفرنجين الآن الذين يقدمون الإناث على الذكور.
وخلافًا لأهل الجاهلية الذين لا يورثون الإناث شيئًا، في الجاهلية ما يورثون الأنثى شيئًا، من يورثون؟ يقولون: لا نركب إلا من يحمل الغمار ويركب الخيل ويذود عن الحمى، أما امرأة قابعة في البيت ليس لها ميراث، لكن الإسلام جاء أعطاها الميراث إلا أنها ليست مثل الذكر.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي للإنسان أن يختار الألفاظ الأحسن والأمثل وإن كان المؤدى واحدًا؛ لقوله: ﴿مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ولم يقل: يوصيكم الله في أولادكم للأنثى نصف ما للذكر.وقد مر علينا في التفسير التنبيه على ذلك، وحسن التعبير له أثر، ولعل بعضكم سمع قصة الملك الذي رأى في المنام أن أسنانه قد سقطت، رأى أسنانه سقطت فدعا بعابر يعبر الرؤيا، قال: أيها العابر، عبر لي هذه الرؤيا، قال: أيها الملك تموت حاشيتك وأهلك، ارتاع الملك، فأمر به فضرب وجلد؛ لأنه أيش؟ (...) ثم قال: ائتوا بعابر آخر، فأتوا بعابر آخر فسأله فقال: يكون الملك أطول حاشيته عمرًا، فقال: على الرأس، هذا العابر صحيح وأمر له بجائزة، والمعنى يعني: أنهم إذا ماتوا قبله يكون هو الآخر، لكن هذا فيه أن حسن التعبير له أثر، فينبغي للإنسان إذا أراد أن يعبر أن يختار أجزل العبارات وأسهلها وأحبها إلى النفوس.
* من فوائد الآية الكريمة: أن ميراث النساء الخلّص إن كن واحدة فالنصف، وإن كن ثنتين؟ الزوجات إذا كن ثنتين؟
* طالب: (...).
* الشيخ: نصف الواحدة؟ يعني مع الأولاد الثمن ومع عدمه الربع، ما تقولون يا جماعة؟ هل هذا الذي قررنا؟ نحن الآن في الأولاد، البنات: للثنتين فأكثر الثلثان، وللواحدة النصف، وسبق لنا توجيه قوله عز وجل: ﴿إِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإرث شامل لجميع التركة؛ من عقار ومن دور وحيوان ومنافع وحقوق، من أين يؤخذ؟ ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾ كل ما ترك فهو داخل في الإرث.وبهذا يجب التنبه لمن كان له ورثة في غير البيت الذي هو فيه، فإن من الناس من إذا مات ميتهم وهم في بيته وله ورثة آخرون خارج البيت مَن يتمتع بما في البيت من طعام وغيره ويسكن أيضًا، وهذا لا يجوز إلا بعد إذن بقية الورثة، وإلا فإنه يخصم من ميراثه، وكذلك تضرب أجرة على هؤلاء الذين في البيت من حين مات الرجل.
* من فوائد الآية الكريمة: أنه لا يزيد فرض الثلثين بزيادة البنات، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ فإنه يشمل لو كن مئتين، عام.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الحكمة في تقديم ميراث الولد على ميراث الأبوين، وما هي؟
* طالب: لأنه بضع من الوالد.
* الشيخ: أحسنت، لأن الأولاد بضع من أبيهم أو من أمهم فقدم ذكرهم على الأبوين.
* ومن فوائد الآية أيضًا: أن الوالدين إذا ورثا ولدهما واختصا بالإرث كان للأم الثلث والباقي للأب؛ لقوله: ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه إذا وجد للميت فرع وارث فإن للأبوين على السدس، لا يزيد إلا مع الإناث فإن بقي شيء أخذه الأب تعصيبًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن للأم السدس مع جمع من الإخوة؛ لقوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾، وظاهر الآية سواء كانوا وارثين أم غير وارثين، بل إن ظاهرها أنهم إذا كانوا غير وارثين فليس للأم إلا السدس؛ لأن الفاء مفرعة لما بعدها على ما قبلها.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الميراث يأتي في المرتبة الثالثة مما تركه الميت؛ لقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، ولكن قد دلت السنة على أن تجهيز الميت مقدم على كل ذلك، وعلى هذا يكون الميراث في المرتبة الرابعة، ودليل السنة: «أن رجلًا وقصته راحلته وهو واقف في عرفة، فسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فقال: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ»(١١) ، ولم يذكر هل عليه دين أو وصية؟ فدل هذا على أن مؤن التجهيز مقدمة على الوصية والدين، ولأن الوصية تتعلق بذات الموصل، ولأن التجهيز يتعلق ببدن الميت، فكان مقدمًا على الوصية والدين، كالمحجور عليه عند الإفلاس، المحجور عليه عند الإفلاس إذا أفلس وحجرنا عليه منعناه من التصرف في ماله، فإننا نبدأ بما تتعلق به حاجته، ما نقول: اخلع ثيابك نبيعها، لا، ما تتعلق بحاجته فإنه يبقى له.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب تنفيذ الوصية؛ لقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾، فقدمها على ما يستحق من المال؛ لأن تنفيذها واجب.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الرق مانع من الإرث، من قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾، ووجه ذلك أن (اللام) تفيد الملك، والرقيق لا يملك، وعلى هذا فلا حق للرقيق في الميراث؛ لأنه لا يملك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: (...) وإلا فإن قواعد النحو لو لم يكن عند الإنسان غريزة لعثرته وصار يفكر هل هذا فاعل ولَّا مفعول به؟ وهل هو اسم ينصرف أو لا ينصرف؟ وهل المضاف ينون أو لا ينون؟ ثم لا يستطيع أن يخرج سطرًا واحدًا، وكما قال بعضهم: لو أن امرأ القيس قرأ عروض الخليل ما أتى ببيت واحد من الشعر، فالقواعد مساعدة ما هي الأصل، قد يمن الله على الإنسان بسليقة ويمشي مشيًا جيدًا وإن كان ضعيفًا في النحو.ثم إنه ذكر كلمة ينبغي أن ننتبه لها وهي قول بعضهم: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، فإن هذا ينبئ عن كراهة الإنسان لما قدره الله عز وجل، والذي ينبغي للإنسان أن يلتزم مقام الرضا بما قدر الله، وألا يعلن على نفسه أنه يكره ما قضاه الله عز وجل، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى ما يعجبه قال:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ» وإذا رأى خلاف ذلك قال:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»(١٢) ، ولم يكن يقول: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، بل يقول:
«الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»، وهذه المسألة ينبغي أن يتنبه لها.
كما ينبغي أيضًا أن نتنبه لكلمة أسوأ منها يقولها بعض الناس يقول: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه، فكأنه يقول: رب ابتلني بما شئت ولكن الطف، والإنسان إذا دعا فإن الدعاء يرد القضاء كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ»(١٣) .
فهذه الكلمة منكرة لا يجوز للإنسان أن يقول: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، بل اسأل، أنت تسأل حاجتك، سواء قضاها الله عز وجل ثم رفعها بدعائك أم لا، اسأل الله قضاء حاجتك أو حصول مطلوبك وقل: اللهم إني أسألك كذا وكذا.
ورسول الله عليه الصلاة والسلام
«نهى أن يقول الإنسان: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، وقال: «لِيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ وَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ»(١٤) ، فهكذا، (لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) خطأ، اللهم إني أعوذ بك من كذا مما تكره، وأسألك كذا مما تحب،
«لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ».
ومثل هذه الكلمات ينبغي لطالب العلم إذا سمعها واستنكرها لم يسمعها من كلام الرسول ولا من كلام الصحابة ولا من غيرهم ينبغي أن يتوقف، فإن كان لديه إدراك يمكنه أن يحكم عليها، فذلك هو المطلوب، وإلا سأل أهل العلم، أما أن نأخذ مثل هذه الكلمات مسلمة، فإنه لا يمكن.
حتى في اللغة أيضًا يخطئ بعض الناس كثيرًا في مسائل يتناقلونها يقول: إلى هنا وينتهي مقالنا، إلى هنا وينتهي مقالنا، إلى هنا وينتهي؟ قُلْ: إلى هنا ينتهي، أيش (إلى هنا وينتهي)؟ صواب اللغة العربية: إلى هنا ينتهي، فهي كلمات خطأ، خطأ في العربية، خطأ في العقيدة، تمشي ولا ينتبه لها.
ومن (...) قُلْ: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم إني أعوذ بك من النار، حتى لو كتب، اللهم اشفني -مثلًا- من هذا المرض، حتى لو قدر أنك ما أنت مشفي فإن الدعاء يرد القضاء.
* طالب: لأنني في صلاة المغرب أقول للناس: اللهم الطف بي يعني في قضائك؟
* الشيخ: لا لا ما فيها شيء، كلمة: اللهم الطف بنا في قضائك (...) سواك ما فيها شيء، لكن اللهم إني لا أسالك رد القضاء نقول: الدعاء يرد القضاء.
* طالب: لكن ما يشعر –يا شيخ- هذا بأن الله غير لطيف؟
* الشيخ: لا، ما فيه شيء، لسنا نقول: قل: لا تلطف، نحن نقول: لا تقل: لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف، إذا نزل القضاء المكروه قل: اللهم الطف بنا، إذا دعوت لا تقل: لا أسألك رد القضاء؛ لأنه ورد في الحديث: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ»(١٥) ، الدعاء يرفع الضراء، يكون قد كتب لهذا الإنسان –مثلًا- المرض أو الموت، فإذا سأل الله الشفاء شفي، جعل الله سببًا يمنع هذا القدر.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى
﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا﴾ إلى آخره.
* من فوائد الآية الكريمة: أنه إذا اجتمع الأبوان في الميراث فللأم الثلث والباقي للأب، وعلى هذا فيكون الأب في هذه الحال وارثًا بالتعصيب؛ لأن نصيبه لم يقدر، فيكون وارثًا بالتعصيب.
* ومن فوائدها: الإشارة إلى اجتهاد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الاجتهاد الصائب في العمريتين، حيث جعل للأم ثلث الباقي بعد فرض الزوجين؛ وذلك أن الزوجة أو الزوج إذا أخذ حقه انفرد الأب والأم فيما بقي، وقد جعل الله للأب والأم إذا انفردا للأم الثلث، والباقي للأب، فيكون ما بقي بعد فرض الزوجين للأم ثلثه.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس وإن كانوا محجوبين بالأب؛ لقوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾، فعطف بـ(الفاء) الدالة على أن ما (...) مفرع على ما قبلها.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الواحد من الإخوة لا يحجب الأم إلى السدس؛ لقوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾، بخلاف الأبناء أو البنات فإن الواحد يحجبها إلى السدس؛ لقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾، و(ولد) نكرة في سياق الشرط فيعم الواحد والمتعدد، والذكر والأنثى.فإن قال قائل: كيف تجعلون للأم السدس مع وجود إخوة محجوبين بالأب؟ ألستم تقولون: لو وجدت أم وإخوة أرقاء فإن الإخوة لا يحجبون الأم إلى السدس؟ أو وجدت أم وإخوة كفرة فإنهم لا يحجبون الأم إلى السدس؟ يعني لو هلك هالك عن أمه وإخوته الذين لا يصلون فإن لأمه الثلث، ولا يحجبونها الإخوة الذين لا يصلُّون إلى السدس، لأيش؟ لأنهم كفار لا يرثون.
فالجواب: أن هؤلاء محجوبون بوصف، فهم ليسوا من أهل الإرث أصلًا، وأما الإخوة الذين حجبوا بالأب فهم من أهل الإرث لكن وجد مانع، وفرق بين وجود المانع وبين فوات الشرط، فالإخوة مع اختلاف الدين أو كونهم أرقاء هم ليسوا أهلًا للميراث أصلًا؛ لأن من شرط استحقاقهم الإرث أن يكونوا موافقين للميت في دينه وأن يكونوا أحرارًا، لكن هؤلاء الإخوة مع الأب هم مستحقون للإرث، أحرار، موافقون في الدين، لكن وجد مانع وهو الأب، فهذا هو الفرق بين كون المحجوب بالوصف وجوده كالعدم، والمحجوب بالشخص وجوده معتبر.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الميراث لا يكون إلا بعد الدين والوصية؛ لقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، ولكن الدين قد يستغرق جميع التركة فلا يبقى للورثة شيء، وأما الوصية فلا تستغرق جميع التركة؛ لأن أقصى ما يمكن الثلث، وما زاد على الثلث فهو إلى الورثة، وعلى هذا فيفرق بين الدين والوصية وهو: أن الدين قد يستغرق المال فلا يبقى للورثة شيء، والوصية لا يمكن أن تستغرق المال؛ لأن ما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة، وعلى هذا فلو مات شخص وخلف مئة ألف..ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الميراث لا يكون إلا بعد الدين والوصية؛ لقوله:
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء 11]، ولكن الدين قد يستغرق جميع التركة فلا يبقى للورثة شيء، وأما الوصية فلا تستغرق جميع التركة؛ لأن أقصى ما يمكن الثلث، وما زاد على الثلث فهو إلى الورثة، وعلى هذا فيفرق بين الدين والوصية وهو: أن الدين قد يستغرق المال فلا يبقى للورثة شيء، والوصية لا يمكن أن تستغرق المال؛ لأن ما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة.
وعلى هذا: فلو مات شخص وخلف مئة ألف وعليه دين يبلغ مئة ألف فليس للورثة شيء. ولو مات ميت وقد أوصى بمئة ألف، ولما مات وجدنا خلفه مئة ألف لم يبق للورثة شيء، نقول: نرد مئة ألف إلى الثلث ما لم تجز الورثة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن المفضول قد يقدم على الفاضل لاعتبارات أخرى، من أين نأخذها؟
* طالب: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾.
* الشيخ: نعم، ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ الدين أوجب من الوصية وأقدم، لكن قدمت الوصية لاعتبارات أخرى، كتقديم هارون على موسى في بعض المواضع، في سورة طه قدم هارون على موسى ﴿رَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ [طه ٧٠] لاعتبارات وهي: مراعاة الفواصل، ولَّا لا شك أن موسى هو أفضل من هارون ومقدم عليه في جميع مواضع القرآن، إذن نأخذ منه: أن المفضول قد يقدم على الفاضل لاعتبارات أخرى.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: قصور علم الإنسان، من أين تؤخذ؟ ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾، أقرب الناس إلى الإنسان آباؤه وأبناؤه، فإذا كان لا يدري أيهم أقرب نفعًا، فما بالك بالبعيد؟ وهذا لا شك يعود إلى قصور علم الإنسان، وقد قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٨٥] الروح التي هي بين جنبيك لا تعرفها؛ لأنك لم تؤت من العلم إلا القليل.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وجوب إعطاء الورثة نصيبهم من الإرث وأنه فرض، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾، وعلى هذا فيكون تعلم الحساب الفرضي فريضة، انتبهوا يا جماعة، فريضة على كل حال أو كفاية؟ فريضة كفاية؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: طيب، أو نفسر نقول: إن كان يتوقف عليه إعطاء كل ذي نصيب نصيبه فهو فرض، وإن كان لا يتوقف فليس بفرض، ماذا تقولون؟
* طالب: الأول.
* الشيخ: الأول؟
* طالب: الثاني.
* الشيخ: تعلم الحساب في الفرائض هل هو مقصود ولَّا وسيلة؟
* طلبة: وسيلة.
* الشيخ: وسيلة، إذا كان وسيلة ننظر إذا احتجنا إليه أخذنا به، وإن لم نحتج فلا، لكن في الغالب أننا نحتاج إليه، لو جاء إنسان قال مثلًا: اقسم زوج وأم وأخ من أم، أقول: للزوج نصف، وللأم الثلث، وللأخ لأم السدس، ولا يلزم أن أقول: المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، وللأخ من الأم السدس واحد، هذا ليس بلازم، لكن أحيانًا يتوقف القسم وإعطاء كل ذي نصيب نصيبه على معرفة الحساب، فإذا توقف على معرفة الحساب صارت معرفة الحساب فريضة كالأصل.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن أمر الفرائض إلى الله؛ لقوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾.وأقول لكم ذلك، وإن كان أمرًا معلومًا لكن من أجل الأدب، من أجل الأدب في الفتيا، كان الإمام أحمد رحمه الله مع علمه الغزير لا يطلق على الشيء أنه فريضة أو أنه حرام إلا إذا ورد به النص، وإلا تجده يقول: لا يفعل، أكره هذا، لا يعجبني، وما أشبه ذلك، كل هذا من باب الورع، أما نحن قشور الحبحب فتجد واحدًا منا يقول: هذا يحرمه الشرع، الشرع كله، هذا حرام في الشرع، سبحان الله! يمكن هذا الرجل لو تبحث معه في أدنى مسألة ما يعرفها ويقول: هذا حرام في الشرع، وهو من المسائل الاجتهادية، وقد يكون الصواب أنه ليس بحرام، ثم يضاف إلى الشرع كله من شخص ليس أهل للاجتهاد، هذا مشكل، لكن لو سألك سائل: ما تقول في الميتة؟ تقدر تقول: حرام؟ ما تقول في الميتة؟
* طلبة: حرام.
* الشيخ: حرام، أقدر أقول هذا؛ لأن هكذا في القرآن، إذن يجب على الإنسان أن يتحرز، كثيرًا ما يلجئنا بعض الناس، تكون المسألة عندنا ما هي واضحة في التحريم ثم نقول: لا تفعل، ثم يقول: هو حرام؟ يصر ولكننا نصر على أن نقول: لا تفعل هكذا، ويكفينا هذا يا إخوان، يكفينا حجة عند الله عز وجل: لا تفعل، فإذا أصر هو حرام ولَّا غير حرام؟ نقول: لا تفعل بس؛ لأن بعض الناس يلجئك، يعني: معناه إن كان حرامًا ما نفعل، وإن كان غير حرام أريد أن أفعله ولو أنه فيه شبهة، هذا معنى كلامه، وهذا إلجاء واضطرار، فلا يلزم أن نقول: حرام، إذا لم يتبين لي لا يلزمني.بل إن بعض الناس -سبحان الله- ناس فيهم جدل أقول له: نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول لي: لكن النهي للتحريم؟ سبحان الله! نهى عنه الرسول اتركه، أنت ملزم به إذا نهى عنه النبي ﷺ، خلاص انتهِ عنه، إن كان للتحريم فقد سلمت من إثمه، وإن كان لكراهة فقد رجعت بفضله؛ لأن ترك المكروه يعتبر من الزهد؛ إذ إن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يضر، أيهما أعلى؟
* طالب: الورع.
* الشيخ: الورع، التقليد الأعمى لا يفيد.
* طالب: الزهد.
* الشيخ: الزهد، استمعوا للتعريف: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يضر في الآخرة، الزهد أعلى؛ لأن بين ما لا ينفع وبين ما يضر مرتبة، اللي ما فيه لا نفع ولا ضرر الزاهد يتركه، الزاهد يترك من أمر الدنيا ما ليس فيه نفع ولا ضرر، الورع لا يترك إلا الحرام، إذن طبقة التارك للمكروه أعلى من طبقة التاركين للحرام؛ لأن ترك الحرام من باب الورع، وترك المكروه من باب الزهد.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات اسمين من أسماء الله، هما: العلم، والحكمة؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.
* طالب: العلم والحكمة؟
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: صفات هذه.
* الشيخ: (...) في الآية الكريمة من أسماء الله تعالى: العليم والحكيم، صح، العليم والحكيم ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.
* ومن فوائدها اللغوية: أن (كان) قد تسلب دلالتها على الزمان؛ لأنها لو دلت على الزمان ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ لو دلت على الزمان لكان الرب عز وجل الآن ليس عليمًا ولا حكيمًا، (كان)، لكنها أحيانًا تسلب دلالتها على الزمان ويكون مدلولها مجرد الحدث أو مجرد الوصف إذا كان صفة، ولهذا قال بعض السلف -وأظنه ابن عباس- «قال: إن الله كان غفورًا رحيمًا ولم يزل غفورًا رحيمًا»(١٦)، خوفًا من هذا الوهم أن (كان) لأيش؟ للماضي، ولهذا لو سئلت عن رجل: فلان هل كان غنيًّا؟ تقول: كان غنيًّا، المعنى؟
* طلبة: (...).
* الشيخ: وأما الآن ففقير.تسأل عن طالب: هل هو مجتهد؟ فتقول: كان مجتهدًا، والآن؟
* طلبة: (...).
* الشيخ: تسأل: هل ينام في الدرس؟ فتقول: كان لا ينام في الدرس، والآن؟
* طلبة: ينام.
* الشيخ: الآن ينام، فعلى كل حال (كان) في الأصل تدل على زمن مضى، لكنها أحيانًا تسلب دلالتها على الزمان فتكون لمجرد الوصف بخبرها.
* من فوائد الآية الكريمة: أنها تستلزم التسليم التام لقضاء الله الكوني والشرعي، من أين؟ إذا آمنت بأن الله عليم حكيم فسأطمئن وأعلم أنه ما قضى قضاء شرعيًّا إلا والحكمة تقتضيه، ولا قضى قضاء كونيًّا إلا والحكمة تقتضيه، فيسلم الإنسان لربه عز وجل تسليمًا تامًّا وينشرح صدره بقضائه وقدره، وينشرح صدره بشرعه وحكمه، ولا يبقى عنده أي تردد.ولهذا انظر للصحابة كيف كان قبولهم للشرع، لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء:
«يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ»(١٧)، ماذا فلعن؟ بدأت الواحدة تأخذ فرصة، تأخذ خاتمها، تأخذ صوارها، وتقول: يلا يا بلال أعطنا ثوبك، فجعلن يلقين ذلك في ثوب بلال، حليها اللي تتجمل بها لزوجها تخلعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهن أن يتصدقن، امتثال غريب!
«والرجل الذي نزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتمه من أصبعه وهو ذهب -والذهب حرام على الرجال- وطرحه رمى به، قيل للرجل: خذ، قال لا آخذ خاتمًا طرحه النبي ﷺ،»(١٨) امتثال عجيب!
لما قال للصحابة بعد رجوعه من الأحزاب:
«لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، اليهود لأجل قتالهم؛ لأنهم نقضوا العهد، هل تأخروا؟ أبدًا، شدوا رحالهم ومشوا، ما قالوا: والله إحنا تعبانين، لعل الأسبوع هذا يكون راحة، مشوا، وماذا فعلوا؟ بعضهم أخذ بظاهر اللفظ قال: ما أصلي العصر إلا في بني قريظة ولو في نصف الليل، وصاروا حتى وصلوا بني قريظة وصلوا، والآخرون قالوا: لا، إنما قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نبادر ما قصد أن نؤخر الصلاة، وقالوا: عندنا نصان أحدهما متشابه والثاني محكم، ما هو المتشابه؟
«لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»(١٩)، فهذا يحتمل أن المعنى تأخير الصلاة أو المعنى تعجيل السير والمشي، لكن وجوب الصلاة في وقتها
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء ١٠٣] محكم، فيجب أن نرد المتشابه إلى المحكم ونصلي الصلوات في وقتها وإن لم نصل إلى بني قريظة. (...)
* طالب: ﴿تَسَّاءَلُونَ﴾ .
* الشيخ: ﴿تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ . ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ فيها قراءة ثانية؟
* طالب: ﴿وَالْأَرْحَامِ﴾ .
* الشيخ: ﴿وَالْأَرْحَامِ﴾ بالجر؟
* طالب: بالجر.
* الشيخ: أحسنت، بارك الله فيك.ما معنى تقوى الأرحام:
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ على قراءة النصب؟
* طالب: يعني الرحم (...).
* الشيخ: لا، معنى اتقائها؟
* الطالب: ألا تقطعوهم يعني (...) ولا تقطعوهم.
* الشيخ: أحسنت، تمام.اقرأ (...).
﴿السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ فيها قراءتان ما هما؟
* طالب: بتحقيق الهمزتين على القراءة الأولى، والقراءة الثانية (...).
* الشيخ: القراءة الأولى بتحقيق الهمزتين ﴿السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ والثانية بحذف إحداهما ﴿السُّفَهَا أَمْوَالَكُمُ﴾ .
* الشيخ: ﴿قِيَامًا﴾ فيها قراءتان؟
* طالب: ﴿قِيَمَا﴾ .
* الشيخ: ﴿قِيَمَا﴾ .لماذا أضاف الأموال
﴿أَمْوَالَكُمُ﴾؟ هل يريد أموال اليتامى أو أموال نفس الأولياء؟
* طالب: أموال اليتامى.
* الشيخ: لماذا أضافها إلى الأولياء؟
* الطالب: لأنهم هم القائمون على رعايتها.
* الشيخ: ولكن هي لهم ولَّا لليتامى؟
* الطالب: الأولياء؛ أولياء اليتامى.
* الشيخ: ولكن هل هي الأموال لليتامى أو لأوليائهم؟
* الطالب: لليتامى.
* الشيخ: لماذا أضافها إليهم ﴿أَمْوَالَكُمُ﴾؟
* الطالب: لأنهم هم القائمون على رعايتها وتنميتها.
* الشيخ: ولأنه يجب أن يحافظوا عليها كما يحافظون على أموالهم.ما معنى قوله:
﴿قِيَامًا﴾؟
* الطالب: لأن (...) بها قوام الإنسان.
* الشيخ: تقوم بها مصالح الدين والدنيا، أحسنت.قوله:
﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾ يشير إلى شيء، يعني في الآية الثانية قال:
﴿ارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾؟
* طالب: أي: يرزقوهم ليس منها؛ لأنه لو قال: منها كان تنقص، لكن (فيها) يعني ينموها ويرزقهم منها.
* الشيخ: إشارة إلى أنهم يتجرون فيها، ويكون الرزق فيها لا منها.(...) قاعدة أبطلت حكمًا جاهليًّا جائرًا، فما هو؟
* طالب: يفرق بين النساء والرجال.
* الشيخ: كيف؟ ما هو الحكم الجائر في الجاهلية الذي أبطله الله بهذه الآية؟
* الطالب: كانوا يتساوون الرجال والنساء.
* الشيخ: لا.
* طالب: كان في الجاهلية المرأة عبارة عن متاع يورث ولا ترث منهم (...).
* الشيخ: كانوا لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال.هل تشير الآية إلى أن الآباء والأمهات لا يمكن سقوطهم بخلاف الأقارب؟
* طالب: صحيح أنه ذكر النصيب.
* الشيخ: ﴿نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ هل تشير الآية إلى أن الأولاد لا يمكن سقوطهم بخلاف الأقارب؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: لأن الأولاد (...) ما قال (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: ﴿لِلرِّجَالِ﴾.
* الشيخ: لا.
* طالب: ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾.
* الشيخ: لا.
* طالب: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾.
* طالب آخر: قوله: ﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ والوالدان يشمل أن الأولاد لا يسقطون..
* الشيخ: نعم، أما الأقارب قال: ﴿وَالْأَقْرَبُونَ﴾ معناها: القريب الذي ليس بأقرب ليس له نصيب يسقط، وقد بينا في باب الحجب أن من يرث مباشرة بلا واسطة فلا يمكن أن يسقط.(...)
﴿فَلَهَا النِّصْفُ﴾ قراءتان؟
﴿وَاحِدَةً﴾ فيها قراءتان؟
* طالب: ﴿وَاحِدَةٌ﴾ .
* الشيخ: ﴿وَاحِدَةٌ﴾ بالرفع.ما وجه الإعراب في القراءتين؟
* الطالب: خبر (كان).
* الشيخ: على النصب.
* الطالب: على النصب خبر (كان).
* الشيخ: وعلى الرفع؟
* الطالب: اسم (كان) مقدم.
* الشيخ: وين خبرها؟
* الطالب: مؤخر.
* الشيخ: وين؟ خبرها مؤخر؟
* الطالب: شيخ، تكون فاعل.. على الرفع اسم (...).
* الشيخ: وين خبرها؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا، ما يصلح فعلها جواب الشرط.
* الطالب: مقدر.
* الشيخ: مقدر، أو محذوف؟
* الطالب: محذوف.
* الشيخ: محذوف دل عليه ما قبله وما بعده أو أحدهما؟
* الطالب: مستتر.
* الشيخ: كيف مستتر وهي مرفوع؟ الخبر ما يمكن يستتر أبدًا.
* طالب: على الرفع (كان) تامة.
* الشيخ: أحسنت، على الرفع تكون (كان) تامة، قال ابن مالك:
.................... ∗∗∗ وَذُو تَمَامٍ مَا بِرَفْعٍ يَكْتَفِي
فلا يكون له شيء، ولعلنا نرجع الفوائد حتى نأخذها مرة واحدة أحسن.
﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ [النساء ١٢]
﴿أَزْوَاجُكُمْ﴾ الأزواج لا يمكن أن يصدق على المرأة أنها زوج إلا إذا تمت شروط النكاح، وعلى هذا فلا بد من عقد الزوجية الصحيح، فإن كان العقد غير صحيح فلا إرث، والعقد غير الصحيح يشمل الفاسد والباطل، فالأنكحة عند العلماء ثلاثة أقسام: صحيح، وباطل، وفاسد، فما أجمع العلماء على صحته فهو صحيح، وما أجمعوا على بطلانه فهو باطل، وما اختلفوا فيه فهو فاسد، هكذا يقرر العلماء أن النكاح ثلاثة أقسام: صحيح وهو ما اجتمعت شروطه وانتفت موانعه، وإن شئت فقل: ما أجمع العلماء على صحته، وباطل وهو ما أجمعوا على فساده، وفاسد وهو ما اختلفوا في صحته.
مثال الأول: أن يتزوج إنسان المرأة بعقد صحيح خالٍ من الموانع، ومثال الثاني الباطل: أن يعقد على امرأة فيتبين أنها أخته من الرضاعة، فهنا العقد باطل لإجماع العلماء على فساده، أو يتزوج امرأة في عدتها فإن العلماء مجمعون على فساد العقد، ومثال الثالث: أن يتزوج امرأة بلا شهود أو بشهود من الأصول أو الفروع، أو بلا ولي، أو يتزوج امرأة رضعت من أمه ثلاث رضعات، كل هذه الأنواع مختلف فيها.
فمثلًا من رضعت من أمه ثلاث رضعات فهي عند كثير من العلماء أو أكثر العلماء تحل له، لماذا؟ لأن الرضاع المحرم خمس، وعند بعض العلماء المحرم ثلاثة؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
«لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ»(٢٠)، فمفهومه ما زاد عليهما محرم، فعلى هذا الرأي يكون النكاح؟ يكون باطلًا، يعني فاسدًا.
وإذا تزوج امرأة رضعت من أمه واحدة فالنكاح أيضًا فاسد، لكن فساده أقرب من فساد من يقول بالثلاث؛ لأن القول بأن الرضاعة مطلقًا محرم هو قول أهل الظاهر، وهو قول ضعيف.
المهم النكاح الفاسد لا توارث بين الزوجين فيه، والنكاح الباطل كذلك لا توارث، والنكاح الصحيح -وهو الذي أجمع العلماء على صحته لتمام شروطه وانتفاء موانعه- هذا هو الذي يحصل به الإرث، وهو مستفاد من قوله:
﴿مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾.
﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ هذا شرط عدمي، ووجه كونه شرطًا عدميًّا دخول النفي على مضمونه، والنفي عدم ولَّا وجود؟
* طلبة: عدم.
* الشيخ: النفي عدم فيشترط لإرث الزوج نصف ما تركت زوجته شرط عدمي وهو ألا يكون لها ولد، وقوله: ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ يشمل الواحد والمتعدد والذكر والأنثى؛ لأن كلمة (ولد) بمعنى المولود وهو صالح للذكر والأنثى، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فدل هذا على أن الأولاد والولد يشمل الذكور والإناث.﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾ هذا تصريح بالمفهوم من قوله:
﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ فمفهومه إن كان لهن ولد فالحكم يختلف، يعني لا يكون لكم النصف، ما الذي يكون؟ بينه في قوله:
﴿فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾.
فإن قال قائل: ما الحكمة في أنه مع الأولاد يكون للزوج الربع ومع عدمهم يكون له النصف؟ نقول: لأنه إذا كان لها أولاد فإن أولادها محتاجون إلى الإنفاق عليهم؛ فلذلك توفر لهم من المال ثلاثة أرباع، بخلاف إذا لم يكن لها ولد.
وعموم قوله:
﴿وَلَدٌ﴾ قلنا: يشمل الذكر والأنثى والواحد والمتعدد، ومن كانوا من زوجها ومن كانوا من غير زوجها، كما لو ماتت ولها أولاد من زوج سابق فليس لزوجها إلا الربع.
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا﴾ ويشترط للوصية التي تقدم على الإرث أن تكون وصية مشروعة، وذلك بأن تكون من الثلث فأقل، لأيش؟ لغير وارث، وأن تكون وصية تامة الشروط، فإن اختل شرط منها فبطلت فلا عبرة بها، فلو أوصت المرأة بشيء من مالها يصرف على أهل العزف والغناء فالوصية باطلة لا عبرة بها، وذلك أن لدينا قاعدة مهمة: أن الألفاظ الشرعية تحمل على المعنى المعتبر شرعًا، فعليه نقول: الوصية هي المعتبرة شرعًا، بحيث تكون من الثلث فأقل لغير وارث، وبالشروط المعروفة عند أهل العلم، وستأتينا إن شاء الله في الفقه.
وقوله:
﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ (أو) هنا مانعة خلو وليست مانعة إشتراك، ليست مانعة انفراد بل هي مانعة خلو، والفرق بينهما أن (أو) التي هي مانعة الخلو، يعني أنه يشترط ألا يخلو واحد من هذين الأمرين وإن اجتمعا فهو أولى، والثاني التي تمنع الاشتراك هي التي يكون الحكم فيها لأحد الأمرين.
فإذا قلت: أكرم زيدًا أو عمرًا، وأنا أريد أن تكرم أحدهما، فهذه مانعة اشتراك، وإذا قلت: أكرم زيدًا أو عمرًا، بمعنى أني جعلت لك الخيار، فهذه يسمونها مانعة خلو، بمعنى أنه لا يخلو الحال من إكرام أحد الرجلين، وإكرام أحدهما من باب أولى.
فهنا (أو) هنا من باب خلو أو مانعة اشتراك؟ مانعة خلو، بمعنى أنه قد يجتمع الدين والوصية وقد ينفرد أحدهما، فالإرث لا يكون إلا بعد الوصية والدين، ولكن الوصية -كما علمتم- تكون من الثلث فأقل، والدين قد يستغرق جميع المال، فإن استغرق الدين جميع المال فلا حق للورثة، صح؟ يعني لو كان عليه ألف درهم وخلف ألف درهم، فهنا لا شيء للورثة؛ لأننا إذا قضينا الدين بألف لم يبق للورثة شيء، ولو أوصت المرأة بألف وتركت ألفًا فقط لم يبق للورثة شيء؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: لماذا؟ لأنها لا تملك الوصية إلا بالثلث فأقل.في هذه الآية قدم الله تعالى الوصية على الدين وقد سبق في الآية الأولى كذلك، وبين العلماء رحمهم الله الحكمة من هذا بأن الوصية تبرع والدين واجب، فقدمت الوصية لجبر نقصها لكونها تبرعًا على الواجب، هذا وجه.
والوجه الثاني: أن الدين له من يطالب به بخلاف الوصية فإنها تبرع، ولو شاء الورثة أن يجحدوها لجحدوها، فقدمت اهتمامًا بها واعتناء بها.
﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ يقال في هذه الجمل ما قيل فيما قبلها، والحكمة من أن الله فرق بين الرجال والنساء، فجعل للأنثى نصف مال الرجل؛ لأن هذه هي القاعدة في الفرائض: أن الرجل والأنثى إذا كانا من جنس واحد فهما على التفريق، يعني يكون للرجل نصف مال الأنثى، إلا من ورث بالرحم المجردة فإنه يستوي فيه الذكر والأنثى.
مثل أولاد الأم فإن ذكورهم وإناثهم سواء، ومثل ذوي الأرحام -على المشهور من المذهب- فإن ذكرهم وأنثاهم سواء، فابن الأخت وبنت الأخت المال بينهما بالسوية، وسيأتي -إن شاء الله- ذكر الخلاف فيه، وأن الصحيح أن ميراث ذوي الأرحام مبني على إرث من يدلون به، فإن أدلوا بمن تختلف فيه الذكورة والأنوثة فهم كذلك.
* طالب: نصف ما للرجل، أن يكون للرجل نصف (...)؟
* الشيخ: هنا للأنثى نصف مال الرجل، وللرجل الضعف.ثم قال:
﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ قوله:
﴿إِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ﴾ يحتمل أن تكون (كان) هنا ناقصة ويكون جملة
﴿يُورَثُ﴾ خبر (كان)، ويحتمل أن تكون تامة و
﴿رَجُلٌ﴾ فاعل، و
﴿يُورَثُ﴾ صفة لـ
﴿رَجُلٌ﴾، وهذا أقرب؛ لأن التقدير: وإن وجد رجل يورث كلالة.
وقوله:
﴿كَلَالَةً﴾ هذه مفعول مطلق، ودليل أنها مفعول مطلق أنه يصح أن يقدر قبلها المصدر، والتقدير: يورث إرث كلالة، فعليه تكون هي مفعول مطلق، وإرث الكلالة أن يرث من دون الأصول والفروع، يعني أن يكون الوارث من غير الأصول والفروع؛ لأنه كالإكليل الذي يحيط بالشيء، فهم الحواشي، يعني من كان ورثته حواشي وهو من لا يرثه فرع ولا أصل، ولهذا جاء عن السلف: أن الكلالة من ليس له ولد ولا والد، يعني يرثه الحواشي، فالموروث كلالة هو الذي لا يرثه إلا الحواشي، هكذا؟
* طالب: إي نعم.
* الشيخ: مثل رجل مات عن إخوة نسمي هذه: كلالة، عن أعمام: كلالة، عن بني إخوة: كلالة، عن بني أعمام: كلالة، فكل من يرث بلا فرع ولا أصل فهو كلالة.وقوله:
﴿أَوِ امْرَأَةٌ﴾ معطوفة على
﴿رَجُلٌ﴾، ولكن كلمة
﴿امْرَأَةٌ﴾ هل نقول: معطوفة على
﴿رَجُلٌ﴾ بصفته أو على
﴿رَجُلٌ﴾ بلا صفته؟ بصفته، يعني: أو امرأة تورث كلالة.
وقد اتفق النحويون وكذلك الأصوليون على أن الوصف إذا تعقب جملًا عاد على الكل، إذا تعقب جملًا فإنه يعود إلى الكل، مثل أن أقول: أكرم زيدًا وعمرًا وبكرًا وخالدًا إن اجتهدوا في الدراسة، يعود على الكل، وأما إذا انفرد وتقدم: أكرم زيدًا وعمرًا وخالدًا إن اجتهدوا وبكرًا، فقد اختلفوا هل يكون (بكرًا) إكرامه مطلقًا أو يكون موصوفًا بما سبق؟ على قولين في هذه المسألة، والصحيح أنه يرجع في هذا إلى القرائن.
والقرائن هنا دلت على أن
﴿امْرَأَةٌ﴾ معطوفة على
﴿رَجُلٌ﴾ باعتباره موصوفًا بكونه يورث كلالة.
﴿أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ ﴿وَلَهُ﴾ الضمير يعود إلى الرجل الذي يورث كلالة وكذلك المرأة، ولم يقل: ولهما أخ أو أخت، اعتبارًا بالوصف الأول الذي هو الرجل.
وقوله:
﴿أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ هنا مطلق يشمل الشقيق أو لأب أو لأم، ولكن العلماء أجمعوا على أن المراد: له أخ من أم أو أخت من أم، وقد وردت فيها قراءة عن بعض السلف: (وَلَهُ أَخٌ مِنْ أُمٍّ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ)، وهذا ظاهر جدًّا حتى وإن لم ترد القراءة هذه؛ فإن الإخوة الأشقاء لأب قد ذكر الله حكمهم في آخر السورة:
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ﴾ [النساء ١٧٦] إلى آخره.
﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي: أكثر من واحد،
﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ إذا كانوا اثنين؟ فهم شركاء في الثلث، إذا كانوا ثلاثة؟ فهم شركاء في الثلث، أربعة؟ شركاء في الثلث، أخ وأخت؟ شركاء في الثلث، وهنا لا يفضل الأخ على الأخت؛ لأن الله قال:
﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ﴾، ومقتضى الشركة عند الإطلاق المساواة أو التسوية.
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا﴾ نقول فيها ما سبق من أن هذه الوصية وصية شرعية في حدود ما أذن فيه الشرع، وقوله:
﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ يعني: أو من بعد دين، و(أو) هنا بمعنى خلو كما سبق، لكن هنا قال:
﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ يعني: بشرط ألا يكون المقصود بالوصية المضارة، فإن ثبت أن المقصود بها المضارة فهي لاغية، كما لو علمنا أن هذا الميت الذي ليس له إلا إخوة من أم أنه أوصى بالثلث من أجل أن يضيق على الإخوة، فهذه وصية ضرار فلا تنفذ؛ لأن الله اشترط في الوصية النافذة أن تكون غير مضار بها.
وكذلك لو فرض أن المريض استحمق وتدين دينًا يضر بالورثة يستغرق جميع ماله، فإنه في هذه الصورة ينظر فيه، ينظر فيه إذا كان قد ضار به فإن الضرر ممنوع شرعًا.
ثم قال:
﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾ ﴿وَصِيَّةً﴾ مفعول مطلق عامله محذوف وجوبًا؛ لأن المقصود بها هنا الإلزام، والوصية بمعنى العهد المؤكد.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ عليم بما يصلح عباده، حليم بمن عصاه فلا يعاجله بالعقوبة، والفائدة من ختم هذه الآية الطويلة التي اشتملت على إرث الزوجين والإخوة من الأم بالعلم والحلم: أنه قد تكون الوصية مضارًّا بها ولا يعجل الله للإنسان بالعقوبة؛ فلهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين: العلم، والحلم.
* نرجع الآن إلى فوائد الآية الكريمة وهي كثيرة، فمنها:
* أولًا: أن الإرث ملك قهري لا اختيار للإنسان فيه، دليله ﴿وَلَكُمْ﴾، أن الله ملكنا إياه وأثبته حكمًا شرعيًّا، فلو قال الزوج: أنا لا أريد نصيبي من زوجتي، قلنا له: لا، هو داخل في ملكك قهرًا لا خيار لك فيه، فإن قال: أريد أن أتفضل به لها في مشروع خيري أو إن كان لها أولاد أتفضل به على أولادها، قلنا له: هذه ابتداء عطية.وبناء على ذلك: لو كان عليه دين يحتاج أن يبذل هذا المال الذي ورثه فإن تبرعه بهذا المال غير نافذ، وهذه الفائدة من قولنا: إنه ملك قهري.
* يتفرع على هذا أيضًا: لو كان الموروث شقصًا من أرض مشتركة فهل للشريك أن يشفع؟ أما فهمتم السؤال؟ ما فهمتوها، المرأة لها نصف أرض ونصف الأرض الثاني لرجل آخر أجنبي، فماتت فورث ورثتها نصيبها من هذه الأرض وهو النصف، فهل للشريك أن يشفع؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: لا، لماذا؟ لأنه ملك قهري، لكن لو أنها باعت هي نصيبها في حياتها فللشريك أن يشفع.
* من فوائد هذه الآية الكريمة أيضًا: أنه يشترط في الميراث أن يكون الوارث حرًّا، من أين يؤخذ؟ من (اللام) التي هي للتمليك، والعبد لا يملك، فلو كان زوج الحرة عبدًا فإنها إذا ماتت لا يرث منها شيئًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا لَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ»(٢١).
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الميراث يشمل الأعيان والديون والحقوق، الأعيان كالدراهم والنقود والعقارات، والديون التي في ذمم الناس، والثالث الحقوق كحق الشفعة وحق الانتفاع بالكلب المباح نفعه وحق الانتفاع بالسرجين النجس، وحق الانتفاع بالدهن النجس -إذا قلنا بجواز الانتفاع به- وما أشبه ذلك. المهم أن قوله: ﴿مَا تَرَكَ﴾ عام يشمل الجميع: الأعيان، والديون، والحقوق.
* من فوائد الآية الكريمة أيضًا: ثبوت الزوجية؛ لقوله: ﴿أَزْوَاجُكُمْ﴾، ولا تثبت الزوجية إلا بعقد صحيح.
* من فوائد الآية الكريمة: ثبوت الإرث ولو ماتت قبل الدخول، كيف ذلك؟ لأنها تكون زوجة بمجرد العقد سواء حصل دخول أم لم يحصل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الزوجة إذا بانت فلا توارث، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿أَزْوَاجُكُمْ﴾؛ لأنها إذا بانت لم تكن زوجة، فلو طلقها وانتهت عدتها ثم ماتت فلا ميراث له منها؛ لأنها صارت أجنبية منه، ولو طلقها طلاقًا بائنًا وماتت في العدة فلا ميراث له منها، لماذا؟ لأنها لما بانت منه لم تكن زوجة، بدليل أنها لا تحل له إلا بعقد جديد أو بعد زوج إن كانت البينونة كبرى.استثنى العلماء من ذلك مسألة وهي ما إذا أبانها في مرض موته المخوف متهمًا بقصد حرمانها، أربعة شروط: إذا أبانها في مرض موته المخوف متهمًا بقصد حرمانها، قالوا: فإنها إذا كان الأمر كذلك ترثه ولو انتهت العدة ما لم تتزوج أو تأت بمنافٍ للزوجية كالردة (...).
إلى البينونة متى بانت منه بطلاق ثلاث أو بتمام العدة انقطع التوارث إلا في حال واحدة في البينونة وهي ما إذا أبانها في مرض موته المخوف متهمًا بقصد حرمانها، ثلاثة شروط: مرض موت، مخوف، متهمًا بقصد الحرمان، بل أربعة شروط: مرض، وموت، مخوف، متهمًا بقصد الحرمان، إذا تمت الشروط الأربعة فإنها ترث منه، فإن طلقها في الصحة طلاقًا بائنًا ثم مات قبل انقضاء العدة؟
* طلبة: فإنها لا ترث.
* الشيخ: فإنها لا ترث؛ لأنه طلقها في الصحة، وإن طلقها في مرض مخوف ثم عوفي منه ثم حصل عليه حادث فمات ترث؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: لا ترث؛ لأنه لم يمت بالمرض، وإن طلقها في مرض لكنه مرض ليس بمخوف وبعد ذلك ازداد به المرض حتى مات فإنها لا ترث.وإن طلقها في مرض موته المخوف بطلبها فإنها لا ترث، لماذا؟ لأنه ليس متهمًا بقصد حرمانها.
إذن ينقطع التوارث بين الزوجين بالبينونة إلا فيما إذا طلقها في مرض موته المخوف متهمًا.
* طالب: ما لم تتزوج أو..؟
* الشيخ: نعم، وإذا ورثت منه في هذه الحال فإنها يمتد إرثها إلى أن تتزوج أو ترتد، يعني إذا ورثت في حال البينونة على الشروط اللي ذكرنا فإنها ترث ما لم تتزوج أو ترتد.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن للزوج النصف بشرط عدمي وهو عدم الولد؛ لقوله: ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾.
* ومن فوائدها: أنه لا فرق بين أن يكون الولد واحدًا أو متعددًا، ذكرًا أم أنثى، وجه الدلالة في هذه الآية: لأن كلمة ﴿وَلَدٌ﴾ نكرة في سياق النفي فتشمل.وهل ولد الولد كالولد؟ الجواب: نعم، فلو كان لها ابن بنت فليس للزوج النصف؛ لأن أولاد الأبناء كأولاد الصلب.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: عناية الله سبحانه وتعالى بالمواريث حيث جاءت الآيات على هذا التفصيل؛ لقوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المورايث مبنية على الحكمة، ووجهه: أنه إذا لم يكن للزوجة ولد فللزوج النصف، ومع الولد الربع ليتوفر المال لمن؟ للولد.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن لا ميراث إلا بعد الدين والوصية؛ لقوله: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾.
* ومن فوائدها: أن الزوجة حرة في التصرف بمالها؛ لقوله: ﴿يُوصِينَ بِهَا﴾، فأضاف الفعل إليها، إذا كانت لا تتصرف إلا بإذن الزوج فلربما منعها الزوج من الوصية ذلك يضره.وينبني على هذه الفائدة أمثلة: لو مات الميت وخلَّف ألفًا وعليه ألف دينًا فهل للورثة شيء؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: لا، لأن الدين مقدم على الميراث، لكن كيف تكون الوصية مقدمة على الميراث؟ كيف ذلك مع أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث؟ يتضح هذا بالمثال، فلو هلك هالك عن زوج وأخت شقيقة كان للزوج النصف؛ لعدم الفرع الوارث، وللشقيقة النصف؛ لتمام شروط إرثها النصف، وإذا قدرنا أن المال ستون ألفًا صار للزوج ثلاثون ألفًا وللأخت ثلاثون ألفًا.فإذا كانت المرأة المتوفاة قد أوصت بالثلث اختلف الحال، قلنا: للوصية الثلث، كم؟ عشرون ألفًا، وللزوج نصف الباقي (...)، وللأخت الشقيقة كذلك النصف عشرون ألفًا.
فأنت ترى الآن: أن الوصية أعطيناها الحق كاملًا، كم أخذ الموصى له؟ الثلث عشرين، وتجد أن الميراث بدل أن كان للزوج النصف لم يكن له الآن إلا الثلث، وكذلك الأخت الشقيقة، أعرفتم الآن؟ فتبين الآن أن الوصية مقدمة على الميراث.
لو قدرنا أن الوصية كالميراث لاختلف الحكم، لقلنا: عندنا ثلث زائد على الكل، فتكون المسألة من تسعة، للوصية كم؟ ثلاثة، وللزوج ثلاثة، وللأخت ثلاثة.
ولكن الظاهر أننا أخطأنا، نقول: المسألة (...) النصف ثلاثة، وللأخت الشقيقة النصف ثلاثة، وللثلث اثنان تعول إلى ثمانية، فيكون نصيب الثلث الآن ربعًا، أليس كذلك؟ مع أنا أعطيناه حسب القسمة الأولى أعطيناه ثلثًا كاملًا، واضح؟
إذا قدرنا أن الوصية تقدم على الميراث وأوصى بالثلث الميت وهو أنثى في المثال الذي ذكرنا، وكان زوج وأخت شقيقة، فإذا قلنا بتقديم الثلث أعطينا الموصى له والتركة ستون ألفًا أعطينا الموصى له عشرين ألفًا، وبقي أربعون ألفًا، نعطي الزوج عشرين ألفُا والشقيقة عشرين ألفًا، حقيقة العشرين ألفًا اللي هي النصف حقيقتها الآن (...)، إذن نقص حق الزوج ونقص حق الأخت الشقيقة، والوصية هل نقصت أو لا؟ لم تنقص، أعطي الموصى له ثلثه كاملًا، وثلثه الآن يساوي النصف.
ولو قلنا بأن الوصية لا تقدم لكانت المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة، وللأخت الشقيقة النصف ثلاثة، وللوصية الثلث اثنان تعول إلى ثمانية، يكون نصيب الوصية الآن كم؟ (...) كما أن نصيب الزوج ربع ثمن، ونصيب الأخت ربع ثمن.
فالحاصل الآن إن تبين أن الوصية (...) الميراث؛ لأن الموصى له يعطى سهمه كاملًا، ثم يقسم الباقي على الورثة على حسب (...) عرفتم أنه مقدم على الميراث، وهو واضح.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الحكمة في توزيع الميراث، حيث جعل للأنثى (...) من جنس الذكر نصف ما للذكر وذلك في ذكر ميراث من؟ ميراث الزوجات.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان العدل في الدين الإسلامي؛ حيث لم يهضم المرأة حقها من الميراث خلافًا لما كانوا في الجاهلية يفعلونه، حيث يحرمونها من الميراث، ويظهر العدل (...) بكونه ذكرًا أو عبَّر عن ميراث الزوجة بمثل ما عبَّر به عن ميراث الزوج.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه إذا (...) الحديث عن النساء والرجال، فإن الحكمة أن يقدم الحديث عن الرجال؛ لأنه بدأ بميراث الأزواج قبل ميراث الزوجات، وهذا هو الموافق للفطرة، خلافًا لمن حرف الله فطرته وغير سليقته فصار يقدم النساء على الرجال في الذكر.ففي الإذاعات الغربية وإذاعة من قلدوها يقولون: أيها السيدات والسادة، وأخذت من ذلك من يكتب في الحمام: حمام للسيدات، وإلى جنبه: حمام للرجال، ولا يقول: للسادة، يعني بدل ما كانت الأنثى تطالب بحقها الآن نحن نطالب بحقنا، حيث يجعل النساء سيدات، والرجال بوصف الرجولة فقط لا بوصف السيادة.
وكل هذا مما يدل على ضعف الشخصية، كما قاله الحكيم المؤرخ ابن خلدون في مقدمته -التي كلها فلسفة كما يقولون، حتى إن بعض العلماء أنكر أن تكون له؛ لأنها فوق مستواه، عظيمة جدًا- يقول: عادة الأمم أن الأمة الضعيفة تقلد الأمة القوية ولو بالباطل، ونحن الآن استضعفنا أنفسنا وصرنا نقلد من قَلَبَ الله فطرته وسلبهم الدين في مثل هذه الأمور، نسأل الله أن يحمينا وإياكم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن ميراث الإخوة من الأم (...) الثلث إن كانوا اثنين فأكثر، أو السدس إن كانوا واحدًا فأقل، إذا قال: اثنين فأكثر، أو السدس إن كانوا واحدًا فأقل، ما فيه أقل من واحد؟
* طالب: الخنثى المشكل.
* الشيخ: الخنثى المشكل، الميراث سواء؛ لأن ميراث الإخوة من الأم يستوي فيهم الذكور والإناث، لكن لو فرض أنه مبعض، إذا كان مبعضًا فإنه لا يرث السدس، وعلى هذا فقولنا: السدس للواحد فأقل لا يستقيم أبدًا، (...) السدس وللجماعة اثنين فأكثر الثلث.
* ومن فوائدها: أنه يشترط لإرث الإخوة من الأم أن يكون الإرث كلالة، أي ليس فيه فروع ولا أصول ذكور لا والد ولا ولد، أما الأصول الإناث فإن الإخوة من الأم يرثون معهم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: التسوية بين الذكور والإناث في إرث الإخوة من الأم، يؤخذ من قوله: ﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾، وأصل الشركة يقتضي التسوية كما أن البينية للتسوية.فإذا قلت لرجلين: هذه مئة درهم بينكما، فلكل واحد خمسون، وكذلك لما قال الله عز وجل في إرث الإخوة من الأم:
﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ ولم يذكر تفضيل الذكر على الأنثى دل ذلك على أنهم سواء.
وهل يشاركهم غيرهم في التسوية بين الذكر والأنثى؟ الجواب: لا، إلا لعارض، مثل أن يهلك هالك عن بنتين وأبوين: أم وأب، فهنا يستوي الأب والأم؛ لأن البنتين تأخذان الثلثين، وللأم السدس، وللأب السدس، لكن هذه التسوية لأمر عارض؛ لأنه لم يبق شيء بعد الفروض حتى يأخذه الأب.
ثانيًا: يرى بعض العلماء أن ذوي الأرحام لا يفرق بين ذكرهم وأنثاهم، (...) مات ميت عن ابن أخت شقيقة وبنت أخت شقيقة فلهما ميراث أمهما بالسوية.
والصحيح في هذه المسألة أنهم -أي ذوي الأرحام- إن أدلوا بما يفضل ذكرهم على أنثاهم، فضل ذكرهم على أنثاهم، وإن أدلوا بما لا يفضل ذكرهم على أنثاهم لم يفضل ذكرهم على أنثاهم.
مثال ذلك: ابن أخت الشقيقة وبنت أخت الشقيقة، الإخوة الأشقاء قاعدة الفرائض: أن يفضل الذكر على الأنثى (...)، فنقول في هذا المثال (...) شقيقة وبنت أخت شقيقة للذكر مثل حظ الأنثيين.
وفي ابن أخ من أم وبنت أخ من أم نقول: الميراث بينهما بالسوية؛ لأنهم أدلوا بمن لا يفضل ذكرهم على أنثاهم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: عناية الله عز وجل بالوصية والدين؛ حيث إنه كلما ذكر ميراثًا قال: من بعد وصية أو دين، ففي باب الفروع والأصول في الآية السابقة (...) ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، وفي ميراث الزوجين قال بعد إرث كل زوج: من بعد وصية أو دين، في الإخوة من الأم هنا قال: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الوصية المضار بها لاغية؛ لقوله: ﴿غَيْرَ مُضَارّ﴾ ووصية المضارة حرام وفيها إثم كبير، حتى إنه روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الرَّجُلَ أَوِ الْمَرْأَةَ لَيَعْمَلَانِ فِي الصَّالِحَاتِ (...) سَنَةً ثُمَّ يَجُورَانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَيُعَذَّبَانِ»(٢٢)، وهذا دليل على أن الجور في الوصية من كبائر الذنوب.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وجوب العمل بما فرضه الله تعالى في (...)؛ لقوله تعالى: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾، والله عز وجل لا يوصي إلا بما هو حق، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء ١٣١].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذه الوصية مبنية على أمرين: العلم، والحلم؛ لقوله: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات هذين الاسمين لله عز وجل، وهما: العليم والحليم.وهل يدلان على صفتين؟ ما هما؟
* طالب: العليم.
* الشيخ: لا، العليم اسم، والحليم اسم، هل يدلان على صفتين؟
* الطالب: نعم.
* الشيخ: ما هما؟ العليم من أين مشتقة؟
* الطالب: من العلم.
* الشيخ: إذن (...)، والحليم؟
* الطالب: من الحلم.
* الشيخ: فهما يدلان على العلم والحلم، والقاعدة عندنا: أن كل اسم من أسماء الله فهو متضمن لصفة، وليس كل صفة يشتق منها اسم؛ ولهذا كانت الصفات أوسع من الأسماء.
(١) أخرجه أبو داود (٢٨٩١)، والترمذي (٢٠٩٦) من حديث جابر بن عبد الله.
(٢) متفق عليه؛ البخاري (٦٧٣٣)، ومسلم (١٦١٥ / ٢) من حديث ابن عباس.
(٣) متفق عليه؛ البخاري (٦٧٣٢)، ومسلم (١٦١٥ / ٢) من حديث عبد الله بن عباس.
(٤) متفق عليه؛ البخاري (٦٧٣٢)، ومسلم (١٦١٥ / ٢) من حديث عبد الله بن عباس.
(٥) متفق عليه؛ البخاري (٦٧٣٢)، ومسلم (١٦١٥ / ٢) من حديث عبد الله بن عباس.
(٦) متفق عليه؛ البخاري (١٢٩٥)، ومسلم (١٦٢٨ / ٥) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(٧) متفق عليه؛ البخاري (٢٧٤٣)، ومسلم (١٦٢٩ / ١٠) موقوفًا من كلام ابن عباس.
(٨) أخرجه البيهقي في الكبرى (١٢٥٧٤) من حديث أبي بكر الصديق.
(٩) أخرجه الترمذي (٢٠٩٤)، وابن ماجه (٢٧١٥) من حديث علي بن أبي طالب.
(١٠) أخرجه أبو داود (٣٥٦٥)، والترمذي (٢١٢٠)، وابن ماجه (٢٧١٣) من حديث أبي أمامة الباهلي، وأخرجه النسائي (٣٦٤١) من حديث عمرو بن خارجة.
(١١) متفق عليه؛ البخاري (١٨٤٩)، ومسلم (١٢٠٣ / ٩٣) من حديث عبد الله بن عباس.
(١٢) أخرجه ابن ماجه (٣٨٠٣) من حديث عائشة.
(١٣) أخرجه ابن ماجه (٩٠) من حديث ثوبان.
(١٤) متفق عليه؛ البخاري (٧٤٧٧)، ومسلم (٢٦٧٩ / ٩) من حديث أبي هريرة.
(١٥) أخرجه ابن ماجه (٩٠) من حديث ثوبان.
(١٦) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (١٠٥٩٤) من حديث ابن عباس، وأخرجه بن أبي حاتم في التفسير (٦٢٤٤) من حديث ابن عباس بلفظ: عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال: أرأيت قول الله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ قال ابن عباس: كذلك كان ولم يزل.
(١٧) أخرجه البخاري (١٤٦٢) من حديث أبي سعيد الخدري، وأخرجه مسلم (٧٩ / ١٣٢) من حديث عبد الله بن عمر وأبي سعيد الخدري.
(١٨) أخرجه مسلم (2090 / 52) من حديث ابن عباس.
(١٩) متفق عليه، البخاري (٩٤٦)، ومسلم (١٧٧٠ / ٦٩) من حديث عبد الله بن عمر.
(٢٠) أخرجه مسلم (١٤٥١ / ٢٠) من حديث أم الفضل.
(٢١) متفق عليه؛ البخاري (٢٣٧٩)، ومسلم (١٥٤٣ / ٨٠) من حديث عبد الله بن عمر.
(٢٢) أخرجه أبو داود (٢٨٦٧)، والترمذي (٢١١٧)، وابن ماجه (٢٧٠٤) من حديث أبي هريرة «إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار»، واللفظ لأبي داود والترمذي.