الباحث القرآني
و (لِلذَّكَرِ): إمّا أنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ، أيْ: لِلذَّكَرِ مِنهم، أوْ تَنُوبُ الألِفُ واللّامُ عَنِ الضَّمِيرِ عَلى رَأْيِ مَن يَرى ذَلِكَ التَّقْدِيرَ لِذَكَرِهِمْ. و(مِثْلُ): صِفَةٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ حَظٌّ مِثْلُ.
قالَ الفَرّاءُ: ولَمْ يَعْمَلْ ﴿يُوصِيكُمُ﴾ في (مِثْلُ) إجْراءً لَهُ مَجْرى القَبُولِ في حِكايَةِ الجُمَلِ، فالجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ ﴿يُوصِيكُمُ﴾ . وقالَ الكِسائِيُّ: ارْتَفَعَ (مِثْلُ) عَلى حَذْفِ (أنْ)، تَقْدِيرُهُ: أنْ لِلذَّكَرِ. وبِهِ قَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ. وأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ - حالَةُ اجْتِماعِ الذَّكَرِ والأُنْثَيَيْنِ فَلَهُ سَهْمانِ، كَما أنَّ لَهُما سَهْمَيْنِ. وأمّا إذا انْفَرَدَ الِابْنُ فَيَأْخُذُ المالَ، أوِ البِنْتانِ فَسَيَأْتِي حُكْمُ ذَلِكَ. ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِلنَّصِّ عَلى هاتَيْنِ المَسْألَتَيْنِ.
وقالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْبَهانِيُّ: نَصِيبُ الذَّكَرِ هُنا هو الثُّلُثانِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ نَصِيبَ الأُنْثَيَيْنِ. وقالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: إذا كانَ نَصِيبُها مَعَ الذَّكَرِ الثُّلُثَ، فَلَأنْ يَكُونَ نَصِيبُها مَعَ أُنْثى الثُّلُثَ أوْلى؛ لِأنَّ الذَّكَرَ أقْوى مِنَ الأُنْثى. وقِيلَ: حَظُّ الأُنْثَيَيْنِ أزْيَدُ مِن حَظِّ الأُنْثى، وإلّا لَزِمَ حَظُّ الذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثى، وهو خِلافُ النَّصِّ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ حَظُّهُما الثُّلُثَيْنِ؛ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ. فَهَذِهِ وُجُوهٌ ثَلاثَةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الآيَةِ تَدُلُّ عَلى أنَّ فَرْضَ البِنْتَيْنِ الثُّلُثانِ. ووَجْهٌ رابِعٌ مِنَ القِياسِ الجَلِيِّ وهو أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنا حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ، وذَكَرَ حُكْمَ الواحِدَةِ وما فَوْقَ الثِّنْتَيْنِ. وفي آخِرِ السُّورَةِ ذَكَرَ حُكْمَ الأُخْتِ الواحِدَةِ، وحُكْمَ الأُخْتَيْنِ، ولَمْ يُذْكَرْ حُكْمُ الأخَواتِ، فَصارَتِ الآيَتانِ مُجْمَلَتَيْنِ مِن وجْهٍ، مُبَيَّنَتَيْنِ مِن وجْهٍ.
فَنَقُولُ: لَمّا كانَ نَصِيبُ الأُخْتَيْنِ الثُّلْثَيْنِ، كانَتِ البِنْتانِ أوْلى بِذَلِكَ لِأنَّهُما أقْرَبُ إلى المَيِّتِ. ولَمّا كانَ نَصِيبُ البَناتِ الكَثِيرَةِ لا يُزادُ عَلى الثُّلُثَيْنِ، وجَبَ أنْ لا يُزادَ نَصِيبُ الأخَواتِ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ البِنْتَ لَمّا كانَتْ أشَدَّ اتِّصالًا بِالمَيِّتِ امْتَنَعَ جَعْلُ الأضْعَفِ زائِدًا عَلى الأقْوى. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المالَ كُلَّهُ لِلذَّكَرِ إذا لَمْ كُنْ مَعَهُ أُنْثى، لِأنَّهُ جَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ ما لِلْأُنْثَيَيْنِ. وقَدْ جَعَلَ لِلْأُنْثى النِّصْفَ إذا لَمْ يَكُنْ مَعَها ذَكَرٌ بِقُولِهِ: ﴿وإنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَها النِّصْفُ﴾ فَدَلَّ عَلى أنَّ لِلذَّكَرِ حالَةَ الِانْفِرادِ مِثْلَيْ ذَلِكَ، ومِثْلا النِّصْفِ هو الكُلُّ، انْتَهى.
وقَرَأ الحَسَنُ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: (يُوَصِّيكم) بِالتَّشْدِيدِ. وقَرَأ الحَسَنُ ونُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ والأعْرَجُ: ثُلْثًا والثُّلْثَ والرُّبْعَ والسُّدْسَ والثُّمْنَ بِإسْكانِ الوَسَطِ، والجُمْهُورُ بِالضَّمِّ، وهي لُغَةُ الحِجازِ وبَنِي أسَدٍ، قالَهُ النَّحّاسُ مِنَ الثُّلْثِ إلى العُشْرِ. وقالَ الزَّجّاجُ: هي لُغَةٌ واحِدَةٌ، والسُّكُونَ تَخْفِيفٌ، وتَقْدِيرُ الآيَةِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ في شَأْنِ أوْلادِكُمُ الوارِثِينَ لِلذَّكَرِ مِنهم حَظٌّ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ حالَةَ اجْتِماعِهِمْ مِمّا تَرَكَ المُوَرِّثُونَ إنِ انْفَرَدَ بِالإرْثِ، فَإنْ كانَ مَعَهُما ذُو فَرْضٍ كانَ ما يَبْقى مِنَ المالِ لَهُما، والفُرُوضُ هي المَذْكُورَةُ في القُرْآنِ، وهي سِتَّةٌ: النِّصْفُ، والرُّبُعُ، والثُّمُنُ، والثُّلُثانِ، والثُّلُثُ، والسُّدُسُ.
﴿فَإنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ﴾ ظاهِرُ هَذا التَّقْسِيمِ أنَّ ما زادَ عَلى الثِّنْتَيْنِ مِنَ الأوْلادِ يَرِثْنَ الثُّلُثَيْنِ مِمّا تَرَكَ مَوْرُوثُهُما، وظاهِرُ السِّياقِ انْحِصارُ الوارِثِ فِيهِنَّ. ولَمّا كانَ لَفْظُ الأوْلادِ يَشْمَلُ الذُّكُورَ والإناثَ، وقَصَدَ هُنا بَيانَ حُكْمِ الإناثِ، أخْلَصَ الضَّمِيرَ لِلتَّأْنِيثِ. إذِ الإناثُ أحَدُ قِسْمَيْ ما يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الأوْلادُ، فَعادَ الضَّمِيرُ عَلى أحَدِ القِسْمَيْنِ، وكَأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فِي أوْلادِكُمْ﴾ في قُوَّةِ قَوْلِهِ: ﴿فِي أوْلادِكُمْ﴾ الذُّكُورِ والإناثِ. وإذا كانَ الضَّمِيرُ قَدْ عادَ عَلى جَمْعِ التَّكْسِيرِ العاقِلِ المُذَكَّرِ بِالنُّونِ في نَحْوِ قَوْلِهِ: (ورَبَّ الشَّياطِينِ ومَن أضْلَلْنَ)، كَما يَعُودُ عَلى الإناثِ كَقَوْلِهِ: ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ﴾ [البقرة: ٢٣٣] فَلَأنْ يَعُودَ عَلى جَمْعِ التَّكْسِيرِ (p-١٨٢)العاقِلِ الجامِعِ لِلْمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ، بِاعْتِبارِ أحَدِ القِسْمَيْنِ الَّذِي هو المُؤَنَّثُ - أوْلى، واسْمُ (كانَ) الضَّمِيرُ العائِدُ عَلى أحَدِ قِسْمَيِ الأوْلادِ، والخَبَرُ (نِساءً) بِصِفَتِهِ الَّذِي هو فَوْقَ اثْنَتَيْنِ؛ لِأنَّهُ لا تَسْتَقِلُّ فائِدَةُ الأخْبارِ بِقَوْلِهِ: (نِساءً) وحْدَهُ، وهي صِفَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، تَرْفَعُ أنْ يُرادَ بِالجَمْعِ قَبْلَهُما طَرِيقُ المَجازِ، إذْ قَدْ يُطْلَقُ الجَمْعُ ويُرادُ بِهِ التَّشْبِيهُ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ (نِساءً) خَبَرًا ثانِيًا لِـ(كانَ)، ولَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ الخَبَرَ لا بُدَّ أنْ تَسْتَقِلَّ بِهِ فائِدَةُ الإسْنادِ. ولَوْ سَكَتَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ كُنَّ نِساءً﴾ لَكانَ نَظِيرَ: إنْ كانَ الزَّيْدُونَ رِجالًا، وهَذا لَيْسَ بِكَلامٍ. وقالَ بَعْضُ البَصْرِيِّينَ: التَّقْدِيرُ: وإنْ كانَ المَتْرُوكاتُ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: البَناتُ أوِ المَوْلُوداتُ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: هَلْ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرانِ في (كُنَّ) و(كانَتْ) مُبْهَمَيْنِ، ويَكُونُ (نِساءً) و(واحِدَةً) تَفْسِيرًا لَهُما عَلى أنَّ (كانَ) تامَّةٌ ؟ قُلْتُ: لا أُبْعِدُ ذَلِكَ، انْتَهى. ونَعْنِي بِالإبْهامِ أنَّهُما لا يَعُودانِ عَلى مُفَسِّرٍ مُتَقَدِّمٍ، بَلْ يَكُونُ مُفَسِّرُهُما هو المَنصُوبَ بَعْدَهُما، وهَذا الَّذِي لَمْ يُبْعِدْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هو بَعِيدٌ، أوْ مَمْنُوعٌ ألْبَتَّةَ؛ لِأنَّ (كانَ) لَيْسَتْ مِنَ الأفْعالِ الَّتِي يَكُونُ فاعِلُها مُضْمَرًا يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، بَلْ هو مُخْتَصٌّ مِنَ الأفْعالِ بِنِعْمَ وبِئْسَ وما حُمِلَ عَلَيْهِما، وفي بابِ التَّنازُعِ عَلى ما قُرِّرَ في النَّحْوِ. ومَعْنى ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾: أكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْنِ، بالِغاتٍ ما بَلَغْنَ مِنَ العَدَدِ، فَلَيْسَ لَهُنَّ إلّا الثُّلُثانِ. ومَن زَعَمَ أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ اثْنَتانِ فَما فَوْقَهُما، وأنَّ قُوَّةَ الكَلامِ تَقْتَضِي ذَلِكَ كَ ابْنِ عَطِيَّةَ، أوْ أنَّ (فَوْقَ) زائِدَةٌ؛ مُسْتَدِلًّا بِأنَّ (فَوْقَ) قَدْ زِيدَتْ في قَوْلِهِ: ﴿فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ﴾ [الأنفال: ١٢] فَلا يُحْتاجُ في رَدِّ ما زَعَمَ إلى حُجَّةٍ لِوُضُوحِ فَسادِهِ. وذَكَرُوا أنَّ حُكْمَ الثِّنْتَيْنِ في المِيراثِ الثُّلُثانِ كالبَناتِ. قالُوا: ولَمْ يُخالِفْ في ذَلِكَ إلّا ابْنُ عَبّاسٍ، فَإنَّهُ يَرى لَهُما النِّصْفَ إذا انْفَرَدا كَحالِهِما إذا اجْتَمَعا مَعَ الذَّكَرِ، وما احْتَجُّوا بِهِ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. ووَرَدَ في الحَدِيثِ في قِصَّةِ أوْسِ بْنِ ثابِتٍ: (أنَّهُ أعْطى البِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ) . وبَناتُ الِابْنِ أوِ الأخَواتُ الأشِقّاءُ أوْ لِأبٍ كَبَناتِ الصُّلْبِ في الثُّلُثَيْنِ إذا انْفَرَدْنَ عَنْ مَن يَحْجُبُهُنَّ.
﴿وإنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَها النِّصْفُ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: واحِدَةً بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ (كانَ)، أيْ: وإنْ كانَتْ هي أيِ البِنْتُ فَذَّةً لَيْسَ مَعَها أُخْرى. وقَرَأ نافِعٌ: (واحِدَةٌ) بِالرَّفْعِ عَلى أنَّ (كانَ) تامَّةٌ و(واحِدَةً) الفاعِلُ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ: (النُّصْفُ) بِضَمِّ النُّونِ، وهي قِراءَةُ عَلِيٍّ وزَيْدٍ في جَمِيعِ القُرْآنِ. وتَقَدَّمَ الخِلافُ في ضَمِّ النُّونِ وكَسْرِها في ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] في البَقَرَةِ. وبِنْتُ الِابْنُ إذا لَمْ تَكُنْ بِنْتَ صُلْبٍ، والأُخْتُ الشَّقِيقَةُ أوْ لِأبٍ، والزَّوْجُ إذا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجَةِ ولَدٌ، ولا ولَدُ ابْنٍ - كَبِنْتِ الصُّلْبِ، لِكُلٍّ مِنهُمُ النِّصْفُ.
﴿ولِأبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إنْ كانَ لَهُ ولَدٌ﴾ لَمّا ذَكَرَ الفُرُوعَ ومِقْدارَ ما يَرِثُونَ أخَذَ في ذِكْرِ الأُصُولِ ومِقْدارِ ما يَرِثُونَ، فَذَكَرَ أنَّ المَيِّتَ يَرِثُ مِنهُ أبَواهُ كُلُّ واحِدٍ السُّدُسَ إنْ كانَ لِلْمَيِّتِ ولَدٌ، وأبَواهُ هُما: أبُوهُ وأُمُّهُ. وغَلَبَ لَفْظُ الأبِ في التَّثْنِيَةِ كَما قِيلَ: القَمَرانِ، فَغَلَبَ القَمَرُ لِتَذْكِيرِهِ عَلى الشَّمْسِ، وهي تَثْنِيَةٌ لا تُقاسُ. وشَمَلَ قَوْلُهُ: ولَهُ ولَدٌ الذَّكَرَ والأُنْثى، والواحِدَ والجَماعَةَ.
وظاهِرُ الآيَةِ أنَّ فَرْضَ الأبِ السُّدُسُ إذا كانَ لِلْمَيِّتِ ولَدٌ، أيَّ ولَدٍ كانَ، (p-١٨٣)وباقِي المالِ لِلْوَلَدِ، ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى. والحُكْمُ عِنْدَ الجُمْهُورِ أنَّهُ لَوْ كانَ الوَلَدُ أُنْثى أخَذَ السُّدُسَ فَرْضًا، والباقِي تَعْصِيبًا. وتَعَلَّقَتِ الرَّوافِضُ بِظاهِرِ لَفْظِ (ولَدٌ) فَقالُوا: السُّدُسُ لِكُلِّ واحِدٍ مِن أبَوَيْهِ، والباقِي لِلْبِنْتِ أوِ الِابْنِ، إذِ الوَلَدُ يَقَعُ عَلى: الذَّكَرِ، والأُنْثى، والجَدِّ، وبَناتِ الِابْنِ مَعَ البِنْتِ، والأخَواتِ لِأبٍ مَعَ أُخْتٍ لِأبٍ وأُمٍّ، والواحِدَةِ مِن ولَدِ الأُمِّ، والجَدّاتِ كالأبِ مَعَ البِنْتِ في السُّدُسِ. وقالَ مالِكٌ: لا تَرِثُ جَدَّةُ أبِي الأبِ. وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا تَرِثُ أُمُّ الأُمِّ.
والضَّمِيرُ في (لِأبَوَيْهِ) عائِدٌ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ في (تَرَكَ)، وهو ضَمِيرُ المَيِّتِ الدّالُّ عَلَيْهِ مَعْنى الكَلامِ وسِياقُهُ. و﴿لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما﴾ بَدَلٌ مِن (أبَوَيْهِ)، ويُفِيدُ مَعْنى التَّفْصِيلِ، وتَبْيِينِ أنَّ السُّدُسَ لِكُلِّ واحِدٍ، إذْ لَوْلا هَذا البَدَلُ لَكانَ الظّاهِرُ اشْتِراكَهُما في السُّدُسِ، وهو أبْلَغُ وآكَدُ مِن قَوْلِكَ: لِكُلِّ واحِدٍ مِن أبَوَيْهِ السُّدُسُ، إذْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُما مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالإظْهارِ، ومَرَّةً بِالضَّمِيرِ العائِدِ عَلَيْهِما. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: و(السُّدُسُ) مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ (لِأبَوَيْهِ)، والبَدَلُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُما انْتَهى. وقالَ أبُو البَقاءِ: (السُّدُسُ) رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، و﴿لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما﴾ الخَبَرُ، و(لِكُلِّ) بَدَلٌ مِنَ (الأبَوَيْنِ)، و(مِنهُما) نَعْتٌ لِـ(واحِدٍ) . وهَذا البَدَلُ هو بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، ولِذَلِكَ أتى بِالضَّمِيرِ، ولا يُتَوَهَّمُ أنَّهُ بَدَلُ شَيْءٍ مِن شَيْءٍ، وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ، لِجَوازِ أبَواكَ يَصْنَعانِ كَذا، وامْتِناعِ أبَواكَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَصْنَعانِ كَذا. بَلْ تَقُولُ: يَصْنَعُ كَذا. وفي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ: و(السُّدُسُ) مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ (لِأبَوَيْهِ) - نَظَرٌ؛ لِأنَّ البَدَلَ هو الَّذِي يَكُونُ الخَبَرُ لَهُ دُونَ المُبْدَلِ مِنهُ، كَما مَثَّلْناهُ في قَوْلِكَ: أبَواكَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَصْنَعُ كَذا، إذا أعْرَبْنا كُلًّا بَدَلًا. وكَما تَقُولُ: إنَّ زَيْدًا عَيْنَهُ حَسَنَةٌ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ إذا وقَعَ البَدَلُ خَبَرًا فَلا يَكُونُ المُبْدَلُ مِنهُ هو الخَبَرَ، واسْتَغْنى عَنْ جَعْلِ المُبْدَلِ مِنهُ خَبَرًا بِالبَدَلِ كَما اسْتَغْنى عَنِ الإخْبارِ عَنِ اسْمِ (إنَّ) وهو المُبْدَلُ مِنهُ بِالإخْبارِ عَنِ البَدَلِ. ولَوْ كانَ التَّرْكِيبُ: ولِأبَوَيْهِ السُّدُسانِ؛ لَأوْهَمَ التَّنْصِيفَ أوِ التَّرْجِيحَ في المِقْدارِ بَيْنَ الأبَوَيْنِ، فَكانَ هَذا التَّرْكِيبُ القُرْآنِيُّ في غايَةِ النَّصِّيَّةِ والفَصاحَةِ، وظاهِرُ قَوْلِهِ ﴿ولِأبَوَيْهِ﴾ - أنَّهُما اللَّذانِ ولَدا المَيِّتَ قَرِيبًا لا جَدّاهُ، ولا مَن عَلا مِنَ الأجْدادِ. وزَعَمُوا أنَّ قَوْلَهُ: (أوْلادِكم) يَتَناوَلُ مَن سَفَلَ مِنَ الأبْناءِ؛ قالُوا: لِأنَّ الأبَوَيْنِ لَفْظٌ مُثَنًّى لا يَحْتَمِلُ العُمُومَ ولا الجَمْعَ، بِخِلافِ قَوْلِهِ: في أوْلادِكم. وفِيما قالُوهُ نَظَرٌ، وهُما عِنْدِي سَواءٌ في الدَّلالَةِ، إنْ نُظِرَ إلى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلى حَقِيقَتِهِ فَلا يَتَناوَلُ إلّا الأبْناءَ الَّذِينَ ولَدَهُمُ الأبَوانِ قَرِيبًا، لا مَن سَفَلَ كالأبَوَيْنِ لا يَتَناوَلُ إلّا مَن ولَداهُ قَرِيبًا، لا مَن عَلا. أوْ إلى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلى مَجازِهِ، فَيَشْتَرِكُ اللَّفْظانِ في ذَلِكَ، فَيَنْطَلِقُ الأبَوانِ عَلى مَن ولَداهُ قَرِيبًا. ومَن عَلا كَما يَنْطَلِقُ الأوْلادُ (p-١٨٤)عَلى مَن ولَداهم قَرِيبًا. ومَن سَفَلَ يُبَيِّنُ حَمْلَهُ عَلى الحَقِيقَةِ في المَوْضِعَيْنِ أنَّ ابْنَ الِابْنِ لا يَرِثُ الِابْنَ، وأنَّ الجَدَّةَ لا يُفْرَضُ لَها الثُّلُثُ بِإجْماعٍ، فَلَمْ يُنَزَّلِ ابْنُ الِابْنِ مَنزِلَةَ الِابْنِ مَعَ وُجُودِهِ، ولا الجَدَّةُ مَنزِلَةَ الأُمِّ.
* * *
﴿فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ ووَرِثَهُ أبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ﴾ قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: ﴿إنْ كانَ لَهُ ولَدٌ﴾ و﴿ورِثَهُ أبَواهُ﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُما انْفَرَدا بِمِيراثِهِ، لَيْسَ مَعَهُما أحَدٌ مِن أهْلِ السِّهامِ، لا ولَدٌ ولا غَيْرُهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿ووَرِثَهُ أبَواهُ﴾ حُكْمًا لَهُما بِجَمِيعِ المالِ. فَإذا خَلُصَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ كانَ الثّانِي وهو الثُّلُثانِ لِلْأبِ، فَذِكْرُ القِسْمِ الواحِدِ يَدُلُّ عَلى الآخَرِ؛ كَما تَقُولُ: هَذا المالُ لِزَيْدٍ وعَمْرٍو، لِزَيْدٍ مِنهُ الثُّلُثُ، فَيُعْلَمُ قَطْعًا أنَّ باقِيَهُ وهو الثُّلُثانِ لِعَمْرٍو. فَلَوْ كانَ مَعَهُما زَوْجٌ كانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وهو الثُّلُثُ بِالإضافَةِ إلى الأبِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وشُرَيْحٌ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِن جَمِيعِ المالِ مَعَ الزَّوْجِ، والنِّصْفُ لِلزَّوْجِ، وما بَقِيَ لِلْأبِ، فَيَكُونُ مَعْنى: ﴿ووَرِثَهُ أبَواهُ﴾ مُنْفَرِدَيْنِ، أوْ مَعَ غَيْرِ ولَدٍ، وهَذا مُخالِفٌ لِظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿ووَرِثَهُ أبَواهُ﴾ . إذْ يَدُلُّ عَلى أنَّهُما انْفَرَدا بِالإرْثِ، فَيَتَقاسَمانِ: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ. ولا شَكَّ أنَّ الأبَ أقْوى في الإرْثِ مِنَ الأُمِّ، إذْ يَضْعُفُ نَصِيبُهُ عَلى نَصِيبِها إذا انْفَرَدا بِالإرْثِ، ويَرِثُ بِالفَرْضِ وبِالتَّعْصِيبِ وبِهِما. وفي قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ وشُرَيْحٍ: يَكُونُ لَها مَعَ الزَّوْجِ والأبِ مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرَيْنِ، فَتَصِيرُ أقْوى مِنَ الأبِ، وتَصِيرُ الأُنْثى لَها مِثْلا حَظِّ الذَّكَرِ، ولا دَلِيلَ عَلى ذَلِكَ مِن نَصٍّ ولا قِياسٍ.
وفِي إقامَةِ الجَدِّ مَقامَ الأبِ خِلافٌ. فَمَن قالَ: أنَّهُ أبٌ وحَجَبَ بِهِ الإخْوَةَ - جَماعَةٌ، مِنهم: أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ولَمْ يُخالِفْهُ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ في أيّامِ حَياتِهِ. وقالَ بِمَقالَتِهِ بَعْدَ وفاتِهِ: أُبَيٌّ، ومُعاذٌ، وأبُو الدَّرْداءِ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ الزُّبَيْرِ الأعْمَشِ، وعائِشَةُ، وعَطاءٌ، وطاوُسُ، والحَسَنُ، والسُّدِّيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ. وذَهَبَ عَلِيٌّ، وزَيْدٌ، وابْنُ مَسْعُودٍ: إلى تَوْرِيثِ الجَدِّ مَعَ الإخْوَةِ، ولا يُنْقَصُ مِنَ الثُّلُثِ مَعَ الإخْوَةِ لِلْأبِ والأُمِّ أوْ لِلْأُمِّ أوْ لِلْأبِ، إلّا مَعَ ذَوِي الفُرُوضِ، فَإنَّهُ لا يُنْقَصُ مَعَهم مِنَ السُّدُسِ شَيْئًا في قَوْلِ زَيْدٍ، وهو قَوْلُ: مالِكٍ، والأوْزاعِيِّ، والشّافِعِيِّ، ومُحَمَّدٍ، وأبِي يُوسُفَ. كانَ عَلِيٌّ يُشْرِكُ بَيْنَ الجَدِّ والإخْوَةِ في السُّدُسِ، ولا يُنْقِصُهُ مِنَ السُّدُسِ شَيْئًا مَعَ ذَوِي الفُرُوضِ وغَيْرِهِمْ، وهو قَوْلُ ابْنِ أبِي لَيْلى. وذَهَبَ الجُمْهُورُ: إلى أنَّ الجَدَّ يُسْقِطُ بَنِي الإخْوَةِ مِنَ المِيراثِ، إلّا ما رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ: أنَّهُ أجْرى بَنِي الإخْوَةِ في المُقاسَمَةِ مَجْرى الإخْوَةِ.
وأمّا أُمُّ الأُمِّ فَتُسَمّى أُمًّا مَجازًا، لَكِنْ لا يُفْرَضُ لَها الثُّلُثُ إجْماعًا، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إذا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ، وعَلى أنَّ الأُمَّ تَحْجُبُ أُمَّها وأُمَّ الأبِ، وعَلى أنَّ الأبَ لا يَحْجُبُ أُمَّ الأُمِّ. واخْتَلَفُوا في تَوْرِيثِ الجَدَّةِ وابْنَتِها. فَرُوِيَ عَنْ عُثْمانَ وعَلِيٍّ وزَيْدٍ: أنَّها لا تَرِثُ وابْنَتُها حَيَّةٌ، وبِهِ قالَ الأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، ومالِكٌ، وأبُو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْيِ. ورُوِيَ عَنْ عُثْمانَ وعَلِيٍّ أيْضًا، وعُمَرَ وابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي مُوسى وجابِرٍ: أنَّها تَرِثُ مَعَها. وقالَ بِهِ شُرَيْكٌ، وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وابْنُ المُنْذِرِ. وقالَ: كَما أنَّ الجَدَّ لا يَحْجُبُهُ إلّا الأبُ، كَذَلِكَ الجَدَّةُ لا يَحْجُبُها إلّا الأُمُّ. وقَرَأ الأخَوانِ: (فَلِإمِّهِ) هُنا مَوْضِعَيْنِ، وفي القَصَصِ (في إمِّها) وفي الزُّخْرُفِ: في (إمِّ الكِتابِ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، لِمُناسَبَةِ الكَسْرَةِ والياءِ. وكَذا قَرَأ (مِن بُطُونِ إمَّهاتِكم) في النَّحْلِ والزَّمَرِ والنَّجْمِ، (أوْ بُيُوتِ إمَّهاتِكم) في النُّورِ. وزادَ حَمْزَةُ في هَذِهِ كَسْرَ المِيمِ إتْباعًا لِكَسْرَةِ الهَمْزَةِ (p-١٨٥)وهَذا في الدَّرَجِ. فَإذا ابْتَدَأ يَضُمُّ الهَمْزَةَ، وهي قِراءَةُ الجَماعَةِ دَرَجًا وابْتِداءً. وذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أنَّ كَسْرَ الهَمْزَةِ مِن أُمٍّ بَعْدَ الياءِ، والكَسْرُ لُغَةٌ. وذَكَرَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ: أنَّها لُغَةُ هَوازِنَ وهُذَيْلٍ.
﴿فَإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾، وصارَ الأبُ يَأْخُذُ خَمْسَةَ الأسْداسِ. وذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ إلى أنَّ الإخْوَةَ يَأْخُذُونَ ما حَجَبُوا الأُمَّ عَنْهُ وهو السُّدُسُ، ولا يَأْخُذُهُ الأبُ. ورُوِيَ عَنْهُ: أنَّ الأبَ يَأْخُذُهُ لا الإخْوَةَ، لِقَوْلِ الجَماعَةِ مِنَ العُلَماءِ. قالَ السُّدِّيُّ: وإنَّما أخَذَهُ الأبُ دُونَهم لِأنَّهُ يَمُونُهم ويَلِي نِكاحَهم والنَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ. وظاهِرُ لَفْظِ (إخْوَةٌ) اخْتِصاصُهُ بِالجَمْعِ المُذَكَّرِ؛ لِأنَّ (إخْوَةٌ) جَمْعُ أخٍ. وقَدْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ طائِفَةٌ، فَقالُوا: الإخْوَةُ تَحْجُبُ الأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ دُونَ الأخَواتِ، وعِنْدَنا يَتَناوَلُ الجَمْعَيْنِ عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ. فَإذَنْ يَصِيرُ المُرادُ بِقَوْلِهِ: (إخْوَةٌ) مُطْلَقَ الأُخُوَّةِ، أيْ: أشِقّاءُ، أوْ لِأبٍ، أوْ لِأُمٍّ، ذُكُورًا أوْ إناثًا، أوِ الصِّنْفَيْنِ. وظاهِرُ لَفْظِ (إخْوَةٌ) الجَمْعُ. وأنَّ الَّذِينَ يَحُطُّونَ الأُمَّ إلى السُّدُسِ ثَلاثَةٌ فَصاعِدًا، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: الأخَواتُ عِنْدَهُ في حُكْمِ الواحِدِ لا يُحَطّانِ كَما لا يُحَطُّ، فالجُمْهُورُ عَلى أنَّ الأخَوَيْنِ حُكْمُهُما في الحَطِّ حُكْمُ الثَّلاثِ فَصاعِدًا.
ومَنشَأُ الخِلافِ: هَلِ الجَمْعُ أقَلُّهُ اثْنانِ أوْ ثَلاثَةٌ ؟ وهي مَسْألَةٌ يُبْحَثُ فِيها في أُصُولِ الفِقْهِ، والبَحْثُ فِيها في عِلْمِ النَّحْوِ ألْيَقُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الإخْوَةُ تُفِيدُ مَعْنى الجَمْعِيَّةِ المُطْلَقَةِ بِغَيْرِ كَمِّيَّةٍ، والتَّثْنِيَةُ كالتَّثْلِيثِ والتَّرْبِيعِ في إفادَةِ الكَمِّيَّةِ، وهو مَوْضِعُ الدَّلالَةِ عَلى الجَمْعِ المُطْلَقِ، فَدَلَّ بِالإخْوَةِ عَلَيْهِ، انْتَهى. ولا نُسَلِّمُ لَهُ دَعْوى أنَّ الإخْوَةَ تُفِيدُ مَعْنى الجَمْعِيَّةِ المُطْلَقَةِ، بَلْ تُفِيدُ مَعْنى الجَمْعِيَّةِ الَّتِي بَعْدَ التَّثْنِيَةِ بِغَيْرِ كَمِّيَّةٍ فِيما بَعْدَ التَّثْنِيَةِ، فَيَحْتاجُ في إثْباتِ دَعَواهُ إلى دَلِيلٍ. وظاهِرُ (إخْوَةٌ) الإطْلاقُ، فَيَتَناوَلُ الإخْوَةَ مِنَ الأُمِّ فَيَحْجُبُونَ كَما قُلْنا قَبْلُ. وذَهَبَ الرَّوافِضُ: إلى أنَّ الإخْوَةَ مِنَ الأُمِّ لا يَحْجُبُونَ الأُمَّ، لِأنَّهم يُدْلُونَ بِها، فَلا يَجُوزُ أنْ يَحْجُبُوها ويَجْعَلُوهُ لِغَيْرِها فَيَصِيرُونَ ضارِّينَ لَها نافِعِينَ لِغَيْرِها. واسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ البِنْتَ تَقْلِبُ حَقَّ الأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إلى السُّدُسِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ﴾؛ لِأنَّها إذا حُرِمَتِ الثُّلُثَ بِالإخْوَةِ وانْتَقَلَتْ إلى السُّدُسِ فَلَأنْ تُحْرَمَ بِالبِنْتِ أوْلى.
﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ﴾ المَعْنى: أنَّ قِسْمَةَ المالِ بَيْنَ مَن ذُكِرَ إنَّما تَكُونُ بَعْدَ خُرُوجِ ما يَجِبُ إخْراجُهُ بِوَصِيَّةٍ، أوْ بِدَيْنٍ. ولَيْسَ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ والوَصِيَّةِ بِالتَّرِكَةِ سَواءً، إذْ لَوْ هَلَكَ مِنَ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ القِسْمَةِ ذَهَبَ مِنَ الوَرَثَةِ والمُوصى لَهُ جَمِيعًا، ويَبْقى الباقِي بَيْنَهم بِالشَّرِكَةِ، ولا يَسْقُطُ مِنَ الدَّيْنِ شَيْءٌ بِهَلاكِ شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ. وتَفْصِيلُ (p-١٨٦)المِيراثِ عَلى ما ذَكَرُوا أنَّهُ بَعْدَ الوَصِيَّةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يُرادُ ظاهِرُ إطْلاقِ وصِيَّةٍ مِن جَوازِ الوَصِيَّةِ بِقَلِيلِ المالِ وكَثِيرِهِ، بَلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلى جَوازِ الوَصِيَّةِ بِنَقْصِ المالِ. ويُبَيِّنُ أيْضًا ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ﴾ [النساء: ٣٢] الآيَةَ. إذْ لَوْ جازَتِ الوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ المالِ لَكانَ هَذا الجَوازُ ناسِخًا لِهَذِهِ الآيَةِ، وقَدْ دَلَّ الخَبَرُ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ عَلى أنَّ الوَصِيَّةَ غَيْرُ جائِزَةٍ في أكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وقَدِ اسْتَحَبُّوا النُّقْصانَ عَنْهُ، هَذا إذا كانَ لَهُ وارِثٌ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وارِثٌ، فَقالَ مالِكٌ والأوْزاعِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: لا تَجُوزُ الوَصِيَّةُ إلّا في الثُّلُثِ. وقالَ شَرِيكٌ وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: يَجُوزُ بِجَمِيعِ مالِهِ؛ لِأنَّ الِامْتِناعَ في الوَصِيَّةِ بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ مُعَلَّلٌ بِوُجُودِ الوَرَثَةِ، فَإذا لَمْ يُوجَدْ وأجازَ لِظاهِرِ إطْلاقِ الوَصِيَّةِ، لِأنَّهُ إذا فُقِدَ مُوجِبُ تَخْصِيصِ البَعْضِ جازَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى ظاهِرِهِ.
وقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ﴾ عَلى أنَّهُ إذا لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ ولا وصِيَّةٌ يَكُونُ جَمِيعُ مالِهِ لِوَرَثَتِهِ وأنَّهُ إنْ كانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أوْ زَكاةٌ أوْ كَفّارَةٌ أوْ نَذْرٌ لا يَجِبُ إخْراجُهُ إلّا أنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ. وفي هَذا الِاسْتِدْلالِ نَظَرٌ. والوَصِيَّةُ مَندُوبٌ إلَيْها، وقَدْ كانَتْ واجِبَةً قَبْلَ نُزُولِ الفَرائِضِ فَنُسِخَتْ. وادَّعى قَوْمٌ وُجُوبَها. وتَتَعَلَّقُ (مِن) بِمَحْذُوفٍ، أيْ: يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ، كَما فَصَّلَ ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ﴾، و﴿يُوصِي﴾ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، و(بِها) مُتَعَلِّقٌ بِـ ﴿يُوصِي﴾، وهو مُضارِعٌ وقَعَ مَوْقِعَ الماضِي. والمَعْنى: مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ أوْصى بِها. ومَعْنى: (أوْ دَيْنٍ) لَزِمَهُ. وقَدَّمَ الوَصِيَّةَ عَلى الدَّيْنِ، وإنْ كانَ أداءُ الدَّيْنِ هو المُقَدَّمَ عَلى الوَصِيَّةِ بِإجْماعٍ اهْتِمامًا بِها وبَعْثًا عَلى إخْراجِها، إذْ كانَتْ مَأْخُوذَةً مِن غَيْرِ عِوَضٍ شاقًّا عَلى الوَرَثَةِ إخْراجُها مَظِنَّةً لِلتَّفْرِيطِ فِيها، بِخِلافِ الدَّيْنِ. فَإنَّ نَفْسَ الوارِثِ مُوَطَّنَةٌ عَلى أدائِهِ، ولِذَلِكَ سَوّى بَيْنَها وبَيْنَ الدَّيْنِ بِلَفْظِ (أوْ) في الوُجُوبِ. أوْ لِأنَّ الوَصِيَّةَ مَندُوبٌ إلَيْها في الشَّرْعِ مَحْضُوضٌ عَلَيْها، فَصارَتْ لِلْمُؤْمِنِ كالأمْرِ اللّازِمِ لَهُ. والدَّيْنُ لا يَلْزَمُ أنْ يُوجَدَ، إذْ قَدْ يَكُونُ عَلى المَيِّتِ دَيْنٌ وقَدْ لا يَكُونُ، فَبُدِئَ بِما كانَ وُقُوعُهُ كاللّازِمِ، وأُخِّرَ ما لا يَلْزَمُ وُجُودُهُ. ولِهَذِهِ الحِكْمَةِ كانَ العَطْفُ بِـ (أوْ)، إذْ لَوْ كانَ الدَّيْنُ لا يَمُوتُ أحَدٌ إلّا وهو راتِبٌ لازِمٌ لَهُ، لَكانَ العَطْفُ بِالواوِ، أوْ لِأنَّ الوَصِيَّةَ حَظُّ مَساكِينَ وضِعافٍ، والدَّيْنَ حَظُّ غَرِيمٍ يَطْلُبُهُ بِقُوَّةٍ. ولَهُ فِيهِ مَقالٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى (أوْ) ؟ قُلْتُ: مَعْناها الإباحَةُ، وأنَّهُ إنْ كانَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما قُدِّمَ عَلى قِسْمَةِ المِيراثِ كَقَوْلِكَ: جالِسِ الحَسَنَ أوِ ابْنِ سِيرِينَ. انْتَهى.
ودَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ المِيراثَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ إخْراجِ ما وجَبَ بِالوَصِيَّةِ أوِ الدَّيْنِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ إخْراجَ ما وجَبَ بِها سابِقٌ عَلى المِيراثِ، ولَمْ يَدُلَّ عَلى أنَّهُما أسْبَقُ ما يُخْرَجُ مِن مالِ المَيِّتِ، إذِ الأسْبَقُ هو مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ مِن غُسْلِهِ وتَكْفِينِهِ وحَمْلِهِ ووَضْعِهِ في قَبْرِهِ، أوْ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ مِن ذَلِكَ. وقَرَأ الِابْنانِ وأبُو بَكْرٍ: (يُوصى) فِيهِما مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وتابَعَهم حَفْصٌ عَلى الثّانِي فَقَطْ، وقَرَأهُما الباقُونَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ.
﴿آباؤُكم وأبْناؤُكم لا تَدْرُونَ أيُّهم أقْرَبُ لَكم نَفْعًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ: هو في الآخِرَةِ، لا يَدْرُونَ أيُّ الوالِدَيْنِ أرْفَعُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ؛ لِيَشْفَعَ في ولَدِهِ، وكَذا الوَلَدُ في والِدَيْهِ. وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ سِيرِينَ والسُّدِّيُّ: مَعْناهُ في الدُّنْيا، أيْ: إذا اضْطُرَّ إلى إنْفاقِهِمْ لِلْفاقَةِ. ونَحا إلَيْهِ الزَّجّاجُ، وقَدْ يُنْفِقُونَ دُونَ اضْطِرارٍ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: في الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللَّفْظُ يَقْتَضِي ذَلِكَ. ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ: أقْرَبُ لَكم نَفْعًا في المِيراثِ والشَّفاعَةِ. وقالَ ابْنُ بَحْرٍ: أسْرَعُ مَوْتًا فَيَرِثُهُ الآخَرُ. وقالَ ابْنُ عِيسى: أيْ فاقْسِمُوا المِيراثَ عَلى ما بَيَّنَ لَكم مَن يَعْلَمُ النَّفْعَ والمَصْلَحَةَ، فَإنَّكم لا تَدْرُونَ أنْتُمْ ذَلِكَ، وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُ الزَّجّاجِ. قالَ: مَعْنى الكَلامِ أنَّهُ تَعالى قَدْ فَرَضَ الفَرائِضَ عَلى ما هو عِنْدَهُ حِكْمَةً، ولَوْ وكَلَ ذَلِكَ إلَيْكم لَمْ تَعْلَمُوا أيُّهم أنْفَعُ لَكم، فَتَضَعُونَ الأمْوالَ عَلى غَيْرِ حِكْمَةٍ، ولِهَذا أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أيْ عَلِيمٌ بِما يَصْلُحُ لِخَلْقِهِ، حَكِيمٌ فِيما فَرَضَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا تَعْرِيضٌ لِلْحِكْمَةِ في ذَلِكَ، وتَأْنِيسٌ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كانُوا يُوَرِّثُونَ عَلى غَيْرِ هَذِهِ (p-١٨٧)الصِّفَةِ.
وقِيلَ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي مَوْتِ المَوْرُوثِ. وقِيلَ: المَعْنى في ﴿أقْرَبُ لَكم نَفْعًا﴾ الأبُ بِالحِفْظِ والتَّرْبِيَةِ، أوِ الأوْلادُ بِالطّاعَةِ والخِدْمَةِ والشَّفَقَةِ. وقَرِيبٌ مِن هَذا قَوْلُ أبِي يَعْلى، قالَ: مَعْناهُ أنَّ الآباءَ والأبْناءَ يَتَفاوَتُونَ في النَّفْعِ، حَتّى لا يُدْرى أيُّهم أقْرَبُ نَفْعًا؛ لِأنَّ الأوْلادَ يَنْتَفِعُونَ في صِغَرِهِمْ بِالآباءِ، والآباءَ يَنْتَفِعُونَ في كِبَرِهِمْ بِالأبْناءِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُعَلِّقًا هَذِهِ الجُمْلَةَ بِالوَصِيَّةِ، وأنَّها جاءَتْ تَرْغِيبًا فِيها وتَأْكِيدًا. قالَ: لا تَدْرُونَ مَن أنْفَعُ لَكم مِن آبائِكم وأبْنائِكُمُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ، أمَن أوْصى مِنهم أمْ مَن لَمْ يُوصِ، يَعْنِي: أنَّ مَن أوْصى بِبَعْضِ مالِهِ فَعَرَّضَكم لِثَوابِ الآخِرَةِ بِإمْضاءِ وصِيَّتِهِ، فَهو أقْرَبُ لَكم نَفْعًا، وأحْضَرُ جَدْوى مِمَّنْ تَرَكَ الوَصِيَّةَ فَوَفَّرَ عَلَيْكم عَرَضَ الدُّنْيا، وجَعَلَ ثَوابَ الآخِرَةِ أقْرَبَ وأحْضَرَ مِن عَرَضِ الدُّنْيا ذَهابًا إلى حَقِيقَةِ الأمْرِ؛ لِأنَّ عَرَضَ الدُّنْيا وإنْ كانَ عاجِلًا قَرِيبًا في الصُّورَةِ إلّا أنَّهُ فانٍ، فَهو في الحَقِيقَةِ الأبْعَدُ الأقْصى، وثَوابُ الآخِرَةِ وإنْ كانَ آجِلًا إلّا أنَّهُ باقٍ فَهو في الحَقِيقَةِ الأقْرَبُ الأدْنى، انْتَهى كَلامُهُ. وهو خِطابُهُ. والوَصِيَّةُ في الآيَةِ لَمْ يَأْتِ ذِكْرُها لِمَشْرُوعِيَّتِها وأحْكامِها في نَفْسِها، وإنَّما جاءَ ذِكْرُها لِيُبَيِّنَ أنَّ القِسْمَةَ تَكُونُ بَعْدَ إخْراجِها وإخْراجِ الدَّيْنِ، فَلَيْسَتْ مِمّا يَحْدُثُ عَنْها، وتُفَسَّرُ هَذِهِ الجُمْلَةُ بِها. ولَكِنَّهُ لَمّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الِابْنِ والأبِ في المِيراثِ، فَكانَ حُكْمُ الِابْنِ إذا ماتَ الأبُ عَنْهُ وعَنْ أُنْثى أنْ يَرِثَ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وكانَ حُكْمُ الأبَوَيْنِ إذا ماتَ الِابْنُ عَنْهُما وعَنْ ولَدٍ أنْ يَرِثَ كُلٌّ مِنهُما السُّدُسَ، وكانَ يَتَبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنْ يَكُونَ نَصِيبُ الوالِدِ أوْفَرَ مِن نَصِيبِ الِابْنِ، إذْ ذاكَ لِما لَهُ عَلى الوَلَدِ مِنَ الإحْسانِ والتَّرْبِيَةِ مِن نَشْئِهِ إلى اكْتِسابِهِ المالَ إلى مَوْتِهِ، مَعَ ما أُمِرَ بِهِ الِابْنُ في حَياتِهِ مِن بِرِّ أبِيهِ. أوْ يَكُونُ نَصِيبُهُ مِثْلَ نَصِيبِ ابْنِهِ في تِلْكَ الحالَةِ إجْراءً لِلْأصْلِ مَجْرى الفَرْعِ في الإرْثِ، بَيَّنَ تَعالى أنَّ قِسْمَتَهُ هي القِسْمَةُ الَّتِي اخْتارَها وشَرَعَها، وأنَّ الآباءَ والأبْناءَ الَّذِينَ شُرِعَ في مِيراثِهِمْ ما شُرِعَ لا نَدْرِي نَحْنُ أيُّهم أقْرَبُ نَفْعًا، بَلْ عِلْمُ ذَلِكَ مَنُوطٌ بِعِلْمِ اللَّهِ وحِكْمَتِهِ. فالَّذِي شَرَعَهُ هو الحَقُّ لا ما يَخْطُرُ بِعُقُولِنا نَحْنُ، فَإذا كانَ عِلْمُ ذَلِكَ عازِبًا عَنّا فَلا نَخُوضُ فِيما لا نَعْلَمُهُ، إذْ هي أوْضاعٌ مِنَ الشّارِعِ لا نَعْلَمُ نَحْنُ عِلَلَها ولا نُدْرِكُها، بَلْ يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيها لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ. وجَمِيعُ المُقَدَّراتِ الشَّرْعِيَّةِ في كَوْنِها لا تُعْقَلُ عِلَلُها هي مِثْلُ قِسْمَةِ المَوارِيثِ سَواءٌ.
قالُوا: وارْتَفَعَ (أيُّهم) عَلى الِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ (أقْرَبُ)، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ لِ ﴿تَدْرُونَ﴾، و﴿تَدْرُونَ﴾ مِن أفْعالِ القُلُوبِ. و(أيُّهم) اسْتِفْهامٌ تَعَلَّقَ عَنِ العَمَلِ في لَفْظِهِ؛ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ في غَيْرِ الِاسْتِثْباتِ لا يَعْمَلُ فِيهِ ما قَبْلَهُ عَلى ما قُرِّرَ في عِلْمِ النَّحْوِ، ويَجُوزُ فِيهِ عِنْدِي وجْهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرُوهُ وهو عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وهو: أنْ تَكُونَ (أيُّهم) مَوْصُولَةً مَبْنِيَّةً عَلى الضَّمِّ، وهي مَفْعُولٌ بِـ ﴿تَدْرُونَ﴾، و(أقْرَبُ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هم أقْرَبُ، فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أيُّهم أشَدُّ﴾ [مريم: ٦٩] وقَدِ اجْتَمَعَ شَرْطُ جَوازِ بِنائِها، وهو أنَّها مُضافَةٌ لَفْظًا، مَحْذُوفٌ صَدْرُ صِلَتِها ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ انْتَصَبَ (فَرِيضَةً) انْتِصابَ المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ السّابِقَةِ؛ لِأنَّ مَعْنى ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾: يَفْرِضُ اللَّهُ لَكم. وقالَ مَكِّيٌّ وغَيْرُهُ: هي حالٌ مُؤَكِّدَةٌ؛ لِأنَّ الفَرِيضَةَ لَيْسَتْ مَصْدَرًا.
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ٢٤] أيْ: عَلِيمًا بِمَصالِحِ العِبادِ، حَكِيمًا فِيما فَرَضَ، وقَسَّمَ مِنَ المَوارِيثِ وغَيْرِها. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في (كانَ) إذا جاءَتْ في نِسْبَةِ الخَبَرِ لِلَّهِ تَعالى، ومَن زَعَمَ أنَّها التّامَّةُ، وانْتَصَبَ (عَلِيمًا) عَلى الحالِ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، أوْ أنَّها زائِدَةٌ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ.
{"ayah":"یُوصِیكُمُ ٱللَّهُ فِیۤ أَوۡلَـٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَاۤءࣰ فَوۡقَ ٱثۡنَتَیۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَ ٰحِدَةࣰ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَیۡهِ لِكُلِّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدࣱۚ فَإِن لَّمۡ یَكُن لَّهُۥ وَلَدࣱ وَوَرِثَهُۥۤ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥۤ إِخۡوَةࣱ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِیَّةࣲ یُوصِی بِهَاۤ أَوۡ دَیۡنٍۗ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَأَبۡنَاۤؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَیُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعࣰاۚ فَرِیضَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق