الباحث القرآني
(p-١١٣٨)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وإنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَها النِّصْفُ ولأبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إنْ كانَ لَهُ ولَدٌ فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ ووَرِثَهُ أبَواهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإنْ كانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ آباؤُكم وأبْناؤُكم لا تَدْرُونَ أيُّهم أقْرَبُ لَكم نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [١١]
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ شُرُوعٌ في تَفْصِيلِ أحْكامِ المَوارِيثِ المُجْمَلَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ﴾ [النساء: ٧] إلَخْ.
قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ والَّتِي بَعْدَها والآيَةُ الَّتِي هي خاتِمَةُ هَذِهِ السُّوَرَةِ - هُنَّ آياتُ عِلْمِ الفَرائِضِ، وهو مُسْتَنْبَطٌ مِن هَذِهِ الآياتِ الثَّلاثِ، ومِنَ الأحادِيثِ الوارِدَةِ في ذَلِكَ مِمّا هو كالتَّفْسِيرِ لِذَلِكَ، انْتَهى.
والمَعْنى: يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ ويَعْهَدُ إلَيْكم في شَأْنِ مِيراثِ أوْلادِكم بَعْدَ مَوْتِكم ﴿لِلذَّكَرِ﴾ أيْ: مِنهم ﴿مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ﴾ أيْ: نَصِيبِهِما اجْتِماعًا وانْفِرادًا.
أمّا الأوَّلُ: فَإنَّهُ يُعَدُّ كُلُّ ذَكَرٍ بِأُنْثَيَيْنِ، في مِثْلِ ابْنٍ مَعَ بِنْتَيْنِ، وابْنِ ابْنٍ مَعَ بِنْتَيِ ابْنٍ، وهَكَذا في السّافِلِينَ، فَيَضْعَفُ نَصِيبُهُ ويَأْخُذُ سَهْمَيْنِ، كَما أنَّ لَهُما سَهْمَيْنِ.
وأمّا الثّانِي فَإنَّ لَهُ الكُلَّ وهو ضِعْفُ نَصِيبِ البِنْتِ الواحِدَةِ، لِأنَّهُ جُعِلَ لَها في حالِ انْفِرادِها النِّصْفُ، فاقْتَضى ذَلِكَ أنَّ لِلذَّكَرِ - عِنْدَ انْفِرادِهِ - مِثْلَيْ نَصِيبِها عِنْدَ انْفِرادِها، وذَلِكَ الكامِلُ، فالمَذْكُورُ هُنا مِيراثُ الذَّكَرِ مُطْلَقًا، مُجْتَمِعًا مَعَ الإناثِ ومُنْفَرِدًا، كَما حَقَّقَهُ صاحِبُ "الِانْتِصافِ".
* * *
تَنْبِيهٌ:
قالَ السُّيُوطِيُّ: اسْتَدَلَّ بِالآيَةِ مَن قالَ بِدُخُولِ أوْلادِ الِابْنِ في لَفْظِ (الأوْلادِ) لِلْإجْماعِ عَلى إرْثِهِمْ، دُونَ أوْلادِ البِنْتِ.
(p-١١٣٩)لَطائِفُ:
الأُولى: وجْهُ الحِكْمَةِ في تَضْعِيفِ نَصِيبِ الذَّكَرِ هو احْتِياجُهُ إلى مُؤْنَةِ النَّفَقَةِ ومُعاناةِ التِّجارَةِ والتَّكَسُّبِ وتَحَمُّلِ المَشاقِّ، فَهو إلى المالِ أحْوَجُ، ولِأنَّهُ لَوْ كَمُلَ نَصِيبُها - مَعَ أنَّها قَلِيلَةُ العَقْلِ، كَثِيرَةُ الشَّهْوَةِ - لَأتْلَفَتْهُ في الشَّهَواتِ إسْرافًا، ولِأنَّها قَدْ تُنْفِقُ عَلى نَفْسِها فَقَطْ، وهو عَلى نَفْسِهِ وزَوْجَتِهِ.
الثّانِيَةُ: لَمْ يَقُلْ: لِلذَّكَرِ ضِعْفُ نَصِيبِ الأُنْثى؛ لِأنَّ الضِّعْفَ يَصْدُقُ عَلى المِثْلَيْنِ فَصاعِدًا، فَلا يَكُونُ نَصًّا، ولَمْ يَقُلْ: لِلْأُنْثَيَيْنِ مِثْلُ حَظِّ الذَّكَرِ، ولا لِلْأُنْثى نِصْفُ حَظِّ الذَّكَرِ؛ تَقْدِيمًا لِلذَّكَرِ بِإظْهارِ مَزِيَّتِهِ عَلى الأُنْثى، ولَمْ يَقُلْ: لِلذَّكَرِ مِثْلا نَصِيبِ الأُنْثى؛ لِأنَّ المِثْلَ في المِقْدارِ لا يَتَعَدَّدُ إلّا بِتَعَدُّدِ الأشْخاصِ، ولَمْ يُعْتَبَرْ هَهُنا.
الثّالِثَةُ: إيثارُ اسْمَيِ (الذَّكَرِ والأُنْثى) عَلى ما ذُكِرَ أوَّلًا مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ؛ لِلتَّنْصِيصِ عَلى اسْتِواءِ الكِبارِ والصِّغارِ مِنَ الفَرِيقَيْنِ في الِاسْتِحْقاقِ، مِن غَيْرِ دَخْلٍ لِلْبُلُوغِ والكِبَرِ في ذَلِكَ أصْلًا، كَما هو زَعْمُ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ حَيْثُ كانُوا لا يُوَرِّثُونَ الأطْفالَ، كالنِّساءِ.
الرّابِعَةُ: اسْتَنْبَطَ بَعْضُهم مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى أرْحَمُ بِخَلْقِهِ مِنَ الوالِدَةِ بِوَلَدِها، حَيْثُ أوْصى الوالِدَيْنِ بِأوْلادِهِمْ، فَعُلِمَ أنَّهُ أرْحَمُ بِهِمْ مِنهم.
كَما جاءَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وقَدْ «رَأى امْرَأةً (p-١١٤٠)مِنَ السَّبْيِ، فُرِّقَ بَيْنَها وبَيْنَ ولَدِها فَجَعَلَتْ تَدُورُ عَلى ولَدِها، فَلَمّا وجَدَتْهُ مِنَ السَّبْيِ أخَذَتْهُ فَألْصَقَتْهُ بِصَدْرِها وأرْضَعَتْهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأصْحابِهِ: أتَرَوْنَ هَذِهِ طارِحَةً ولَدَها في النّارِ وهي تَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ؟ قالُوا: لا يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: فَواللَّهِ! لَلَّهُ أرْحَمُ بِعِبادِهِ مِن هَذِهِ بِوَلَدِها» .
﴿فَإنْ كُنَّ﴾ أيِ: الأوْلادُ، والتَّأْنِيثُ بِاعْتِبارِ الخَبَرِ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نِساءً﴾ يَعْنِي بَناتٍ خُلَّصًا لَيْسَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ خَبَرٌ ثانٍ أوْ صِفَةٌ لِـ(نِساءً) أيْ: نِساءً زائِداتٍ عَلى اثْنَتَيْنِ ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ﴾ أيِ: المُتَوَفّى المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَرِينَةِ المَقامِ.
* * *
تَنْبِيهٌ:
ظاهِرُ النَّظْمِ القُرْآنِيِّ أنَّ الثُّلُثَيْنِ فَرِيضَةُ الثَّلاثِ مِنَ البَناتِ فَصاعِدًا حَيْثُ لا ذِكْرَ مَعَهُنَّ، ولَمْ يُسَمَّ لِلْبِنْتَيْنِ فَرِيضَةٌ.
وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في فَرِيضَتِهِما، فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ لَهُما - إذا انْفَرَدَتا عَنِ البَنِينَ – الثُّلُثَيْنِ.
وذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ إلى أنَّ فَرِيضَتَهُما النِّصْفُ، احْتَجَّ الجُمْهُورُ بِالقِياسِ عَلى الأُخْتَيْنِ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قالَ في شَأْنِهِما: ﴿فَإنْ كانَتا اثْنَتَيْنِ فَلَهُما الثُّلُثانِ﴾ [النساء: ١٧٦] فَألْحَقُوا البِنْتَيْنِ بِالأُخْتَيْنِ في اسْتِحْقاقِهِما الثُّلُثَيْنِ، كَما ألْحَقُوا الأخَواتِ - إذا زِدْنَ عَلى اثْنَتَيْنِ - بِالبَناتِ، في الِاشْتِراكِ في الثُّلُثَيْنِ.
وقِيلَ: في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا كانَ لِلْواحِدَةِ مَعَ أخِيها الثُّلُثُ، كانَ لِلِابْنَتَيْنِ - إذا انْفَرَدَتا - الثُّلُثانِ، هَكَذا احْتَجَّ بِهَذِهِ الحُجَّةِ إسْماعِيلُ بْنُ عَيّاشٍ والمُبَرِّدُ.
قالَ النَّحّاسُ: وهَذا الِاحْتِجاجُ عِنْدَ أهْلِ النَّظَرِ غَلَطٌ؛ لِأنَّ الِاخْتِلافَ في البِنْتَيْنِ إذا انْفَرَدَتا عَنِ البَنِينَ، وأيْضًا لِلْمُخالِفِ أنْ يَقُولَ: إذا تَرَكَ بِنْتَيْنِ وابْنًا فَلِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ، فَهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ هَذا فَرْضُهُما.
ويُمْكِنُ تَأْيِيدُ ما احْتَجَّ بِهِ الجُمْهُورُ بِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمّا فَرَضَ لِلْبِنْتِ الواحِدَةِ النِّصْفَ إذا انْفَرَدَتْ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَها النِّصْفُ﴾ كانَ فَرْضُ البِنْتَيْنِ - إذا انْفَرَدَتا - فَوْقَ فَرْضِ الواحِدَةِ، وأوْجَبَ القِياسُ عَلى الأُخْتَيْنِ (p-١١٤١)الِاقْتِصارَ لِلْبِنْتَيْنِ عَلى الثُّلُثَيْنِ.
وقِيلَ إنَّ (فَوْقَ) زائِدَةٌ، والمَعْنى: إنْ كُنَّ نِساءً اثْنَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْناقِ﴾ [الأنفال: ١٢] [الأنْفالِ: مِنَ الآيَةِ ١٢] أيِ: الأعْناقَ.
ورَدَّ هَذا النَّحّاسُ وابْنُ عَطِيَّةَ فَقالا: هو خَطَأٌ؛ لِأنَّ الظُّرُوفَ وجَمِيعَ الأسْماءِ لا يَجُوزُ في كَلامِ العَرَبِ أنْ تُزادَ لِغَيْرِ مَعْنًى.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولِأنَّ قَوْلَهُ (فَوْقَ الأعْناقِ) هو الفَصِيحُ ولَيْسَتْ (فَوْقَ) زائِدَةً بَلْ هي مُحْكَمَةُ المَعْنى؛ لِأنَّ ضَرْبَةَ العُنُقِ إنَّما يَجِبُ أنْ تَكُونَ فَوْقَ العِظامِ في المَفْصِلِ دُونَ الدِّماغِ، كَما قالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: اخْفِضْ عَنِ الدِّماغِ وارْفَعْ عَنِ العَظْمِ، فَهَكَذا كُنْتُ أضْرِبُ أعْناقَ الأبْطالِ، انْتَهى.
وأيْضًا لَوْ كانَ لَفْظُ (فَوْقَ) زائِدًا كَما قالُوا، لَقالَ: فَلَهُما ثُلُثا ما تَرَكَ، ولَمْ يَقُلْ: فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ.
وأوْضَحُ ما يُحْتَجُّ بِهِ لِلْجُمْهُورِ ما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَهْ وأبُو يَعْلى وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ حِبّانَ (p-١١٤٢)والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ فِي: "سُنَنِهِ" عَنْ جابِرٍ قالَ: «جاءَتِ امْرَأةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْها مِن سَعْدٍ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ هاتانِ ابْنَتا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أبُوهُما مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وإنَّ عَمَّهُما أخَذَ مالَهُما فَلَمْ يَدَعْ لَهُما مالًا، ولا تُنْكَحانِ إلّا ولَهُما مالٌ، فَقالَ: يَقْضِي اللَّهُ في ذَلِكَ فَنَزَلَتْ آيَةُ المِيراثِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى عَمِّهِما فَقالَ: أعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وأُمَّهُما الثُّمُنَ، وما بَقِيَ فَهو لَكَ» أخْرَجُوهُ مِن طُرُقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جابِرٍ.
قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، وقَدْ رَواهُ شَرِيكٌ أيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ مِن حَدِيثِهِ، كَذا فِي: "فَتْحِ البَيانِ".
﴿وإنْ كانَتْ﴾ أيِ: المَوْلُودَةُ ﴿واحِدَةً﴾ أيِ: امْرَأةً واحِدَةً لَيْسَ مَعَها أخٌ ولا أُخْتٌ ﴿فَلَها النِّصْفُ﴾ أيْ: نِصْفُ ما تَرَكَ، ولَمْ يُكَمَّلْ لَها لِأنَّها ناقِصَةٌ، ولِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ لَها الثُّلُثانِ اللَّذانِ هُما نَصِيبُ الِابْنِ مَعَها. ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ مِيراثِ الأوْلادِ مِيراثَ الوالِدَيْنِ فَقالَ: ﴿ولأبَوَيْهِ﴾ أيِ: المَيِّتِ، وهو كِنايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وجازَ ذَلِكَ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ، والمُرادُ بِالأبَوَيْنِ الأبُ والأُمُّ، والتَّثْنِيَةُ عَلى لَفْظِ الأبِ لِلتَّغْلِيبِ ﴿لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ﴾ مِنَ المالِ ﴿إنْ كانَ لَهُ ولَدٌ﴾ ذَكَرٌ أوْ أُنْثى ﴿فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ﴾ لِلْمَيِّتِ ﴿ولَدٌ﴾ ذَكَرٌ أوْ أُنْثى: ﴿ووَرِثَهُ أبَواهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ أيْ ثُلُثُ المالِ مِمّا تَرَكَ، والباقِي لِلْأبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، لَكِنْ قُرِّرَ لَها الثُّلُثُ تَنْزِيلًا لَها مَنزِلَةَ البِنْتِ مَعَ الِابْنِ لا مُنْفَرِدَةً؛ حَطًّا لَها عَنْ دَرَجَتِها؛ لِقِيامِ البِنْتِ مَقامَ المَيِّتِ في الجُمْلَةِ، قالَهُ المَهايِمِيُّ.
﴿فَإنْ كانَ لَهُ﴾ أيْ: لِلْمَيِّتِ ﴿إخْوَةٌ﴾ مِنَ الأبِ والأُمِّ، أوْ مِنَ الأبِ أوْ مِنَ الأُمِّ، ذُكُورًا أوْ إناثًا ﴿فَلأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ يَعْنِي لِأُمِّ المَيِّتِ سُدُسُ التَّرِكَةِ ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ﴾ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: هَذِهِ الفُرُوضُ المَذْكُورَةُ إنَّما تُقَسَّمُ لِلْوَرَثَةِ مِن بَعْدِ إنْفاذِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِها المَيِّتُ إلى الثُّلُثِ، ومِن بَعْدِ قَضاءِ دَيْنٍ عَلى المَيِّتِ.
وقُرِئَ في (السَّبْعِ): يُوصِي مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ولِلْفاعِلِ.
(p-١١٤٣)قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: أجْمَعَ العُلَماءُ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ عَلى أنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلى الوَصِيَّةِ.
ورَوى أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَهْ وأصْحابُ التَّفاسِيرِ مِن حَدِيثِ ابْنِ إسْحاقَ، عَنِ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأعْوَرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «إنَّكم تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِها أوْ دَيْنٍ﴾ وإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الوَصِيَّةِ، وإنَّ أعْيانَ بَنِي الأُمِّ يَتَوارَثُونَ دُونَ بَنِي العَلّاتِ، الرَّجُلُ يَرِثُ أخاهُ لِأبِيهِ وأُمِّهِ دُونَ أخِيهِ لِأبِيهِ» .
ثُمَّ قالَ التِّرْمِذِيُّ: لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ الحارِثِ، وقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، لَكِنْ كانَ حافِظًا لِلْفَرائِضِ، مُعْتَنِيًا بِها وبِالحِسابِ، فاللَّهُ أعْلَمُ.
قالَ السُّيُوطِيُّ فِي: "الإكْلِيلِ": في الآيَةِ أنَّ المِيراثَ إنَّما يُقَسَّمُ بَعْدَ قَضاءِ الدَّيْنِ وتَنْفِيذِ الوَصايا، وفِيها مَشْرُوعِيَّةُ الوَصِيَّةِ، واسْتَدَلَّ بِتَقْدِيمِها في الذِّكْرِ مَن قالَ بِتَقْدِيمِها عَلى الدَّيْنِ في التَّرِكَةِ، وأجابَ مَن أخَّرَها بِأنَّها قُدِّمَتْ؛ لِئَلّا يُتَهاوَنَ بِها، واسْتَدَلَّ بِعُمُومِها مَن أجازَ الوَصِيَّةَ بِما قَلَّ أوْ كَثُرَ، ولَوِ اسْتَغْرَقَ المالَ، ومَن أجازَها لِلْوارِثِ والكافِرِ، حَرْبِيًّا أوْ ذِمِّيًّا، واسْتَدَلَّ بِها مَن قالَ: إنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ انْتِقالَ التَّرِكَةِ إلى مِلْكِ الوارِثِ، ومَن قالَ: إنَّ دَيْنَ الحَجِّ والزَّكاةِ مُقَدَّمٌ عَلى المِيراثِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿أوْ دَيْنٍ﴾ انْتَهى.
وقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ وابْنُ ماجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ الأطْوَلِ «أنَّ أخاهُ ماتَ وتَرَكَ ثَلاثَ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وتَرَكَ عِيالًا فَأرَدْتُ أنْ أُنْفِقَها عَلى عِيالِهِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: إنَّ أخاكَ مُحْتَبَسٌ بِدَيْنِهِ فاقْضِ عَنْهُ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ أدَّيْتُ عَنْهُ، إلّا دِينارَيْنِ ادَّعَتْهُما امْرَأةٌ ولَيْسَ لَها بَيِّنَةٌ، قالَ: فَأعْطِها فَإنَّها مُحِقَّةٌ» .
(p-١١٤٤)لَطِيفَةٌ:
(فائِدَةٌ) وصْفُ الوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿يُوصِي بِها﴾ هو التَّرْغِيبُ في الوَصِيَّةِ والنَّدْبُ إلَيْها.
وإيثارُ (أوِ) المُفِيدَةِ لِلْإباحَةِ في قَوْلِهِ: (أوْ دَيْنٍ) عَلى (الواوِ) لِلدَّلالَةِ عَلى تَساوِيهِما في الوُجُوبِ، وتَقَدُّمِهِما عَلى القِسْمَةِ مَجْمُوعَيْنِ أوْ مُنْفَرِدَيْنِ، وتَقْدِيمُ الوَصِيَّةِ عَلى الدَّيْنِ - ذِكْرًا مَعَ تَأخُّرِها عَنْهُ حُكْمًا - ما قَدَّمْنا مِن إظْهارِ كَمالِ العِنايَةِ بِتَنْفِيذِها؛ لِكَوْنِها مَظِنَّةَ التَّفْرِيطِ في أدائِها ولِاطِّرادِها، بِخِلافِ الدَّيْنِ، أفادَهُ أبُو السُّعُودِ.
﴿آباؤُكم وأبْناؤُكم لا تَدْرُونَ أيُّهم أقْرَبُ لَكم نَفْعًا﴾ أيْ: لا تَعْلَمُونَ مَن أنْفَعُ لَكم مِمَّنْ يَرِثُكم مِن أُصُولِكم وفُرُوعِكم في عاجِلِكم وآجِلِكُمْ، والمَعْنى: فَرَضَ اللَّهُ الفَرائِضَ - عَلى ما هو - عَلى حِكْمَةٍ، ولَوْ وكَلَ ذَلِكَ إلَيْكم لَمْ تَعْلَمُوا أيُّهم أنْفَعُ لَكُمْ، فَوَضَعْتُمْ أنْتُمُ الأمْوالَ عَلى غَيْرِ حِكْمَةٍ، والتَّفاوُتُ في السِّهامِ بِتَفاوُتِ المَنافِعِ، وأنْتُمْ لا تَدْرُونَ تَفاوُتَها، فَتَوَلّى اللَّهُ ذَلِكَ فَضْلًا مِنهُ، ولَمْ يَكِلْها إلى اجْتِهادِكم لِعَجْزِكم عَنْ مَعْرِفَةِ المَقادِيرِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأمْرِ القِسْمَةِ، ورَدٌّ لِما كانَ في الجاهِلِيَّةِ.
قالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: ويُقالُ: مَعْنى الآيَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى عَلَّمَكم قِسْمَةَ المَوارِيثِ، وأنَّكم لا تَدْرُونَ أيُّهم أقْرَبُ مَوْتًا فَيَرِثُ مِنهُ الآخَرُ، انْتَهى.
﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ نُصِبَتْ نَصْبَ مَصْدَرٍ مُؤَكِّدٍ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: فَرَضَ اللَّهُ ذَلِكَ فَرْضًا، أوْ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ فَإنَّهُ في مَعْنى: يَأْمُرُكم ويَفْرِضُ عَلَيْكم.
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا﴾ أيْ: بِالمَصالِحِ والرُّتَبِ ﴿حَكِيمًا﴾ أيْ: في كُلِّ ما قَضى وقَدَّرَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ بَيانُ أنْصِباءِ الذَّكَرِ والأُنْثى دُخُولًا أوَّلِيًّا.
{"ayah":"یُوصِیكُمُ ٱللَّهُ فِیۤ أَوۡلَـٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَاۤءࣰ فَوۡقَ ٱثۡنَتَیۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَ ٰحِدَةࣰ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَیۡهِ لِكُلِّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدࣱۚ فَإِن لَّمۡ یَكُن لَّهُۥ وَلَدࣱ وَوَرِثَهُۥۤ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥۤ إِخۡوَةࣱ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِیَّةࣲ یُوصِی بِهَاۤ أَوۡ دَیۡنٍۗ ءَابَاۤؤُكُمۡ وَأَبۡنَاۤؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَیُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعࣰاۚ فَرِیضَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق